الفصل ال٣٠ ج٢

2.2K 69 10
                                    

                                 آخر الاسبوع
__صباح الخير .
ألقتها بابتسامة عريضة وهي تجلس بجواره ، فيرمش بعينيه قبل أن يستيقظ  على قبلتها الرقيقة التي حطت فوق وجنته ، فيرفع جسده ويتكئ إلى الفراش من خلفه ، أخفض عينيه عنها متحاشي وجودها ، فتندثر ابتسامتها ولكنها تظهر لامبالاة لا تجيدها وهي تنهض لتفتح ستائر الغرفة فيطل ضوء الصباح ، قبل أن تدفع عربة الطعام وتقربها من جلوسه وهي تهمس بمرح حاولت أن تدفعه إلى صوتها : لقد أعددت إليك الفطور ، وأتيت به إلى هنا حتى تؤكل قبل أن تركض مغادرًا الى عملك .
كح بحرج قبل أن يهمهم : سأستحم أولًا .
جلست بجانبه فابتعد عنها قليلًا ، لتقترب منه وتلاصق جلسته وتهمس برقة : سأطعمك أولًا .
شعر بأنفاسه تثقل من رائحتها المسكرة إلى عقله ، اقترابها الذي يأسر حواسه ، وابتسامتها التي تملك قلبه ، ونظرة عيناها التي ترجوه صفح فيتيه هو في بحورها ويغرق في لذة اقترابها دون أن يملك المقاومة ، فعلى مدار الليالي الماضية لم يملك حق رفضها ، بل لم يجرؤ يومًا أن يرفضها ويحزن قلبها ، بل استجاب وغرق وانتشى بغرقه وهي تفيض عليه بشوق ولهفة واغواء لم تعمد إليه من أول زواجهما فهو دائمًا كان يدللها .. يركض من حولها .. ويتوسل قربها ،وهي لم تفعل شيء سوى الاستجابة إلى عشقه لها ، ولكن هذه الأيام تتقرب هي منه .. تجذبه .. وتغرقه في شعور من دلال لذيذ لا يستطيع مقاومته ، رغم تلمسها لطريقها معه على استحياء يزداد مع الأيام إلى ثقة تنتشر بأوردتها فتزيده دلال وهي تعمد إغواءه يوميًا حتى تبقيه بقربها !!
انتبه إلى كفها الذي فردته على صدره العار ، فوق موضع قلبه فيرفع عينيه إليها متسائلًا لتهمس بصوت أبح : شردت عني .
" بل بك " كاد أن يجيب ولكنه آثر الصمت وهو يمط شفتيه بلا مبالاة ويعتدل بجلسته يهمهم : هلا تركتني أمُر ؟!
شحبت ملامحها قبل أن تهمس بإصرار : تناول فطورك أولًا .
رفع حاجبه بتعجب : لست جائعًا .
بدأ الغضب يطفو فوق ملامحها لتهتف بنزق : حقًا ؟! لا يمكن ، أنا نفسي جائعة  ، فم بالك بك ؟!!
تحكم في ابتسامته بصعوبة شديدة ليسألها بجدية مفتعلة : ماذا بي لا أفهم ؟! لماذا علي أن أكون جائعًا اليوم ؟!
توردت وكتفت ساعديها لتهمس بخجل : من الطبيعي أن يكون الإنسان جائعًا في الصباح ، لماذا اخترعوا وجبة الفطور إذًا ؟!
__ آها ، أنتِ تتحدثين في المطلق وأنا لست حالة خاصة .
سحبت نفسًا عميقًا لتهمس وهي تتحاشى النظر إليه : أحمد أنت تعلم ما أقصده ، من فضلك تناول طعامك ، فأنا أحيا طوال النهار بقلق حينما تغادر دون أن تؤكل .
ابتسم بمكر : لست مغادرًا اليوم ، أنا إجازة ، ولكني سأذهب للمشفى لأباشر خروج أمي .
ابتسمت باتساع : أعلم ، خالتي ستعود إلى البيت اليوم ، حمدًا لله على سلامتها ، أتبعت وهي تعد له إحدى الشطائر – وأنا أعددت حقيبتين لأنتقل إلى القصر حتى أكون بجوارها وخاصة في غياب إيمان .
ضيق عينيه فشعرت بالتوتر يخيم عليهما ليهمس بصوت أجش : لا تتعبين نفسك ، سأرافقها أنا .
تهدلا كتفيها بحزن : أرجوك يا أحمد توقف ، لقد تعبت أقسم بالله تعبت ، لا أعلم ماذا علي أن أفعل حتى تسامحني ، كنت مخطئة واعترفت بذنبي وتوسلت إليك الصفح ، ولكنك تقسو علي بطريقة مبالغة أوشك معها على فقدان عقلي .
جمدت ملامحه قبل أن يهتف بحدة : وهل من المفترض أن أشكر الله لأنك تعتذرين عن خطأ اقترفته ؟! أم أقبل قدميك لأنك تنازلت واعتذرت ؟! ماذا علي أن أفعل يا ولاء هانم – من وجهة نظرك - لأعبر لك عن امتناني الكبير لأنك تعتذرين وتتوسلين صفحي؟!
ازدردت لعابها ببطء : لا تفعل شيء فقط امنحني الفرصة أن اصحح بها خطئي وأرمم ما شُرخ بيننا .
اقترب برأسه منها وهمس بجدية : أو لم أفعل ؟! بم تسمين إذًا ما يحدث بيننا ؟! لو لم أكن أريد الصفح .. الغفران .. إصلاح الامر لكنت هجرتك يا ولاء ، ولكني لم أفعل أتعلمين لماذا ؟!
احتقن وجهها بقوة لتهز رأسها نافية ردًا على سؤاله : لأني أريد أن أصفح .. اعفو .. أغفر .. وأعود إلى ما كنت عليه ، ولكن هذه المرة جرحي منك غائرًا يريد الكثير من التطيب والعلاج ولكن من الواضح أن نفسك قصير يا ابنة الخالة ولا تستطيعين الصمود .
هتفت : بل أستطيع ، تقربت منه لتضع رأسها بصدره  تضغط على قلبه بشفتيها – سأفعل كل شيء لأعيدك إلي ما كنت عليه ، فقط خفف من قسوتك قليلًا .
أغمض عينيه بلهفه جارفة تملكته ، ليحاوطها بذارعيه فيضمها إليه أكثر قبل أن يحملها من خصرها ليمددها فوق جسده ، يركن رأسها إلى رأسه ويهمس أمام عينيها : أزيبيها برقتك وأنا أعدك ان تختفي مع الوقت .
ابتسمت برقة وهي تقبله في بادرة جديدة تعتمدها حديثًا بينهما قبل أن تغمغم : أحبك يا أحمد .
تأوه بصوت مكتوم قبل أن يجرفها إليه في بحر عاتي هي من تملك فيه طوق النجاة الوحيد .
***
__إيمي ، أين أنتِ ؟!
تحرك في الحديقة الصغيرة الملحقة بالشاليه الأرضي الساكنان به ، يبحث عنها وهو يحمل كأسين من العصير الطازج الذي تفضله ، كان قام لإحضارهما وتركها تتأرجح بمفردها ،في لفتة دلال يخصها به لعله يبدد غضبها ، فهي لازالت حانقة منه لأنه وافق أبيها على مد اجازتهما لأسبوعين كاملين إضافيين ، رغم معرفته برغبتها على العودة بسبب قلقها المفرط على صحة والدتها التي لم ه إليها أول أيام زواجهما وعندما حدثتها أبلغته بأن قلقها ازداد فهي شعرت بأن والدتها ليست على ما يرام وهو تفهم قلقها واستجاب لطلبها إلى أن حدثه أباها وأخبره أن لا يعودا الآن ، لم يخبره السبب ولكنه لمس رجاء سيادة الوزير له فاستجاب على الفور مما أغضبها منه وجعلها تحتد عليه في حديثها معه ،بل هي اعتزلته قليلًا في غرفتها أن احتوى قلقها وهو يغازلها بحنو كعادته ليقبلها ويخبرها أنه لم يشبع منها بعد ، توردت كعادتها لتستجيب إلى رجاءه في الخروج والجلوس برفقته في الحديقة فالجو الان مميزًا ، ليعبس بتعجب –الان - وهو يجد المكان فارغًا منها .
تحرك بكأسين العصير في جدية يبحث عنها لتلتمع الابتسامة في عمق زرقاويتيه وهو ينظر إلى باب غرفة المسبح مفتوح ، دلف إلى الداخل لتتسع ابتسامته وهو ينظر إليها تجلس على الحافة ، تحرك قدميها في الماء القريب منها بدلال وتلاعب خصلاتها البنية في شرود ، أسبل اهدابه وهو يتذكر اكتشافه إلى تلك الغرفة المبهرة ، المغلقة بزجاج غير عاكس للصورة ومفتوح سقفها لتطل السماء من فوقهما فتعطي انطباعًا على وجودهما في مسبح عام ولكنه غير مرئي للخارج ،فيركض إليها ويخبرها عنه بحماس ، وأنهما يستطيعان السباحة سويًا دون أن يراهما أحدًا ، وخاصة بعد رفضها الذهاب إلى الشاطئ الخاص بالمنتجع بعد أول زيارة قاما بها فتحسست هي من الأمر الغير ملائم لها وخاصة مع وجود الفتيات المتحررات – على قولها – من حولهما ، حينها تحمست وهي تخبره بأنها تعشق السباحة ولكن نمط حياتها الذي اختارته قيدها بهذا الأمر ، فاقترح أن يسبحا على الفور وطلب منها ارتداء ثوب السباحة الخاص بها ، فترفض قطعًا وهي تخبره أنها لم تأت به من الأصل فهي لم تعلم عن إمكانية السباحة بزيها المحتشم ، حينها أومأ متفهما ليصر في الليل أن يذهبا إلى التسوق فيبتاع لها ثوب خاص جدًا من قطعتين ،أعجبه وأثار خيالاته بها عندما رآه بلونه الوردي والذي يماثل تورد وجنتيها الفاتن ، وحينما فاجأها به  صرخت في وجهه بنفي حازم أنها لن ترتديه ، يومها حنق من تصرفها ولكنه حاول أن يفهمها أنها سترتديه له ، هو زوجها ولن يراها غيره ، لترفض بخجل اعتراها وتصمم على عدم ارتداءه بل هي رفضت السباحة معه ولكنها ترافقه في كل مرة يسبح بها وتجلس على حافة المسبح وتحرك قدميها بدلال يقيده إليها أكثر.
خطى اليها ليجلس الى جوارها يقبل كتفها القريب منه ويناولها كأس العصير الآخر قبل أن يحاوطها بذراعه ويقربها منه ، بل يلصقها إلى صدره فتتململ بخفة وتبتعد قليلًا فيبتسم بمشاكسه ويقربها ثانيةً ، ابتسمت برقة ليقبل وجنتها بشغف ويهمس : أريد أن نسبح سويًا يا ايمي ، من فضلك .
ارتشفت قليل من العصير لتنظر إليه بتوتر وتهمهم ووجهها يتقد خجلًا : لن أستطيع ارتداء ثوب السباحة يا مالك.
تنهد بقوة : لماذا ؟! أنا زوجك يا إيمان ، من حقي أن أتمتع بك .. بوجودك من حولي .. بمشاعرك نحوي .. وبجسدك الذي أصبح حلالي .
ارتجفت وهي تخفض وجهها بحرج ليغمض عينيه مسيطرًا على مشاعره المتدفقة نحوها ليتبع بخفوت : أنتِ تضعين الكثير من الحواجز بيننا ، وكلما تجاوزت أحدهم وضعت آخر في طريقي .
__ لا أقصد ذلك ، همستها بهشاشة أثارت حنانه فابتسم باحتواء – أعلم ولكن ها أنا أرجوك أن تهدمي أحد حصونك لأجلي.
هزت كتفيها بعجز فابتسم مشجعًا  : فقط ثقي بي ولا ترفضي ما سأفعله .
نظرت إليه بعدم فهم فمنحها ابتسامة واسعة وهو يحمل كأس العصير من يدها ليضعه بجانب خاصته الذي تركه ، ليخلع قميصه القطني ويرمي به بعيدًا قبل أن يقفز إلى ماء مثيرًا جلبه في مسطح الماء الهادي ،ابتسمت برقة وهي تراه يسبح من أمامها فتتأمله بافتتان وتعض شفتها بخجل وهي تنظر إلى تفاصيل جسده الدقيقة ، فتتنهد بوله وهي تلاعب خصلاتها كما يفعل بها وهي تحتل صدره بامتلاك يطمئنها ، شهقت بفزع وهو يمسك ساقيها بقبضتيه فتهمس بتوتر : توقف يا مالك .
ابتسم وهو يهز رأسه نافيه : لقد اتفقنا .
__ علام ؟! صرختها بخوف ليضحك بقوة ويهتف بمرح – على هذا .
قرن قوله بجذبها إليه فتسقط في الماء ليحملها من خصرها ويدفع بها إلى الماء معه ، صرخت بقوة وهي تشعر بالماء يغمر جسدها بأكمله ما عدا رأسها فتنتفض بقوة من أثر الماء البارد الذي تخلل ملابسها ليهتف هو بسعادة : لا يهم ، لا أريدك أن ترتدي ثوب السباحة أريدك فقط ان تسبحي معي .
عبست بنزق : لقد ابتلت ملابسي ، كيف أسبح وبلوزتي وبنطالوني مثقلين بالماء ؟!
قربها من خصرها إليه ليهمس بمكر : تخلصي منهما إذًا.
شهقت بحرج ووجهها يتلون بحمرة قانية ليتبع هامسًا ويديه تلامسنها بخفة : بل سأفعل أنا .
شهقت بقوة وهو يخلع عنها بلوزتها ، ليقربها من صدره وهو يرمي بلوزتها بعيدًا : احتمي بصدري كما تفعلين ليلًا ، فتخفين جسدك -عني- بداخلي .
أغمضت عيناها بخجل داهمها فيديرها ليلصق ظهرها بصدره ، قبل أن يتسلل إليها وهو يحملها من خصرها فيخلصها من بنطلونها القطني وأنفاسه تعلو فترتطم بعنقها ووجنتها التي قبلها بشوق : هاك تخلصنا من وزن ملابسك الزائد .
ارتجفت لتستدير ثانيةً وتلتصق به تخفي نفسها عنه فيضحك وهو يضمها إليه ليهمس بمشاكسة : هكذا ستدفعينني لشيء آخر يا إيمي ، لن آبه بأي شيء سواه .
شهقت باعتراض وهي تحاول الابتعاد عنه فيتمسك بها : لا تبتعدي ، اليوم سنسبح سويًا وحينما ننتهي لدينا حديث آخر سنستملكه سويًا حرفًا حرف .
ضحكت بمرح وهي تتعلق برقبته من الخلف فيهمس لها : تمسكي جيدًا .
استجابت له ليتحرك في الماء إلى أن دلف إلى عمق المياه ، فقبلت وجنته برقة : شكرًا لك .
ابتسم بمكر وهو يحملها من خصرها ويمددها أمامه : لا شكر على واجب ، فقط  ثقي بي وصدقيني لن أخذلك .
زفرت بعمق وهي تترك نفسها لتياره الدافئ فترتخي مشاعرها وتشعر براحة تغشيها وأمانًا يظلل عليها وحب يكتنفها وهي إلى جواره .
***
وقفت تعد الفطور بالية ، في مطبخ منزلها الذي عادت إليه ، الصمت يخيم عليها ، فهي لا تشعر بمزاج رائق تستمع فيه إلى أغاني الست ، أو تشعر بأي طاقة لديها كي ترفه عن نفسها بدلًا من الحزن الذي يعشش بقلبها ، فتلك المرة لم يترجاها – على العودة - كما فعل المرتين السابقتين فتصر هي على المكوث عند والديه أو عند والدها وتهرب من هذا المنزل الذي يذكرها بكل ايامها معه الحزين منها والسعيد ايضا ، بل هذا المطبخ يذكرها به .. بتحديقه بها .. بملامسته لها .. ولطفه معها، هذه الاواني تذكرها بتلك المرة التي اصر على اعداد الطعام بها فأحال المكان الى فوضى واعاث فيه فسادا ، ولكن كل شيء الان مختلف فشعورها نفسه اختلف ، تحبه لا تنكر ولكن قلبها متألم منه ، وقبولها تلك المرة ليست لأجله بل لأجل شقيقها الذي يؤلم قلبها اكثر ، فهي لن تنسى ابدا انهيار مديحة الفجائي في ليلة مغادرة محمود للبلدة ، لقد سافر دون ان يودعها ، بل فاجأها ماهر وهو يخبرها بانه سافر الى حضور مؤتمر خاص بعمله وسيتغيب لمدة اسبوعين ، هذا الخبر نزل كالصاعقة على زوجة شقيقها التي شحب وجهها بصدمة واستأذنتهم لتصعد الى غرفتها وتحتجب بها الى ان اتت لهما ليلا ، تطرق الباب بطريقة غريبة ليفتح لها ماهر فتدلف اليهما ودموعها تغرق خديها ، تستحلف شقيقها ان يعيدها الى بيتها فهي لابد ان ترى زوجها ، تريد ان تعود لتلحق بمحمود فلا يسافر دونها ، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فرغم اسراع ماهر بالحديث الى محمود حتى يستبقيه فيخبره الاخير بانه سيصعد الى متن الطائرة حينها بكت مديحة بطريقة هيسترية ،اجبرتها ان تضمها الى صدرها تواسيها، وهي تتبادل النظرات مع زوجها دون ان يفهما سويا ماذا يحدث بين شقيقها و شقيقته !!
وعليه استجابت اليه تلك المرة حينما توسلت له مديحة ان يعودا إلى القاهرة فهي لابد أن تكون في انتظار محمود حينما يعود ، ورغم حنق ماهر ورفضه لهذا إلا أن توسل أخته الصادق أجبره على الاستجابة إليها فرافقتهما دون أن يطلب منها ، فهي شعرت باحتياج مديحة لها ، مديحة التي لم تكن صديقتها يومًا ولكنها الآن اقرب إليها من نفسها ، فهي زوجة شقيقها وشقيقة زوجها، مديحة التي كانوا يتغنين بقوتها في عائلتهم ويشبهونها بعمتهما والدة المستشار التي لم تُقهر أبدًا ، كانت في أعز لحظاتها ضعفًا واحتياجًا إلى صديقه رأت هي أن تكونها !!
زفرت بقوة وهي تتذكر مديحة الصغيرة التي كانت جامحة دومًا .. متعالية أبدًا ، ترفض أن تصادقها وكانت تتفنن في احراجها ، فهي كانت شديدة الغيرة وخاصة منها ، فهي كانت ذات مكانه عند العائلة بأكملها ، نعم لا تضاهي مكانة مديحة ولكن تلك المكانة الصغيرة التي خصوها بها أفراد العائلة أثارت غيرة مديحة وأغضبتها فتعمدت أذيتها – معنويًا-  طوال صغرهما ،
ابتسمت وهي تعاتب نفسها على تلك الذكريات وعقلها يعيد عليها حديث نفسها فتتفهم موقف ابنة عمها منها فلا تعتب عليها فهي تتفهم شخصية مديحة جيدًا ، فنشأتها كابنة وحيدة على أربع ذكور ، طفلة والدها الوحيدة ومدللته ، بل مدللة العائلة بأكملها ، فأخوتها الأربع حتى ماهر الذي يكبرها بسنوات قليلة كانوا يتفنن في دلالها ، هي حبيبة الجد كبير آل المنصوري ، هي جميلة العائلة وأمنية فتيانها ، ولكن هي بعنادها تعلقت بابن عمتهما المختلف عن البقية ، ابن عمتهما الذي كان لا يأبه بها بل كان يعطف عليها ككل الفتيات ولكن غرورها صور إليها أمرًا آخر ، تعلقت به بغباء لينكسر تعلقها بسقوط مدوي وخبر زواج هشام يعلن على الملأ !!
زجرت عقلها الذي نبهها لهاذ الأمر الذي تناسته منذ أن أعلن محمود رغبته في الارتباط بمديحة ، وأتى ليسألها عن رأيها ، فتنظر إليه بذهول وهمت بأن تعترض لكأنها صمتت وهي تتلمس قوة عشق أخيها لابنة عمهما فتبتسم وتبارك له زيجته ، ولكنها همست له حينها بأن يعتني بمديحة جيدًا فهي تحتاج احتواءه وحنانه قبل حبه ، يومها هز رأسه لها بتفهم ولمعت ابتسامة عارفه ببواطن الأمور على ثغره جعلت قلبها ينتفض بهواجس كثيرة مع مرور الأيام نحتها من تفكيرها  وهي ترى أخيها سعيدًا .. مرحًا .. هادئًا .. متنعمًا بدفء زوجته ، ولكن من الواضح أن تلك الصورة الظاهرة خبا تحتها رمادًا اشتعل مع أول نفخة بوق حدثت داخل حياتهما ،
حزنت نظراتها وهي تشعر بأن حالها هي وماهر يشبه حال الاثنين الآخرين ، فهما أيضًا لم يهتما بهذا الرماد الذي تراكم فوقه أشياء كثيرة أدت إلى اندلاع النيران في أول مواجهة حدثت بينهما ، فالتهمت نيرانهما كل شيء وبقت فقط التعاسة التي تخيم على الأجواء من حولها .
رفعت رأسها تدعو الله بأن تنقشع تلك الغيمة من فوق رؤوسهم لتحمل الأطباق إلى الخارج وتنادي على شقيقة زوجها الغائب في عمله ولم يعد بعد .
أتت الأخرى تخطو بوهن أثار شفقتها ولكنها أخفتها بمهارة وقالت : تعال لنفطر سويًا بالشرفة كما يفضل ماهر .
ابتسمت مديحة بألم عشش في ملامحها واتبعتها دون صوت لتجلس بإهمال فوق الكرسي وتتظاهر بتناول الطعام ، فتساعدها منة على دس بعض من الأشياء أمامها فتتناولها الأخرى في غفلة منها وهي تحيا بعالم خاص لا تشرك به أحدًا ، روحها تئن بوهن وتموت ببطء وهي تعد الأيام التي قاربت على انتهاء عدتها وهو غائب .. غاضب .. مختفي .. ومتلذذ بعذابها ، شعرت بقلبها ينتفض وجعا وهي تتذكر بأنه لم يستجيب إلى اتصالاتها الكثيرة المتكررة ، بل لم يأبه لرسائلها التي تداوم على إرسالها له ، فيهزا منها عقلها " وهل سيهتم وتلك النارية بجانبه ، لقد اتخذها زوجة بدلًا منها وسافرا معًا دون أن يعير مشاعرك اهتمامًا "
بكى قلبها فيزأر عقلها " أنها زوجته " فتشعر بروحها تختنق وهي تدرك بأنها فقدت حق محاسبته حينما طلقها ليتزوج من غيرها وبالغ في معاقبتها فلم يردها إلى عصمته من جديد رغم توسلها إليه ، فقط لو يفهم أنها لم تكذب على عائلتها بل ما استنتجته زوجة أخيها خطأ وهي لم تمتلك جهدًا لتصحح لها خطئها ، بل هي لم تعيرها اهتمامًا فهي تعلم أن الأخرى شديدة الغيرة فتركتها ترغي وتزبد وواصلت ما كانت تفعله ،بعدم اهتمام لتصحيح حدس الأخرى الخاطئ ، فتهدم العالم فوق رأسها حينما بشرت الجميع بخبر غير حقيقي ، فهي كم تمنت أن تكون تحمل طفلًا منه فيعيدها إلى عصمته أو تمتد عدتها واتصالها به إلى أن تضع طفلها ، دمعت عيناها فربتت منة على كفها وهمست : كفى بكاء وأخبريني ماذا حدث بينكما أدى إلى تلك الحالة التي وصلت إليها .
ازدردت لعابها الجاف وهمست : لا شيء .
زفرت منة بقوة لتهمس مديحة بشرود وبعد صمت دام قليلًا بينهما : هل ستمطر اليوم ؟!
عبست منة بتعجب لتنظر إلى السماء وتهمس بعدم فهم : لقد انتهى الشتاء و لا يعقل أن تمطر في منتصف الربيع .
همست مديحة وهي تنظر بدورها : الأفق ملبدة بغيوم كثيرة تأبى أن تنقشع فتخفي ضوء الشمس وتجبرنا على الحياة في عتمة أبدية .
تنهدت منة بقوة : لا تيأسي يا مديحة وأخبريني كيف يمكنني مساعدتك وأنا سأفعل ، أقسم بالله سأفعل ولكن توقفي عن قتل نفسك هكذا .
رفعت نظرها إلى منة لتهمس بخفوت : لقد فقدته يا منة ، أضعته بغروي وكبريائي ، تمسكت بعيوبي دون أن أهتم بمدى تقبله لها، فما كان يهمني هو أنا وفقط .
__ محمود يحبك يا مديحة ، بل يعشقك هو فقط غاضب ، أنا اعلم أخي وهو غاضب لا يرى أمامه ولكن صدقيني حينما يفوق من غضبه سيعود ويسامح وينسى ما كان بينكما وكانه لم يحدث من الأصل .
رددت بدهشة : ينسى ؟! لترمش بعينيها – لا أعتقد .
زفرت منة بقوة :بل سينسى ، محمود طيب القلب جدًا وأنتِ مليكة قلبه وسلطانة روحه سيسامحك فقط امنحيه بعض من الوقت .
ابتسمت ببؤس لتهتف منة بمرح دفعته دفعا لصوتها : هيا انهضي بدلي ملابسك وتعال لنخرج سويًا ، فأنا أريد ابتياع بعض الأشياء للطفل القادم .
ابتسمت رغمًا عنها وهي تنظر إلى تكور بطن زوجة أخيها لتهمس : أتمه الله عليك بالخير .
ابتسمت منة برقة : اللهم آمين وإياكِ حبيبتي .
نظرت إليها مديحة قليلًا قبل أن تهمس : أشكرك .
عبست منة بتعجب : علام يا ابنة عمي ؟!
ربتت مديحة على كفها بامتنان : على كل شيء .
دمعت عينا منة تأثرًا قبل أن تهمس : حسنًا هيا انهضي ولنذهب للتسوق ،
أومأت مديحة برأسها في تفهم : وسأصحبك إلى دار الأيتام أيضًا.
__دار أيتام ؟! سألت منة بدهشة فتنهدت مديحة – نعم إنه عمل خيري للفتيات الأيتام كنت أدرس لهن لغة عربية وفاطمة كانت تدرس لهم إنجليزي ، وتوقفت منذ أن تزوجت ، ما رأيك أن تدرسينهم أنتِ فأنتِ مدرسة لغة إنجليزية ، أليس كذلك ؟!
أومأت منة بالإيجاب لتهتف بحماس : موافقة ، لنستغل الوقت بدلًا من اضاعته فلا شيء .
نظرت إليها مديحة قليلًا قبل أن تسألها: الن تستأذني ماهر ؟!
__ بالطبع سأفعل وهو لن يمانع ولكن لنقم بزيارة أوليه وحينما أقرر سأخبره على الفور .
ابتسمت مديحة وسألت بشرود : تحبيه ؟!
أجفلت منة قبل أن تجيبها بثبات : بل أعشقه منذ الصغر وأنتِ تعلمين .
__ نعم أعلم ، رددت مديحة بشرود قبل أن تتبع – أنتما متشابهان أنتِ وأخيك ، عشقكما جارف ..ثابت .. قوي .. يحمل التحدي فوق كتفيه غير عابئًا بالأحمال الذي أذادها على عاتقه ليربح قلب لم يشعر به يومًا ، فيزرع الحب بأعماقه يرويه ويكبره إلى أن يمتلك أروقته بالكامل  .
لتخفض نظراتها وتهمهم : ثم يهجره فيؤلمه ، رفعت نظرها فجأة لمنة : أرجوك لا تؤلمين قلب ماهر يا منة ، فهو أيضًا يحبك ،أنا أعلم أخي جيدًا وهو متيم بك  هو خصك بتلك النظرة التي لم أرها من قبل وهو ينظر إليكِ ، يشاغبك كما لم يشاغب أحدًا من قبل ، ويتصيد الفرص كي يلامس كفيك وكانه محروم من وجودك حوله ،
همت منة بالحديث لتقبض على كفها في توسل : أعلم بأنه جرحك بشكل ما لا أعرفه ، فعيناك تفيضان بألم يسكنها ولكن سامحيه ، إن لم يكن لأجل عشقك له فلأجل القادم ويربط بينكما ، لأجل طفلًا سيأتي يزين حياتكما سويًا ، اصفحي عنه واستمعي إليه أليس ممكنًا أن تكوني مخطئة ؟!
شردت منة قليلًا قبل أن تغمغم : ليفعل الله ما يريد .
نظرت إليها : هيا بنا .
استجابت مديحة إليها وهي تشعر ببعض الهدوء يخيم على روحها أخيرًا !!
***
__ صباح الخير يا عروس
هتفت بها بمرح لتصدح من هاتف الأخرى الموضوع على أذنها فتبتسم برقة : صباح النور ، كيف حالك ؟!
__أنا بخير ، هيا أخبريني ما الذي ينقص العروس ؟!
تخضبت وجنتيها بحرج فتابعت ياسمين بسرعة : هيا يا دعاء ليس لدي اليوم بأكمله ، أخبريني حتى أستطيع مساعدتك ، فأنعام هانم ستخرج اليوم من المشفى وسأنشغل معها قليلًا قبل الحضور لك ليلًا .
ابتسمت دعاء بخجل : حمدًا لله على سلامتها ، علمت من يحيى موعد خروجها .
ابتسمت ياسمين : لقد قام بزيارتها البارحة وتحدث مع وليد ودعانا إلى حفل الخطبة .
تمتمت بحرج : ياسمين أنا ..
صمتت لتكمل لها ياسمين ضاحكة : لا تشرحي لي مقصدك أنا متفهمة موقفك جيدًا ، لعلمك كنت أنتظر زيارتك معه البارحة .
عبست دعاء : وما لي أنا بزيارة حرم سيادة الوزير ؟!
رفعت ياسمين حاجبيها : أنك خطيبة ابن مستشار رئيس الجمهورية الآن . 
هزت دعاء رأسها بنفي : لا يا ياسمين ، أنا خطيبة يحيى فقط ليس لي علاقة بأي شيء آخر .
سحبت ياسمين نفسًا عميقًا لتسألها : حسنًا أخبريني ماذا  ينقصك ؟!
نظرت دعاء إلى الفستان الموضوع بعناية على فراشها لتهمس : لا شيء ، فقط أنتظر وصول الفتاة التي ستهتم بزينتي ، لقد رشحتها لي ماهي وهي قبلت أن تأتي إلى البيت بعد ما أوصتها ماهي بي .
__ ماهي الحلواني ، أنا مطمئنة لتلك الفتاة إذًا ، ثم ؟!
هزت دعاء كتفيها : لا شيء الحفل ليلًا في البيت، لقد صممت على إقامة الحفل في البيت رغم اعتراض أيمن وحنقه علي ولكن يحيى  دعمني وأخبره أن الحفل يخصني وعليه سينفذان ما أريده .
زفرت ياسمين بصبر : ولماذا صممت على إقامة الحفل بالبيت يا دعاء ؟!
زفرت أنفاسها بعمق : ياسمين ، أنا أعلم كل الحديث الذي يدور بداخلك ، ولكني أريد أن أكون في محيط يلائمني ، أريد أن أدعو صديقات أمي من بيتنا القديم وجيراننا هنا ، وحفل كما يريد أيمن سيجعلهم غير مرتاحين ، كان يسيرًا أن يعد لي أيمن حفلًا يفوق حفل ابن الوزير ، ولكني لا أريد ، حفل ضخم هكذا وفخم يوترني أكثر ، أريد شيئًا بسيطًا يكون انعكاس لي ولشخصيتي ،
نفخت بتوتر يملأ صدرها : لن تفهمي يا ابنة المستشار .
ابتسمت ياسمين برقة : بل أتفهم جيدًا ،فابنة عمي كانت تشبهك هكذا ،رغم نشأتها في كنف المستشار ، وأميرها كان يحقق لها كل ما تتمني ولا يهتم بآراء الآخرين .
__ أميرها ، رددت دعاء بتشكك – هل هو أمير كأيمن ؟!
ضحكت ياسمين بصخب : لا هذا اسمه وليس صفته ، أمير الخيال خاصتها !!
ضيقت عيناها بعدم فهم : اسمه هكذا أمير الخيال ، ضحكت ياسمين – لا اسمه امير الخيّال ، ولكن هو خيالي بكل شيء .
__ اووه ما هذا الاسم الفخم .
__ أنه يشبه صاحبه ، وصاحبه يشبه يحيى إلى حدٍ كبير ، يحيى يحبك يا دعاء فلا تفقدي هذا الحب في ترهات وتشوش يسيطر عليك لا داع له .
ابتسمت دعاء وهزت رأسها بتفهم فأكملت ياسمين بصخب : هيا سأتركك الآن ، لأذهب إلى المشفى وأراكِ ليلًا ، إذا احتجت شيئًا أخبريني ولا تترددي ، وابتسمي فابتسامتك تنير الكون من حولك يا دودو.
ضحكت دعاء بمرح : لن تتغيري أبدًا يا ياسمين .
__ ولماذا أتغير سأظل كما أنا ،
__ مجنونة ،هتفتها دعاء بضحك لتتبع – لا يهم أن تكوني أمًا لطفل أو اثنين .
__ أينعم ، سأظل مجنونة أو كما يقول وليد ، مخي تركني وهرب مني من كثرة جنوني .
ضحكت دعاء : معه حق .
ضحكت ياسمين بصخب : مبارك يا دعاء ، مبارك يا صديقتي ، أراكِ ليلًا بإذن الله .
__ سأنتظرك ، همستها دعاء وأغلقت الهاتف لتضمه إلى صدرها وهي تحاول أن تسيطر على التوتر الذي ينتابها دون سبب سوى أنها عروس ولابد لها أن تتوتر ، هكذا أخبرتها والدة أسما وهي تردد الرقية الشرعية على رأسها البارحة في فعل كانت ستفعله والدتها رحمة الله عليها ، تنهدت بصمت وهي تنظر إلى أخر صورة التقطها لوالدتها – على هاتفها - قبل أن تتوفى وتدمع عيناها بشوق لها وتمنى لو أنها كانت بجوارها اليوم ، لتستغفر ربها وتضم الهاتف إلى صدرها ثانيةً وهي تتمتم : هل يحيى هو الرجل الذي كنت تتمنينه لي يا أمي ؟!
ابتسمت وهي تتخيل ردة والدتها الفرحة على عريس كيحيى يتقدم لخطبتها فتهمس : لا تقلقي يا أمي ، أنه يحبني وأنا أيضًا أحبه ، فقط أشعر بالتوتر لرفض والده ولمستواه المختلف عننا ،
زفرت بقوة لتجيب : أعلم كون أخي ذو شان عالٍ ولكن ..
أغمضت عيناها وعادت برأسها إلى الوراء وتهمهم : يا رب .
***
__أخبرني أيهما أفضل ؟!
عبس وهو ينظر لأخيه - بغرابة - الذي يحمل سترتان رسميتان يأخذ رأيه بهما : لا أرى فارق بينهما .
زفر حاتم بيأس : أريد أن أبدو جيدًا ، بجانبك .
رفع يحيى حاجبيه بعدم فهم فزفر حاتم بقوة قبل أن يقف بجواره أمام المرآة : انظر إليك ، استجاب يحيى ليتبع حاتم – ثم انظر إلي .
همس يحيى وهو ينظر إليه عبر المرآة بعدم إدراك : لا أفهم .
همس حاتم بعفوية : أبدو باهتًا إلى جوارك .
اتسعت عيناه بعدم تصديق ليتمتم حاتم بطفولية : أعلم أنك العريس ولابد أن تبدو متألقًا ولكن أنا أخو العريس ومن حقي أن أكون مشعًا مثلك .
__ مشعًا !! رددها يحيى بصدمة قبل أن يضحك بمرح – أنت تفقد عقلك يا حاتم لأجل أنك ستراها اليوم .
تنفس بعمق قبل أن يسأله بلهفة : ستأتي ، ماما أخبرتك ، أليس كذلك ؟!
هز يحيى رأسه إيجابًا فتابع أخاه هامسًا : كم أشتاق لرؤيتها ؟! أريد أن أتفحص بملامحها وهل تغيرت في بعدها عني ، هل ازداد وزنها ، هل انتفخ بطنها عم كان أخر مرة رأيتها بها ؟! هل لازالت تكرهني ؟!
همس جملته الأخيرة بيأس تملك منه ليربت يحيى على كتفه بدعم : لم تكرهك يومًا يا حاتم ولكنها غاضبة منك .
رفع نظره إلى أخيه : لقد نفذت نصيحتك واستمعت إلى أغنيتها ، أنت محق هي لم تكرهني ولكنها تحتقرني .
__ لا تقل هذا أبدًا ، صاح فيه يحيى بجدية – أنت لست حقيرًا ولكنك تصرفت بحقارة والفرق كبير يا أخي ، لأنك تستطيع أن تعدل من تصرفاتك ولكن لا تستطيع أن تعالج أصل شخصيتك .
ربت على كتفه ثانيةً : فقط توقف عن إحباط نفسك ، عد إلى دراستك ولعملك ، غني يا حاتم وداوي جروح قلبك ، اثبت لها أنك تغيرت للأفضل وحينها ستكسبها من جديد .
لمع التفكير بعيني حاتم قبل أن يزفر بعمق ويسأل ثانيةً : هيا أخبرني أيهما أفضل ؟!
ضحك يحيى بمرح : اذهب عاريًا للحفل وأنا أعدك أنك ستبدو مشعًا كنجم في السماء .
قهقه حاتم عاليًا قبل ان يدفعه يحيى بكتفه : هيا اذهب واتركني لأستعد .
***
__ حمدًا لله على سلامتك يا نعامتي .
ابتسمت برقة وهي تعود بظهرها إلى الوراء ترتكن على فراشها : سلمك الله يا عاصم.
جلس بجوارها يعدل من وضع الوسادات خلفها قبل أن يقبل جبينها : أنرت القصر والبيت وعيون صاحب البيت بوجودك يا حبيبتي .
ابتسمت برقة وهي تخفض عيناها لتمتم بتساؤل : لماذا طردت الأولاد يا عاصم ؟!
رقص حاجبيه بمرح : حتى أستفرد بك يا نعامتي .
نظرت إليه بعتب ووجنتيها تتورد ليقهقه ضاحكًا وهو يقبل وجنتها بخفة : توقفي عن خجلك الذي يزيد من شوقي إليكِ .
رمقته بنظرة خاصة بينهما : توقف أنت عن المراوغة .
أسبل اهدابه وابتسامة ماكرة تتسلل من ثغره ليهمس : ألا أستطيع أن أخفي عنك شيء ؟!
لامست كفه فرفع نظره إليها : أنها عشرة عمر كبير يا عاصم ، وهناك شيء من أجله افتعلت طرد الأولاد ليعودوا إلى بيوتهم .
سحب نفسًا عميقًا قبل أن يزفره ببطء : نعم فعلت ، لأجل أحمد فعلت .
لمع الاهتمام بعينيها ليكمل : لم يخبرني ولكني استنتجت من بعض حديث متناثر من وجدي أن سبب الخلاف بينه وبين ولاء هو سكنهما القصر برفقتنا .
شحبت ملامحها فاردف : لا أريده أن يحتمل فوق طاقته وتحمله يا إنعام ، نعم سيبقى صديقي أقرب من كونه ولدي ، سأظل أعتمد عليه وأبوح له بم يؤرق روحي ولكني لا أريد لزواجه أن يهدم لأجل تمسكه برفقته لنا ، لقد أدى واجبه بالكامل ، ولابد أن أُخذ قرارًا بإطلاق سراحه بعيد عنا ، لأنه لا يستطيع أن يفعلها بمفرده .
دمعت عيناها بتأثر لتفرد كفها فوق قلبه : أحبك يا عاصم .
ومضت عيناه ببريق غلف روحه ليقترب منها : وعاصم يعشقك يا روح عاصم وقلبه ، رغم أني غاضب لأنك لم تخبريني وأخفيت الأمر عني متعمدة.
لامست وجنته براحتها : كنت خائفة عليكِ ، كنت أريد أن يتم زواج إيمان يا عاصم ، فلو علمت عن مرضي لم تكن لتتزوج أبدًا ، لم أريد أن أخيف الأولاد ، ولولا إرغام أحمد لي بأن أذهب إلى المشفى لما كنت ذهبت ، لتغضب مني أرجوك .
قبل راحتها القريبة من شفتيه : لا أقو على الغضب يا نعامتي  فقط اعتني بنفسك لأجلي ، فأنا لا أحتمل بعدك عني .
__بارك الله فيك يا حبيبي وجعلك ذخرًا لنا .
تحرك ليجاورها بجلسته يضمها من كتفيها الى صدره ويقبل رأسها المضمدة بعناية : ولا حرمني الله منك ومن وجودك في حياتي يا حبيبة عمري ،
توسدت صدره لتتمتم مؤمنة على دعاءه وتزيد عليه بدعوات كثيرة تخص أبنائها وهي تمني نفسها بأن تطمئن عليهم قبل أن يسترد الله أمانته !!
***
راقبت تحرك ابن عمها بهمة لينهي ترتيبات عقد قرانه أخته ، يتمم على كل شيء بنفسه ويطمئن بأن سير الأمور على خير وما يرام ، لم يصل العريس إلى الآن ولكنهما وصلا منذ قليل ، هي وزوجها الذي يحاول مصالحة أيمن بعد ما حدث بينه وبين زوجته ، لن تنسى غضب سيف من نفسه بعدها والذي دام لفترة أطول مما توقعت وحينما ناقشته في أسباب غضبه ، همس لها بفحيح حانق ، أنه لم يكن ليتوقع أبدًا أن يخسر أمام تلك الأسما ، والتي فاقت توقعاته بتلك الحركة الماكرة التي عمدت إليها ، كان يظن بأنها لن تخبر أيمن وستغادر دون رجعة ، ولكن ما فعلته أسماء كان أبسط من أي شيء ، لقد مرت على جلستهما سويًا " هي وأيمن " وهي منهارة من البكاء ، فلم تجب تساؤله عن سبب بكائها ، بل ركضت إلى غرفتهما ليركض وراءها واتبعتهما وهي تشعر بأن هناك شيء جلل حدث دفع أسما إلى البكاء بتلك الطريقة ، وكما توقعت لقد انفجرت أسما بالبكاء وهي تدفع ملابسها دفعًا الى حقيبة سفر ضخمة ، مما جعل أيمن يثور غضبًا بطريقة لم ترها من قبل ، بل طريقة لم تعتاد عليها مع أيمن ، فهو هادئ .. صبور .. حليم ، ولكن غضبه هذا اليوم فاق الحد وخاصة حينما أخبرته أسما بصوت يقطع نياط القلب عن رغبتها في الطلاق فهي لن تحتمل وجود زوجة أخرى تشاركها به !!
حينها هاج وماج وصرخ بغضب أرعبها شخصيًا وهو يحاول أن يوقف زوجته عن لملمة ملابسها ، ولكن الأخرى تمسكت بموقفها في صلابة أثارت دهشتها وهي ترفع رأسها بشموخ تواجه أيمن بوجه منتفخ من أثر البكاء وعينان حمراوين ودموع لا يتوقف انهمارها فتهتف بصوت أبح : اسمع يا أيمن ، أعلم بأني فتاة فقيرة ، لست أوازيك مكانة ولكن كل شيء يهون فداء عينيك إلا كرامتي .
راقبت وجه ابن عمها الذي اربد غضبا فأكملت أسماء بصوت جاد : لست فتاة أتيت بها من الشارع حتى يخبرني ابن عمك بأني سأنزوي في قصر صغير كالمحظيات ، حتى تتسلم زوجتك الأخرى مقاليد الإمارة ، فأنا لا أليق بهذه المكانة ، أخفضت نظرها والبكاء يتغلب عليها لتهمس بانهيار – نعم أنا لا أليق ولكني لست عاهرة ليتصرف ابن عمك معي بتلك الطريقة ، أعدني إلى دياري يا أيمن ، فأنا لا أريد أن أحيا هنا ،
انتفض أيمن بغضب وعيناه تلمع بوميض حارق لتقترب أسما منه بخطوتين تكتنف وجهه بكفيها وتنظر إلى عمق عينيه : لا أستطيع يا حبيبي .
وكأنها فرقعت بأصبعيها ليتحول أيمن إلى وحش كاسر ، فصراخه أثار رعبها لدرجة أنها وقفت بينه وبين سيف الذي لم يفهم بأول الأمر ماذا حدث وأدى إلى انفجار ابن عمه بتلك الطريقة !!
ابتسمت برقة وهي تنحى أفكارها جانبًا وتراقب اقترابه منها لتتعلق برقبته وتسأله بحماس :هل أنت سعيد بحضورنا ؟!
ابتسم وهو ينحني يقبل وجنتيها بلطف : بالطبع يا جميلتي ، تشنجت ملامحه - إن لم تحضري كان لي معك شأنًا آخر !!
بللت شفتيها : ألازلت غاضبًا من سيف ؟!
زفر بقوة : لست غاضبًا  ، رمقته بطرف عينها لتهمس - أنت تعلم أنه لم يكن يقصد ما فهمته أسما ؟!
رفع حاجبه وهو ينظر إليها بنظرة ذات مغزى لتتورد قبل أن تتلعثم هامسة : أنه يفعل ما يظنه الأفضل .
عض نواجذه ليهمس بخفوت غاضب : الأفضل لمن ؟! هل الأفضل لي أن يخبر زوجتي بأنه سيزوجني كم لو أني فتاة سيجبرني على ما يريد .
همت بالرد ليقاطعها بإيماءة من عينيه : أخبرها بأمر أنا رفضته بل وأبلغته برفضي هذا ، ظنًا منه أنها ستهرب عائدة إلى مصر ويستغل هو الوضع بيننا ، وكأني لا زلت ذاك الغر الساذج الذي سيتحكم به كم كان يفعل أباه من قبله .
رفع رأسه بشموخ : ونسى أن أيمن الآن ليس هذا الأيمن المسكين الذي كان يُعامل من عمه معاملة سيئة لأنه ولد المصرية ، لأنه ابن الخاطئ الذي هرب منهم ومن إرث لا يريده ، لقد عدت من أجلك فقط يا فريدة ، لأجل أن لا يتركك سيف ظنًا منه أن هذا في صالح العائلة ، لا أفهم كيف يفكر ، يهد بيته ويهدم سعادته لأجل إرث زائل مهما حدث .
سحبت نفسًا عميقًا لتهمس بشجن : لقد تعب كثيرًا من أجل العائلة يا أيمن ، والآن- ما عاش حياته كلها يبني فيه سيذهب لآخر لن يقدره جيدًا لأنه لم يكن له منذ البداية ، سيف يحيا داخل الجحيم منذ أن علم بعدم قدرته على الإنجاب ، لم يهدأ قلبه إلا حينما  قبلت بأن تتولى الإمارة ، شعر بأنه سيؤمن عليها وأنت بها ، ولكن الآن ..
صمتت قليلا لتتابع : أنه يعيش بتخبط وخاصة وأنت لم تفهمه ماذا أنت بفاعل .
زفرت بعمق : لقد أتى اليوم لأجل هذا ، يريد أن يفهم ماذا أنت بفاعل ؟!!
***
ترتب أطباق الحلوى بحماس وهي تشعر بسعادة بددت خوفها من لقاء هذا الماكر الذي تشعر بأنه يريد الانتقام منها ، ولكن فرحتها بدعاء اليوم تشعرها بأنها طائرة بين السحب ، زفرت بعمق لتسكن عن الحركة وهي تشعر بأن هناك من يراقبها ولكنه ليس أيمن ، فهذا الحثيث الغاضب لا يخص زوجها أبدًا !!
استدارت ببطء لتجفل بقوة وهي تراه أمامها يقف مرتكزًا بكتفه على الحائط ويركز نظره عليها ، يضع بين شفتيه طرف الغليون ويدخن ببطء وعيناه تومض ببريق أخافها ، ارتعشت رغم عنها   وذكرى ما فعلته تعاد بينهما ، دموعها المنهمرة بغزارة وشهقات بكائها التي جعلت أيمن يغضب كم لم تراه من قبل ، واحمرار وجه سيف المنتفخ بغضب بسبب صراخ أيمن فوق رأسه ، بل مشاجرة أيمن القوية له وهو ينهره ويزجره ويعنفه بسبب ما أخبرته به ، ينظر إليها وذهوله مزج بغضبه فهو لم يتوقع أبدًا أن تفعل وتخبر أيمن بم ردده على مسامعها من قبل ، هدير أيمن القوي وهو يسأله بغضب : هل تتوقع أني سأرضخ لتلك المحاولات يا سيف ؟! ألم أخبرك أني لن أترك زوجتي ؟! ألم أخبرك أني لن أتزوج من أخرى ولتذهب الإمارة إلى الجحيم ؟! أجرؤت أن تهين زوجتي بتلك الطريقة ؟! أجرؤت أن تستهين بي وتجرح كرامتها دون خوف من غضبي ؟! حسنًا لتعلم أنني منسحب من هذا العبث كله !!
حينها تبعثرت ملامحه لترتسم شبه بسمة على ثغرها التقطها هو بسهولة وانتصار يتألق برماديتها فيطبق فكيه بعنف قبل أن يهتف بصوته الرخيم : توقف يا أيمن ، وسأفعل ما يرضيك ولكن لا تغادر من فضلك .
نظر أيمن إلى عمق عينيه وهمس : لن أبق بعد ما فعلته بزوجتي ، لقد أهدرت كرامتها دون أن ترمش بجفنيك .
ازدرد لعابه بجفاء قبل أن يهمس بجدية : سأعتذر منها إذا كان هذا يرضيك .
عم الصمت من حولهم قبل أن ينظر أيمن إليها ببكائها الذي لم يتوقف ودموعها المنهمرة بغزارة ليتمتم ببطء : أعتقد هذا .
اقترب منها خطوتين قبل أن ينظر إلى عينيها : أعتذر عم بدر مني يا خانوم .
توقفت عن شهقاتها المتتالية قبل أن تتمتم لأيمن بهدوء : لا أستطيع أن أبقى يا أيمن ، من فضلك أعدني إلى بلدي .
صدح صوته المختنق من حولها : ما الذي يرضيك سيدتي ؟! وأنا سأعوضك عن أخطائي بحقك وأفعله .
نظرت إليه بحقد قبل أن تهمس : أن أعود إلى بلدي .
حولت نظراتها إلى أيمن فانتقلت نظرتها إلى رجاء مس قلب زوجها ليهمس أيمن بلهجة قاطعة : سنعود يا حبيبتي ، فقط اهدئي .
ضمها إلى صدره ليربت على رأسها ويقبله برقة : فقط اهدئي ، أنا آسف عم ضايقك .
ابتسمت برقة وهي تدفن نفسها بين ذراعي زوجها الذي دفعها بلطف إلى جانبه فترمق سيف قبل ان تبتعد بنظرة تشفي واضحة وهي تبتسم بانتصار ومض بعينيها .
ارتجفت مرة أخرى وهي تبحث عن أيمن من حولها فلا تجده قريبًا فتشعر بالخوف يسيطر عليها قبل أن يقترب هو فتشد جسدها بقوة دفعتها إلى أوردتها لتجابهه برأس مرفوعة شامخة، فهي من انتصرت المرة الماضية وستظل محتفظة بانتصارها طالما أيمن بجوارها ، اتقد عقلها بالتفكير حتى تستطيع أن تواجه هذا الثعلب الماكر من أمامها فيقترب أكثر قبل أن يهمس بسخرية : مبارك الحمل يا زوجة أخي ، أيمن أخبرني ، فجئت لأهنئك .
ابتسمت برقي اكتسبته من زوجته : بارك الله فيك ، العقبى لك .
همستها بعفوية قبل أن يسود وجهه فيشحب وجهها وتهمس بصدق : المعذرة ، لم أقصد والله ، أنها – فقط – العادة  .
أومأ برأسه متفهمًا وابتسامة متألمة خانته قبل أن يسيطر على مشاعره بقسوة ويسألها بجدية : ماذا تريدين يا أسماء هانم ؟!
عبست بعدم فهم : لا أريد شيئًا .
ابتسم بمكر : بل تريدين ، ماذا تريدين من أيمن ؟!
نظرت اليه باستنكار لتردد : ماذا أريد من زوجي ؟! لا أفهم .
__هل تحبينه حقًا ؟! أم هو صفقة زواج ناجحة لتقفز بك إلى الأعلى ؟!
ومض الغضب بعينيها لتهمس بسخرية : أنت تظن أنني طامعة في أيمن لذا تزوجت منه ؟!
نظر إليها منتظرًا بصبر : لا يا بك ، أنا أحببت أيمن وأنا لم أكن على علم بهويته ، ولتعلم بأن زواجنا كن أمرًا قدريًا لم يتدخل أحدنا به ، وإذا كان تدخل أحد منا لم نكن لنتزوج أبدًا .
عبس بغرابة لتضيق عيناها وترمقه بشك : حان دوري لأعلم ماذا تريد من أيمن ؟!
__ أريد منه العودة ، أريد منه أن يستلم إرثه ويحمل هم عائلته ، أريد منه عون أحتاجه .
رقت نظرتها له قبل أن تهمس : أخبره بهذا دون مواربة وسيستجيب على الفور فأنت الأدري بابن عمك ، لا يتأخر عمن يحتاج إليه أبدًا .
أسبل اهدابه قبل أن ينظر إليها بتساؤل تجلى بحدقتيه فابتسمت : إذا وعدتني أن تتوقف عن حثه على الزواج بأخرى فسأقبل العودة معه .
ابتسم وهم بالحديث ليصدح صوت أيمن من خلفهما : العودة إلى أين ؟!
شحبت ملامحها وهي تنظر إلى ملامحه الجامدة لتهمس سريعا : سيف بك كان يكرر اعتذاره لي وأنا قبلته ، وقبلت أن أعود معك إذا أردت بالطبع .
رمق ابن عمه بنظرة خاطفة قبل أن يهمس بجدية : ولكني لن أعود .
شحب وجه سيف ليواجهه أيمن متابعًا – لدي ترتيب آخر سيعجبك أكثر يا سيف ولكن الآن ، تعال معي لأن عقد القران سيبدأ .
التفت إليها ليهمس : أتيت لأطلب منك أن تذهبي إلى دعاء وتتعجليها قليلًا ، فالمأذون وصل هو ويحيى وسنباشر في عقد القران الآن .
نظرت إليه مليًا لتهمهم : هل أنت غاضب مني ؟!
عبس بتعجب لتتابع – لأني تحدثت مع سيف !!
ضحك بخفة وهز رأسه نافيًا ليهمهم لها بجانب أذنها : إطلاقًا يا أسما ، قبل وجنتها – أنا أثق في قوتك يا حبيبتي .
ابتسمت برقة قبل تضم وجه لها لتقبل وجنته بقوة فيشاكسها بنظراته لتهمهم : هيا اذهب واعقد قران دعاء قبل أن تبدل رأيها .
ضحك وابتع ابن عمه الذي ابتعد عنهما قبل أن تتجه هي إلى غرفة العروس وتدلف إليها ، لتصدح زغرودتها قوية من فمها وهي تنظر إلى دعاء التي تقف أمامها تشع بتوهج وفرحة حقيقية سكنت حدقتيها .
***
يجلس على الأريكة ينظر إلى حاسوبه الشخصي ينظم بعض الأمور التي تخص العمل الذي أهمله الاسبوع الماضي بأكمله بسبب ظروف والدته الصحية واليوم يشعر براحة لأنها عادت أخيرًا إلى القصر ، وبعد أن اطمئن عليها عادا سويًا الى البيت فأبيه طردهم جميعًا ولم يوافق على مرافقتهم لوالدته لرعايتها ، ابتسم وهو يتذكر زمجرة والده وهو يغلق باب غرفته بوجههم بعد أن أمرهم بمغادرة القصر، استجاب هو ووليد على الفور وأقنعا أحمد ان لا طائل من محايلة أبيهم ليرضى أن يبقوا فسيادة الوزير أمر وانتهى الأمر .
وها هو يجلس بغرفة نومه يعمل ويتأمل هذه الجالسة أمامه بكامل بهائها تشاهد التلفاز على فيلم قديم ابيض واسود عيناها تومض باستمتاع دفعه لمراقبتها ، وخاصة وهي تمنيه رفض لم تنطق به ولكنه يشعره ، فلهفتها إليه خفت تدريجيا وكأنها لم تشتاق إليه قط، يعلم جيدًا أن حملها لطفلهما يجعل مشاعرها مضطربة ولكن اشتياقه لها يزداد وخاصة أن نزقها منه يندثر حينما يندس إلى جوارها في الفراش فتلتصق به لتغفو في نوم عميق فلا يقو على ابعادها عنه ويظل مستيقظ طوال الليل يشتعل وهو يراقب ملامحها المستغرقة في نومها !!
تلألأت ابتسامة رقيقة فوق شفتيها ليرمق ما تراه بتفكير فيما يعجبها بهذا الفيلم ، فهو يعرفه ، بل يحفظه جيدًا ولكن ليس من الأفلام المفضلة له ، ولكن الفيلم محبوب من الجنس اللطيف فغير قصته التي تلاقي استحسانهم فبطله محبوب النساء يكفي أن يطل على شاشة التلفاز لتنبعث التنهدات من أفواههن وهمسات اسمه تصدح في الأجواء ، ومن تصمت تنظر إليه بجزل كأنه الرجل الأوحد على وجه البسيطة .
لوى شفتيه بنزق وهو يهز ساقيه بعصبية ففاطمة بنشأتها الأجنبية لا تعرف هؤلاء الممثلين ولا تهوى هذا البطل بالطبع فهي لا تعرفه من الأصل ، ولكن هذا لا يمنع أن هناك ما يجذبها - بشده - لمشاهدة الفيلم والتسلية تعتلى ملامحها !!
عبست فجأة ليلتفت إلى التلفاز بدوره فترتسم ابتسامة متشفية فوق شفتيه وهو يعود برأسه إليها يراقب ردة فعلها و يتذكر هذا المشهد حينما يسأل البطل صديقه عن حل لنيل زوجته فينصحه الآخر بحماقة أن يذهب ليضربها ، فينفذ الغبي تلك النصيحة الحمقاء ، انتفضت بغضب أمام عينيه وملامحها تحتد ليكتم ضحكة كادت أن تنفلت من بين شفتيه باستمتاع فبعد المشهد القادم سيضمن كرهها لدون جوان الشاشة العربية إلى الأبد .
راقب تضيقها إلى عينيها باندهاش والموسيقى تعلو ليعتلي عدم الإدراك ملامحها والبطلة تشدو بصوتها الجميل ودلالها المشهورة به فابتسمت فاطمة والحنين يخيم عليها ، لتردد معها نغمات الأغنية باستمتاع .
راقبها كيف اندمجت مع الأغنية ورددت كلماتها ليرمقها بتعجب قبل أن يغلق حاسوبه بنزق وهي تشدو بحماس وابتسامة غنجة ترتسم على ثغرها وهي تنظر إلى التلفاز بوله أحرقه
في ايديك قوة تهد جبال .. في ايديك قوة
وعليك صبر وطولة بال .. وعينيك حلوة
سألها بصوت أجش : من هذا الذي تغنين له ؟! أتبع بمكر - أم تغازليني ؟!
لم تستدر له ولكن ملامحها استنكرت لتهز رأسها مع الموسيقى في لا مبالاة وتتابع شدوها
كنت بخاف من حبك .. من ظلمك لحبايبك
لكن غصب عني .. قلبي عملها وحبك
مقدرشي محبكشي .. وحياتك مقدرشي
نهض واقترب منها ، جلس بجوارها : تحفظين الأغنية ؟!
رمشت بعينيها قبل أن تنطلق ضحكتها والبطلة ترد اللطمة للدون جوان فينصرف غاضبًا كالأطفال .
عبس بحدة : علام تضحكين؟!
__عليه بالطبع ، أكملت بجدية - كان يظن أنها ستركع تحت قدميه لكنها استدرجته لتأخذ حقها من عينيه .
تفحصها قليلا : أنتِ تعرفين الفيلم .
هزت رأسها بالإيجاب: ماما تحب رشدي .
جمدت ملامحه : لا تنطقين اسمه هكذا .
لمع المكر بعينيها : هكذا ، كيف ؟!
زمجر باسمها في تحذير ومض بعينيه لتضحك باستمتاع على غيرته فأشاح برأسه عنها ويتمتم بطفولية : من الواضح أنك رائقة المزاج وستتفننين في اغضابي .
تمسكت بكفه قبل أن يبتعد وتهتف بمرح : أجلس يا وائل وكف عن التصرف بطفولية .
__طفولية . رددها باستنكار فجذبته ليستجيب ويجلس بجوارها - إذًا ماذا تسمي غيرتك من آخر ممثل في عمر جدي توفاه الله منذ زمن .
تأفف فضحكت قبل ان تتابع : أتعلم ؟!
التفت إليها فأكملت بحنين وحزن يغشي حدقتيها : بابا أيضًا كان يغار منه ، بل كان يجبر والدتي لتبديل قناة التلفاز إذا كان رشدي منها ، تعالت ضحكاتها - فكانت تهمس اسمه بلهجة ممطوطة تجعل أبي ينصرف غاضبًا فتشدو إليه بتلك الأغنية حتى تراضيه وهي تهتف له بأنه أحلى من مئة رشدي .
ابتسم بحنو واقترب منها : لذا تحفظينها ؟!
تنهدت بقوة وهي تمأ إيجابًا : رحمة الله عليه كان يحب شادية جدًا وكان يدير أغانيها باستمرار .
اكتنف كفها بين راحتيه : ادعي له يا فاطمة
_رحمه الله وغفر له .
قبل بطن كفها ليرفع نظره إليها : شكرًا لما فعلته اليوم .
نظرت إليه بعتب قبل أن تقول بترفع : ليس من أجلك بالمناسبة لقد أخبرتك من قبل أنا أحب والدتك
أسبل اهدابه : أعلم ،همست بوله افتعلته قاصدة استفزازه -وأعشق والدك.
عض نواجذه قبل أن يرفع نظره لها ويبتسم من بين أسنانه : وولدهما مغضوب عليه ؟!
__غضبه شديدة ،ألقتها بمرح ليقترب وهو ينظر إليها بإغواء -لماذا هل قصرت في شيء ؟!
__تهذب يا باشمهندس ،اقترب أكثر ليحاوطها بذراعيه - الباشمهندس يحترق شوقًا يا فاطمة
هزت كتفيها بلا مبالاة : ليذهب ويسبح بالنيل لعله يستطيع أن يطفئ نيرانه ،مط شفتيه - الماء لا يفي بالغرض .
لمع المكر بحدقتيها : إذًا ؟!
لعق شفتيه وهو يدير عينيه على ثغرها : بعض الكراميل سيفيد .
جلجلت ضحكتها من حوله فيجذبها إليه ملتهمًا سعادتها بشوق حدد ملامحه .
انتشلهما صوت رنين هاتفه بعد قليل ليبتعد عنها مرغمًا ينظر إلى هاتفه فيعبس بغرابه لرنة التذكير التي تصدح عالية قبل أن يهتف بإدراك : فاطمة ارتدي ملابس تليق لدينا زفاف علينا حضوره
نظرت له بعدم فهم فيتبع : سأفهمك في الطريق هيا ارتدي شيئًا محتشمًا فالزفاف بمنطقة شعبية حتى أني سأصحب الحرس معي.
نظرت باستنكار ليبتسم باتساع وهو يدفعها بلطف : هيا سأفهمك لاحقًا .
***
تعالت الزغاريد تنطلق بقوة وتدوي من الخارج فتنهض واقفة بتوتر وهي تعلم أن عقد القران تم بالخراج ، فهي تمسكت بالمكوث بالغرفة إلى أن ينتهي عقد القران وأبلغت أخيها برغبتها وهو يأخذ توقيعها على دفتر الجواز لينظر إليها بعتب ويهمس : أنه يحترق لأجل رؤيتك .
تخضبت وجنتيها بخجل لتهمهم باسم أخيها في اعتراض فيهز رأسه بعدم فهم قبل أن تنفلت ضحكته ويهتف بمرح : لك الله يا يحيى .
ابتسمت برقة حينها لتجلس بصبر ، تحاوطها أسما ووالدتها ، و دادة نبيلة التي لا تتوقف عن قراءة القرآن فوق رأسها ، و ماهي هانم التي  جلست على كرسي منفرد تبتسم بها برقة وتبث لها دعم تضمن نظراتها ، فهي حضرت مع يحيى وحاتم ، وأبلغتها باعتذار زوجة حاتم عن الحضور فهي توعكت الصباح فآثرت أن لا تأتي ، وفريدة هانم التي احتلت طرف الفراش بعد أن عدلت لها وضع خصلاتها بطريقة راقية راقت لها أكثر من طريقة مصففة الشعر ،  وأخيرًا ياسمين التي حضرت برفقة وليد وشاكستها مرارًا لتجلس بجوارها أخيرًا وتربت على ساقها التي لم تتوقف عن الحركة بفرط توتر أصابها !!
فركت كفيها في توتر حينما ساد الصمت في الخارج إلى أن تعالت همهمات رجولية فتهتف داداه نبيلة بقوة : لقد عقد القران ، أتبعت جملتها بزغرودة عالية انطلقت من حنجرتها بفرحة حقيقية شعت من ملامحها لتتبعها بعض السيدات وأسما ووالدتها اللتان زغردتا بقوة بعد أن هنئاها .
نهضت واقفة لتنظر إلى أيمن الذي اقتحم الغرفة وهو يهتف : هيا يا عروس دقيقة أخرى وسيقتحم زوجك الغرفة ويختطفك ويذهب غير أبهًا بوجودنا .
تعالت الضحكات من حولها لترمش هي بعينيها وأيمن يقترب منها يقبل جبينها ويهتف بسعادة : مبارك يا حبيبتي .
أخفضت نظراتها وهي تهمهم : بارك الله فيك يا أخي .
دفعها بلطف : هيا فيحيى ينتظر .
سارت بجواره وهي تخفض عيناها أرضًا لتشعر باقترابه منها ثم تخلي أيمن عنها قبل أن يقترب هو بصدر لاهث ، وأنفاس متلاحقة ليهمس بهدوء : ارفعي رأسك من فضلك .
ازدردت لعابها بتوتر قبل أن ترفع رأسها لتكتم أنفاسها وهي تغرق في حدقتيه الصافيتين ، تشعان ببريق خطف بصرها ، وانتزعها من خوفها ونقل سعادته الجلية إليها فتبتسم بعفوية وهي تنظر إليه ، تنهد بقوة ليكتنف كفيها براحتيه ويرفعهما إليه ليقبلا بالتتابع قبل أن يهمس لها بصوت أجش : مبارك يا صديقي .
ضحكت برقة ليهمس بمرح : ترفق بي يا –قليلًا – يا صديقي .
أسبلت اهدابها ليجذبها إليه قليلًا : أريد أن أنفرد بك قليلًا .
هزت رأسها بنفي ليهمهم بجانب أذنها : أريد أن أخبرك برأيي في فستانك وزينتك وخصلاتك التي أذابت قلبي ببطء .
غمغمت باسمه في حياء اكتنف ملامحها ليهم بالحديث قبل أن تصدح صوت موسيقى عالية من حولهما فينظرا إلى حاتم الذي وقف يصفق بانسجام مع الموسيقى قبل أن يهتف في ميكروفون صغير يحمله : مبارك يا أخي ، مبارك يا زوجة أخي ، اقتربا من فضلكما .
ابتسم يحيى بسعادة وهو يدفعها بلطف ليقتربا بالفعل من حاتم الذي دعا الجميع قبل أن يشدو بصوت فرح
الحارس الله عليك ايه ده ما شا لله
م القريب والغريب واللي ما اتسماش
واللي شافك جنبي وماسماش
ع الحب اللي جمعنا

الحارس الله عليك ايه ده ماشالله
من اللي جاي واللي راح واللي عينه عليك
اتداري يلّا ف حضني بروحي افديك
ايه تاني هيمنعنا!
استجابوا جميعًا ليقفا بجانب العروسين فيدفعهما حاتم للتمايل معه على حركات كتفه الراقصة ، فتنتشر السعادة في الأجواء وتعم البهجة عليهم جميعًا ، قبل أن يتوقف كل شيء حينما انتبه يحيى بنظراته إلى هذا الواقف بباب الشقة المفتوح على مصرعيه ، ومن خلفه لفيف من رجال أشداء يحاوطنه فتقع عيناه في تواصل مع مقلتي أبيه الجامدتين والوامضتين بنظرة غامضة أسارت الخوف بقلبه !!
***
تلفتت من حولها تقيم الخيمة الكبيرة الجالسان هما في أولها ، تحتل كرسي بأقصى اليمين بها ويجلس هو من الخارج وكأنه يحميها من الجميع ، يحاوطهما الحرس من الجانبين ، في لفتة لأهيمه هذا الجالس إلى جوارها ، لا تنكر دهشتها في الاستقبال الملكي الذي لاقاه زوجها من تلك السيدة المسنة وحفاوتها لوجوده ، ليركض العريس من فوق مقعده ليرحب به تاركًا كل شيء سوى أنه يرحب بوائل وهو يهتف بمدى امتنانه لحضوره رمقته وهو يشاكس مربيته بمرح لتبتسم رغمًا عنها قبل أن تعبس بغرابة وهي تراقب المغنيان اللذان كانا يحيا زفافهما ومن الواضح أنه السبب في وجودهما هنا ، في عرس سائقه البسيط ، الذي سحبها معه لأجل أن يحضراه سويًا ، ابتسمت وهو ترمق  العجوز التي ضمها إلى صدره وهي تدرك أنها كانت تعمل بقصر آل الجمال وشاركت في تربيته بشكل أو باخر ، بل هي ذات مكانة خاصة لدى وائل وإلا ما كان ليضحك معها بتلك الطريقة ويتبسط معها بمزاح دفعتها بعض الأحيان إلى الابتسام على حديثهما سويًا ، رمقته بطرف عينها وهي تشعر بأنها ترى وجه آخر لابن الوزير العظيم ، يمرح مع هؤلاء البسطاء ويتحدث معهم بأريحية، تنهدت برقة قبل أن تتسع حدقتيها بصدمة وهي تنصت إلى تلك الكلمات التي يشدوان بها الثنائي الذي يحتل المسرح الخشبي من أمامها ويتحركان بانسجام على أنغامها ، والمدعون أيضًا ينجرفون معهم في أغنيتهم الثنائية ، تمتمت بعدم فهم : هل ما يصلني من معنى الأغنية صحيح أم يفوتني شيئًا بسبب عدم إلمامي بمفردات اللغة ؟!
ابتسم بمكر: وما الذي فهمتيه ؟! ضيقت عينيها وهمهمت بتعجب-  أليس هذا تحرشًا لفظيًا !!
ضحك بقوة ليقول بخفوت وهو يقترب منها تلتمع ابتسامة مسليه على ثغره : أنه لا يتحرش بها ، نظرت إليه بعدم فهم واستنكار ليكمل بصوت أجش ونظراته تتوهجان ببريق شوق لا ينتهي - أنه يغازلها بجرأة .. يغويها بخبرة
رفعت حاجبيها باستهجان فهمس بجانب أذنها : انصتي إليها أنها راغبة .. راضية .. تتلمس قوته وعنفوانه في حبه لها ، وهو يجذبها إليه بخفة ويسترضيها بدلال ويعدها بعشق لم ولن ترى مثله ، يحب أن يريها طريقته في حبه العنيف لها ، يريد فقط قبلة من شفاهها لأنه عندما يلامسها بشفتيه سيذيقها رحيق الحب .
نظر إلى عمق عينيها : الرجل الحق هو من يستمتع بإغواء النساء حتى يذوق استسلامهن .
__ بعضهن لا يستسلمن أبدًا وائل ، ألقتها بحدة تملكت منها وخاصة بعد ما شعرت بشوقها إليه يتضاعف ،نظر إلى عمق عينيها ليذكرها بتلك الليالي العاصفة التي جمعت بينهما ليهمس لها بصوت أجش : لا تقولي أبدًا يا حوريتي
قالت بجبروت لمع بحدقتيها : هل يدخل الكذب ضمن أدوات الاغواء يا ابن الوزير ؟!
سحب الهواء إلى صدره بعمق ليهمس بنبرة صادقة مست شعورها : يبدو أن الهدنه انتهت بخروج أمي من المشفى .
رمشت بعينيها لتهمس بصلابة : لا تراوغ .
تنهد بقوة وهمس بجانب اذنها : لم أكذب عليكِ قط ، كنت أريد اغوائك لن أنكر ذلك ولكني لم أستخدم الكذب بيننا يا زوجتي العزيزة
همست من بين أسنانها والوعيد يلمع ببنيتيها فيحولهما للون الزيتوني الذي يأسره : لا تكذب
ابتسم بهدوء ليهمس بصدق صفعها : لا أكذب ولم أكذب عليكِ من قبل بل أنتِ من فهمتِ الأمر بطريقة خاطئة
هتفت بجدية : إذًا اشرح لي .
هم بالحديث لينتبه الى السيدة فتحية  " والدة العريس " قادمة نحوهم فهمس من بين أسنانه بأرستقراطية ولد بها : لدينا بيت نتناقش فيه يا ابنة السفير أما الآن فلنستمتع بالاحتفال .
وضعت السيدة فتحية عدة أطباق امامها لتهمس : تغذي جيدًا ابنتي فأنتِ تعديت شهرك الثالث ولابد أن تهتمي بتغذيتك وخاصة مع بنيتك الضعيفة
شحب وجه تامي فجأة لتنظر إليه بعينين متسعتين وخاصة عندما أتبعت السيدة فتحية بتذمر : سأنتقم منه لأنه لم يبلغني بزواجك إلا منذ شهر واحد فقط
نظرت إليه وهي تشعر بالبرودة تزحف إلى أطرافها ليقول وائل بمرح افتعله وهو يشير إليها بعينيه أن تهدأ : أتريدين من زوجتي تناول طعامك يا فتحية ، لماذا هل تتخططين لبياتنا اليوم في المشفى ؟!
عقدت فتحية حاجبيها ونظرت إليه باستنكار : أتلمح يا فتى بأن طعامي سيء ؟!
ضحك بقوة : لا بالطبع يا دادة ولكن زوجتي لن تتحمله أنا سأؤكل منه مثلما تريدين لأني اعتدت عليه ولكن هي ستكتفي بالفاكهة
ابتسمت فتحية وقالت دون اقتناع فعلي : حسنًا سآتي لها بطبق آخر
هرولت بخطوات سريعة لتتنفس بقوة وتهمس : كيف عرفت ؟!
جاهد ليتحكم في ملامح وجهه وهو يراها بعينين مرتعبتين وقلب خافق بقوة ليهمس بهدوء وهو يربت على يدها ويضمها بذراعه القريبة منه إلى حضنه : اهدئي يا حوريتي ، إن السيدات مثل فتحية لديها خبرة أكثر من أشهر طبيب نساء وتوليد من الممكن أن تقابليه
عقدت حاجبيها بعدم فهم ليتابع : أنها قامت بتوليد نصف الحي هنا ولذا عندما نظرت إلى بطنك توصلت لعمر حملك الحقيقي
شحبت ملامحها وتوترت جلستها لتهمس بصوت مخنوق : أريد الرحيل من هنا .
أجفل من حزن ملامحها ليهمهم بصوت حان : أمر حوريتي .
أشار بيده لطاقم الحراسة المنتشر من حوله فيتحركوا بسرعة ويحاوطهم حينما نهضا واقفين لتأتي إليهما فتحية مهرولة : إلى أين يا سيد الناس ؟!
ابتسم بود : سننصرف نحن ، أبلغي سلامي لفتحي ومباركتي أتم الله زفافه على خير ،
ابتسمت باتساع قبل أن يمد لها مغلف أبيض وهو يهمس : مبروك يا توحة .
تذمرت وجنتيها تتوردان بحرج : يكفي يا بك ما فعلته معه ومعي من قبل فلولا مساعدتك لنا ما كان تزوج هذا المأفون .
__ فتحية ، هتفها بجدية مؤنبًا وهو يدس المغلف بكفيها لتبتسم بحرج وتقترب منه تضمه بحفاوة - لا حرمنا الله منك يا بني
ربتت على وجنته : بارك الله فيك وحفظك لشبابك يا سيد الناس ورزقك بولي عهد جميل مثلك ، رقصت حاجبيها بشقاوة - نظراته تسبي قلوب الصبايا كأبيه .
قهقه ضاحكا ليضمها إليه بمشاكسه ناسيًا تلك الواقفة بجواره تتطلع إليهما باندهاش وغيرة بدأت تداعب أروقة قلبها من حميمته مع تلك السيدة كبيرة السن بجسدها المكتنز وتقاطيعها المنمنمة تنم عن جمال بسيط في ماض سُحق على يدي الزمن والفقر : ستظلين أنتِ من في القلب يا تفاحتي الجميلة .
ضحكت بقوة فيهتز جسدها المكتنز وهي تضرب كتفه بخفة : معسول الكلام  دائمًا يا فتى.
قهقه ضاحكًا لتهتف بصدق : اه ، لو كنت أقو على العمل كالماضي لأتيت لخدمتك وخدمة المحروسة إلى أن تلد بالسلامة وأراعي الصغير إلى أن يكبر كما راعيتك صغيرًا .
رددت فاطمة بذهول خافت : المحروسة !! في حين تظللت عيناه بحنين جارف قبل أن يهمس بصوت أبح - لا تقلقي سامية تقوم بالواجب وأكثر .
تهلل وجهها فرحًا : خير فعلت أنك استخدمتها عندك فهي تعلم عادتك جيدًا وستراعي المحروسة جيدًا .
ابتسم بمكر وهو ينظر إلى فاطمة التي لا تفقه أن هذا اللقب الذي تهتف به فتحية يخصها ليضمها ثانيةً إليه : أراكِ على خير يا توحة .
__سلمك الله يا حبيبي .
التفتت إليها فينظر إليها متعجبًا من الغضب المتنامي على ملامحها ، تطبق فكيها بقوة وترفع رأسها في كبر أذهله لتقترب منها فتحية بأريحية تضمها إليها وتربت على ظهرها : سلمك الله يا حبيبتي ، تخشبت فاطمة قليلًا قبل ان تلين بابتسامة وتهمس :شكرًا .
ابتسمت فتحية بحنو : فقط تغذي جيدًا من أجل الطفل ، أتبعت وهي تلوى شفتيها بحسرة -  فأنت نحيفة جدًا .
عبست فاطمة وهي تنظر إلى تلك المرأة الغريبة ليكتم ضحكته ويهمس : أنها كما قال الكتاب يا توحة ، أنتِ –فقط - غيورة .
توردت وجنتيها وهي تشيح بعيدًا عن عينيه اللتين التهمتا دون خجل لتصدر السيدة صوتًا لم تفهمه : غيورة ، أبدًا ، بل أنت من  تعشق صغيرات الحجم يا فتى .
ضيق عينيه بمداعبة وقحة : كيف عشقتك اذًا يا تفاحتي ؟!
قهقهت فتحية بقوة قبل أن يضمها من كتفيها إليه فتهمس بأمومة خالصة : أسعدك الله يا حبيبي .
أشار إليها بيده مودعًا قبل أن يغادر ، يدفع فاطمة بلطف من خصرها لتسير بجواره تهمس من بين أسنانها : تلك كانت مربيتك حقًا ؟! أشعر بالغزل يتطاير في الأجواء بينكما ؟!
ابتسم بمكر : كانت من ضمن العاملات بالقصر ولكني كنت مفضل لها عن إخوتي
ضيقت عينيها بترقب : لماذا ؟!
هز كتفيه بلا مبالاة : لأني جذاب بفطرتي .
نظرت إليه بحدة : ألن تكف عن غرورك هذا ؟!
اقترب برأسه منها ليهمس : لماذا ؟! هل أدعي شيء لا أمتلكه ؟! لا تنكري اني جذاب .. وسيم .. أمتلك هالة فطرية تشع من حولي .
ارتعشت حدقتيها ليحدثها بعينيه وهو يهمس : أرأيت ؟! لا أدعي يا حوريتي بل أنا محق .
زفرت أنفاسها المثقلة لتشيح برأسها بعيدًا : لا أفهم ماذا تريد من حديثك هذا .
همس بجانب أذنها : لا أريد شيئًا سوى العودة إلى البيت لأني اشتقت إليكِ يا فاطمة.
لمعت ابتسامة فوق ثغرها ليضمها إليه اكثر قبل أن يتركها عند اقترابهما من السيارة ، يفتح لها الباب لتركب ويغلقه من خلفها ويهم بالحركة قبل أن يرتطم جسده بفتاة كانت تمر من أمام سيارته لتشهق بعنف وهي تنظر إلى وجهه بفزع ثم تركض مختفية من امامه وهو يحدق في أثرها بعينين متسعتين وأنفاس لاهثه !!
***
ذرع الغرفة ذهاًبا وإيابًا ، ليستقر أخيرًا أمام النافذة ينظر الى الليل البهيم في الخارج ويضع كفيه المرتعشين في جيبي بنطلونه ،أشاحت بنظراتها عنه وهي تتذكر ما حدث حينما هما بمغادرة حفل زفاف سائقه ، فتوقف لوهلة وهو ينظر إلى إحداهن - أوشكت على الاصطدام به -  بعينين جاحظتين ، لتتعجب وهي تراه يدور حول نفسه دورة كاملة ، ويلتفت  ينظر في أثر السيدة التي اختفت هي وطفلها الذي تحمله فوق ذراعها فكاد أن يركض من خلفهما  لولا ذوبانهما التام من أمامه !!
حينها سحبت نفسًا عميقًا وهمست باسمه التفت إليها بضياع أسر حواسها قبل أن يجلس إلى جوارها بالسيارة لتساله بهدوء عم ألم به ؟! تلعثم بتوتر وغضب يزحف إلى أوردته وهو يهتف : أنا متأكد أنها هي ، هل رأيتها ؟!
أشارت بالنفي فسألها بحدة : حسنًا هل رأيت الطفل ؟! أتبع سريعًا - أشعر بأنه يشبهني !!!
شعرت بروحها تتجرع ألمًا لا طاقة لها به وهي تفكر في تلك الفتاة التي بعثرت قوته ، وبدلته إلى النقيض من الجامد الذي يسيطر على أدق عواطفه إلى هذا المتبعثر الذي آثر الصمت طوال طريق عودتهما إلى البيت ، فيثر الصمت بعد وصولهما إلى أن أجرى مكالمة هاتفية مع آخر همس له بحديث خافت لم تتبينه قبل أن يقف بتلك الطريقة التي تثير تفكيرها ، اتخذت قراراها لترفع نظرها وتأملته قليلا لتهمس باسمه فيلتفت برأسه قليلًا إليها ، سألته بتبعثر وصبر تشبثت به : من هو ؟!
نظر بشرود أمامه من جديد ، ليعم الصمت عليهما قليلًا قبل أن يغمغم بصوت محشرج : أشك في أنه طفلي ، بل أنا متأكد فهو يقارب الموعد الذي أبلغتني به .
ذُهلت ملامحها ورددت بعدم فهم : طفلك ؟!!
رمش بعينيه وأفاضت روحه ببوح اجتاحه : نعم ، تلك الفتاة التي رأيناها وهي اكتشفت وجودي فسارعت للهروب كانت زوجتي يومًا ما ، فأنا لم أقرب امرأة في الحرام يومًا ، بل كنت أتزوج من ابتغيها وأريدها ، لم تقف أمامي امرأة من قبل ولم تفرغ جعبتي أبدًا ، لم أكن أتزوج لأي شعور يراودني سوى الحاجة ، الحاجة إلى الاستقرار .. الأمان .. الحنان .. الاحتواء ، الكثيرات احتللن ضلوعي ولكن لم يعشش فيها أحدًا قط ، طالت المدة أم قصرت كانوا يرحلن يومًا ما دون أن أتعلق بإحداهن !!
زفر بقوة : إلا تلك الفتاة كانت تثير بداخلي جانب الحماية والغيرة ، كانت وحيدة وأنا انتشلتها من ضياع كاد أن يبتلعها ووحدة كادت أن تدمرها ، عرضت عليها زواج عرفيًا فوافقت ، كنت أول حظها وكانت هي رقم في سلسلة كبيرة تعددت من قبلها، أحبتني بل شعرت بها تنغمس في عشقي فلم أردعها بل تركتها تغرق في بحري وأنا أتلذذ لاحتوائها الذي تغدقه علي ، ولكنها فاجأتني بعد ستة أشهر كاملة بخبر حملها وهي تجلس بين ذراعي تحتل صدري وتحاول ارضائي
غطت فمها بكفها وهي تبتلع شهقة بكاء كادت أن تنفلت منها ليكمل هو بصوت أبح : ولكنها لم تكن تعرف أنها دقت ناقوس الخطر لي ، نعم كنت أتلهف لطفل يحمل اسمي ويكون أبكر الوارثين لعائلتي ولكن أنا أريد طفلًا لن تكون هي أمه ، لم أكن لآتي بطفل من زواج غير رسمي لأتوجه ملكًا ، لم أكن لاقترف نفس الخطأ الذي وقع فيه أبي !!
صمت قليلًا يزدرد لعابه  وهي تحافظ على ثباتها ،قلبها يصرخ بنواح وأنين ولكنها تنظر إليه وتنتظر منه أن يكمل نحرها ببطء كما يفعل دون أن يدرك ليتابع بعد قليل : لن أنسى قط نظراتها الضائعة عندما أمرتها بصلابة أن تتخلص منه ، رميت لها ببطاقة طبيب أعرفه جيدًا وأخبرتها أن تذهب إليه وهو سيقوم باللازم ، ارتديت ملابسي  ولملمت أشيائي قبل أن أترك لها عقد الشقة الذي كتبته باسمها في وقت سابق وبطاقة بنكية كنت وضعت لها مبلغًا من المال في حسابها – وكأني كنت أشعر بدنو نهاية ما بيننا – ثم طلقتها ببرود قبل أن أغادر لأمر حرسي بمراقبتها حتى تذهب إلى الطبيب ثم يعودون بها من جديد ،
تهدجت أنفاسه قبل أن يغمغم : ولكنها هربت غافلتهم وهربت ، بحثت عنها كثيرًا جدًا ،إلى أن يئست و توقفت قبل خطبتنا بفترة غير مباليًا بها ، وخاصة بعدما أبلغتني أن الطفل مات في رساله أتت لي بمكتبي بطريقة يدوية ليس عن طريق البريد .
عم الصمت عليهما قبل أن يزفر بقوة :  لم أتوقع ظهورها اليوم أمامي دون سابق إنذار وفي هذا التوقيت الغير صالح إطلاقًا لظهورها وهي تحمل طفل يشبهنني وفي نفس عمر طفلي إذا كانت رزقت به ولم يمت كما أخبرتني
قاومت جراحها التي عاودت النزف من جديد فهي لم تلتئم بعد لتهمس بصوت مخنوق : إذًا ، ماذا ستفعل ؟!
هتف دون تفكير : سآتي به ، ارتفع حاجبيها بدهشه - ستأتي به، ستأخذه من والدته لتربيه بدلًا منها 
التفت إليها وهمس باستنكار : لا طبعًا ، إذا تأكدت أن الطفل لي سأردها إلى عصمتي وآتى بها لتربي الطفل تحت عيناي .
شحبت ملامحها : ستردها إلى عصمتك ، زفر بعنف - هل يوجد لديك حل آخر ؟!
تهدج صوتها ببكاء قاومته فمزق حلقها وهي تهتف بذهول : وأنا ؟!
التفت إليها وكأنه يراها لأول مرة يرمقها بنظرة لم تستطع تفسيرها لتنهض واقفة وهي تسأله بألم تألق في حدقتيها فأحرق كل ما كانت تكنه له يومًا : هل نسيتني يا وائل ؟! أنا زوجتك وأم طفلك القادم ، هل ستتخلى عني من أجل طفل مجهول كل ما تراه فيه هو حلم الوريث الذي تصبو إليه ؟!
هم بالنفي لتكمل دون أن تعطيه فرصة الحديث : أم ستأتي بها وتتزوجها على ، وتسكنها معي ليتربى ابنيك سويًا ، دون الاهتمام بي وبمشاعري ، دون الالتفات لموافقتي من عدمها ، فما يهمك هو أنت ، وأنت فقط .
شعر بروحه تسحب منه ، وقلبه ينتفض بجراح كثيرة وهي ترفع رأسها في كبرياء لطالما أسره لتهتف بقوة وايباء :اسمع يا وائل ، إذا فعلت ما تريده وأتيت بتلك السيدة وطفلها إلى هنا أو حتى تزوجت منها لأجل ابنك ، انسى أن أكون لك زوجة ثانية ، لن أحرمك من طفلك أبدًا ، ولكني لن أستطع معايشة ما تريد فعله ، لست أنا من تتزوج عليها
تأملها مليًا قبل أن يهتف بعفوية : هل إذا أتيت لك بالطفل ستربيه أنتِ بدلًا منها ؟!
__ لا ، صاحت بها قاطعة لتتبع بغضب - من سيتربى بحضني هو طفلي وطفلي فقط ، ذاك الولد له أم تربيه .. ترعاه .. وتنشئه، وأنا غير قادرة على النظر إلى طفل كلما رأيته تذكرت أنه نتاج إحدى لياليك الصاخبة مع أخرى غيري
ومضت عيناه بتألق ذهبي لم تره من قبل لينهض واقفًا يضحك بألم يكوي ضلوعه ، تترقرق الدموع بحدقتيه وهو يبتسم باتساع ليهمس بخفوت: هلا حضنتني الآن ؟!!
رمشت بعينيها وهي تنظر إليه وعدم إدراكها يعتلي ملامحها ليرجوها بلطف وهو يقترب منها : أرجوك يا فاطمة .
لم تستطع أن تمنع نفسها من فتح ذراعيها على وسعهما فينزل على ركبتيه من أمامها ويضمها من خصرها إليه يسند رأسه إلى بطنها ويضع شفتيه فوق رحمها : هلا سمعت والدتك وهي تدافع عنك بضراوة يا ولد ، ضراوة نمرة أحدهم اقترب من طفلها النائم في سبات بعيد ، ليست كل الأمهات كوالدتك يا فتى فافخر بكونك ابن فاطمة الخشاب .
انسابت دموعها رغمًا عنها لتهمس بصوت محشرج : أتركني يا وائل .
رفع عينيه إليها ليهمس : مهما فعلت لا تتركيني يا فاطمة ، فأنا أحتاجك الآن أكثر من أي وقت مضى ولك وعدى لن أضيمك قط ، فقط سأجد حلًا يرضيكِ حتى وإن لم يرضيني .
سحبت نفسًا عميقًا لتشيح بنظرها بعيدًا عنه قبل أن ينهض واقفًا من أمامها يكتنف وجهها بكفيه ليقبل جبينها : أشكرك .
نظرت إليه بتعجب وهمست من بين دموعها : علام ؟! ابتسم - لكونك رفضت وجود طفلي الآخر .
نظرت إليه بعدم فهم : أنا لا أفهمك ، لا أستطيع استيعاب فرحتك برفضي
__ ولن تستطيعي أبدًا استيعاب فرحتي ، فأنا لست فرحًا برفضك قدر ما فرحًا بصراحتك .. حبك لابنك .. و رفضك لوضع سيكون غير طبيعيًا أبدًا ، وضع سيعاني منه كلا الولدين دون أن يدركا ما الخطأ إلا بعد فوات الأوان .
همست بذهول : تتحدث عن الوضع وكأنك .. صمتت لتتسع عيناها بإدراك جلي تألق بكراميل حدقتيها فيكمل بهدوء : وكأني عايشته  ،بل أكثر ما عانيت منه هو اكتشاف أن محبوب الأسرة هو أخ غير شقيق ، تكن له والدتي أكثر من الحب وتبذخ عليه الاحتواء ، يشاركني في كل شيء إلا أمي الذي استحوذ عليها كاملة
سألته برهبه تملكتها : أنت تتحدث عن وليد ؟!
ابتعد بانتفاضة جسد غاضبة ليذهب وينظر إلى الخارج ليهمس بعد قليل : نعم ، ولأكن منصفًا ، وليد لا ذنب له ، هو طفل زُج في أمور الكبار فوجد نفسه ينشأ في كنف عائلة هي عائلته ولكن هناك أمرًا لا يفهمه ، أب غاضب منه على الدوام ووالدة تحتويه دون أن يطلب وأخ يحبه ولكنه غيور بشدة منه ، ينظر إليه وهو يتساءل دائمًا ما المختلف به يجعله محط الأنظار وهو لا
صمت ليستعيد أنفاسه قبل أن يهمس بصوت مليء بذكريات كثيرة ترهق روحه : كنا أخوين رائعين توأم غير متشابه ، وأم تهتم بنا سويًا ولكن تغدق حمايتها على وليد فأنا ابن أبي منذ الصغر ، أبي كان يعشقني دونما الآخر ، الذي عندما يظهر أمامه يتألق الغضب بحدقتيه دون سبب فعلي ،إلى أن نشأت تلك المشاجرة بيننا وبين طفل آخر في المدرسة
زفر بعنف ليكمل : كنت أنا من تسبب بها فآزرني وليد كما يفعل دائمًا ، وضرب الولد فأحيل ثلاثتنا إلى مكتب الناظر ، واستدعي ولي أمرنا ، لم يكن أبي حينها في منصبه ولكنه كان ذو شان عالٍ بالدولة ، هاج وماج وغضب بشدة وخاصة من وليد لينهرني بقوة حينما عدنا إلى البيت وهو يؤمرني ألا اتدخل بمشاكل وليد ، التزمنا الصمت ونحن لا نفهم السبب وبناء على أوامر ماما غادرنا المكان لتنشئ تلك المشاجرة بينهما وهي تتهمه بأنه يفرق بيننا في المعاملة فأصدم بأن وليد ليس شقيقي ، لقد لامها يومها كثيرًا لأنها تحب وليد دونًا عني ، ترعاه وتهتم به وأنا الذي من رحمها تلفظني وكأنها تنتقم منه في شخصي
التفت ينظر إليها ليجدها تجلس على طرف الأريكة ودموعها منهمرة فوق وجنتيها الشاحبتين ليكمل هامسا : لم أدرك يومها معظم الحديث ولكن مع الأيام أدركته ، ومع مرور السنوات كبرت تلك الغصة التي تكونت بداخلي تلك الليلة ، لأكبر وتصبح عقدة تطبق على أنفاسي ، أصبحت أكتم غيرتي بداخلي وخاصة وهو أقرب إلى من انفاسي ، غدوت أتضايق منه حتى دون سبب، تغيرت وتغيرت معاملتي له ، لكنه ظل على عهده وطيبته معي إلى أن اقترف غلطة - ليست بسيطة - كان من الممكن أن أسامحه عليها وأتعايش معها  إذا لم يكن بداخلي هذا الإحساس المشوه ناحيته ،ولكن إحساسي تعاظم بداخلي لأحاسبه على كل ما لم يقترفه في حقي ، وخاصة مع مؤازرة أمي له ،غضبت بشدة لأنه هدم الحاجز الوحيد الذي كان يمنعني عنه وانتقمت لغيرتي منه لاهتمام أمي وحبها وله ، لتفضيل العائلة بأكملها له لكنه أثبت وقطعيًا أنه الأفضل ، وخاصة وهو إلى الآن لم يتخل عني مطلقًا
مسحت دموعها بكفيها لتنظر إليه مطولًا قبل ان تسأل بصلابة : هل تلك الغلطة التي تتحدث عنها ، هي تلك الفتاة التي لعبت بكما أنتما الاثنين ؟! تلك الشقراء التي سألتك عنها من قبل فأخبرتني أنها لا شيء ؟!
أجفل : لا زلت تذكرينها ، ابتسمت ساخرة – وهل أنسى من سرقتك مني لتهجرني من أجلها
تفحصها : نعم هي ، لم أهجرك من أجلها يا فاطمة .
__ حقًا ؟!همست بصوت مختنق - هل خنتني معها ؟!
__ أبدًا ، رد بقطعية ليهمس بصوت أبح - لم أخونك قط يا فاطمة، أنا لا أخون .. لا أكذب .. لا أجمع بين الزوجات أو الصديقات ، أنا كائن أحادي الطبع لست متعدد الاختيارات أو الطرق .
تفحصته وهزت رأسها بتفهم لتتابع  : إذا كنت غاضبًا فقط من أمر ، قاطعها - لا تنطقي باسمه لو سمحت ، هذا الأمر انتهى .
زفرت بقوة : ما الذي أتى بها إلى مكتبك إذًا؟!
__ لقد أخبرتك من قبل ، كانت تريد استعادتي ، تخبرني أنها لازالت تحبني ولكني ، نظر إليها - لدى زوجة وطفل لن أتخلى عنهما أبدًا
نظرت إليه مليًا : حقا لن تتخلى عنا ؟!
__ لا زلت تتساءلين ، أتبع هامسًا بثبات : تأكدي أنى لن أجور على حق أيًا من طفلي أبدًا .
ابتلعت غصتها بقوة :  إذًا ، لقد وضعتهما في نفس المنزلة
أجاب بعفوية : أنهما طفلي ، لن أجبرك على رعاية الآخر لكني لن أطرده من مملكتي ، وإذا كنت قلقة من كوني سأتزوج الأخرى من جديد فأنا لن أفعل من أجل ابننا القادم الذي لا ذنب له أن يحيا دون والديه .
اضطربت حدقتيها بأنين هاجم روحها لتبتسم بألم وتهز رأسها بتفهم قبل أن تنهض وهي تتمتم بتحية المساء همس باسمها يستبقيها فهزت رأسها بنفي : أريد النوم
__ حسنًا انتظريني سأنضم إليكِ بعد قليل .
التفتت إليه لتضم جسدها بذراعيها وهي تهمس ببطء : ليس الليلة من فضلك يا وائل ، فأنا أشعر بالتعب ،نظر إليها بعدم فهم واقترب بتساؤل لتتابع - أريد بعضًا من الخصوصية اليوم من فضلك .
__ فاطمة ، لقد طلبت منك أن لا تتركيني .
__ نعم وأنا لن أتركك ولكني لن أستطيع ان أتحمل الليلة أكثر من ذلك ، فأنا أشعر بالتعب ينخر في عظامي
هز رأسه بتفهم وهو يبتلع غصته يراقبها تبتعد عنه وهو يشعر بأنها ستختفي من أمامه إلى الأبد فيحاول جاهدا أن يناديها ليستبقيها إلى جواره ولكنه لا يستطيع يكفيها ما علمته الليلة وسيوثر عليها بالسلب لأيام قادمة كثيرة سيمنحها أكثر من الخصوصية فهو سيذهب للبحث عن طفله الذي فقده من قبل ولن يفقده مرة أخرى !!
***
ركض مهرولا بين ساحات السفر في مطار القاهرة يحاول اللحاق بها ، هي من بعثت إليه ليلاقيها هنا ، بعد ان فشل في العثور عليها ، حتى أمير بعقله الاستخباراتي لم يتوصل إليها ،وبحثه المضنى بعد أربع أيام كاملة وصل إلى خيط يقودهما لها ولكن الأوان قد فات وهي تبعث إليه برسالة منذ ساعة من هاتف ليس مسجلًا باسم في شركة الاتصالات ، تخبره فيها بأنه إذا أراد رؤيتها ، عليه أن يوافيها قبل أن تغادر الأراضي المصرية !!
نظر من حوله وهو يلتفت لعله يراها من حوله ليرن هاتفه من جديد فيجيبه بسرعة فيأتيه صوتها هامسه باسمه فيصرخ بقوة : أين أنتِ ؟!
__قريبة منك للغاية يا ابن خالي .
دار على عقبيه وهو يبحث عنها بجنون قبل أن تهمس بهدوء : انظر أمامك يا بلال .
رفع رأسه لينظر إليها تقف خلف الحواجز الحديدية التي تفصل المسافرين عن رواد المطار ، تقف قريبة من الباب المؤدي إلى مدرج الطائرة التي اعلنت السيدة فوق راسه حاليًا أنها على وشك المغادرة ، همس برجاء : لا تفعلي .
همست بحزن : لن أستطيع البقاء ، لقد انتهينا يا بلال ، طلقني .
__ على جثتي ، ألقاها بثبات وعيناه تومض بغضب يحرق أحشائه ، لتتصل نظراتهما رغم بعد المسافة بينهما لتهمس وهي تنظر إليه كأنها تودعه – الوداع يا ابن خالي .
ارتشف ملامحها ببطء وكأنه يحفظ صورتها في عقله : ستعودين يا سوزان .. ستعودين .
أغلقت الهاتف لترميه أرضًا قبل أن تخطو بخطوات حازمة تغادر صالة المطار فيقف هو ساكنًا دون أن يقو على اتباعها ، فيراقب مغادرتها وقلبه يودعها بأنين باكي !!

رواية فرصة اخيرة .. الجزء الثاني من سلسلة حكايا القلوبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن