الفصل ال ٢٨

2.8K 70 13
                                    

بعد اسبوعين ...

دلف إلى البيت بعد مناوبة سهر طويلة في عمله ، يرهق نفسه كثيرًا الأيام الماضية حتى يستطيع التخلص من شوقه إلى رؤيتها .. لهفته إلى وصالها .. وجنونه بها .
زفر بقوة ليشعر بقلبه ينقبض ألمًا فأكثر ما يضيم روحه هو ابتعاد ابنته عنه ، رغم أنه رآها مرتين ولكنه يشعر بروحه تغادره في كل مرة يضمها إلى صدره قبل أن يرحل عن البيت ، هذا البيت الذي أسسه لها فكان سببًا لهدم حياتهما سويًا ،
أطبق فكيه بحدة وهو يتذكر أخر مرة زارهما بها ، كم كانت صلبة .. جامدة .. صارمة ، تنظر إليه بعتب ولوم ولولا وجود ابنتهما لكانت صمتت عن الحديث ككل مرة يتقابلا فيها ، أنها تخاصمه – هو على يقين بذلك – وكعادتها خصامها حادًا وغضبها جامحًا ، وبكل مرة كان يحتويها ويُذيب جليد قلبها ، أما تلك المرة فهو لا يقو على مصالحتها ، بل في كل مرة يراها بها يثبت على موقفه أكثر ويقوي قلبه أكثر ويحكم سطوته على عشقه لها أكثر .
سحب نفسًا عميقًا  يهدئ وجيب قلبه ليقابل إحدى العاملات في القصر ليسألها عن والدته ، فأبيه ليس متواجد وإيمي خرجت لتبتاع اشياء خاصة بتجهيزات عرسها القريب .
ابتسم بشكر للعاملة التي أخبرته بأن والدته في غرفتها منذ الصباح ، عبس بغرابة ليسألها : الم تنزل منذ الصباح ؟!
__ لا يا دكتور ، حتى لم تتناول فطورها وعندما وجدتها متوعكة أعددت لها كوب من النعناع الأخضر وحملته لها منذ نصف ساعة تقريبًا .
__ حسنًا ، هل أصبحت بخير ؟!
صمتت السيدة قليلًا لتهز رأسها نافية : لا أعتقد أن النعناع لم يهدئ توعكها .
أغمض عينيه ليقفز صاعدًا بعد أن  أومأ لها بتفهم ، ليهرع بخطواته إلى غرفة أبويه طرق الباب مرتين وهو يرهف سمعه إلى صوتها حتى تأذن له بالدخول ليقابله صمتًا مهيبًا أثار خوفه أكثر عن ذي قبل، ليطرق الباب ثانيةً قبل أن يقرر ان يدلف الى الداخل ، فتح الباب وهو يشعر بالترقب يتملكه لتتسع عيناه رعبًا وهو ينظر إلى جسد أمه ملقى أرضًا !!
سقط بجانبها على ركبتيه ليطبق  كفيه ويفردهما مرتين قبل أن يتمالك رعبه عليها ويتفقد نبضها بملامح طبيب متمرس ، زفر بقوة وهو يتلمس نبضاتها الخافتة ، لامس وجنتها و وقع قلبه  فريسة القلق عندما شعر ببرودة جسدها ، فحصها بحرفية قبل أن يحملها ويضعها بفراشها ، بعد أن تأكد من عدم إصابتها جراء وقوعها أرضًا ، نهض واقفًا وأتي بعطر أبيه الثقيل وبدأ في افاقتها ، رمشت بعينيها وهي تئن بوهن ، لينتظرها بصبر إلى أن استعادت وعيها قليلًا ليستل هاتفه ويهاتف محمود بهدوء أمام عينيها اللتين بدأتا في إدراك وجوده من حولها ، همس له بصلابه : أرسل لي سيارة اسعاف متخصصه للقصر ولكن أخبر السائق أن يأتي من الباب الخلفي وأن لا يلفت الأنظار إليه .
صمت قليلًا ليتابع وهو يرمقها بصلابة : لا تأتي برفقتهم فقط أرسل لي اثنين من المسعفين وأكد على سائق السيارة أن لا يلفت الأنظار .
أغلق الهاتف لتهمس بوهن : لا داع يا أحمد .
__ كفى يا أمي ، لن أستمع إليكِ ثانيةً ، لابد أن أطمئن عليك فصبري نفذ وأنا أنتظر موافقتك .
نظرت إليه والدمع يترقرق بعينيها : ستجبرني على الذهاب يا أحمد.
جلس بجوارها ليقبل كفيها ويتهدج صوته بخوف سرى في أوردته : بل أتوسل إليكِ يا أمي أن توافقين ، فلم أعد أحتمل ، افعليها من أجلي أليس لدي خاطرًا عندك ، ألا أماثل غلاة وليد أو مكانة وائل لتستمعي إلي ؟!
تألق النفي بعينيها لتهمس بعتب : لا تتفوه بهذا الهراء .
رمش بعينيه وهو يتحكم في دموعه حتى لا تسقط : حسنًا استجيبي لي تلك المرة وإذا اطمأننت أعدك بأني لن أزعجك ثانيةً.
ربتت على وجنته بأمومة ليقبل باطن كفها الموضوع على وجنته ويهمس : هيا انهضي لأساعدك في تبديل ملابسك .
همت بالاعتراض ليتمتم بشقاوة : ولن أنادي إحدى العاملات لترافقك وأنا موجود
ابتسمت برقة وهي تستند على كتفه لتنهض بمساعدته ، تتلمس أمانها داخل صدره وقريب من قلبه .
***
خرج من غرفة العمليات بعد أن أنهى جراحة هامة لواحد من  مرضاه، يسير بثقة تتغلغل بأوردته ويرفع عنقه بزهو يليق به فمن مثله اليوم ، فالعملية التي أنهاها منذ قليل تعد من أصعب جراحات العيون وهو حقق بها نجاحًا باهرًا ، ابتسم بفخر وصغار الجراحين الذين كانوا يحضرون الجراحة يقتربون منه يهنئونه  ثم يتبعهم بعض من طاقم التمريض ثم الأطباء المساعدين له يباركون له ، فيستقبل تهانيهم بلباقة وتلك الغصة تتكوم بحلقه تتسع وتزداد وهو يرى الفخر بأعين الجميع ما عداها ، هي الوحيدة التي كانت تهمه بأن يرى الفخر بحدقتيها ولكن لم يجد إلا الازدراء والتكبر .
دوى التصفيق من حوله ليجذبه من أفكاره بعد أن دلف إلى استراحة الجراحين ، تصفيق هي من بدأته وهي تتأمله بشغف وفخر يعتلى ملامحها ، ابتسامتها العريضة تزين شفتيها ونظرات القطط تضوى بإغواء فُطرت عليه .
تحاشى النظر إليها وهو يستقبل التهاني من زملائه المتواجدين ويتبادل معهم بعض الحديث قبل أن ينصرفوا واحدًا تلو الآخر ليبقيا سويًا رغمًا عنه ، نهض واقفًا وهم بالمغادرة فاستوقفته وهي تهمس باسمه ، تقترب منه تضمه من ظهره إليها وتتبع برقة : مبارك يا حبيبي .
تصلب جسده على الفور حينما لامسته ليبتعد عنها ويزجرها بخشونة : نحن بالمشفى لقد حذرتك من قبل .
نظرت إليه مليًا : وهل أراك في مكان آخر غير المشفى يا محمود؟!
أشاح بوجهه بعيدًا ليتمتم بجدية : لقد أخبرتك من قبل أن لا تنتظري مني شيء .
اقتربت منه بتؤدة وغنج فطري : وأنا لم أطلب منك شيئًا ، حتى عندما عرضت عليك أن تأتي لتسكن برفقتي أخبرتك أننا سنكون رفيقي سكن ولكنك لم توافق ، وأنا تفهمت وصمت لكني أشفق عليك فأنت تبات هنا وتأكل هنا ، لا تريد العودة إلى بيتك وأنا معك أن لا تذهب إلى هناك ، ولكن ليس من الطبيعي أن تظل هنا إلى الأبد وبيتي مفتوح ، ألست زوجتك ؟!
أطبق فكيه بحدة :لن أبات عندك سبق وأخبرتك فلا تحاولين .
__ حسنًا اذهب إلى شقيقتك كما أخبرتني
زفر بقوة : منة في البلدة ، هادنته – حسنًا تعال معي .
رمقها بغضب فأتبعت سريعًا : لا تبات عندي ولكن لنقضي وقتا سويًا نتناول العشاء ونتحدث قليلًا ، كصديقين .. كرفيقي سكن .. كزملاء عمل ، اختار التسمية التي تفضلها ولكن لا ترفض طلبي بعد اذنك .
اهتزت حدقتيه بتوتر وهم بالرفض لتكتنف كفيه براحتيها تضغطهما برقة وتترجاه بنظراتها: أرجوك يا محمود لم أطلب منك شيئًا منذ زواجنا ، وافقت على كل شروطك حتى أنني أشعر بأني لست بزوجتك .
نطق بجمود وهو يسحب كفيه : الم أخبرك أني أن لم أتخذك زوجة ثانيةً  إلا لسبب معين وأنتِ وافقت بملء إرادتك ؟!
تغضن جبينها بانزعاج : لم أنكر موافقتي ولكني أطلب منك أن تتناول العشاء معي ، واعتقد أن هذا لا يتعارض مع شروطك ، همست بخفوت وهي تواجهه - أليس من حقي ان تستجيب لطلبي ولو لمرة واحدة ؟!
أغمض عينيه لتشعر بصراعه الداخلي فتفرد كفيها على صدره فتشعر بقلبه يهدر بجنون ، يتنازع بين ولاءه لأخرى لا تستحقه وبين استجابة يرى أنها منطقية ، وشهامته تجبره عليها !!
شدت جسدها لتقف فوق مقدمة حذائها ذو الكعب العال فتصبح توازيه طولا ، تهمس أمام شفتيه وهي تنوي تقبيله : محمود .
فتح عينيه لتتسع ذهولًا وهو يرى قربها الشديد منه فيبتعد برأسه – على الفور -  قبل أن تنال قبلتها منه ،وهو يغمغم اسمها بصوت أجش رافض ، تمتمت بإحباط تملكها – وافق أرجوك .
انتفض مبتعدًا عنها وملامحه تشحب .. أنفاسه تعلو.. و يتعرق بخجل لم ينتابه قبلًا ، ابتسمت بمكر وقررت أن تمنحه فرصة يستعيد سيطرته  - التي فقدها – على نفسه ، فخفضت وجهها وابتعدت قليلًا ،همست وهي تغادر الغرفة : سأنتظرك ليلًا يا دكتور .
زفر بقوة حينما غادرت ليستعيد أنفاسه بصعوبة وهو يهمهم : يا اللهي ، ماذا فعلت بنفسك يا محمود ؟!
انتشله من ذهوله وحيرته جرس هاتفه ، نظر إلى شاشة الهاتف قبل أن يستقبل الاتصال بابتسامة رائقة ليعبس بجدية ويهتف : لا تقلق سأوصيه جيدًا ، هل آتي معه ؟!
استمع إليه بإنصات : حسنًا سأنتظرك هنا .
***
هزت رأسها بخيبة أمل وهي تستمع إلى صوته العال والصادر من داخل مكتبه ، تنعى حظ تلك الفتاة المبتدئة  السيء ، والتي أوقعتها ظروفها في العمل معه في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الشركة ، فانصراف يحيى أضر بالمؤسسة كلها ، فلم يستطع هذا المهندس الصغير الذي خلفه من وراءه أن يدير أسطول المهندسين كما كان يفعل يحيى والنتيجة تأخير محتوم لعدد من مناقصات كبرى ومبالغ طائلة سَتُدفع كشروط جزائية للعملاء ، وبلال يقف فوق حافة الجرف ينتظر وقوعًا مدويًا ، يراقب مؤسسة والده التي تنهار فعليًا فلا يستطيع تأخير الأمر أو منعه ، بعد أن قضى نصف عمره يعمل بها وخلف والده في منصبه  استحقه بجدارة ، لا تنكر جهده كرجل أعمال ناجح ولكنه لا يستطيع فهم الامور الهندسية التي كان يحيى ضليع بها ، والأهم أن الكثير من المهندسين الأكفاء انصرفوا خلفا ليحيى وكأنه كان حاجز الأمان الوهمي لهم ، والبعض الآخر لا يرتضي بمن شغل منصب يحيى ، فيتمرد ولا ينصاع لأوامره ، زفرت بقوة وهي تدلف إلى داخل مكتبه تنظر إلى الفتاة التي أوشكت على البكاء وإلى ملامحه المكفهرة ، وغضب عيناه والذي تعلم جيدًا أنها تمثل جزء منه ، بل إن كبته المتفجر على الدوام هي دافع أساسي به ولكنها لا تستطيع التراجع الآن ، بل كل ما تفعله هو الاستمرار فيما أقرته بينها وبين نفسها ، والذي قاربت على الوصول إليه دون جهد ظنت أنها ستبذله .
توقف عن الصراخ وهو ينظر إليها تعاتبه بعينيها وتشير برأسها إلى الفتاة المتماسكة إلى أقصى حد لينفخ بضيق ويرتمي على مقعده وهو يشيح بيده غير مباليًا ، ابتسمت برقة وربتت على كتف الفتاة التي انتفضت بهلع لتمأ لها بعينيها وتعتذر لها بهمس رقيق ثم تتبع : تستطيعين الانصراف الآن .
وكأن أحدهم بشرها بحريتها فاندفعت إلى الخارج بخطوات متلاحقة وأنفاس لاهثة وكلمات مبهمة فابتسمت بإشفاق وراقبت  مغادرتها ثم أغلقت الباب من خلفها ، لتعود وتنظر إليه وتعقد ساعديها امام صدرها : ألم تعدني أن تتوقف عن الصراخ بها ؟!
دار بكرسيه لينظر من نافذة مكتبه إلى السماء متحاشي النظر إليها قبل أن يتمتم : لم أستطع ، زفر بقوة – أنها حمقاء يا سوزان وأنا أغرق بمفردي ولا أحد يستطيع انقاذي .
اقتربت منه لتلف وتقف أمامه تعقد ساعديها وتلوي شفتيها بتبرم طفولي : بمفردك ، وأنا ؟! ألست بجوارك أم لا أكفيك يا ابن الخال ؟!
تنهد بقوة ليستقيم جالسًا ويشدها من ساعديها المعقودين فيجبرها على أن تفك عقدتهما وهو يسحبها إليه ، يرغمها أن تجلس فوق ساقيه ، يجذبها أكثر إليه فيلصق كتفها القريب بصدره ويهمس وهو يقبل جانب رأسها : بل أنتِ تكفينني عن العالم بأسره يا قلب ابن الخال .
ابتسمت برقة ووجنتيها تتوردان ليتابع بهمس شغوف وهو يمرر شفتيه فوق صدغها : ولكنك قريبة بعيدة ، تشبهين السماء ترينها قريبة بل تعتقدين أنها ملك يمينك و حينما تمدين يدك تلامسينها تكتشفين أنها بعيدة جدًا بل إن ما يفصلها عنك سنوات ضوئية كثيرة لست قادرة على احصائها .
لامست جانب وجهه بأناملها : أنا بجانبك يا بلال ، ألا تشعر بي؟!
ابتسم متألمًا : مصيبتي أني أشعر بك ، بل كل إحساسي يحترق شعورًا بك ولكن أنتِ من لا تشعرين بم يعتمل بداخلي .
امتقع وجهها لتتذمر : بل أشعر ولكن من الواضح أنك مللت مني.
اعتصرها بذراعيه : لم أمل ولن أفعل  ولكننا لا نتقدم ، أنا أحترق كل ليلة وأنتِ ، صمت لوهلة قبل أن يتابع – لا أفهمك أشعر بتجاوبك ينمو بداخلك ولكن شيئًا ما ، لحظة فارقة تبدده فتعودين إلى الانغلاق من جديد !!
رفعت رأسها بصرامة وهتفت بعتاب وضح بملامحها : نعم يا بلال هي بالفعل لحظة فارقة أتذكر بها كل ما فعلته بي من قبل، ضيق عينيه بتركيز لتستدرك بذكاء – تلك الليلة فانفر رغمًا عني من قربك 
نهضت واقفة تفتعل ضيق نجحت في اقناعه به : وها أنت تتذمر رغم أنك وعدتني بالصبر والتحمل .
هز رأسه نافيًا وهم بالحديث لتتابع دون أن تمهله فرصة :حسنًا لتأخذني بالقوة لو أردت فأنا  لا أستطيع المحاولة .
شحب وجهه بذهول لينهض واقفًا وهو يتمتم بتلعثم : لا طبعًا ، ما الذي تقولينه ؟! لم أقصد ما فهمته ، أنا فقط أثرثر إليكِ بأفكاري ،
أشاحت بوجهها بعيدًا وهي تعقد ساعديها أمام صدرها من جديد، فزفر بقوة وهو يتأمل تلك العادة الجديدة عليها وكان جسدها يخبره بوضوح أنها ستظل مغلقة .. منيعة .. حصينه ضده وضد مشاعره المتدفقة نحوها .
ابتسم برقة : فقط افردي ساعديك فتلك الحركة تصيبني بإحباط  لا تدركي مقداره .
أخفت ابتسامتها بمهارة ليقربها منه من جديد ويهمس : ألم نتفق أننا أصدقاء ؟! ها أنا أشكو إليكِ ضيقي وأفكر معك في حل لما يحدث بيننا .
تعلقت برقبته لتهمس : فقط الصبر سيحل كل شيء .
سأل بخيبة أمل واحباط شع بمقلتيه : ومن اين آتي بالصبر ؟!
ابتسمت برقة : سنذهب ونبتاعه سويًا ، ضحك رغمًا عنه لتعبير الشقاوة الذي احتل لملامحها ليهمهم أمام ثغرها – هلا أستطيع ان التهم نصيبي من الصبر اليوم كاملًا الآن ؟!
احتقن وجهها لتتمتم بتذمر : نحن بالشركة يا بلال .
زفر بصوت أبح : لا أستطيع الصبر إلى أن نعود للبيت .
اسبلت اهدابها لتمط جسدها إليه فتقبل جانب ثغره برقة أحرقت خلاياه فيغمض عينيه ويحثه عقله على التمهل .. الصبر .. الخوف من تهور من الممكن أن يحرق كل سفنه معها ولكن لهفته غلبته ، فجذبها بصرامة ونال ثغرها المحرم عليه بقبلة أودع فيها كل ما يعتمل بداخله ، يضمها إليه بشوق محموم وينثر قبلاته الملهوفة فوق ملامحها ، ينال بشفتيه كل ما يطاله ويصل إليه في رقة حازمة ويديه تتجولان على ظهرها من أسفل لأعلى وكأنه يؤكد لنفسه وجودها بين ذراعيه !!
كان كإعصار رقيق حازم ، يلفها في دوامته دون أن يسمح لها بالفكاك أو يجبرها على المضي ، بل أبقاها واعية لجميع سكناته معها فتسير مجبرة بخيار البقاء في قلب دوامه احتاجت إليها ، لتفقد نفسها بها  !!
شهقت ساحبة أنفاسها بقوة عندما ترك ثغرها بعد أن أودعه قبلاته وكأنه يسدد دينًا قديماً يحفظه عن ظهر قلب ، فتلتفت من حولها وهي تنتبه لاستلقائهما على أريكة مكتبه ، يضمها إلى صدره بعد أن توقف من نفسه ودون أن تدفعه ككل مرة ، فلم يصل إلى مبتغاه كما يتمنى ويريد ولكنه أوصل إليها استجابتها الفطرية والتي تخاف أن تظهرها لنفسها قبل أن تخبره بها .
شحبت ملامحها وهي تشعر بدموعها تملأ عينيها رغمًا عنها ، فما شعرته منذ قليل أكبر بكثير من قدرتها على التحمل ، كيف تستطيع أن تتركه وروحها معلقه به ، وكيف تستطيع الانتقام وتنكر على نفسها روعة إحساسها به ، كيف تمضي في طريقها متخلية عن عشق الصغر وحب صباها وشبابها وزوج عمرها ، رفيق دربها ، فهي – و يا للعجب – لا ترى غيره رفيقًا .. حبيبًا .. زوجًا .. وصديقا .
سحبت نفسًا عميقًا تريد استعادة سيطرتها على نفسها لتنساب دموعها رغمًا عنها أنهارًا ، تنهد وهو يشعر بها تبكي فيضمها إليه بقوة ويقبل رأسها مرارًا وبين كل قبلة وأخرى يخبرها باعتذار صادق مزق نياط قلبها لتستدير وتدفن أنفها في تجويف رقبته ، تتمسك بكتفيه بقوة وهي تلجأ إلى حضنه كملجأ آمن تحتاجه ، قبل رأسها مرارًا ليهمس : آسف أعلم أني أخلفت وعدي لك ولكني لم أستطع أن اتوقف ، لقد جاهدت نفسي وحاربتها حتى توقفت قبل أن أتوغل أكثر فلا أستطيع العودة ولا أستطيع الإبحار فنغرق سويًا دون نجاة .
ابتسمت من بين دموعها لتكتنف وجهه بين كفيها : لا عليك ، أنها خطوة جيدة أنني لم أبكي إلا عندما توقفت .
نظر إليها بذهول : حقًا ؟! أتبع سائلًا – أنتِ لست غاضبة مني ؟!
هزت رأسها نافية لتمتم برقة : بل أفكر أن نعاود الأمر ثانيةً من الممكن أن يقربنا أكثر مما تريده أنت .
تهللت ملامحه بسعادة ذكرتها به حينما كانا صغيرين وكانت تهديه قطعة الكعك خاصتها ، ليعبس بانزعاج طفيف من الخاطر الذي مر برأسه : ستتحملين ؟!
همست بصوت أبح ونبرات باكية : مثلما تتحمل أنت .
ابتسم بحنو وهو يضمها إليه أكثر : أحبك يا سوزان ، وبمقدار حبي أعتذر عن كل ما سببته لك من الآلام ، اغفري لي يا حبيبتي.
تمسكت بتلابيبه أكثر لتستمع إلى هدير أنفاسه وتؤثر الصمت قبل أن تسحب نفسها برقة من بين ذراعيه وتهمس بخفوت : هيا انهض فأنت انسيتني أننا بالشركة .
زفر بضيق قبل أن يتأوه بسخط فتمد كفها إليه لتجذبه : انهض سأساعدك .
رفع حاجبيه : حقًا ؟! كيف ؟!
غمزت بعينها : فقط أعطيني الفرصة وسأبهرك .
ضحك بخفة وهو ينهض واقفًا : لا أتحمل ابهارًا أكثر مما أنا فيه.
جعدت أنفها بمشاكسة : يا سلام .
اكتنف كتفيها بكفيه : افعلي ما يحلو لك فأنا والشركة ملكك .
ومضت عيناها ببريق ماكر : بالتأكيد ألست زوجة الرئيس ؟!
***
ضمها بحنو إلى صدره ليقبل رأسها ويسألها عن حالها فتهمهم أنها بخير رمقها قليلًا ليسألها بحزم : هل لازالت غاضبة ؟!
ابتسمت برقة : بل لم أغضب منك إطلاقًا تلك المرة ، فأنت كنت محقًا لدرجة مغيظة و كل حنقي منك تبخر حينما ساعدتها .
ألقت كلمتها وهي تشير برأسها إلى سارة الظاهرة أمامهما من خلف زجاج الاستديو تستعد لتسجيل أولى أغانيها ليبتسم بجدية : أنها تستحق .
ربتت على كتفه وهي تسحب نفسًا عميقًا : سأساندها أنا الأخرى فليس من العدل أن تتحول إلى نسخة مني ، لن أقف مكتوفة الأيدي هذه المرة بل سأنتفض وأدعمها بكل قوتي .
ضمها إلى صدره بقوة : هذه هي خالتي .
ضربته على كتفه برقة : توقف عن مناداتي بخالتك .
رقص حاجبية بإغاظة : حاضر يا خالتي .
ضحكا سويًا قبل أن يتبادل بعض الحديث مع مهندس الصوت الجالس بجانبه ليضغط زر ويهتف بجدية : سارة ، هل أنتِ مستعدة ؟
رفعت رأسها تنظر إليه تهمس بخفوت : فقط دقيقة واحدة .
أومأ برأسه متفهمًا لتغمض هي عينيها تستعيد سيطرتها على أعصابها ، تحيط الميكروفون الموضوع أمامها براحتيها وكأنها تتعلق به لينتشلها من موجات أفكارها المتلاطمة ، تنفيه من عقلها وتتوقف عن التفكير بردة فعله حول غنائها ، تحث نفسها على التحدي والمواجهة بشجاعة ، فهي لا تأبه بم سيفعله فيكفيها ما فعله بها من قبل وهي لن تتحمل المزيد ، يكفي أنه لم يسأل عنها ولا مرة واحدة طوال الفترة الماضية بعد خروجها من المشفى ، بل هي تتساءل إذا كان علم عن دخولها إلى هناك ، وهل انتبه إلى غيابها أم كان مشغولًا بمن رأتها معه !!
تكومت الغصة بحلقها ، فتكتم أنفاسها وتفكر بانها كانت تنتظر أن يتذكرها .. يشتاق إليها .. يفكر بها .. أو يعود عن قراره بشأن طفلهما ، ويبدي حياته معها على هواجسه ، ولكنه لم يفعل بل مضى في طريقه وكأنها لم تكن يومًا صديقته .. زوجته .. أو حتى حبيبته كما كان يغرق مسامعها بها ، ابتلعت صدمتها .. حزنها .. خسارتها ، لتفتح عيناها والتصميم يعلو جبينها وتهمس بجدية : أنا مستعدة .
ابتسم مالك بفخر ليهتف : حسنًا تفضلي ، نحن ننتظرك .
سحبت نفسًا عميقًا وهي تنظر إلى الورقة التي تحمل كلمات الأغنية التي اختارتها دون عناء فمالك خيرها بينها وبين أغنية أخرى لتشعر بأن تلك تناسبها تمامًا ، فهي تحكي تجربتها الفاشلة ، حينها ابتسم مالك بثقة وقال : كما ظننت ، ستحققين بها نجاحا مبهرًا .
لتزفر بقوة وتبدأ بالغناء في قوة سرت بأوصالها
راهنت عليك وحبيتك .. وكلمة حب دي شويه
وكل الناس قالولي بلاش .. قلت ده روحي وعينيا
وجالك قلب تخدعني ..حرام تعمل كده فيا
عايزه اهرب من الناس والدنيا انا تعبانه خلاص
انا مش لاقيه امان حوليا غريبه في وسط الناس
انا مش اول واحده تحب ويخونها الاحساس
راهنت عليك – نانسي عجرم

راقبها بانبهار وهي تشدو كما لم تغني من قبل حتى حينما كان يحضر جلسات التحضير للأغنية لم تكن قوية كما يراها الآن ، فهي ترفع رأسها بكبرياء ، يلتمع التصميم بعينيها وينتشي قلبها بإحساسها الصادق فينتشر بخلاياها ليخرج صوتها مبهرًا متملكًا للإحساس وخاطفًا للأنفاس .
لم يقو على السكوت فانطلق يصفق بانبهار حينما أنهت شدوها لتشاركه ماهي بتشجيع ودموع معلقه بحدقتيها انسابت بعاطفة أمومية جارفة وهي تضم سارة إلى حضنها بعد أن انضمت إلى جلستهم ليشد هو على كفها وهو يصافحها بعملية : مبروك علينا انضمامك لنا .
اتسعت ابتسامتها : شكرًا لك يا مالك .. شكرًا لك يا اخي .
لمعت عيناه ببريق : لا تشكرينني ، فقط لا تنس ، أنا بمثابة عم طفلك ، وسأظل بجوارك متى احتجتني .
ربتت ماهي على ظهره بامتنان وفخر يشعان بحدقتيها ليضمها من كتفيها إليه ويقبل رأسها بحنو : سأظل بجواركما يا خالتي .
__ لا حرمنا الله منك يا بني .
***
تقف في شرفة البهو الأسفل تنظر إلى تلك المروج الخضراء من حولها ، سماء صافية وشمس مشرقة تبدد هواء الشتاء البارد وخاصة مع اقتراب انتهاء فصل الشتاء ، يصبح الجو صحوًا في منتصف الظهيرة ، تنفست بعمق وهي تشعر برغبة ملحة في الرسم ، كما كانت تفعل في موطنها ، حنين انتابها وهي تتذكر وطنها وما تركته من خلفها في بلدها ، منذ أن وصلت هنا من اسبوع تقريبًا ، وهي تقاوم شعورها بالحنين .. تقاوم عقلها عن التفكير .. تقاوم قلبها عن الخفقان باسمه .. تقاوم ذاكرتها عن تذكيرها بعرضه لها ..و تقاوم أذنيها وهي تردد عليها صوته وهو يطلبها إلى الزواج ، ومخيلتها وهي تصوره لها وهو يريد الاقتران بها .
بتلك النظرة الحانية ولمعة الأمل الوامضة برماديتيه ، وكأنها تستحثها على الموافقة ، لكنها رفضت .. أجفلت .. ابتعدت .. وهربت ، فلم تعود إلى العمل وهاتفت أيمن لتخبره بأنها تريد تقديم موعد السفر ،وها هي هنا ، تقف وحيدة وتفكر وتشرد به، تشتاق إليه وتتلهف على رؤيته مرة أخرى ، تعترف لنفسها بأنها أحبته ، ولم توقن من حقيقة مشاعرها إلا عندما تركته ، بل هي أدركت كل شيء وهي تعيد ما كان يحدث بينهما لتتأكد من إحساسه بها ، وعقلها يقودها إلى استنتاجها بأنها السمراء التي كان غارقًا بذكراها ، ولكن كل هذا لا يهم فهو حلم بعيد المنال ، فمن هي لن تتزوج من واحدًا مثله ،يشبه نجوم هوليوود ببشرته السمراء وخصلاته الفاحمة وحدقتيه الرمادية بلون الغيوم .
سحبت نفسًا عميقًا وهي تشعر بقلبها يختض بشوق المها وهي تفتقد  تلك الأيام المليئة بضحكاته الراقية أو تذمره الأنيق ، والأجمل في شخصيته مزاحه الساخر الساحر ، فهو كان يسخر منها بطريقة ساحرة كانت تضحكها بدلًا من أن تغضبها ، لتكتشف بعد فوات الأوان أنه كان يغازلها بطريقته الخاصة فلا يبعدها عنه ولا يلمح لها بافتتانه بها ، عضت شفتها بقوة تمنع نفسها من بكاء على خسارة اختارتها وهي مقتنعة تمامًا بها ، فبُعدها عنه أفضل لكليهما فهي لن تستطيع التأقلم مع عالمه !! وهل تأقلمت مع هذا القصر الساكنة به مع أخيها ؟! بل هل استطاعت التعود على نظامه ؟!
أنها تنام على بساط من حرير ولكنها تفتقد إلى روحها المعلقة بجدران بيتها البسيط والذي احتوى جميع ذكرياتها حلوها ومرها.
وهو لن يترك طبقته وينزل إلى مستواها الاجتماعي البسيط ، وكيف لمن ربي على الفخامة أن يتنازل عنها لأجل افتتان مؤقت بفتاة بسيطة مثلها ، سيزول مع الوقت وخاصة إذا زال سببه ، لذا هي قررت أن تبتعد عنه وتزوي ألمًا في هروبها بدلًا من أن تذوي ألمًا في قربها منه عندما يكتشف أنها ليست مناسبة له ، أو لطبقته !!
نفخت بقوة لتنتبه من شرودها على وقوف أسما إلى جوارها وتتذمر بضيق اضحكها ، ضيق نتج عن مناقشة أخرى مع فريدة التي أخذت على عاتقها تعليم أسما شؤون القصر وتعريفها بواجباتها كزوجة لأخيها في منصبه الجديد .
ضحكت بتسلية على ملامح أسما العابسة بطفولية لتسالها باهتمام : ماذا حدث هذه المرة ؟!
مطت أسما شفتيها بحنق قبل ان تجيب : أردت أن اطهو  شوربة عدس .
انطلقت ضحكة دعاء بقوة والأخرى تتابع : ناهيك أنها ليست داخل قائمة الطعام وأني كدت أن أقبل يدي تلك المرأة المسئولة عن المطبخ لتتركني أعدها ، إلا أن فريدة صرخت بوجهي حينما رأتني في الداخل وهي تبرطم بالفرنسية بكلمات لم أفهمها ولكني استنتجت أنها غير راضية عن دخولي إلى المطبخ .
ابتسمت دعاء وربتت على كتفها لتشهق أسما ببكاء مفاجئ وتتمتم من بين دموعها : أريد العودة إلى أمي يا دعاء ، لقد تعبت ، ولا أستطيع التأقلم ، فما يريدونه مني ضخم ومخيف ، وأنا لست مؤهله له .
ضغطت دعاء بكفها على كتفها في مواساة ودعم : لا تدعيهم يوهمونك بهذا الأمر، أنتِ قوية وتستطيعين فعل الأعاجيب ، هما فقط يرهبونك لتعودي أدراجك وتتركين أيمن ، هل ستخذلين أيمن من جديد ؟!
هزت رأسها نافية : أموت ولا أفعلها .
ابتسمت دعاء بمرح : حسنًا قوي قلبك وأريهم أن ابنة عم قاسم ستفعل الأعاجيب بهم .
ابتسمت أسما برقة لتهتف فجأة بضيق : بصراحة أنا ضائقة من إصرار أيمن على تأجيل الحفل لأجل تلك الحورية .
ابتسمت دعاء باتساع : تغارين يا  سمسمة ؟!
عبست أسما قليلًا قبل أن تهز رأسها بالإيجاب : بل أموت غيرة منها ، أن غيرتي منها فاقت غيرتي من فريدة ،
ضحكت دعاء رغمًا عنها لتستطرد أسما بشرح : فريدة جميلة .. مبهرة .. قوية ، تجعلني أنظر إليها وأريد أن أكون مثلها ، ثم أنها مدلهه بحب هذا السيف يكفي أن ينظر إليها من بين رموشه فتخر إليه ساجدة ، وآمن أنا على أيمن منها ، أما حورية فمختلفة ضعيفة وهشة وتجبر القلب أن ينجذب إليها وأيمن ذو قلب رهيف ، ويشعر نحوها بعطف ممزوج بحب أخوي ، أخاف أن يتطور إلى شيء آخر فأجلس بعدها أندب حظي العاثر جانب حائط القصر حينما تطردني منه خارجًا .
قهقهت دعاء بقوة لتسالها بمرح : هل جربت أن تؤلفين قصص من قبل ؟!
عبست أسما باستنكار لتهتف بغيظ : تسخرين مني يا دودو ؟!
هتفت دعاء من بين ضحكاتها : طبعًا ، هذا سيناريو فيلم من أيام الستينات يا أسما ؟! وأنتِ أغفلت به جانب هام جدًا .
__ ما هو ؟! سألتها بترقب فأجابت دعاء بجدية – أيمن .
نظرت إليها أسما بعدم فهم لتتابع دعاء بابتسامة رائقة : أيمن يحبك يا أسما ، ولن يحب غيرك ، فأهدئي ولا تغاري من حورية أو من غير حورية ، ما يشعر أيمن به تجاه حورية هو المسئولية والأخوة فقط ، ثقي به قليلًا وثقي بنفسك أكثر وأنتِ ستنجحين في الوصول إلى مساعيك بإذن الله .
سحبت أسما نفسًا عميقًا محملًا بجرعة الثقة التي أخذتها من أخت زوجها قبل أن تلتفت إليها وتسألها باهتمام : حسنًا ، دعك مني ، ألن تخبريني عم يؤرقك منذ أن وصلت وأنا أشعر بك مختلفة ؟!
عبست دعاء باستنكار افتعلته : لا يوجد شيء ، أنا بخير والحمد لله .
رمقتها أسما بنظرة عميقة لتهتف بمرح : أراهن أنك أتيت هربًا من عريس يريد الزواج بك ؟!
اتسعت عينا دعاء برهبة لتسالها بعفوية : هل أخبرك أيمن ؟!
شحب وجه أسما : عم أخبرني أيمن ؟!
رمشت دعاء بعينيها لتثرثر بعفوية : ولكني لم أخبر أيمن
رفعت أسما حاجبيها بدهشة لتتأوه دعاء بغضب : هل أخبر أيمن حتى بعد أن رفضته ؟!!
ألم الذهول بملامح أسماء قبل أن تسألها بجدية : هلا افهمتني عم تتحدثين بالضبط ؟!
نظرت إليها دعاء بصرامة لتسألها بجدية : من أين علمت بأمر الزواج ؟!
__ من تجهمك وعبوسك الدائم ، تذمرك وحدتك الغير مفهومة في الحديث، اقتربت منها لتهمس بخفوت – كنت أشعر هكذا قديمًا حينما يتقدم لخطبتي أحدهم وأمي تتحدث معي بشأنه ، خاصة أنني كنت لا أريد الزواج بأحد شباب الحارة حينما كنت أدرس ، ولكن ماما كانت تراه تكبرًا دون فائدة فالزواج آخر المطاف بالنسبة لي والتعليم والشهادة لن يفيدانِ بشيء فالمرأة ليس لها إلا بيتها وزوجها .
ابتسمت دعاء : أمي رحمة الله عليها كانت مختلفة عن والدتك كثيرًا ، ماما كانت ترفض العرسان لأجل أن أكمل دراستي .
صمتت أسما قليلًا لتهمس بخفوت : أتعلمين الزواج رزق من الله، يأتي دون موعد أو استعداد ولا يتوقف عند جمال أو مؤهل او حتى مستوى اجتماعي معين ، إذا أراد الله ، يمنحك من أوسع أبوابه ، ونحن جنود بأرواح مؤلفه ونصيبنا مكتوب منذ خُلقنا في أرحام أمهاتنا ، ابتسمت بحنين – ماما كانت تخبرني من صغري أن اسم زوجي سُطر على جبيني منذ أن ولدت وأن نصيبي سآخذه حتى لو بعد حين .
ضحكت بخفة ودعاء تمأ برأسها موافقة فتتابع : وحينما كانت تتشاجر معي لأجل رفضي الزواج وكنت أردد عليها حديثها ثانيةً، كانت تهتف بجدية وحنق هناك فارق بين النصيب وبين البطر يا ابنة بطني ، فالبطر يزيل النعمة من أساسها ، ولا يضير قليلًا من السعي لتحصيل الرزق .
ضحكت دعاء فتنهدت أسما بقوة : ولكني أيقنت أنه نصيب بعد ما حدث بيني وبين أيمن ، فمن يصدق أني سأتزوجه بعد كل ما حدث بيننا وسأهنئ معه أيضًا .
تنهدت دعاء لتهتف بسعادة : أدام الله عليكما سعادتكما ورزقكما الله بالذرية الصالحة .
دفعتها أسما بلطف أن تجاورها ليجلسا في الجلسة القريبة من الشرفة لتسالها :هيا افضي لي بم حدث معك وأتيت هاربة منه
__ لم أهرب ، صاحت دعاء باستنكار لتنظر إليها أسما بنصف عين فتزفر دعاء بقوة وتجلس بتعب – حسنًا سأخبرك .
ثرثرت ببوح احتاجت إليه وحكت لأسما بكل ما يعتمل بداخلها لتطبق الأخرى فكيها بغيظ ، وهي تستمع إليها بإنصات وترمقها بنظرة غاضبة لتقاطعها فجأة : رفضته ؟! رفضت الزواج من الباشمهندس يحيى ؟!
رفعت دعاء حاجبيها بذهول لتسألها : لماذا تنطقينها بتلك الطريقة رفيعة المستوى ؟! وكأنه المهندس الأوحد على وجه الأرض !!
ضربت أسما فخذيها بحركة تنم عن ضيقها : لأنه كذلك بالفعل ، هل يعقل أن ترفضين يحيى ؟! أهذا يرفض يا باشمهندسة ؟!
تصلبت ملامح دعاء : أنه لا يناسبني .
نظرت إليها أسما باستنكار ورددت بغيظ : لا يناسبك ؟!! لماذا إن شاء الله ؟!
شدت دعاء جسدها بصلابة : مستوانا الاجتماعي مختلف ،ومثل تلك الزيجة  لا يقدر لها النجاح على كل حال .
ضيقت أسما عينيها بطريقة إجرامية لتسألها بهدوء : انظري من حولك يا دعاء ، عبست دعاء بتعجب فتابعت أسما – انظري جيدًا .
استجابت دعاء بعدم فهم لتكمل الأخرى بحنق : هل أنا أليق بما تريه من حولك ؟! هل أنا ولدت أميرة لأتزوج من أخيك ، هل مستوانا الاجتماعي متساويًا ؟! أم كلًا منا أتى من ناحية ، فأيمن أمير يمتلك ما لم أحلم به في حياتي وأنا بجانبه لا شيء ، أين حديثك –إلي- منذ قليل عن كوني أثق بأيمن وبنفسي حتى استطيع اجتياز هذا الاختبار الصعب الذي وضعت به ؟!
تمتمت دعاء : الوضع مختلف يا أسما ، أيمن يحبك ، بل كان على استعداد أن يحارب العالم كله من أجلك أما أنا ؟!
رفعت أسما حاجبها بتساؤل لتهتف بجدية : أنا موقنة من أن يحيى يحبك ، وإلا ما كان أقدم على طلبك للزواج !!
__ أبيه لن يوافق يا أسما وأنا لا أتحمل أن أشعر بالرفض .
ابتسمت أسما بسخرية : وهل يقبلني سيف باشا ؟! أو فريدة هانم ، بل لو كان عم أيمن حي يرزق كان سيقبل بي ؟! هل تتوقعين أن هؤلاء العاملين يقبلون بي كسيدة للقصر ، إن شجر الحديقة يرفضني يا دعاء ، فم بالك بالناس ؟! وأنا أتحمل كل شيء وأي شيء لأجل نظرة الرضا التي يمنحها أيمن لي ، بل نظرة شغف من مقلتيه وابتسامة عابثة من شفتيه تزيح كل همومي وتجدد لي طاقتي فأشعر بأني أستطيع مواجهة الجميع بم فيهم هذا السيف المسلط على رقبتي .
ابتسمت دعاء رغمًا عنها لتسالها أسما بمكر : ألا تحبين يحيى ؟!
امتقع وجه دعاء لتتلعثم : ما الذي تقولينه ؟!
فتتابع أسما بخبث : ألا تشتاقين لبسمته ونظرته ، ولا إلى أناقته في التعامل ، أنه يماثل الأمراء فخامة يا دعاء ؟!
عبست دعاء بغضب لتتبع الأخرى متقصدة إثارة غيرتها : لقد عملت معه ورأيته كثيرًا وهو يتعامل مع الآخرين ، أنه أنيق ..وجيه .. راقي .. وفخم ، بل إن لديه ابتسامة نادرًا ما يبتسم بها تنم عن سعادته الجلية ،
لمعت الغيرة بعيني دعاء لتكمل أسما وهي تدعي اللامبالاة : أتعرفينها تلك الواسعة التي تظهر غمازتيه ، ووميض عينيه الرمادي .
__ توقفي يا أسما . صاحت بها دعاء في حنق لتضحك أسما بقوة – تغارين يا باشمهندسة ؟!
توردت وجنتيها : لا أنا غاضبة منك إذا استمع إليكِ أيمن ، أو أحدهم هنا ، سيخبر الأمير بأنك تتغزلين برجل آخر غيره
رقصت أسما حاجبيها وهي تقول : حينها سأخبره أني كنت أتحدث عن خطيبك .
قبضت دعاء كفيها ونهضت واقفة : أنا مخطئة أني تحدثت معك .
تمسكت أسما بساعدها لتجبرها أن تجلس مرة أخرى وتهمس لها : اقبلي به يا دعاء فهو يحبك ويريد أن يتزوج منك وإلا لما كان طلبك للزواج ، وأنتِ أكثر من تعلم هذا ولكنك تكابرين .
زفرت دعاء بقوة لتتابع أسما : اقبلي واسعدي معه فأنتما الاثنان تستحقان السعادة سويًا .
أخفضت دعاء رأسها وهي تشعر بالتشتت والحيرة يداهمانها لينتفضا الاثنتين على صوت سيف الرخيم : بون سوار يا هوانم .
تصلب جسد أسما تلقائيًا لتنظر إليه دعاء بجمود : مساء الخير يا بك .
همهمت أسما بالتحية لينهضا سويًا راغبين في مغادرة المكان وخاصة حينما جلس سيف على الكرسي المنفرد ووضع ساقًا فوق الأخرى وبدأ بإشعال غليونه ،هتف بمرح مفتعل : هل إذا حضر الشياطين كما تقولونها في مصر ؟!
شحب وجه أسما لتتمتم دعاء بجدية : لسنا بملائكة .
__ ولكني شيطان ، ألقاها باستخفاف لتتوتر أسما وترمقه دعاء بتفحص فيبتسم ويجعد أنفه – أنا أمزح ولكن من الواضح أنني لا امتلك خفة دمكم المشهورين بها لذا لا تفهمون نكاتي .
ابتسمت دعاء : العفو يا بك ، فقط نحن إدراكنا بطيء – قليلًا – لنكاتك .
رمقها بإعجاب قبل أن ينفث عن دخانه ويهمس : حسنًا لقد أتيت لأخبرك أن أيمن يريدك في غرفة المكتب الخاصة به ،
__ شكرًا لك .
همت بالانصراف تجاورها أسما ليصدح صوته : هلا شرفتني بالجلوس معي قليلًا  يا أسماء هانم ؟!
تشنج جسد أسما برفض واضح قبل أن تتمسك بساعد دعاء التي التفتت إليه بتساؤل ليبتسم بتفكه : بالتأكيد لا أنوي اختطافها ، فقط أريد الحديث معها .
__فيم ؟! سألته دعاء بصلابة ليرفع حاجبه بتعجب – حديث خاص بيني وبين زوجة أخي .
نهض واقفًا ليطل عليها من فوق رغم طول قامتها ولكن طول قامته فاقها ليصبح مشرفًا عليها من علو: ألا تدركين أنها في مثابة زوجة أخي ؟!
التفت إلى أسما القصيرة نسبيًا عنه وهمس وعيناه تلمع بغموض : وأنا –بالطبع – لن أؤذي زوجة اخي .
ازدردت أسما لعابها وهي تفك قبضتها عن ساعد دعاء لتبتسم وهمس بصوت فضح خوفها منه : بالطبع ، يشرفني الحديث معك يا بك .
التفتت إلى دعاء لتقول بثبات دفعته في أوردتها قدر ما استطاعت : اذهبي إلى أيمن لعله يحتاجك في شيء هام .
رمقتها دعاء بتساؤل فأومأت لها برأسها وهي تطمئن نفسها قبل ان تطمئن دعاء بنظراتها لتخطو دعاء بعيدًا عنها ، فتسحب نفسا عميقا وهي تجلس في مواجهة سيف ، تفرك كفيها بتوتر قبل أن تلقيهما في حجرها بتوتر الم بجسدها ليبتسم بمكر ويسألها بوضوح : خائفة ؟!
رفعت رأسها قليلا لتهمس : نعم .
برقت عيناه بتسلية : معجب أنا بصراحتك .
__ أشكرك ، تمتمت بها وهي ترمقه بتفحص من بين رموشها ليهم بالحديث فتقاطعه بتحذير شعرت أن عليها القاءه الآن – قبل أن تتحدث معي ،أحب أن أبلغك بأني سأقص لأيمن كل ما سيدور بيننا .
ابتسم ببرود : ومن أوحى لك بأن أيمن لا يعلم فحوى حديثنا ، بالطبع أيمن يعلم ما سأتحدث معك بشأنه ، نفث دخان غليونه قبل أن يتابع بهدوء – لماذا لم تفكري بأنه من طلب مني أن أتحدث معك في الأساس ؟!
صمتت قليلًا وهي تتوتر قبل أن تهتف بجدية :ولماذا يفعل ، فهو إذا أراد أن يخبرني بشيء لن يحتاج لوسيط بيننا 
لوى شفتيه بخبث : حقًا ؟! رجف جسدها بخوف فاكمل – تعجبني ثقتك بعلاقتكما سويًا .
شحب وجهها وهي تنظر إليه باحثة عن صدقه من كذبه ،اتسعت ابتسامته فتراءى لها كثعلب ماكر يلاعبها بحرفية هي غير قادرة على مجاراته بها لتنتبه من تأملها له على سؤاله الساخر : هل انتهيت من تأملي ؟!
انتفضت بحرج قبل أن تهمس باعتذار خجول فيقهقه ضاحكا باستمتاع قبل أن يكح بقوة وهو يعتدل بجلسته ، يجلس بطريقة أكثر استرخاء ويضع ساقًا فوق أخرى ويشعل غليونه من جديد وهو يسألها : تعلمين بالطبع سبب وجودكما هنا ؟!
أومأت برأسها إيجابًا ليكمل بتسلية قاصدًا احراجها : وتعلمين أن العائلة تنتظر من أيمن وريث للأمارة ؟!
احتقن وجهها بقوة وهو يراقبها بتسلية لتهز رأسها في حركة لا معنى لها وهي تخفض رأسها أرضًا فيكتم ضحكته بصعوبة قبل أن يتابع بلا مبالاة : ولكن قانون العائلة ينص على أن وريث الإمارة لابد أن يكون من أبوين ينتميان للعائلة .
رفعت رأسها سريعًا إليه ، أومأ برأسه إيجابًا : للأسف طفلكما لن يستطيع أن يحمل إرث الإمارة ، لابد لأيمن أن يتزوج من إحدى فتيات العائلة ليأتي بوريث للإمارة .
زاغت حدقتيها بتوتر وقلبها ينبض بقوة هادرًا .. غاضبًا .. غير مصدقًا ليكمل هو ببرود : لعلمك لقد عرضت عليه أن يتزوج من حورية ، فأصابتها لا تمنعها من الإنجاب أو القيام بواجباتها كزوجة ، ولكنه رفض ، وهي الأخرى رفضت الزواج به وعللت ذاك الرفض بأنها لا تستطيع الزواج من أخيها !!
شعرت أسما بغثيان قوي يدب في معدتها قبل أن يكمل هو حديثه دون مراعاة شعورها متعمدًا : لذا جمعت له فتيات العائلة ليختار منهن .
رددت دون وعي : يختار ؟!! متى ؟!!
ابتسم بدهشة : هذا الاحتفال الذي سيعد قريبًا .
تحكمت في دموع طفرت بمقلتيها وهي تغمغم : الاحتفال ؟!! ظننت ..
صممت ليكمل هو : بالطبع هو من أجل إعلان زواجكما ولكنه فرصة سانحة ليعيد أيمن تعارفه بكل الفتيات اللائي بلغن سن الزواج لينتقي إحداهن فتكون الأميرة بجانبه .
شحبت ملامحها فنافست ببياضها شحوب الموتى ليكمل هو بجدية : بالطبع تعلمين أن أيمن مرغم على فعلها فهو لا يريد غيرك زوجة ، لقد أخبرني بها دون نقاش ولكن مصلحة العائلة فوق كل رغباتنا .
تحشرج صوته وهو يتبع بشرود : لو لم يأت أيمن بوريث يحمل اسم العائلة ستذهب الإمارة لعائلة أخرى حظها أوفر في الإنجاب وهذا لم ارتضيه أبدًا ،
زفر بقوة : لقد فنيت عمري كله لأجل هذا الإرث ولن أتنازل عنه بسهولة .
تصلبت وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بدموع مكبوتة بدخل حدقتيها كأنفاسها المكتومة بصدرها ، هدهدها بصوت حان كمفترس أطبق على فريسته التي امتلكها ، فيطيب خاطرها قبل أن يباشر التهامها : ولكن لا تشغلي رأسك أنتِ بكل تلك الأمور ، فهي غير هامه بالنسبة لك ، فأنتِ بعد الاحتفال ستنتقلين إلى القصر الشرقي ، أتعرفينه ؟!
لم يحصل منها على أي ردة فعل ليكمل وكأنه لم ينتبه إلى جمودها : هذا الواقع على أطراف البلدة ، أنه صغير وحميمي ، كان ملك لوالد أيمن عمي جميل رحمة الله عليه ، فالأميرة ستسكن هنا في القصر حتى تستطيع مباشرة أمور الإمارة بجانب أيمن زوجها وأمير العائلة .
ابتسمت بسخرية ودمعة وحيدة تنساب من جانب عينها لتلاحقها بأصبعها وتمسحها بخفة قبل أن يلمحها لتهمس بصوت أبح : المطلوب مني ؟!
ابتسم بانتصار لمع بمقلتيه : لا شيء ، فقط أحببت أن أخبرك.
اتسعت ابتسامتها لتعكس فراغ أليم الم بروحها قبل أن تتأمله قليلًا وتهمس ببرود تملك منها : شكرًا جزيلًا يا بك .
نهضت واقفة : المعذرة أذن لي ففريدة هانم تنتظرني .
أومأ لينهض برقي ويحيها برأسه : شكرًا جزيلا على وقتك .
وقفت بصلابه لتواجهه برأس مرفوعة وتهمس بجدية : بل كل الشكر لك ، فإن محور الحديث كان رائعًا .
رفع حاجبه وهو ينظر إليها بمكر : العفو يا هانم .
أطبقت فكيها بقوة وهي تقبض كفيها حتى لا تنهش لحم وجهه بأظافرها قبل أن تخطو مغادرة بثبات استدعته بكل قوتها وهي تهتف داخليًا : ساريك يا تربية القصور يا من ورثت مكر الثعالب ، ما تستطيع فعله ابنة السائق وتربية حواري القاهرة ، تريد تزويج زوجي من أخرى غيري ، لقد حفرت قبر الإمارة كلها اليوم يا سيف باشا .
تمتمت من بين أسنانها : سأمزقها اربا تلك التي تتجرأ وتنظر إلى أيمن بطرف عينها ، لا تحمل منه وريثًا ، أميرًا .
زفرت بقوة قبل أن تشمخ برأسها : حسنًا سنرى من منا سينتصر أيها الأمير .
***
تراقب واجهات المحلات باهتمام تبحث عم ينقصها ، رغم أنها ابتاعت أشياء كثيرة إلا أن هناك بعض الأشياء الصغيرة تنقصها فتبحث عنها لتبتاعها، انتبهت إلى طاقم حريري أبيض اللون يحمل فخامة وأناقة ، محتشم رغم أنه يعد ضمن لباس النوم ، اتجهت إليه على الفور وهي تتخيله فوق جسدها ، بدلًا من هذا الذي اختارته كلًا من ياسمين وولاء إلى ليلة زفافها ، فالآخر مكشوف وعار قليلًا وهي تقبلت اختيارهم على مضض ، أما هذا فيناسبها تمامًا بكميه الثقيلتين وصدره المغلق وطوله الذي يصل لآخر ساقيها ، دون وجود أي فتحات به ، يرافقه جزء آخر يعتليه فيجعله أكثر فخامه وحشمة .
خطت بحماس إلى داخل المتجر لتتبادل بعض من الحديث مع البائعة وتسألها عن تصاميم أخرى تماثل هذا المعروض من أمامها وهي تفكر بأنه سيكون أكثر من جيد إن وجدت الكثيرون منه ، فهي لا تستسيغ تلك الملابس الحريرية التي تبتاعها كلا من زوجتي أخويها ، وترى أن اختياراتهما لا تناسبها ، فهي تفضل الاحتشام عن عري ما يبتاعانه لها !!
وقفت بمنتصف المتجر تنظر إلى بعض الاشياء الأخرى حتى تأتي لها البائعة بطلبها ليلفت نظرها اثنتين آخرتين تقفان بجوارها ،احداهما تماثلها حشمة ومظهر والأخرى منتقبة لا يظهر منها إلا عينيها ، تأملتها مليًا وهي تشعر بغبطة تحملها إلى تلك المنتقبة ،تفكر هل سيرتضي مالك أن ترتدي النقاب ، فتتنهد بقوة وتسأل نفسها وهل ارتضى أبيها أو وافق أخيها حينما اقترحت هذا الأمر من قبل ، نعم هي لم تكن مقتنعة تمامًا بارتدائه وكانت تفعلها لأجل آخر زمنه انقضى معه ، ولكنها كانت متحمسة لذلك وهي ترى بأنه إرضاء لله عز وجل ، ولكنها لن تنسى أبدًا رفض أبيها الصارم وذهول أحمد من اقبالها على الأمر، ليأتي صراخ وائل - الاعصاري- بها فيزلزل كيانها ، نفضته لها بقوة وهو يصيح بها : هل أنتِ عمياء ؟! الا تري من أتت ؟! لماذا لا تقدري نفسك حق قدرها ؟! لماذا تنساقين وراء أفكاره ومعتقداته ؟! بل لماذا تتمسكين به إلى هذا الحد دون سبب ؟! أنتِ لست كبقية الفتيات يا إيمان ، أنتِ ابنة الوزير عاصم الجمال ، شقيقة الباشمهندس وائل الجمال والطبيب جراح المخ والأعصاب أحمد الجمال ، عائلتك أعرق من عائلته ونسبك أفضل منه ، ما يرسمه أمامك من تدين ليس حقيقيًا بل هو ذئب متخفي في ثوب حمل !!
حينها بكت فكلمات وائل أصابت صميم قلبها لترى بأنه محق ولكن بحثت حينها عن قيمتها بين كل ما ذكره فلم تجد ، فالمرء ليس بقيمة عائلته وذويه بل بقيمة نفسه وهي ليس لها قيمة !!
انتبهت من ذكرياتها على صوت البائعة التي أتت بما طلبته منها، لتنظر إليه عن كثب ثم تقرر بحماس ابتياعه ، بحثت من حولها عن الفتاتين فوجدتهما انصرفتا عندما تشاغلت مع البائعة دون أن تنظرا إليها ، زفرت بقوة وهي تغادر المتجر لتتوقف بدهشة وهي تجده من أمامها ، توردت وجنتيها وهي تحاول إخفاء كيس متجر ملابس النوم بين أكياسها الكثيرة ، لتتحاشى النظر نحوه بل همت بأن تتخطاه دون أن تواجهه لتفاجئ باقترابه وابتسامته اللبقة تزين وجهه .
ازدردت لعابها وأومأت له بالتحية ليهمس هو بصوته الحنون : مرحبًا يا أختاه ، كيف حالك ؟!
تلعثمت ووجنتيها تتقدان بخجل غمرها لتهمس : بخير والحمد لله، كيف حالك يا دكتور ؟!
ابتسم باتساع فظهرت غمازتيه وتلألأت عينيه البنيتين : بخير نحمد الله على كل شيء .
أتبع بضحكة هادئة : أتعلمين من نبهتني إلى وجودك شقيقتي ؟!
أشار إلى الفتاتين اللتين كانتا في المحل بالداخل ، واللتان تنظران الى واجهة محل آخر ، وهو يكمل : إحداهما شقيقتي والأخرى زوجتي ، تريدان التعرف عليك ولكنهما أُحرجتا من أن يبدأن الحديث معك فأنتِ لم تعرفيهما ولم تصدقا أنني تبادلت الحديث معك من قبل .
عضت شفتها بحرج وهي تشعر بضيق تملكها حينما أخبرها عن زواجه ،لينتابها زهو وهو يحدثها عن رغبة أخته وزوجته على التعرف إليها ، همهمت بخفوت : مبارك الزواج .
__ بارك الله فيك ، العقبى لك ، صمت قليلًا ليهمس – أعتقد أنك تزوجت أنتِ الأخرى فأنا قابلت خطيبك من قبل .
ابتسمت بحرج وهو يذكر مالك لتشعر بأنه من الجيد عدم وجوده معها حتى لا تتعرف إليه الفتيات فتستاء من زواجها به فهو مختلف عن ميول تلك الأسرة الملتزمة دينيًا أجابت بفتور تملكها : زفافي بعد اسبوعين بإذن الله .
__ أتمه الله على خير . نطقها بسلاسة أحزنتها لتساله بجدية وهي تبحث عن الفتاتين بعينيها : أين هما ؟!
أشار لأحد المتاجر الخاصة ببيع مستلزمات الأطفال : دلفتا إلى هناك فهما لم تتوقعا خروجك من المتجر سريعًا ، ولم يراك وأنا اقترب منك ، ولكني انتظرتك حتى أعرفك بهما ، زينب تتسوق لأجل طفلها القادم بإذن الله .
تمتمت بخفوت : رزقها الله الذرية الصالحة ،
صمتت قليلًا لتهمس : أنها لا تشبهك .
عبس بغرابة : من ؟!
__شقيقتك ، أليست المنتقبة زوجتك ؟!
ابتسم وهز رأسه نافيا : لا المنتقبة هي شقيقتي وتشبهني للغاية أما الأخرى فهاجر زوجتي .
سكنت ملامحها لتنظر إليه بتعجب وتمتمت بعفوية : ظننتك حينما تريد الزواج ستختار منتقبة أو حتى ستطلب منها ارتداء النقاب لأجلك .
ابتسمت بتعجب : لماذا أطلب منها ارتداءه ؟! بالطبع لن أمانع إذا أرادت ولكنها محتشمة وأنا لا أرى عيبًا في ذلك .
اعتلى الذهول ملامحها ليلتفت هو إلى زوجته التي اقتربت منه فيكتنف كفها براحته وهو يهمس بلباقة : الآنسة إيمان الجمال يا هاجر ، كانت تحضر الدروس التي أُلقيها في المسجد .
ابتسمت هاجر وهزت رأسها بتحية ودوده : مرحبًا بك ، أنا هاجر زوجة الشيخ عبد الرحمن .
ابتسمت بمرح : لم يمض على زواجنا الكثير حقًا ولكني اعتدت أن اقدم نفسي هكذا .
تألقت الدهشة في عينيها وهي تنظر إلى تلك الفتاة من أمامها تماثلها سنًا ومظهرًا ولكن روحها الصاخبة تسبقها ، ابتسامتها المتسعة تزين وجهها وفخرها بزوجها يعتلي هامتها ، لتأتي من بعدها شقيقته تتحرك ببطء ناتج عن ثقل حملها لتهتف بمرح وهي تصافحها بحفاوة  : مرحبًا بك سعيدة للغاية أنني رأيتك اليوم ، لطالما نظرت إليكِ في مجلات المجتمع ولم أصدق عبدالرحمن حينما أخبرني أنه تعرف عليكِ شخصيًا حينما أردت سؤاله بشي خاص في أمور الدين ، بل لقد أخبرني اليوم أنك وخطيبك دعوتماه إلى حفل عقد قرانكما ولكنه لم يحضر ، لو كان أخبرني حينها لكنت أجبرته على الحضور وذهبت معه .
ابتسمت إيمي بسعادة وهي تشعر بمودة جمعتها بالفتاتين الصاخبتين عكس مظهرهما ، وعكس ما فكرت هي !!
فهي توقعت أن تكونا منغلقتين ..  صامتتين .. متشددتين ولكنهما نسفا أفكارها من الأساس حينما تحدثتا إليها بلباقة ومرح ، نعم صوتهما منخفض وتكاد تكونا تهمسان ولكنهما مرحتين .. سعيدتين .. غير متكلفتين ، انتبهت من أفكارها على صوته : ما رأيكن أن ادعوكن إلى ما تنتقونه من شراب قبل أن تستكملا تجولكن ؟!
هتفت زينب بمرح : أنا أقبل ،
ابتسمت هاجر وهي تنظر إليه بفخر وسعادة : وأنا أيضًا .
التفت ثلاثتهم لها لتهم بالرفض قبل أن تهتف بها زينب : أرجوك اقبلي دعوة عبد الرحمن ، ولا تقلقي سيجلس بعيدًا عنا ، فهو لن يشترك بجلسة السيدات أليس كذلك يا عبده ؟!
ابتسم بمرح : بالطبع لن أجلس ، سأذهب لآتي بزوجك من الخارج فهو على وصول .
تحرك تجاوره زوجته لتتأخر زينب وتجاورها وهي تثرثر إليها بعفوية : انهما حديثي الزواج وأنا أترك لهما الفرصة فأتأخر بحركتي حتى يتحدثان سويًا ويستطيع أخي المصون أن يغازلها على راحته .
ابتسمت إيمان بخجل وكررت بدهشة : يغازلها .
ضحكت زينب بمرح : بالطبع أليست زوجته ؟! هو فقط يهتم بوجودي حتى لا يخجلني ولكن بينه وبينها لا حدود ولا عوائق فهي زوجته ومن حقه أن يتمتع بوجودها من حوله .
جف حلق إيمان وهي تستمع إلى حديثها فتستكمل الأخرى حديثها : أعتقد أنك تحضرين إلى زفافك ، هل ينقصك الكثير من الأشياء ؟!
صمتت لتهتف بخجل تكمل حديثها : المعذرة ما الذي أقوله فمن مثلك لا ينقصها شيء بالطبع .
هزت إيمان رأسها في نفي سريع : بل ينقصني بالطبع فأنا كنت أبتاع بعض ملابس النوم لزواجي .
__ وأنا الأخرى كنت أبتاع بعض قمصان النوم لأجل زوجي ، فجسدي امتلأ قليلًا وأقمصتي أصبحت صغيرة القياس فاشتري غيرها حتى لا يمل ، فمناماتي الحريرية والتي توافق قياسي الحالي محتشمة أكثر من اللازم .
ابتسمت إيمي بتوتر قبل أن تستعيد تلك الأشياء التي كانت تشتريها تلك المنتقبة فتتسع حدقتيها بذهول لم تستطع الخلاص منه ، رن هاتفها فاستأذنت منها لتجيب دون النظر إلى شاشة الهاتف فيصدح صوته المرح بأذنيها وهو يسألها : اين انت يا حبيبتي أنا على البوابة الثانية للمركز التجاري فقط أخبريني أين أنتِ وستجدينني حتمًا أمامك .
***
جلست تراقب شاشة التلفاز باهتمام تنتظر ظهورها المدوي على المسرح ، فهي تمتلك إطلالة مميزة وروح صاخبة تميزها عن البقية ،امتلكتها بصوتها القوي وشجن احساسها ، تغني بصوت يداعب احاسيسك ويتلاعب بمشاعرك فيجبرك أن تفرح وتنتعش مع معاني اغانيها الفرحة وتكاد تبكي مع حزن نبراتها ، تشدو بكل خلجة من مشاعرها فتصل لكل خلجات نفسك ، وللأسف تتماشى أغانيها مع مشاعرها المتقلبة ، فكانت تغني بسعادة وهي تعيش اجمل ايامها تشعر برعشة الحب الأولى معه ، والآن تغني بشجن يصف حالتها الميؤوس منها ، فتقلباتها معه دائمًا وتتمنى أن لا تكون أبدًا !!
ابتسمت بسخرية وهي ترتشف قهوتها المرة وقلبها يردد لقد وشمنا به فلا نستطيع الفرار منه ،سيكون دائما وابدا هو من يمتلكنا، فالقلب معلق به والعقل ضائع في تفاصيله وبين القلب والعقل الجسد يخضع له كلما لامسه وكأنه ترياق الحياة بالنسبة لها !!
زفرت بقوة وهي تتذكر تلك المرة التي خضعت فيها إلى سلطانه، بكل مشاعرها الفياضة ، بروعة شعورها بعنفوانه وجموحه ، بلهاثه المشتاق لها ، وكلمات غزله الصريحة ، تلك الغيمة التي لفتهما سويًا وأشعرتها بالسعادة مجسده وهي معه ، تحولت إلى عاصفة رعدية هزت ثقتها بنفسها حينما استيقظت واستفاقت إلى نفسها وتحولت سعادتها إلى لوم وعتاب قوي عصفا بكيانها فهي استسلمت وتخلت عن كبريائها لأجله !!
نعم هو لم يحاول اخضاعها ثانيةً ، بل توقف عن الدوران من حولها ، لكنها تعلم جيدًا أنه حينما سيقترب ستستسلم له من جديد ، وكأنه يعلم بدوره فيبتعد قدر استطاعته وينغمس في عمله وخاصة بعدما رفضت أن يسافرا في شهر عسل كما كان يريد ، ورغم حنقه منها وابتعاده عنها ، لكنه يأتي بآخر الليل لينام الى جوارها ، فلا تستطيع الرفض رغم تشبثها بالبعد عنه ، ولكنه بكل مرة يستطيع أن يجذبها إلى منطقته فتفترش ساعده وتتوسد صدره فتهنا بنوم ثقيل يوقظها منه هو صباحًا وهو يقبلها ثلاث قبلات كما كان يفعل من قبل ، في تلك الأيام التي كان فيها أقرب إليها من أنفاسها وكأنه يذكرها بأنه سيظل أقرب إليها من نفسها،  وأنه سيظل ملازمًا لها مهما رفضته او ابعدته عنها ،  فهو سيظل جاثمًا فوق صدرها ، معششًا بقلبها ومستولي على عقلها !!!
***
وقف في صمت مهيب يسيطر على أنفاسه حتى لا تنتبه اليه وجدها كما توقع تجلس أمام التلفاز تراقبه بلهفة انتظار عشيقة لمحبوبها، لا يعلم سر تعلقها بتلك المغنية تحديدًا عن البقية ، فهو لم يقتنع بدعمها لها لسابق معرفه بينهما فهي ليست منسجمة مع ليلى كما تنسجم مع تلك، ليخبره عقله بأن هناك ما هو أعمق من هذا السبب الذي رمته به مرة غير مبالية باهتمامه الحقيقي بها !!
عاد إليها يمشطها بنظراته التائقة ، محروم هو منها، بل يموت ظمئًا ولا يستطيع الاقتراب ليرتوي من أنهارها العذبة ، محرمة هي عليه كما حرمت على آدم تفاحته ، ابتسم وهو ينظر إلى جلستها البريئة تطوي ساقيها أسفل جسدها وتستند بظهرها إلى الأريكة ، فيشتعل شوقا لتلك الأيام التي كان هو مسندها وصدره متكئًا لها ويعلم أن تلك الأيام لن تعود ، ففاطمته تبدلت .. تغيرت .. أصبحت أخرى جامدة ، يكفيه أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه فيشعر بأنه منبوذ من العالم كله !!
يعلم جيدًا أنه السبب في تغيرها ، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الزمن إلى الوراء ولا يستطيع أن يتراجع عم فعله معها ، كان يظن بأن قربه منها سيثبت لها اهميتها عنده ومكانتها لديه ، ولكن إجبارها واخضاعها أتيا بنتيجة عكسية كما لم يتوقع قط !!
يحبها؟! نعم لا ينكر ولكنه أعند من أن يعترف لها ، وأجبن من أن يتعرى أمامها ، لا يهمه إن كرهته وهو يتجبر عليها ولكن يهمه ألا تشفق عليه عندما ترى ضعفه ، فهو اقسم أن لا يضعف مرة أخرى أمام إحداهن ، حتى لو كانت هي ، حب عمره وعشق حياته!!
سحب نفسًا عميقًا ، ليرسم ابتسامته الساخرة التي تثير حنقها وهو يقرر أن يدلف أخيرًا إلى محيطها : كما توقعت تمامًا .
هل أجفلت من وجوده أم هيأ له؟! لا يهم يكفيه أنها نظرت إليه حتى لو بنظراتها الغاضبة !!
__ما الذي توقعته؟! نطقتها بشرود خافت وهي تعيد نظرها إلى التلفاز بلا مبالاة حقيقية احرقته
__أنكِ تنتظرين ظهورها في هذا البرنامج ، لقد شاهدت أحد  الاعلانات التي أغرقت التلفاز منذ أول البارحة يعلنون عن غنائها في حلقة الليلة.
لم تجبه كما توقع أيضًا فهي لا تتحدث معه .. لا تقترب منه.. لا تعيش معه، وهذا يقتله ببطء.. يستنفذ قوته.. ويعيث في عقله فسادًا ، كان يظن أنه سيخترق دفاعاتها ، سيمتلكها بزواجهما الذي فرضه عليها ، ولكنه كان مخطئًا فهي أخبرته أن لا ينتظر منها شيئًا فهو سبق وأن أخذ كل شيء فلا يطمع بالمزيد، وهو كان طامعًا.. نهمًا.. جائعًا لها ، ولكن كفهد متبطر عبث بغذائه فتسلل من بين يديه دون رجعة !!
لمعت عيناه بعنفوان بدائي وهو يقسم أنه سيعيدها إليه رغمًا عن عقلها العنيد ولكنه يريد التخلي عن تجبره متمسكا بكبريائه العتيد قال بابتسامه متلاعبه : ذكي هذا المالك يجيد استخدام ذكائه فهو يدعمها بحملة دعائية ضخمه مزينة بإشاعة علاقتهما سويًا فيزيد هذا من التسويق إليها، رغم أنه لا يوجد بينهما شيئًا على الإطلاق فهي إما تحب آخر أو عازفه عن الحب الذي تشدوه بأغانيها وهو زفافه بعد اسبوعين !!
نظرت له بطرف عينها لتقول بسخرية تجلت بقسامتها : ليس كل البشر مثلك يا ابن الوزير فبعضهم يتحلى بدماثة الأخلاق ولا ينتهز جميع الفرص التي أمامه.
قبض كفيه قويًا ليهمس لنفسه بالصبر على وقاحتها المعهودة ، وطولة لسانها فهي كما هي تلك الصفة لا تتغير بها، كانت فرحة أم حزينة ، ومحاولتها هذه لصده بعيدًا أكثر من مكشوفه.
جلس بجوارها لتتسع عيناها برفض وهي تلتفت إليه في جدية ظهرت بحركتها المتشنجة وهي تقول بعنفوان: ماذا تريد يا وائل؟! أتمنى أن تتركني بسلام لأشاهد الحفل كما أحب .
ابتسم بمكر: لا تنتفضي هكذا حتى لا تؤذي نفسك، ثم أنا لا أريد أن أفسد مساءك كما يخبرك عقلك العنيد هذا أنا الآخر أريد أن أشاهد الحفل، ليس من المعقول أن أشاهده بغرفة أخرى وتلفاز آخر وهو يعرض هنا سلفًا، رد على نظرتها المتشككة بهدوء مقنع ليضيف  ببرود - فكرت أنه لن يضايقك وجودي وخاصة وأنني لا أمثل لك أي شيء يذكر.
صفعتها جملته ، وهي تذكرها بتلك الليلة التي أراد بها رأب الصدع بينهما وخاصة بعد معرفته بحملها، فأخبرته بترفع عن عدم وجود أمل بينهما فهي انتهت منه للابد وهو بات لا شيء يذكر لها. ابتلعتها نظراته المحللة لما يدور بعقلها فأخبرته بأنفه وهي تشمخ برأسها دون كلمات فتخبره بردة فعلها المتكبرة أنه محق فهي لا تأبه له.
اعتدل بجلسته وهو يمنع ابتسامة التسلية من الظهور على شفتيه، يكتمها بداخله ولا ينكر استمتاعه بردود أفعالها الشهية وتعابيرها الخلابة ،وأنوثتها التي ازدادت تفجرا بهذا الحمل الذي أتى ليخبرهما سويًا أن حياتهما مستمرة رغمًا عن أنفهما، وأن ما خلق بينهما من عشق لن يندثر، كم يتمنى أن يأتي طفلهما ذكرًا ليجعل الميثاق بينهما غليظًا مثبتا لا يمحى بسهولة ولا يفنى أبدًا!!
__ متى موعد زيارتك للطبيبة؟!  نطقها بسلاسة فانكمشت هي رغمًا عنها وهي تحيط بطنها بذراعيها في هشاشة أثارته ، لتشد جسدها بكبرياء وإرادة حديدية وتهتف بحنق- لا شأن لك .
راقبها بانبهار تحكم بأنفاسه فكتمها مترقبًا لهذا التحول اللحظي أمامه ، ليتنهد بوله رغمًا عنه: بل كل الشأن لي يا فاطمة .
اقترب بحماس غريب دب في أطرافه ليداعبها بوقاحة متملقًا: ألم تخبرك الطبيبة عن موعد حدوث الحمل ؟!
نظرت له بعدم فهم ليستطرد: أريد أن أعلم عن أي ليلة جمحنا بها سويًا فأنتجت ثمرة حبنا.
انقلب وجهها بغضب واحمرار طفيف يداعب خديها لتهمس باشتعال وبلغتها الأقرب لنفسها: وقح.
تعالت ضحكاته قوية صدحت بالأنحاء حولها فجذبت نظرها إليه رغمًا عنها، تراقبه كما كانت تفعل دائمًا ولكن ليس بانبهار كالسابق ، بل بحزن دفين عشش بقلبها . نهضت واقفة وهي تشعر بدموعها تترقرق بمقلتيها فأرادت الانصراف حتى لا يتلمس ضعفها.. وهنها .. واحتياجها المضنى له !!
ولكنه كان الأسرع كما عهدهما سويًا فقبض على ساعدها قبل أن تنصرف وهمس لها: انظري معشوقتك بدأت بالغناء
التفتت إلى شاشة التلفاز تنظر إليها بلهفة تائقة لتلك الهالة التي تنبعث منها ، مستمدة من عنفوانها وقوتها ، فرغم صغر سنها إلا أنها أقوى مما كانت تتخيل وخاصة بعدما حدث وكانت هي حاضرة وشاهده عليه ، فهي لن تنسى أبدًا زيارة تلك المرأة –خطيبة ابن خالة زوجها - للجامعة ولن تنسى حديثها الذي أفضت به إلى إيناس وهي استمعت إليه بالصدفة ، ذاك اليوم كانت نعم العون لإيناس فساندتها وظلت بجوارها إلى أن هدأت وتخطت صدمتها ، لتستعيد قوتها بسرعة وتذهلها -هي شخصيًا - حينما غلفت نفسها برداء الكبر ونهضت من جديد ، نهضت من رمادها كطائر العنقاء الأسطوري الذي يحيا من رفاته ، وها هي اليوم تقف على المسرح بشموخ وتغني بابتسامة شقية رغم حزن عينيها !!
جلست بتلقائية ترهف سمعها إلى إحساس الأخرى بالغناء وهي تشدو بأغنية جديدة افتتحت بها الحفل، ذات رتم سريع وموسيقى مبهجة ولكن معانيها تحمل شجن عميق لمع بمقلتي مغنيتها المفضلة شعرت بكل خلجة تنتقل من مشاعر الأخرى إليها لتسقط صريعة في هوى تلك الأغنية التي لم تستمع هي إليها من قبل!!
انجذب هو الآخر إلى صوت إيناس الشجي لتلمس بكلماتها المشدوه وترًا حساسًا بقلبه وهي تقول
في عشق بيستنانى وعشق بنستناه
وعشق بينسينا العشق اللي عشقانه
تنبه على فاطمه تدندن معها بصوتها الأبح
القلب اللي بيجرحنا في حاجة اكيد جرحاه
وجراحنا بتفكرنا بالقلب اللي جرحناه

ليتأملها مليًا وهي تردد بصوت خرج من عمق إحساسها فيتساءل أهناك ما يربطها بايني حقًا ، أم تلك الفتاة تغني بطريقة تمس مشاعر زوجته ؟! أهو محض إعجاب ومؤازرة لطالبة نابغة تستحق الدعم كما أخبرته من قبل ، أم أن الأمر أعمق من ذلك ؟!
زفر بقوة وهو ينتبه إلى معاني المقطع - الذي رددته - من جديد ويلمع عقله بتساؤل غريب " أتصف حالهما سويًا أم تغني مع الأخرى ؟! " ابتسم بسخرية وعقله يجيب : الاثنين !!
صفقت بصخب بعد انتهاء الأغنية وكأنها تحضر الحفلة مباشرة فتنتشله من أفكاره فيشعر بسعادتها اللحظية تنفجر داخل قلبها، سألها بجدية: ما الأمر يا تامي ، أشعر بأن دعمك لإيناس يتخذ محورًا شخصيًا لا افهمه؟!
لمعت عيناها بانبهار لم يخطئه لتقول بحماس افتقده في حواره معها: انظر إليها كم هي قوية.. شامخة ، صوتها شجي حزين ولكن كبريائها يزين مقلتيها ، تخبره بعزم أنه لم يكن يستحقها وأنها ستنجو رغمًا عن أنفه، كلما سينظر إليها ويستمع إلى غنائها سيعلم أنه كان أقل بكثير منها وهي أكثر بكثير مما يستحق هو!!
ضيق عينيه بشك وهو يستشعر بأن حديثها يمسه هو شخصيا ليسأل بغضب تلك المرة : من هذا؟!
ابتسمت ساخرة وهي تنهض ،تنظر إليه من علو: هذا الذي تغنيت عنه أنت منذ قليل أنها مدلهه بحبه ، تخطته رغم جرحه الغائر لها ، ابن خالتك الهمام يا ابن الوزير من تركها بعد وعود الهوى ليخطب أخرى مدعيًا بأنه يريد واحدة تتفهمه أكثر من طفلة تلعب لعبة الغناء ، راميًا بكل مواثيق الهوى بينهما وضاربًا بها عرض الحائط ، خائنا بليد المشاعر والأحاسيس ، ها هي تخبره أنها صامدة وأنه بالنسبة إليها " لا شيء يذكر "
تحركت لتبتعد عنه وهي ترى وجهه يربد بغضب عنيف فتتابع غير عابئة بغضبه  : لم تكن مجبرة على الزواج منه لأنها تحمل في أحشائها ثمرة خطيئتها ، ولم تكن مجبرة على الزواج لأنه هددها بفضحها أمام أغلى الناس لها، لم تكن مجبرة على شيء لأنها لم تتنازل عن شيء. كانت أذكى من أن تتنازل عن ما هو أكثر من قلبها فكسبت معركتها رغم هزيمتها الساحقة ، فلا ضرر من التضحية بهذا العضو الفاسد لينجو الجسد كله !!
شحب وجهه فلم يعد يشعر بشيء سوى مرارة كلماتها وحزن قلبها، يريد أن يضمها إليه ويخبرها بأنه أجبرها لأنه لا يستطيع الاستغناء عنها.. يريد أن يخبرها بأنه يحبها وقلبه واقعًا تحت سلطانها .. يريد أن يخبرها بحماقته معها ويتذلل لها كي ترضى عنه وتغفر ، ولكن كجبل عتيد لم يتحرك قيد أنمله وهو يراقبها تغادر من حوله ساحبه ضيائها خلفها تاركه إياه يتخبط في ظلامه الدامس!!
***
كتير بنعشق ولا بنطول .. وكتير بنعشق ولا بنقول
ومافيش حاجه  بتستمر .. زي ما بدات ليه على طول
كتير بنعشق – شيرين
زفر بقوة وهو يستمع إليها وكأنها تخبره برسالتها بأن ما كان بينهما انتهى .. اندثر .. انمحى .. وكأنه لم يكن !!
يشعر بلهاث أنفاسها يرتطم بوجهه رغم بعدها عنه ، وهي تغنى بنغمة سريعة وصوت شجي يأتي من عمق إحساسها ، و كلماتها أتت لتوشمه بهزيمة ساحقة مُني بها رغم عن أنفه ، هزيمة الحقتها به وهي ترفضه بإصرار واعتزاز صفعا تخاذله ، تقف كملكة متوجة على عرش انتصارها وتخبره بهدوء انها انتهت منه ، تصف حاله وتتحدث عنه وكأنها ليست معنية بالأمر ، فعشقه لها كان من طرفه فقط ، وهي لم تتأثر به إلا لمامًا !!
حتى نظرتها الخالية من وميضها ليست حزنًا عليه بل ألمًا يخصها بمفردها ، ألمًا على شخصها الذي قارب على المساس به ، لقد جرح قلبها .. وأهان كرامتها .. وصفع انوثتها حينما أبعدها وأعلن ارتباطه بأخرى كانت محطة من محطات حياته المرتبكة !!
ابتسم بألم وهو ينظر إلى شاشة التلفاز التي تحتلها بأكملها في لقطة مقربة أخذها اليها المخرج ، فيشتعل شوقا وهو يتأمل ملامحها الجميلة ، تبتسم برقة وعبث يزين ملامحها ، عيناها تتألقان بانتصار أشعره بمدى هزيمته ، وكبر خسارته ، ترفع راسها بشموخ وكبرياء هزما كرامته وأبقياها أرضًا موحلة في بقايا خطيئته ، فيدرك بأنه لن يقو على استرجاعها ، فهو خسرها ، وهي لن تغفر ولن تسامح، بل وقفتها .. شدوها .. غنائها .. ابتسامتها وعيناها يؤكدون له ويخبروه بانها تخطته ، وأنها لم تحبه قط !!
***
__ ما بالك ؟!
رمشت بعينيها لتهز رأسها نافية قبل أن تتمتم برهبة تملكتها بسبب الغضب الذي يكتنف نظراته ، غضب هي تسببت به ولا تعلم كيفية التعامل معه : لا شيء ، فقط لم أتوقع أن تترك مشاهدة الحفل وتأتي لتصحبني وتعيدني إلى المنزل .
آثر الصمت قليلا قبل أن يجيب باقتضاب : سأراه في إعادة الحلقة غدًا أو الليلة كما يتيح وقتي .
تأملته قليلا قبل أن تهتف بصوت حمل فرحة خفية انبثقت داخل قلبها : هل لازلت غاضبا منها ؟!
عبس بتعجب : غاضب منها ؟!
هزت كتفيها وهي تحاول أن تخفي لهفتها : آها ، لا أعلم شعرت بذلك فأنت لا تذكرها لها منذ ليلة الحفل؟!
__ تقصدين إيناس ؟! غمغم بها وهو يركز بصره على الطريق من أمامه فأومأت بالإيجاب ليزداد عبوسه قبل أن يجيب بجمود – ولماذا أغضب منها ؟! أنا فقط انشغلت بتجهيز عرسنا وهي منشغلة بجدول أعمالها
صمت هنيه قبل أن يتبع بصوت ذا مغزى : وتوقفت عن ذكرها أمامك حتى لا تغضبين ، فأنتِ تتوترين من سيرتها .
توردت وجنتيها لتهتف سريعًا : ولماذا أتوتر منها أو من سيرتها ؟!
ابتسم بمكر رغمًا عنه ليهمس بخفوت : لا أعلم ولكن أعتقد أنك تغارين ؟!
__ منها ؟! صاحت بحنق ليضحك بخفة وهو يقترب بجسده منها وبصره مثبتًا على الطريق أمامه ،همس بصوت خافت – عَلي ، تغارين علي .
ابتسمت رغمًا عنها لتتمتم : اليس من حقي ؟!
ضحك بمرح : بل هو حق حصري لك يا حبيبتي ، وليس من حق أحدًا آخرًا غيرك ولكن لتعلمي أنتِ من بالقلب يا مُهجة القلب .
__ مُهجة القلب ، رددتها باستنكار قبل أن تسأله – أنها مغازلة من الطراز القديم يا مالك ؟!
جمدت ملامحه ليهتف بجدية : المعذرة ولكني أمثل دور من حقبة الستينات فاختلط علي الأمر .
اطبقت فكيها بقوة : وتغازل الفتيات به .
ثرثر بعفوية : بل أحب البطلة وأناديه بها .
ران الصمت عليهما لتلتمع عيناه بوميض إدراكه فيتابع – وأنا أمثل الدور يا إيمي .
قبضت كفيها بغضب سرى بأوردتها لتشيح برأسها بعيدًا فيزفر هو بقوة ويكمل : التمثيل مهنة يا إيمي وأنا لا أقع في هوى كل امرأة امثل أمامها ،
تنهد بقوة قبل أن يتلمس كفها القريب منه فيكتنفه براحته ويرفعه إلى شفتيه ليقبله برقة : مشاعري وقلبي وكل كياني ملك لك ، لا أتأثر بأحدهن ولا يتأثرن هن بي ، أنتِ فقط من تمتلكيني قلبا وعقلًا وجسدًا .
توقف أمام باب قصرهم فيفتح الحرس البوابة على مصرعيها فيدلف بسلاسة وهو يوما برأسه شاكرًا إليهم ليتوقف في الساحة الخلفية لقصر عائلتها قبل أن يعتدل بجلسته إليها ويكتنف كفها الآخر ويهمس وهو يوزع قبلاته عليهما : أنا أحبك يا إيمان ، كوني واثقة من هذا .
ابتسمت وخديها تتوردان بخجل يفتنه فيقربها منه ، يجذبها إليه ويحيط جسدها بذراعيه فتحاول التملص وهي تتمتم بحياء : نحن بحديقة القصر يا مالك .
__ أريد أن أضمك إلي ، أشعر بقربك مني ، أنا أموت شوقًا وأنا أحصي الأيام الباقية على زفافنا .
رفرفت بأهدابها وهي تخفض بصرها عنه ووجهها يتقد بخجل تملكها لتزفر : لم يتبق شيء .
__ أيتها القاسية اسبوعين كاملين وتقولين لم يتبق شيء ، أنها أيام كثيرة وليال أكثر اقضيها أنا في شوق وبؤس ووحدة دونك .
رفعت عيناها إليه فتكتم أنفاسها انبهارًا وهي تغرق في بحر عيناه بزرقتهما الصافية ومشاعره الصادقة فيهمس هو أمام شفتيها : ألا تشعرين بي ، ألا تتلهفين مثلي لوجودي قربك ، ألا تقضين الليل تفكرين بي ؟!
لامس وجنتها براحته فتميل بوجهها وتسنده إلى يده وتهمس باسمه بتوسل أشعل المتبقي من عقله فيتأوه بصوت مكتوم ويقترب منها أكثر : قلب مالك وروحه التائهة .
هم بامتلاك شفتيها لينتفضا سويًا على ضوء قوي يضوي امامهما ، فيرفع ذراعه أمام وجهه ، ويعبس بضيق تملكه قبل أن ينخفض الضوء تدريجيًا ليبتعد هو بنفس لحظة توقف سيارة شقيقها الأصغر أمام سيارته ، شهقت بخجل وأخيها يترجل بعنفوان من سيارته يرمقها بلوم – أو هكذا خيل إليها ، قبل أن يترجل مالك بدوره ويتجه إليه ليصافحه .
تأملتهما قليلًا يتبادلان الحديث ليثرثر أحمد سريعًا بكلمات لم تستطع التقاطها قبل أن يمأ مالك بتفهم وهو يجيبه بكلمات سريعة أثارت ريبتها ، قبل أن يشير إليها بالنزول ليأتيها هتاف أحمد المرح وهي تترجل من السيارة : ألن تدخلي إلى المنزل يا أختاه ، أم أنك ستقضين الليلة بالسيارة ؟!
ابتسم مالك وهي تقترب منهما : ولماذا السيارة سأصحبها معي إلى البيت ؟!
أسبل أحمد عينيه قبل أن يهتف بجدية : ليس قبل الزفاف يا نجم.
زفر مالك بقوة : لم يتبق الكثير .
رجف فك أحمد ليتمتم بالإيجاب قبل أن يضمها إلى حضنه ويسألها عن أحوالها فتجيبه بخجل اعتراها وهي تخفض رأسها بحياء أعجبه وأشعل الغيرة في جوانب شقيقها الذي هتف بصرامة : تفضل يا مالك ، ماما سترحب بك على العشاء .
كتم ضحكته بداخله مراعيًا غيرته الأخوية ولكنه لم يستطع كبح جماح ابتسامته التي اتسعت وهو يهتف : ليلة ثانية ، فأنا سأغادر.
هز أحمد رأسه متفهمًا ليصافحه مودعًا فيبتسم مالك وهو يمد يده لها فترفع رأسها وتصافحه بوهن ، جذبها إليه مقربا فتمسك بها أحمد أكثر ،نظر إليه مستفهمًا فكح أحمد بحرج وشد جسده منسحبًا ، وهو يتمتم : حسنا إلى اللقاء .
كاد أن يقهقه ضاحكًا لولا هتفاها الحانق : ماذا فعلت يا مالك ؟! لقد أحرجتني معه .
__أحرجتك !!
ردد بعدم تصديق فتكمل هي بتهور : نعم كما أحرجتني امام رفقائي وأنت تقربني منك وتقبل وجنتي أمام حشد من الناس لا يعلمون أنني زوجتك .
انتفض جسده بغضب : ليست المرة الأولى التي أفعلها ولكن أعتقد أن نوعية رفقاءك هي التي تحدد متى علي أفعل هذا ومتى علي لا أفعله ؟!!
شحب وجهها بقوة وهي تحاول أن تنفي اتهامه عنها فلم تقو ليتابع بجدية : كنت سعيدة جدًا بقبلتي لك ونحن في النادي لأن حينها كنت ترافقين كريمات العائلات الكبرى ، ولكني اليوم أحرجتك لان الفتاتين اللتين كانتا معك ملتزمات دينيًا ، أليس كذلك يا إيمي ؟!
صاحت بصوت واهن : لا ، الأمر ليس كذلك ؟!
نظر إليها قليلًا : حقًا ؟!
ابتسم بألم وهو يتابع : هل تظنين أنني لم أنتبه إليك ؟! لم أنتبه كم أنتِ محرجة لوجودي بجوارك ، لقد عرفتني عليهم وأنتِ تخفضين رأسك وكأنني سُبة في جبينك وليس زوجك الذي تفتخرين به ،هزت رأسها بسرعة - لا لقد فهمت خطئا ، أنا خجلت فقط حينما قبلتني أمامهما .
__ لا تقولي قبلتك ، لقد قبلت وجنتك وهذا أمر طبيعي يحدث بين أي زوجين .
__ لا ليس طبيعي ، ليس طبيعي أن تقبلني أمام الناس ، الحياء شعبة من شعب الإيمان يا مالك ، وأنت لم تراعي خجلي أو حيائي .
تأملها مليًا وهو يتفحصها بنظراته القاتمة ليتمتم بصدق :حسنًا ، أنا آسف .
اقتربت منه قليلًا  لتهمس : لم أخجل منك ، ولكني خجلت من تصرفك .
ردد بهدوء : آسف لن أفعلها ثانيةً .
ابتسمت وهي تحاول أن تسيطر على رجفة قلبها : لا تعتذر كثيرًا فالأمر ليس هاما .
لوى شفتيه بطريقة أشبه الى العبوس عن الابتسام : حقًا ؟!
هزت برأسها إيجابًا ليكتنف خصرها بكفيه فتتابع : أعلم أنك مشتاق لي ولكن ..
صمتت وهي ترى ملامحه تتصلب فتفرد كفيها على صدره : دعنا لا نذكر الأمر ثانيةً .
أخفض بصره وهو يومئ برأسه : حسنًا ، تصبحين على خير .
شعرت بخيبة أمل تتملكها ليتساءل هو بجدية : هل تسمحين لي بتقبيلك هنا ، أم  حياءك يمنعك ؟!
اعتلى عدم الفهم ملامحها قبل أن ترفع رأسها وتنظر إليه فترى المرح يتراقص بحدقتيه فتبتسم رغمًا عنها وتهز كتفيها دون دراية فيحنو عنقه ليقبل رأسها بحنان : عمت مساءً يا خطيبتي .
تمسكت بكتفيه تمنعه عن الابتعاد فينظر إليها بتساؤل : لا تغادر وأنت غاضب .
ابتسم وهو يكتنف وجهها ليقبل جبينها ويتمتم : لست غاضبًا ، أتبع بمكر – هذا لا يمنع أني سأنتقم منك حينما تصبحين داخل بيتي .
توردت فدفعته بعيدًا ولكنه لم يهتز ، تركها مرغمًا وهو يتنهد قبل أن يشير إليها مودعًا ، ركب سيارته لينطلق مغادرًا ويتركها تراقبه ، تنظر في اثره وتعترف لنفسها أنه كان محقًا فهي كانت محرجة بأن تعرفه على عائلة الشيخ عبد الرحمن ، ليس لقصور بشخصيته ولكن لمهنته التي تمثل إليها عائقًا نفسيًا لا تستطيع الفرار منه !!
زفرت بقوة قبل أن ترفع رأسها إلى السماء وتتمتم بدعاء إلى خالقها تتلمس منه أن يلهمها الصواب فيما تفعله ، فهي تريده زوجًا ، فقط لو يتخلى عن تلك المهنة المشوبة بشبهة الحرام .
تنهدت بقوة لتهز رأسها بيأس تملك منها وحيرة تبتلعها في بحورها ، فتناجي الله بصمت أن ينجيها منها .
***
__ لا أشعر برغبة في المجيء فتوقفي عن الحاح لا داع له .
صمت بنفاذ صبر وهو يقبض بكفه على هاتفه ، يستمع إلى رجاءها الرقيق فيغلق عينيه وهو يقف أمام باب شقته : لقد عدت إلى المنزل فأنا أحتاج لملابسي .
عم الصمت قليلا قبل أن تهمس بتساؤل أثار عبوسه ليرد بجمود : لا ليست هنا ، لم آتي من قبل ولكني أعلم أنها ليست هنا .
زم شفتيه بضيق : حسنًا ، سأبدل ملابسي أولًا وآخذ احتياجاتي وأرى إذا استطعت المجيء .
قاطعته بتوسل قابله بنفاذ صبر قبل أن يهمهم : حسنًا سآتي ، فقط اتركيني افعل ما أتيت لأجله .
أغلق الخط وهو يزفر بقوة ليقف أمام باب شقته ساكنًا ، ينظر إليه بشرود وتفكير يداعب عقله وحنين يحتل قلبه ، وذكرى تلك الأيام حينما كان يعود فيجدها تنتظره ، تغدق عليه من روحها فيغرقها في بحر عشقه لها !!
رفع رأسه بتصميم وهو يكرر إلى قلبه ، أن كل هذا انتهى .. ذهب ولن يعد ، فهي لم تحبه قط وتعالت عليه ، ومزقت كرامته أول الأمر وتاليه ، فجرحته حينما احتفظت بذكريات آخر كان لها حلم حياتها ، وسكبت على جروحه ملحًا حينما عايرته بفقر والده وقلة أصله .
أطبق فكيه بقوة وهو يدير مفتاحه بباب شقته ليدلف إليها بخطوات بطيئة .. ثقيلة .. مثقلة باطنان من هموم روحه وأوجاعها !!
لانت ملامحه وهو يشتم رائحتها تعبق من حوله وتداعب أنفه بذكرى وجودها ، فيتنهد بحرارة وهو يشعر بشوقه إليها يتضاعف ، تتهادى ذكرياتهما سويًا بمخيلته فتشعل أوردته ويقفز قلبه نابضًا .. تائقًا .. مهللًا بقربها الوشيك ، تمسك عقله بغضب غفره قلبه حينما طلت عليه من اداخل وهي تهمس باسمه في نبرة توسل وشوق عصفا بكيانه .
اتسعت عيناه بذهول وهو يراها حقيقة أمامه ليست حلمًا ولا تخيلًا كما أوحى له عقله بأول الأمر ، لتقضي على شكوك نفسه وهي تتعلق برقبته وتقبل جانب فكه وتهمس باعتذارات كثيرة وتتوسل إليه أن لا يتركها ثانيةً ، تعترف بأنها اخطئت في حقه وأنها نادمة على ما اقترفته في حقه ، تترجاه أن يغفر لها ويسامحها ويمنحها حبه من جديد !!
أبعدها عنه بغلظة وملامحه تكتسب قتامة لم تعتليها قبلًا ، ليهتف بجمود : ماذا تفعلين هنا ؟!
__انتظرك .
ألقتها بسلاسة ورقة فابتعد إلى الوراء خطوتين يسيطر على أنفاسه التي تحكمت بها وقلبه الذي أعلن ولاءه لها صاغرًا، هتف بصلابه : لقد طلقتك ، ما الذي أبقاكِ في المنزل ؟! لماذا لم تغادرين ؟!
نظرت إليه وهمست باستكانة جديدة عليها وتوسل يحتل عينيها : ولماذا أغادر بيتي ؟! لازلت بأشهر العدة ومكروه أن أغادر البيت طالما لم تنتهي عدتي ،
ضيق عينيه وهو ينظر إليها بتشكك فازدردت لعابها برقة جذبت أنظاره لها لتتبع بهمس خافت : بعد أن غادرت حاولت الاتصال بك مرارًا ولكنك لم تجيب فهاتفك كان مغلقًا ، وحينما سيطرت على الانهيار الذي أصابني ، قررت أني لن أغادر البيت ، وجلست انتظرك أن تأتي ، ولكنك تأخرت كثيرًا ،
اقتربت منه بترقب سيطر على عروقها ، فردت كفيها على صدره وهو مذهول من تغيرها الطارئ عليها : أصبحت قاسيًا يا محمود، هجرتني أيام وليال طويلة ، كل دقيقة كانت تمر بها كنت أجلس أراقب الباب وأنا أواسي قلبي بأنك ستأتي الآن ، ستضمني إلى حضنك وتخبرني أن ما حدث ما هو إلا كابوس مفزع وانتهى حينما استيقظنا منه نحن الاثنين .
اكتنف كفيها براحتيه ليضغطهما بقسوة ويردد بسخرية : كابوس مفزع ، صرخ بقوة -  بل هو واقع مقيت اكتشفت أني أحيا به يا ابنة محمد بك المنصوري .
شحبت ملامحها لتهمس بتلعثم : أنا آسفة لم أكن أقصد ، أنا حمقاء وغبية ولكنك صفعتني وأنا كنت غاضبة ، لأنك أهنت كرامتي دون أن أفهم السبب .
دفعها بعيدًا بخشونة ليزمجر بغضب : أهنت كرامتك ، وأنتِ ماذا فعلتِ يا بنت الأصول ؟! لقد هدمتني . لأشهر كثيرة كنت تضربين بمعولك في أساس زواجنا بقوة واصرار لهدم اواصر علاقتنا ، لأيام كثيرة منحتك الكثير والكثير ، وأنتِ تتمسكين بذكرى واهية وحلم مراهقة غبي تشبثتِ به واعية أو غير مدركة لا فارق عندي ، ما يهمني أنك تمسكت به غافلة عن كل ما يخصني ، أغمضت عينيك عن مشاعري .. قلبي .. حبي .. عشقي لك ، وتمسكت بوهم تعلمين جيدًا أنه مستحيل أن يتحقق .
__ لا ، صرخت بها بقوة لتتبع بوهن – أنت مخطئ ، فأنا أحبك يا محمود .
__ كاذبة . صرخ بها بغضب عنيف فارتدت إلى الوراء بخوف تجلى على ملامحها ،ليتابع غير مباليًا إلى خوفها وعيناه تنبض بوحشية – أنتِ لم تحبينني قط ، كنت توهمين نفسك بحبي حتى لا تتأثرين بوجوده من حولك ، وتخدعين المغفل الذي تزوجك وهو يعشق تراب قدميك.
هزت رأسها بنفي ليقبض على رسغها ويهزها بعنف : أتذكرين تلك الليلة التي تحججت بموعد دورتك الشهرية فدللتك أنا واعتنيت بك ؟! تلك الليلة التي كنت برفقته صباحًا ، لقد أوصلك حينما وجدك بالشارع ، رافقته بسيارته وأتى بك إلى هنا ،
اتسعت عيناها بفزع ليبتسم بألم نبض بعروقه فأجاب دون أن تسأل : هو من أخبرني أنه أوصلك إلى البيت وهو ينصحني بمرح أن أبتاع لكِ سيارة وأعلمك القيادة !!
ارتجف فكيه بقهر ألم بروحه : حينما أخبرني لم أهتم ولكني تساءلت لماذا لم تخبريني ؟! لماذا أخفيت عني ؟! لماذا انطويت على نفسك من جديد ؟!
دفعها بقوة فسقطت أرضًا وارتطم مرفقها بالأريكة القريبة لتتأوه بضعف وهو يكمل : لم أدرك إلا حينما رأيت الأوراق وعلمت أنك لم تتخلصي أبدًا منه ، لم تستطيعي مواجهة وجوده ، وحينما أقترب منك ، قارنت بيننا فخسرت أنا ،فعدت إلى شرنقتك وابتعدت عني ،
تمتم بصوت مخنوق : أنتِ كاذبة يا مديحة ، أنا لم أكن شيء لك، ولن أكون أبدًا .
نهضت واقفة وهي تتعثر بخطواتها تقترب منه تتلمس وجوده وتهمس : لا تقل هذا يا محمود ، فأنا أحبك ، أنت زوجي .. حبيبي .. وأنا  لا أستطيع العيش دونك .
رفع رأسه بجمود : أنت كاذبة يا أمنيتي ، وأنا سأمت كذبك .
هم بالمغادرة لتتمسك به : لا تغادر يا محمود ، أرجوك ، لقد مت خوفًا تلك الايام التي بقيتها وحيدة.
أشاح برأسه بعيدًا : عودي إلى بيت والدك ، لم أطلب منك البقاء.
لمعت عيناها بوميض حاد : أبدًا لن أفعل ، سأظل هنا ببيتي .. معك .. بجوارك ، وأنت لن تغادر .. لن تنفصل عني ، بل ستردني إلى عصمتك .
ابتسم بسخرية : لا والله ، هل ستجبرينني ؟!
نظرت إلى عمق عينيه لتلمس بأصابعها موضع قلبه : بل سيجبرك قلبك ، ونعم سأجبرك بحق عشقك لي وحبي لك ، ستفعل يا محمود .
زفر بقوة : أنتِ واهمة يا ابنة العم .
رفعت حاجبيها والمكر يتألق بعينيها : حقًا ؟! حسنًا سنرى ،
ضيق عينيه وهو يراقب خطواتها وهي تذهب إلى باب الشقة فتغلقه بمفتاحها قبل أن تحمل مفتاحه الذي تركه بعلاقه مخصصه على الحائط بجوار الباب – كعادته-  لتشد جسدها بمؤازرة دفعتها بقوة إلى أوردتها : لن تغادر البيت يا محمود ، ولا أنا سأفعل ، فهذا بيتي ، وأنا لن أغادره ، بل سأدخل أنام هانئة في فراشنا الوثير .
رفع حاجبيه بذهول وهو يراقب خطواتها المنصرفة إلى الداخل لتتوقف وهي تستدير إليه وتهمس بمكر تلونت بها ملامحها : تستطيع أن تنضم إلي وقتما أردت يا ابن العم ، وستجدني أكثر من مرحبة .
أشاح برأسه بعيدًا إلى أن اختفت من أمامه ليجاهد أن لا يبتسم ولكن تلك البسمة التي تسللت إلى ثغره رغمًا عنه أعلنت بوضوح أنه سيظل مملوكًا لها .
استلقى فوق الأريكة بعد أن خلع سترته الثقيلة واتبعها بسترة بدلته ورباطة عنقه فيخلع حذاءه وهو ينظر إلى هاتفه الذي ومض باسم أخرى يريد الخلاص منها ، فيغلقه وهو يستعد إلى نوم تسلل إليه بغفلة منه ، مزينًا بعبق أريجها المنتشر من حوله ليسقط فيه مرحبًا !!
***
حيرت قلبي معاك .. وانا بادري وخبي
قولي اعمل ايه وياك.. ولا اعل ايه ويا قلبي
دندنت بالأغنية التي تحفظها عن ظهر قلب والمسيطرة عليها منذ استيقاظها صباحًا ، وكأن عقلها يعطي إليها إشارة صريحة عن موعد عودته من رحلته التي تأخر بها ، ولكنه أخبرها البارحة بأنه سيعود اليوم ، نعم هي ادعت عدم الاهتمام ولم تجبه كعادتها مؤخرًا ولكن لعقلها .. قلبها .. روحها .. وجنينها رأيًا آخر !!
وكأن طفلها شعر بقدوم والده اليوم فتهلل فرحًا ورفرف بجناحيه داخلها ليوصل رسالته إليها بأن نصفه ينتمى إلى أبيه ، زوجها الذي تريد الانفصال عنه ، فيأتي طفلها ويؤكد لها أنه سيظل يجمعهما سويًا حتى وإن كان رغمًا عن إرادتها !!
فلا تهم إرادتها .. ولا يهم قرارها أمام طفل سيولد بين أبوين منفصلين .
ابتسمت بسخرية وهي تعلم جيدًا أن قرارها ما هو إلا محض هراء وسذاجة فهي لن تترك ماهر ولا تقوى على فراقه ، فحتى أحزانها .. آلامها .. قهر روحها .. وضيم نفسها ، كل شيء بها ينتمي إليه وعندما تختنق تريده بجوارها ليهبها أنفاسها  ، وعندما تحزن تريده جانبها لتبكي فوق كتفه ، وعندما تسعد تريده معها لتقاسمه ضحكاتها ، وعندما تعشق تتخيله حولها يمنحها عشقه الفريد الذي يمتلكها ، تنهدت وشدت بشجن
يا قاسي بص في عنيا..  وشوف ايه انكتب فيها
دي نظرة شوق وحنية .. ودي دمعة بداريها
وده خيال بين الاجفان .. فضل معايا الليل كله
سهرني بين فكر واشجان .. وفاتلي جوه العين ضله
وبين شوقي وحرماني   وحيرتي ويا كتماني
بدي اشكيلك من نار حبي .. بدي احكيلك على اللي في قلبي
واقولك ع اللي سهرني .. واقولك ع اللي بكاني
واصور لك ضنا روحي .. وعزة نفسي منعاني
تسمر دون حركة وهو يستمع إلى غنائها الشجي ، يحاوطه فيمزق نياط قلبه بنبرتها البحة ، تلامس بطنها المكورة بحنو وتمتم بكلمات تصدح من عمق روحها ، تشكو صراعها الداخلي ومعاناتها في رفضها الاقتراب منه واحتياجها إليه ، تنهد بقوة ونظراته تفيض رقة وحنانًا ، يريد الذهاب إليها ويضمها إلى صدره يخفف عنها حزنها ، وخائفًا من أن يقربها فيوجعها من جديد ، محتار هو والحيرة تشعل جنبات فكره ، لا يعلم كيف يستعديها ولكنه يحاول بكل جهده ، وأخر ما تطرق إليه ذهنه أنه سيعيدها إلى بيتهما فالفصل الدراسي الثاني قارب على البدء وهي ستحبذ أن تستعيد عملها الذي تركته ، وهو سيحاول معها بكل طاقته أن يقنعها بالعودة معه .
وقف بصبر إلى أن أنهت غنائها  وانشغلت باحتساء كوب الشاي الذي تكتنفه بكفيها قبل أن يقترب منها ، لينحني عليها يحتضنها بساعديه ويقبل رأسها بشوق : اشتقت إليكِ يا منون .
انتفض جسدها بهشاشة أثارت لهفته إليها ، ليقبل وجنتها ويتمتم بصوت أبح : كيف حالك يا حبيبتي ؟!
أغمضت عيناه بقوة مانعة نفسها من البكاء أو الحنين ، لتشد جسدها بصلابة وترته ، لتتمتم وهي تزيح ذراعيه عنها : أنا بخير والحمد لله .
تحرك ليبتعد عنها ووقف أمامها يطل عليها من عِلياء ليتأملها مليًا قبل ان يهتف بجدية : حسنًا استعدي لنغادر باكرًا ، فموعدك مع الطبيبة غدًا .
مطت شفتيها في رفض صريح : لن أذهب معك ، لقد ذهبت إلى الطبيبة هنا و طمأنتني والحمد لله .
رفع رأسه بكبر احتاج إليه : لن أناقشك ، سنذهب في الغد فمصلحة طفلي لن أدعها للعند والكبر وتشبثك برأيك دون داع ، فاستعدي يا ابنة العم من فضلك .
تحرك بخطوات بطيئة للداخل فسألته باستنكار : إلى أين ؟!
رفع حاجبيه بدهشة ليجيب ببرود : سأبدل ملابسي وأرتاح قليلًا، ابتسم بسخرية – سلمك الله أنتِ أيضًا .
عضت شفتها في خجل وهي تتذكر أنها لم تتحمد له سلامته ، لتغلبها رقتها وتنهض من خلفه لتهمس بجدية : انتظر .
افتعل عدم الاهتمام لتنادي عليه مرة أخرى وهي تسرع بخطواتها ليتوقف في أول الدرج ببيت عائلتها والمؤدي إلى الدور العلوي الذي يقع به غرفتها لينظر إليها وهي تلهث برقة ، خديها موردين وشفتيها منفرجتين بأنفاسها الساخنة لتهتف بعصبية : لا أستطيع أن أركض خلفك يا ماهر ، فأنا أقل مجهود يتعبني .
ابتسم بمكر لينزل الدرجتين الفاصلتين بينهما ليتوقف امامها مباشرة : ألف لا بأس عليك يا حبيبتي .
احتقن وجهها خجلًا ليكتم ضحكته بصعوبة قبل أن تتلعثم سائلة : ألن تتناول طعامك ؟!
رمقها قليلًا قبل أن ينحني ويحملها بين ذراعيه ، فتحاول التملص ليهمس بجانب أذنها : توقفي عن الحركة حتى لا تؤذي الطفل ، سأحملك للأعلى حتى لا تتعبين من الصعود .
نطقت بحنق جعلها أكثر هشاشة ورقة : لا أريد الصعود من الأساس .
أدار عينيه على تفاصيلها ليتمتم : أنا أريدك أن تساعديني في تبديل ملابسي ثم أحملك نزولا لتعدين إلي الطعام لأعود وأحملك صعودًا لننال قسطت من النوم قبل أن نذهب إلى زيارة والدي .
اقترب من باب غرفتها ودفعه بلطف بقدمه ليدلف بها إلى الداخل : وكلما تواجدت سأحملك صعودًا ونزولًا في كل مرة اردت استعمال الدرج يا ابنة عمي .
وضعها برقة في منتصف فراشها : لا أريدك أن تتعبي يا منون أبدًا وأنا بجوارك .
ترقرق الدمع بعينيها وروحها تفيض بمواجعها لتتمتم  : أنت سبب تعبي وألمي يا ماهر .
تنهد بوهن وهو يجلس بجوارها يجبرها أن تستكين بين ضلوعه : فقط افضي لي بم يؤلمك وأنا سأداوي جرحك ولكن لا تبعديني عنك ثانيةً ، اكتنف كفيها بين راحتيه ليقبلهما بكثره وهو ينظر إلى عمق عينيها – فأنا أموت دونك يا حبيبتي .
تمتمت بصوت غلبه البكاء : لا أستطيع البوح .
ليضمها إلى صدره أكثر : حسنًا سأنتظر وأصبر إلى أن تستطيعي ولكن فقط ظلي بجوار قلبي ، أستمع إلى هدير خافقك وتنامي بجانبي ، أشعر بأنفاسك على رقبتي وأتلمس رقتك ، لا تبتعدي أرجوك يا منة .
هزت رأسها بحركة لم يفهم ماهيتها ليقبل رأسها باعتذار صادق : أنا آسف يا منة ، آسف وحينما تستطيعين البوح وتقدرين على الاستماع والانصات لي بقلبك قبل أذنيك سأبوح أنا الآخر بكل ما يعتمل بداخلي ،
__ستنتظر كثيرًا .
عاود تقبيل رأسها مرة أخرى : لا يهم ما يهم أن اظل بجانبك . 
***
ياما ليالي  .. انا وخيالي
افضل اصبر نفسي بكلمة يوم قلتهالي
وابات افكر في اللي جرالك واللي جرالي
واقول مشافش الحيرة عليا لما بسلم
ولا شافش يوم الشوق في عنيا راح يتكلم
تنهد بقوة وهو يستمع إلى أم كلثوم وهي تشدو بحيرته وأسألته التي تضني قلبه ، فتلك البعيدة القاسية غادرت ولم تنظر إلى الوراء مرة أخرى ، لقد أجفلها كما كان يتوقع ولكنه لم يستطع صبرًا ، ولم يقو كتمانًا ، لقد فاض قلبه وأجبره عقله على بوح أخطأ في توقيته ولكنه لم يخطأ في قوله ، هو يحبها .. بل غارق في عشقه لها ، وهي لا تنفك أن تداهم ذكرياته .. أحلامه .. حاضره .. وخياله ، هي تسيطر على كل خلجاته ودواخله فتتراءى إليه في كل شيء ولا يستطيع أن يمنعها عن ذاكرته ، يطمئن عليها وقلبه المتلهف لها لا ينفك أن يسأله عنها ، ليقرر أخيرًا أنه سيذهب إليها ، سيجبرها على العودة ويرغمها على قبول عرضه حتى لو بالقوة !!
__ يا عيني ، أنت تسمع أم كلثوم وتركتني أعد الطعام بمفردي .
انتبه على هتاف أخيه المرح والآخر يدلف إلى غرفته ، فرفع رأسه من فوق لوحة التصميم ليترك القلم من بين يديه ويحرك ظهره بطريقة تنم عن تعب جلسته الغير مريحة ليهمس بصرامة مفتعلة : لقد اتفقنا أن إعداد الطعام اليوم من نصيبك ، ثم تريدني أعد الطعام وأنت موجود ، أنا اخاك الكبير يا ولد .
ضحك حاتم باستمتاع : يا سلام ، هذا أدعى أن تعد أنت الطعام ، خوفًا أن يصيبني مكروه فأنا الصغير هنا .
رفع يحيى حاجبيه بتعجب وقلده بطريقة ساخرة : الصغير هنا ، لا أرى أمامي أي صغير فأنت تكاد تفوقني طولًا وعرضًا يا فتى .
__ هذا لا يمنع أني الصغير .
تحرك يحيى واقفًا : حسنا أيها الصغير ، تعال لأساعدك .
ابتسم حاتم وهز رأسه نافيًا : لا لقد انتهيت بالفعل ، كنت أمزح معك فقط لا أكثر .
دفعه يحيى بلطف ليتحرك أمامه : حسنًا تعال لنأكل ، فأنا أتضور جوعًا ،  ولا تخبر نبيلة غدًا أننا تناولنا الطعام متأخرًا ، فأنت أصبحت تعلم جيدًا من هي نبيلة .
ضحك حاتم بقوة : نعم يا أخي ، دادة نبيلة تتحول إلى جنرال عسكري حينما تهمل أنت طعامك .
ابتسم يحيى بألم : وأنا اكتفيت من الجنرالات في حياتي.
أخفض حاتم رأسه قبل أن يشير إليه يحيى بالجلوس أمامه على  المائدة الصغيرة في تلك الشقة المجاورة لمكتبه الهندسي والتي أجرها خصيصًا لأجل حاتم ، فهو رفض أن يحيا معه في مكتبه الهندسي ، بل أثث بيتًا خاصًا به وبأخيه ، يرفض على الاطلاق أن يشاركه حاتم أي مسئولية تقع على عاتقه بل لقد تحمل مسئوليته كاملًا وحينما يعترض أخيه يزجره بعنف وهو يذكره بأنه الأكبر فيما بينهما .
نظر إلى طبق البيض المحترق أمامه والخبز البارد ، ليرفع حاجبيه وهو يدير عينيه على الجبن والزيتون الموضوع بجانب قطع من الخيار والطماطم ، ليزم شفتيه بقوة ويهتف بجدية : ما نوع البيتزا المفضلة لك ؟!
قهقه حاتم ضاحكًا  قبل أن يهتف بأسى : لا أحب البيتزا .
نظر إليه يحيى باهتمام : حقًا ؟!
هز رأسه بالإيجاب ليبتسم يحيى بسعادة غمرت حدقتيه : ولا أنا.
نظر إليه حاتم بذهول قبل أن يغمغم يحيى : أبانا أيضًا لا يحبها ، أعتقد أنها عادة غذائية وراثية .
ابتسم حاتم بألم ليغمغم بعد قليل : لقد ورثت صفاته ، دون أن أحيا معه .
__ حتى إن عشت معه لم تكن لتلتقط منه شيء ، فهو كان غائبًا حاضرًا ، فالسيد كامل كان أبًا صوريًا ، لقد تنحى عن كل شيء حتى يصبح كامل باشا الألفي ، فلا تندم على حياة كان غير متواجد بها ، فمن وجهة نظري وجوده يماثل عدم وجوده ، الاثنين متماثلين ، يخلفان مرارة في الحلق تدوم إلى الأبد ، الفارق في طعهما ، أنت سقيت خذلان هروبه من وجودك وأنا تجرعت خذلان في كل مرة كنت ألجأ إليه هربًا من جنون أمي فيتركني إليها دون مساعدة أو تدخل !!
ساد الصمت بينهما قليلًا قبل أن يهمس حاتم بصدق : أنا آسف يا يحيى ، أعلم أنه اعتذار متأخر ولكن ..
صمت فهمس يحيى بابتسامة حانية : علام تعتذر يا ولد ؟! 
__ على كل شيء ، على كل تصرف بدر مني ، وكل كلمة جارحة كنت أرميك بها ، وكل نظرة ناقمة كنت أتطلع بها نحوك ، على كل مرة أسأت إليك بقصد أو دون قصد ، واعتذر بقوة على هذا الموقف الذي وضعتك به أمام أهل زوجتي .
سحب يحيى نفسًا عميقًا : لم أغضب منك طوال عمرك يا حاتم ، كنت كل مرة أجد لك عذرًا وحتى هذا الموقف لم أغضب منك بل غضبت عليك ، لأنك تسببت في شيء لم أكن أرضاه لك أبدًا ، لقد فعلت كل شيء حتى لا يؤذيك أحدهم ولكن تسرعك في الأول واستماعك إلى نصيحة أبي في الأخير ، جعلوني لا أستطيع دفع أذاهم عنك ، بل لقد وجدتني أبرر لهم تصرفهم وغضبت لأني لم أسبق بلال في ضربك على رأسك لأعيد لك عقلك من جديد .
زفر حاتم بقوة فتابع يحيى وهو يبدأ بتناول البيض بالشوك والسكين برقي : ألن تخبرني عم حدث بينك وبين سارة ؟!
رمش حاتم ليشيح برأسه بعيدًا ويسأل :هل ستطردني من حياتك إذا أخبرتك ؟!
نظر إليه يحيى مطولًا وهو يتوقف عن الأكل فتابع حاتم : لم أقص عليك من ليلتها خوفًا أن ترفض وجودي أنت الآخر .
ابتسم يحيى بألم وهو يتذكر تلك الليلة التي أتى فيها إليه يصرخ ويبكي كالأطفال ، لقد ضمه إليه محاولا احتواء حالته النفسية العصيبة ، ليتوقف عن الصراخ والبكاء ويهمد جسده فجأة ، حينها ارتعب وحاول افاقته بعد أن أدرك أنه فقد وعيه ، وكأن عقله لم يحتمل فقدان حبيبته وزوجته ،هاتف الاسعاف لينقله إلى المشفى فقاموا بإنعاشه في الطوارئ وأبلغه الطبيب بأنه بخير ولكنه تعرض إلى ضغط عصبي شديد ادى إلى هبوط ضغط دمه الذي أدى الى فقدانه وعيه ، فيظل بجانبه إلى أن استفاق وعاد به إلى هنا بعد أن استأجر البيت وأثثه من أجله ، ومن حينها وهما يعيشان سويًا يتعارفان من جديد كأخوين حقيقين .
__ بشرط ، انتبه حاتم إليه فأكمل يحيى بجدية – إذا رافقتني بسفرتي لن أطردك من حياتي مهما حدث .
تأمله حاتم قليلًا قبل أن يسأله بثبات : هل ستذهب إلى تلك الفتاة التي تناجيها ليلًا ؟!
احتقنت أذني يحيى ليساله وهو لا ينظر إليه : حقًا ؟! هل أنا أفعل هذا ؟!
ابتسم حاتم وهز رأسه إيجابًا ليتنهد يحيى بقوة ويهز رأسه : نعم سأذهب لأطلب يدها .
تهللت ملامح حاتم بفرحة حقيقية : وأنا سأرافقك .
ابتسم يحيى بسعادة غمرته : حسنًا هيا قص لي وأنا أعدك بأني سأدعمك أمام سارة وماهي .
اعتلى الحزن ملامحه ليتمتم بصوت مخنوق : قضيتي مع سارة خاسرة .
ربت يحيى على كفه : لا تبتأس يا ولد ، وثق في قليلًا .
تمسك حاتم بكف أخيه ونطق بامتنان تألق بحدقتيه : أنا أثق بك يا أخي .
تنهد يحيى بقوة : حسنًا سنذهب سويًا بإذن الله .
أومأ حاتم برأسه إيجابًا لينهض يحيى ويقول بجدية : ارتدي ملابسك وهيا أنا سأدعوك الى العشاء خارجًا فأنا لم أستطع تناول ما أعددته أنت ، ومن الغد سأدع نبيلة تهتم بنا سويًا ، فنحن فاشلان في الاعتناء بأمور المنزل .
تحرك ليهمس بقنوط : لا نستطيع التغلب على الدلال والترف اللذان نشأنا عليهما .
ضحك حاتم بخفة لينهض واقفًا ويستعد كما أمره أخيه وهو ينحيها من رأسه يجاهد أن يبدو صلبًا قويًا أمام نفسه ، حتى لا يضعف ويذهب إليها ، فهو لا يستطيع مجابهة ردة فعلها ، ضعيف هو أمامها ، بل أضعف من أن ينظر إليها فيجد صورته تشوهت ، أو اختفت ، فيصبر نفسه بأن البعد سيجعلها تشتاق فتغفر له فعلته ، دونما يواجه نيران غضبها ، أو قسوة كراهيتها ، وقلبه يكرر عليه بأنها ستسامح وستغفر فهي تحبه ، بل تعشقه وستمحي غلطته وتندثر فقط لو أعطاها بعض من الوقت ، زفر بقوة وهو يشعر بقلبه يختض داخل صدره لهفتًا .. شوقًا .. واشتياقًا ، فيربت على صدره مهدئًا ليتنهد بقوة قبل أن يستجيب لصوت أخيه الذي يناديه بمرح افتقده طوال عمره !!
***
همست وهي تجاوره يخرجان من غرفة ابنتها : ما بالك يا أغلى الناس ، أشعر بك ضائق مهموم ؟!
ابتسم بوهن : أنا بخير .
تأملته لتدفعه بلطف وتدخله إلى غرفه أخرى : حسنًا اجلس قليلا حينما أعد قهوتك ، أم أجعله عشاء ؟!
هز رأسه نافيًا : لا أريد شيئًا ، سأنصرف ،لقد أتيت فقط لأطمئن على سماح  فهنا أفضل من أن تصحبيها معك إلى مكان عملك .
__أبدًا ، لا يمكن فقط استرح ، سأرفه عنك قليلًا .
نظر إليها بعتب فاستدركت : حسنًا لن أرفه عنك أريد أن أحتفل معك فأنت بشرتني اليوم ومن حقي أن نحتفل سويًا ، يكفي أنك تأتي لي هنا أو هناك ولا تتأخر عن سماح قط .
ابتسم بخفة : اتركيني أغادر .
هزت كتفيها بدلال: لا ، سأرقص لك الليلة واعتبره هديه ردًا على بشارتك  .
ابتسم بعدم تصديق لتردف : فقط جارني واجلس .
أومأ برأسه وهو يجلس بتعب يتخلل اليه ، فقالت : هيا اختار إحدى الأغاني لأرقص لك عليها .
نظر إليها بعدم تصديق فهمست :لا تكسر بخاطري يا أغلى الناس، واختار واحدة .
زفر بقوة ليتمتم : هل لديك أغاني لأم كلثوم ؟!
__ بالطبع ، هتفت بسعادة فهمس بصوت أبح – إذًا لتكن حيرت قلبي .
رقصت حاجبيها بغنج وهمست : حقًا ، مزاج باشوات .
تحركت بدلال تجاه مشغل الاسطوانات لتدير إليه طلبه وهي تسحب وشاح كتفيها لتحيط به خصرها ، وتبدأ في الرقص بطريقة احترافية تتمتع بها ، ليسقط هو فريسة كلمات الأغنية التي تحاكي ما يعتمل بداخله وسيدة الشرق تصدح بصوتها القوي
بدي اشكيلك من نار حبي، بدي احكيلك ع اللي ف قلبي
واقولك ع اللي سهرني واقولك ع اللي بكاني
واصورلك ضنى روحي وعزة نفسي مانعاني
غرق في الأسى الذي يكتنف قلبه وهو يتذكر اليوم وحيرته التي تملكت منه بعد هذا الوعد الذي أُجبرَ عليه ، وعد بالصمت والسكوت ، وعد لا يستطيع أن ينطق بشأنه ولا يستطيع الحديث عنه ، عندما وصل لذروة ضيقه بحث عنها كعادته ، أراد أن يذهب إليها ويفضي بمكنونات صدره في حضنها كعادته ، فصفعه عقله وهو يخبره بأنها تركته .. تخلت عنه .. وتنازلت عن حياتهما لأجل حلم دافعت عنه بضراوة ففقدته في غمرة انفعالها.
يحبها ويئن قلبه شوقًا لها ولكن كرامته أهم من قلبه بل أهم من حياته وبيته الذي سيُهدم إذا تمسكت هي بعنادها وبعدها عنه ، أغمض عينيه وهو يتنهد بقوة ، كم يحتاج وجودها إلى جوراه .. يريد أن يبوح بألآمه في حضنها .. يتلمس القوة من قربها .. ويستجمع زمام أمره برأيها الذي طالما سألها عنه .
__ولكن أين هي ؟! تمتم داخليًا ليقبض كفيه بقوة وهو يردد الى قلبه بأنها اختارت البعد عن قربهما .
انتفض بقوة حينما لامست طرف ركبته بأناملها : هل رقصي ممل لتلك الدرجة يا أغلى الناس ؟!
ابتسم بألم : المعذرة لم أقصد ولكن ..
جلست على ركبتيها أمامه : أعلم ، هناك ما يكر خاطرك ، فأنا أشعر بك مهموم ، ألن تخبرني ؟!
زفر بقوة : لا ، تنهدت بخيبة أمل - ألا أستطيع مساعدتك ؟!
هم بالرفض ليتراجع ويهمس : بل تستطيعين ، استمعي إلي جيدًا ونفذي ما سأقوله بالحرف .
اومأت بتفهم ليسرد على مسامعها ما يريد بالتفصيل !!
***
خاصمتك بيني وبين روحي
وصالحتك .. وخاصمتك تاني
ابتسمت برقة وهي تنظر إلى حماتها الجالسة أمام التلفاز تستمع إلى سيدة الشرق في رائعتها المميزة " حيرت قلبي " ، يبدو عليها الاستمتاع وهي تهز رأسها بحنين والشجن يتلألأ بعينيها ، نظراتها تسافر إلى ماض بعيد ، يعيد اليها ذكريات تبدو أنها مظلمة حطت رحالها فوق ملامحها فاحتلتها بحزن اعتلى هامتها، تقدمت بهدوء تريد أن تعيدها إلى حاضرها بعيدا عن تلك الأوجاع التي رُسمت على ملامح وجهها !!
جلست إلى جوارها والأغنية تسلل إلى مسامعها وكوكب الشرق تردد من جديد
خاصمتك بيني وبين روحي .. وصالحتك .. وخاصمتك تاني
واقول ابعد يصعب على روحي .. تطاوعني ليزيد حرماني
فتشرد فيها وهي تصف حالها مع ابن خالها .. حب حياتها .. صديق طفولتها .. ورفيق عمرها .. "زوجها " ، تصف تارجح علاقتهما بين حب وكره .. قرب وفراق .. هجر ولهفة .. حرمان واشتياق .. بين بعد أراداه وفشلا فيه .. وبين قرب يكادان يصلان له ويفشلان أيضًا .
" ما الحل ؟! " تساءلت لتحتار وتفشل في الاختيار بين رغبة في الانتقام وحلم بالوصال !!
انتبهت من أفكارها على صوت حماتها تهمس باسمها فتبتسم برقة وتنظر إليها باهتمام فتسرد ماجدة ببوح : أنا أعشق تلك الأغنية  ، فلها ذكرى خاصة بقلبي ، فهي كانت ملاذي حينما كان يغضبني سليم .
تساءلت بفضول : وهل كان خالو سليم يغضبك ؟!
__ كثيرًا ،همستها بحزن لتتسع عينا سوزان بذهول مزج بفضولها لتمتم بعفوية – ولكني كبرت على قصة عشقه لك ، لطالما أخبرتني أمي بأنه وقف أمام الجميع لأجلك ، سافر بعيدًا من أجلك ، ترك والدته وعائلته لأجلك .
نظرت إليها ماجدة مليًا لتهمس بهدوء : لقد دفعت ثمن كل هذا وفوائده أيضًا .
شحب وجه سوزان : كيف ؟!
سحبت ماجدة نفسًا عميقًا : لا أنكر أنه عشقني عشق لا مثيل له ، ولكنه عشقه كان مريضًا .. متملكًا.. حانقًا .. ولن أنكر أنني أحببته أيضًا ولكني لم أعي في بداية الأمر بيننا أن تملكه ليست غيرة عادية ، بل أنها تصل إلى ضرب من الجنون !!
سطع الاستفهام بحدقتي سوزان لتجيب حماتها دون أن تسألها زوجة ابنها : لم ينس أبدًا أنني كنت زوجة لأخر من قبله ، حرمني من ابنتي لأجل هذا وذاقني الحسرة عمري بأكمله لأني ثرثرت له ذات مرة حينما سألني عن كيف كان زوجي السابق ، فأخبرته حسن نية أنه كان حنونًا .. مراعيًا .. عطوفًا .. محبًا ،
تغضنت ملامحها بألم : كنت أقص له وأنا غافلة عن تلك النيران التي اندلعت بعينيه ، وأنه لن ينس كلماتي قط ، فكان يشتعل بجنون حينما أضم ليلى إلى صدري ، أو أقبل رأسها واستنشق رائحتها كأي أم تحنو على ابنتها ، كان يتوهم أنني أتلمس رائحة الغائب فيها ، فهو لم يثق أبدًا أنني أحببته أو مخيلتي مخلصة له ، حتى بعدما تركت ليلى إلى عمها وسافرت معه – خوفًا عليها منه – فتخليت عنها لأجله ولأجل بلال الذي كان جنينا برحمي .
ثقلت أنفاسها وكأن تلك الذكرى المقيتة تخنقها من جديد بسواد لونها و عظيم أثرها : حيما اشتقت إلى ابنتي بفطرة أمومتي وسألت عنها ، ثار وهدم العالم فوق رأسي ، لأفيق بعد ثلاث ليال كاملة لأجد أنني في المشفى وهو يجثو إلى جواري يبكي كطفل صغير يكتنف كفي بين يديه ويقبلها بحسرة وهو ينهال باعتذارات كثيرة لم أعي نصفها ، ولكني أدركت يومها كم هو مريض بي !!
كتمت سوزان شهقتها بقوة والهلع يرتسم على ملامحها لتتابع ماجدة بصوت ميت حينما سطع سؤال سوزان بحدقتيها : لا تتعجبي استمرار حياتي معه ، فأنا حينما هددته بالانفصال كاد أن يقتلني ، وكل مرة حاولت أن أخذ رد فعل على جنونه ، كان يزداد جنونًا وجموحًا ، فتوقفت عن كل شيء ، عشت معه جسد بلا روح ، إلا قلبي الذي امتلكه بالكامل فلم أستطع السيطرة على حبه الذي تغلغل بداخلي فملك أنفاسي !!
لمعت عيناها بدموع حبيسة : نعم كسر نفسي .. أهان كرامتي .. أمرضني .. وسلب حريتي ، ولكن قلبي ظل مملوكًا له ، فلم أستطع أن أكرهه أو أتخلص من حبه !!
تنهدت بتعب : ظللت أسيرة في مملكة عشقه .. عبده في بلاط غرامه المجنون ، فكان يمحي كل مساوئه ببسمة حانية وضمه مترفقة وقبلة رقيقة وهمسة تصف مدى عشقه لي ، إلى الآن أتذكر لحظات حبه لي فيخفق قلبي بهدير حبي له ، وإلى الآن تداعبني ذكرياتي السعيدة معه فيعلن فقلبي ولاءه التام لسلطانه عليه !! 
__ يا الله ، تمتمت سوزان بعدم تصديق وهي تقبض كفيها على قماش مقعد كرسيها وعيناها متسعة بذهول مزج باستنكارها ، فتزفر ماجدة بقوة وتقول بعد قليل : لم أقص لك لأشوه صورة خالك أمامك ، ولكني أحببت أن أفضفض معك وأنبهك لشيء من المحتمل أنه غائب عن ذهنك .
رفت بعينيها وهي تنظر إلى حماتها بترقب فأكملت ماجدة وهي تعتقلها بنظراتها : بلال يشبه أبيه في تملكه اللامحدود ولكنه يختلف عن سليم جذريًا في شخصيته ، ولكن هذا لا يمنعه أن يلجأ إلى جينات سليم إذا حشر في الزاوية ، بأخر الأمر الولد سر أبيه .
جحظت عينا سوزان بخوف تملكها لتتبع ماجدة : لكنه طيب القلب .. حنون .. مراعي .. وشهم ، ورث حنو وطيبة قلبي ولكنه لا يستطيع الغفران بسهولة كأبيه  ، لكنه سيغفر إذا أجبرته على الغفران .
عبست سوان بعدم فهم فأكملت حماتها : لست عمياء عن ما يدور بينكما ، ولست غافلة عم فعله بلال بك ، ولست ساذجة حتى لا أفهم أنك تنتقمين  منه على اسأته إليك ، ولست غاضبة منك ، بل سأخبرك أن تأخذين حقك منه كاملا ، ولكن بتروي وحكمة لا تفقديه في منتصف طريقكما ، ولكن قرري أولًا هل تريدين الاستمرار معه أم ستتركينه وتمض بطريقك ، ودعي في اعتبارك أنه لن يتركك أبدًا مهما فعلت به ، فأنت روحه المجسدة دونك لن يستطيع الحياة فهو جرب من قبل وفشل ، ليدرك بأنك دوائه لتخلصيه من شبح أبيه ، فقط ترفقي به واعلمي متى تمنحيه ترياقك ومتى تمنعينه عن مخدرك ليفيق من وهم امتلاكه لك .
اهتزت حدقتي سوزان بتوتر وهي تشعر بارتباك جلي يكتنفها لتربت ماجدة على ركبتها بحنو : تذكري دومًا بأنني معك ، نعم هو ولدي الوحيد ولكني أريد الأفضل لصالحكما سويًا .
لهثت سوزان وهي تفرج عن أنفاسها التي حُبست بداخلها منذ بداية حديث حماتها ، لتبلل شفتيها وتهم بالحديث فتقاطعها ماجدة بإشارة من يدها وهي تهمهم لها : زوجك وصل .
نظرت إليها سوزان بذهول ليعتلي ملامحها التعجب وهي تتأمل ابتسامة حماتها التي اتسعت مهلهلة ترحيبًا حينما طل ابنها من باب الغرفة ليتف بمرح : أنها ليلة سعيدة تلك التي تجتمعان بها ؟!
اتجه إلى والدته يقبل يدها ورأسها قبل أن يهتف وهو يرمق زوجته : ماذا كنتما تفعلان ؟!
__ كنا نتفق عليك ، أجابته ماجدة بمكر تألق بعينيها فضحك هو بمرح – أنه لأجمل إتفاق هذا الذي يدور بينكما يا أمي .
انحنى ليقبل وجنتيها ويضمها إلى صدره لينظر إليها بتساؤل عن بهوت ملامها فتحاول أن تبتسم لتتوتر ملامحها أكثر وهي تنبهه بعينيها إلى وجود والدته التي نهضت : جيد أنك أتيت حتى لا اترك سوزان بمفردها فأنا ذاهبة لأنام .
__ اجلسي معنا قليلًا ، هتف بها لتضحك بمرح – نصاب كبير يا ابن سليم ، أنت تريدني أن أختفى الآن حتى تستطيع الجلوس على راحتك مع زوجتك
تمتمت سوزان سريعًا : لا طبعًا .
ابتسمت ماجدة بمكر : أنتِ سارعت بالنفي أما هو لا .
كح بحرج وهو يعبث بخصلاته ويتمتم : أمي .
ضحكت ماجدة برقة لتقبل وجنته وتربت على كتفه : أسعدكما الله يا بني ، هيا تصبحان على خير .
__ وأنتِ من أهل الخير ، رافقها إلى أن دلفت إلى غرفتها واطمئن عليها ليعود إليها وهو يبتسم بحنو ، يجلس إلى جوارها ويضمها إلى صدره بلهفة : اشتقت إليكِ يا حبيبتي .
ابتسمت برقة وهي تحاول أن تتلمس أمان تحتاج إليه فيقبل رأسها وهو يتلاعب بخصلاتها فتساله : هل هاتفت إيني ؟!
__ نعم ، واطمأننت أنها بغرفتها في الفندق .
ربتت على صدره بدعم : لا تقلق إيناس فتاة لا مثيل لها .
أومأ برأسه : أعلم .
نظر اليها قليلا : ما الذي يوترك ؟!
هزت رأسها بلا شيء فهمس وهو يعتدل جالسًا : أشعر بك مختلفة عن الصباح .
ابتسمت بهدوء حاولت أن تبثه إلى أعماقها لتهمس بصوت أجش : أنا بخير لا تقلق ، فقط اشتقت إليك .
لمعت عيناه بوميض أجفلها ليهتف بجدية : حقًا ؟!
هزت كتفيها بعدم فهم فأكمل : هل نستطيع تكرار ما حدث صباحًا أم أنك خائفة مني ؟!
لانت ملامحها وكادت أن تزفر توترها بأكمله فهو فسر قلقها بطريقة خاطئة لتهتف بخبث أنثوي تعمدته : بالطبع ولكن ليس هنا .
رمش بعينيه ليقترب منها ويهمس بصوت أجش : اختاري المكان الذي تفضلين .
لامست وجنته برقة لتهمس به : فقط اسمعني ما يجيش بصدرك.
لهث بشوق تمكن منه ليهمهم : أعشقك يا سوزانتي .
نظرت اليه من بين رموشها وهي تترك العنان لشوقها إليه يجرفهما سويًا وهي تهمس : وأنا أحبك يا بيلي .
ح أفضل أحبك من غير ما أقولك ..إيه اللي حير أفكاري
لحد قلبك ما يوم يدلك .. على هواي المداري
ولما يرحمني قلبك .. ويبان لعيني هواك
وتنادي ع اللي انشغل بك.. وروحي تسمع نداك
ارضى اشكي لك من نار حبي .. وابقى احكي لك ع اللي في قلبي
وأقول لك ع اللي سهرني.. وأقول لك ع اللي بكاني
وأقول يا قلبي ليه تخبي ..وليه يا نفس منعاني
حيرت قلبي – ام كلثوم


رواية فرصة اخيرة .. الجزء الثاني من سلسلة حكايا القلوبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن