الواحد واربعون

387 23 0
                                    

هذا هو التسجيل رقم اثنين من رحلة ذكرياتي...
لقد كنت اتخيل انني شجاعة كفاية لبث التسجيل الأول ليراه الجميع لكن لم يحدث لازال التسجيل داخل ذاكرة هاتفي مليء بالدموع والكلمات والكثير والكثير من الدماء الشفافة لروحي فجروح الجسد تفضحها حمرة الدماء وجروح الروح تخفيها شفافيته ...
وهذا التسجيل المرئي مثل الأول تماما...
سأملئه بالذكريات والنحيب والدموع التي كنت اظنها قد جفت ولكنها تتجدد مع كل ذكري من تلك الفترة من حياتي...
وكما السابق تماما لا املك الشجاعة لعرضه لا علي الناس ولا علي يوسف...
لكن حتي ولو لم امتلك شجاعة عرضه علي الناس لا يهم فلن يشكل هذا فارق لدي لأنني اعد نفسي كل يوم انه سيأتي يوم واملك شجاعة عرضه علي احب الناس الي قلبيالذي لا يهمني ان يراه غيره ...
هل تعلمون هذا التسجيل من مصر...
من موطنه هو...
حيث انا الأن...
سيأتي يوم وادمج فيه التسجيل الأول الذي سجلته في بلادي مع هذا التسجيل المشبع بضوء بلاده كما دمج القدر حياتينا معا وضفر طريقا يجمعنا احد جهاته شوك حاد مليء بالدماء والجهة الأخري من المخمل ...
لقد اعطاني القدر اجمل هدية في الكون...
اهداني يوسف..
ولكن كما يقولون في بعض الأحيان لا يكون قبول الهدية خيار متاح...
خاصة اذا لم تكن تملك ما تهديه لصاحبها...
اذا كنت لا تملك سوي صندوق من الذكريات وحقيبة مهترئة من رائحة الوطن وقلب مثقل بالحزن وحلق مدموغ بمرارة الفراق والخسارة..
لم اكن املك سوي الظلام وكان هو النور في نهاية النفق ولكن...
كيف اصل الي النور وقد فقدت القدرة علي استكمال الطريق...
.
.
.
.
قبل ست سنوات..
:- نتجوز.....
ضحكت بسخرية وهي تبتعد خطوة للخلف وتقاوم لتبعد معصمها عن سجن كفه بينما تتابع بضيق...
:- انا قلتلك اني ....
قاطعها بعنف ولغته تتحول تلقائيا للغة هذا البلد الذي يقفان علي ارضه حيث ولد ونشأ حتي وان كانت الدماء التي تغذيه عربية اصيلة.....
اقترب تلك الخطوة التي ابتعدتها يتمسك اكثر بمعصمها وعينيه تثبتان عينيها كأنهما شباك داكنة تلقي بسحرها عليها تدحض مقاومتها الأبية ...
:- اعلم... انا اعلم كارما... حفظت كل كلمة اخبرتني بها _مرة بلطف واخري بعنف_اعلم ما ستقولين انك لا تملكين القدرة علي الحب وانك مدينة محترقة وانني لن اربح في قربك سوي الدمار وألف جملة اخري حفظتها ولو اردتي قلتها لك حرفا حرفا لكن كل هذا لا شيء هل تفهمين لا شيء بالنسبة الي كارما....
اقترب اكثر رافعا كفه الأخري بالقرب من وجهها وكأنه يخشي لمسها حتي تجرأت انامله علي الهبوط ملامسة حرير وجنتها لتنتفض مبتعدة وعينيها الزيتونية تتسع بصدمة لتصرفه ليكمل كلماته بخشونة حملت كل شعور اختزنه داخله لها متجاهلا ابتعادها ...
:- لا يعني لي اي شيء من هذا انا لا اريد حبك فأنا املك حبا يكفينا معا حبي لك لا يحتاج لأضافة ليكتمل انا مكتمل بحضورك حتي لو عاندتي هذا لألف مرة بعد المليون سأظل اردد هذا قولا وفعلا انا احبك. عيني تصرخ بها كل يوم وكفي يقتلها الإشتياق للمسك وصدري يحترق حنينا لرائحتك المليئة بالمقاومة انت حرب يا كارما واعلم هذا حرب ستحرقني وانا اقبل الاحتراق داخل مدينتك كارما...
لمس وجهها مرة اخري وعينيه لا تفارقان عينيها التي تسلل الدمع اليها فاضحا تأثرها الذي تخفيه عنه في كل لحظة....
"افيقي مما انت فيه يا ابنة بلادك يكفيك ما تحملينه من خراب لا تأتي بالمزيد لحياتك وحياته..."
ردد عقلها تلك الفكرة ألف مرة حتي تبتعد..
حتي تفيق من خنوعها واحتياجها الذي بدأ يطوف علي السطح...
لكن جسدها كان يقوم لكن هذه المرة كان يقاوم البعد...
وما بين عنف عقلها ومقاومة القلب الضعيف الساذح والروح تنظر اليهما بصمت كعجوز لم يعد اي خيار يسعدها او يشكل لها فارقا انتصر العقل...
نفضت كفها عنه بعنف وابتعدت عنه خطوة وعينيها تستعيدان تلك اللمعة المحاربة ولسانها يستعيد طوله..
:- اتخبلت بعقلاتك ولا شو يا يوسف... انا راحة من هون انا ما بعرف حتي شو الي بعملو هون...
اوقفها بصوت قوي رغم المرارة التي تقاطرت منه..
:- انا لن افرض عليكي حبي كارما.... انا احبك وهذا شيء مفروغ منه ولا اريد ان تبادليني او ان توافقي علي هذا الحب وتأخذي خطوة باتجها كما لن اقبل ان تقللي من حبي لك مشاعري هي ملك لي ولا دخل لك بها ... لكنك صديق لك وواجب عليك سماعي واحترامي اكثر من هذا.
تنهدت بعمق ثم التفتت اليه تعود خطوة واحدة وعينيها تنظران اجهة اخري تخفي فيها تلك الدموع التي تصر علي فضحها.
:- شو بدك مني يوسف... اذا كان ما بدك ياني اقبل فيك شو بدك.....
اقترب اليها تلك الخطوات التي ابتعدتها ثم رفع كفه بجرئة يعيد وجهها اليه يستمد قوته من لون المقاومة الذي يموج في عينيها....
:- انا لن اقول انني لا اتمني الزواج منك كما اتمني ان يأتي يوم امتلك فيه قلبك وروحك وارمم الدمار الذي احرقهما وانني لن احاول كل يوم في حياتي ان افعل ذلك بكل الطرق حتي يأتي هذا اليوم الذي تفتحين لي ابواب مدنك لأسكنها سأحاول حتي تفني روحي و لكن لن اجبرك سأحاول لكن لن ارغمك علي تقبل محاولاتي او فرض ما لا تريدين او ما يضايقك سأظل ادافع عنك واحميك قدر استطاعتي حتي مز نفسي لهذا عرضت عليك الزواج الأن ... انت تعلمين انني املك جنسية هذا البلد لقد ولدت هنا وعشت عمري بأكمله علي هذه الأرض ورغما عني وعن اي احد انا مواطن هنا وزواجك مني سيحقق لك اقامة مستقرة هنا بدون اي مشكلة مع السفارة او الترحيلات هذا بالإضافة الي انني اعيش في منزل واسع منفصل عن عائلتي هذا سيعطيك منزل بدل من البقاء في الشارع هنا او في وطنك ويمكنك العمل هنا حتي تجمعي القدر الكافي من المال و تمتلكي الخيار كارما... اما البقاء واما العودة...
ابتلعت لعابها بصعوبة وعينيها ترتجف تأثرا بكلماته يوسف يقصف كل مقاومة تبنيها بكلمة..
لماذا يكون اكثر شيء تتمناه هو ابعد شيء تستطيع الحصول عليه واقرب شيء منك....
كيف يكون هناك بشر بهذا العطاء..
العطف..
الحب...
لمذا يأتي هذا في الوقت الذي لا يمكنك فيه الاستسلام لهذا....
تمالكت نفسها بسرعة تحارب الضعف الذي بدأ يحتل كيانها بسببه ولسانها يضربه بسوط وقح غليظ لعلن يبتعد ...
:- وشو الي بيطلعلك من هالعرض الكريم يا يوسف ...
اهداها ابتسامة مريرة ثم اجاب بحب...
:- راحتك يا كارما... سأستفاد انك ستكونين بأمان امام عيني هذا مهم لي يا كارما اكثر مما تظنين ....
تقدم منها فتراجعت حتي التصق ظهرها بطاولة او مقعد من خلفها فتوقفت لكنه لم يفعل اقترب اكثر حتي اصبحت انفاسهما مختلطة وعبيرها الفواح يضرب صدره باعثا الحياة فيه كفه سرقت لمسة من وجنتها وكفه الأخرى احتجزت كفها بقوة كأنه يجبرها علي الاستماع اليه وتخزين كلماته داخل عقلها السميك ..
:- انا احبك كارما واعلم انك لا تفعلين واتفهمك واتفهم ما مررت به و لكن لا حكم لي علي قلبي، انا اعلم انك تعتبرينني صديق وانا اود الاحتفاظ بك بجواري تحت اي مسمي لهذا انا اعطيكي وعدي انني لن اتجاوز حدودي معك كارما... لن افعل ما لا تريدين ولن اجبرك علي شيء لكن..... اقبلي ما اعرضه عليك...
نظرت الي عينين الدافئتين المليئين بالصدق تدكان به حصونها دكا كما تفحل كفه التي تحتوي كفها كحضن دافيء في شتاء قارص .....
لا يجب ان تتأثر بكلماته...
لا يجب ان توافق علي عرضه...
لا احد يفعل شيء بدون مقابل وهي لا تملك ما تعطيه ليوسف...
لا يمكنها ان تستغل كرمه، صدقه، ورقة مشاعره، حتي لو وافق هو علي هذا الإستغلال بل وعرضه ايضا بنفسه...
لهذا هزت رأسها بعنف ترفض كلماته بلا اي تردد...
:- لا يوسف... ما فيني... ما فيني استغلك هالأد راح ارجع لوطني راح ارجع للدمار الي إجيت منو لأنو ما فارقني يوسف... بعرف انو معك حق لا انا ولا انت بنملك الحكم علي قلوبنا لكن بنملك الحكم علي حاضرنا يوسف بنملك حياتنا وانا ما راح اسمحلك تدمر حياتك...
ابعدت يديها عن دفء يديه فاحتوي البرد اطرافها وصولا الي قلبها برد عاشت داخله لسنوات لن تضرها سنوات اخري.....
:- انت بتملك حياة بتمناها من كل ألبي يوسف بتملك عيلة بتحبك ما راح يرضيهم هالإقتراح الي انت إلتو حتي لو كانوا تاركين لك الحرية والاستقالية ... بتملك حياة حلوة ما لازم اتضيعها لأنك بتتوهم انك بتحبني....
:- انا لا اتوهم.... انا احبك...
ارتجفت من عنف صوته الصارخ وعينيها تعكسان رعبا لا تملك مقاومته..
ان الأصوات الصاخبة او العنيفة لازالت تظهر ضعفها للعلن...
تجلب الذكريات التي لا تستطيع تجاهلها...
نظرة عينيها الخائفة وتلك البرودة التب تسللت الي كفها الذي يضمه بكفه ألهبت قلبه حزنا عليها وغضبا من نفسه ....
:- انا اسف...
تبادلا الصمت بينهما كضيف ثقيل حتي انهته هي بابتسامة صغيرة طافت علي شفتيها سرعان ما محتها وهي تتابع...
:- ما تتأسف يوسف هيدا ولا شي من الي شفتو.... اسمعني يوسف انت راح تنسي ... راح يجي يوم وتنساني وتنسي هالحب وتنسي اي شي عني ما راح يضل ألا الوجع وانا ما بدي تكرهني يوسف....
تنهد بعمق ثم قال بهدوء يحاول اقناعها بما يريد...
:- طيب هرد بنفس كلامك ما دخلك فيني يا كارما سيبي مشاعري وحبي لحالها انا قادر اتحمل نتيجة قراراتي انا مش صغير وقادر اعرف ايه الي انا عاوزه...
حركت عينيها بعيدا عنه ثم قالت اخيرا بعد دقائق وقف فيها كلاهما كخصمين كل منهما ثابت علي رأيه...
:- خلص راح فكر...
لم يحاول وخفاء ابتسامته الواسعة عنها وعينيه تلتهم ملامحها التي تحاول اخفاء اضطرابها....
ستوافق انه يعرفها اكثر من نفسها حتي لو انكرت هذا...
طالما انها لم تصر علي الرفض فهي ستوافق...
يعلم كم يرعبها عودتها الي بلادها حيث الذكريات التي لازالت تطاردها...
انها تحب وطنها بقدر ما تخافه...
انها ليست مدينة محترقة...
انها مدينة محتلة...
احتلت الذكريات السوداء كل جمال فيها كل ذكري حلوة في بلادها...
احتلها الدمار كما احتل الشياطين بلادها....
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
بعد عدة ايام كان ينتظر مع مجموعته العربية بعد انتهاء الإمتحان الأخير لهم في هذه الجامعة..
:- راح اتوحشكم بالزاف..
كان هذا صوت الشاب الأشقر رقيق الملامح الذي يسمي بسام وهو تونسي الجنسية عربي حتي النخاج رغم ملامحه التي تظهره مأحد ابناء هذه البلد التي سيودعونها خلال ايام...
رد عليه أحمد وهو من الأرض السودان اسمر البشرة بابتسامة بشوشة تدخل الي القلب بسرعة الضوء ...
:- والله انت الي هتوحشنا يا زول... مين هيبقي هنا منكم يا شباب ومين هيرجع للوطن ...
تحدث بعضهم ممن وجدو فرصة عمل او سيكملون دراستهم هنا وبعض المقيمين هنا من الأساس مثله ليقول بحماس..
:- فاضل كام يوم علي سفركم يا شباب خلينا نعمل حفلة وداع وطبعا هنفضل علي تواصل مع بعض النت مش هيخلينا نفترق ....
وافقه الجميع بحماس...
لمح طيفها يبتعد عن المجموعة بصمت ليتبعها بسرعة بينما ينادي...
:- كارما استني...
توقفت وانتظرته بمكانها بينما تجذب طرفي شالها الصوفي الذي تحيط به كتفيها تضمه اكثر اليها كأنها تشعر بالبرد بينما خصلاتها الداكن ترفرف خلفها يداعبها النسيم وجسدها مغطى بالسواد كما العادة الا من شالها بلونه الشبيه بالقهوة الفرنسية...
جميلة حزينة كحورية خسرت حقها بالعودة الي المحيط...
تخطفه تفتنه تقتله وتهديه الحياة بنظرة...
لمح التوتر الذي يلون ملامحها الجميلة ليبتسم حتي اقترب منها ليسأل بقلق حاول اخفائه عنها..
:- فكرتي....
لقد تركها بالفعل عدة ايام لتفكر ولكنها تتهرب يوما خلف الأخر حتي لا تعطيه جواب نهائي يقلل من حيرته...
هل سترحل ويخسر اي فرصة ليقترب..
يخسر قلبه وروحه وراحة باله التي سترحل مع رحيلها...
ام ستبقي تكحل عينيه برؤيتها سالمة...
ستعطيه فرصة لمجرد محاولة....
القت بسهام عينيها اتجاهه ثم قالت بخفوت كأنها تحارب لتخرج كلماتها من حلقها...
:- راح وافق لكن....
ومع لكن توقف النبض السعيد داخل قلبه ليستعد لموجه اخري من القلق انهتها سريعا...
:- هيدا الزواج مانو حقيقي بأي شكل من الأشكال يوسف انت فاهم علي...
لاحت ابتسامة علي شفتيه لتقابلها بعبوس ثم اكملت تتجاهل نظراته العابثة...
:- ما بدي حدن من اهلك يعرف ما بدي تتهاوش معون بسببي...
:- خلصتي...
هزت رأسها بايجاب ليقترب منها قائلا بلطف وعينيه تبثانها كل ما يختذنه داخله من مشاعر لها...
:- اهلي مش هيتضايقو زي ما انتي فكرة انا حر في قراراتي وهما بيحترمو دا ممكن نكون من اصل عربي لكن انا اتولدت هنا وفي كتر من الحجات انا اتعودت عليها اهلي مضطرين يتقبلوها زي ان احترامي ليهم لا يعني انهم يملكو الحق في التحكم في حياتي و لكن زي ما تحبي لو مش حابة نقولهم مش هقول.... هنتجوز مدني اخر الاسبوع اتفقنا...
لم تجب ولكن عينيها عكست خوفا داخلها اقسم ان يمحوه هو لن يؤذيها ابدا...
هو سيحميها بحياته..
لكنه لم يكن يعلم انها لا تخافه هو...
انما تخاف نفسها...
تخاف ضعفها...
تخاف الاحتياج الذي يجتاحها مع كلماته...
يوسف هو كل ما حرمت منه يوما...
هو الأمان..
العائلة..
الدفء...
هو السعادة وقد حرمت السعادة علي من هو مثلها...
فلا سعادة بعد ضياع الأهل الوطن والنفس...
لا سعادة لها...
لا استسلام ليوسف...
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

كل الدروب تؤدي اليكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن