الفصل الثاني و الثلاثون

442 26 3
                                    

و انضرمت نيران الحرب بيننا و ليتني أقوى على المجابهة، فرغم الحنين الحائر بين ثنايا الفؤاد؛ إلا أن صدري يحوي جذوة بُغضٍ لا أدري من أين وُجدت.
#صهيب

حين ضاق به الأمر ذرعا و أصبح انفصاله عنها ضرورة تُلح عليه و بشدة، و كأن صوتا بداخله يأمره بذلك و يُلح عليه في الأمر، قرر أن يخبرها بطريقة مباشرة لعله يتخلص من ذلك الشعور البغيض الجاثم على قلبه طيلة وجودها في حياته.
لم تصدق نفسها حين أخبرتها مريم أن صهيب يريدها لأمر عاجل.
استخرجت المرآة من حقيبتها و أخذت تهندم من حجابها و لأول مرة تضع أحمر شفاة و تحدد عينيها بالكحل و محدد العين قبل أن تدخل إليه...ألم أخبركم أنها فقدت صوابها!!

بعد قليل فتحت باب غرفته و قلبها يرفرف بين أضلعها، تترقب رؤيته و كأنه غاب عنها أمدا طويلا، و كأنها عادت مراهقة من جديد.
اقتربت من مكتبه بخطوات هادئة و الابتسامة العاشقة تشق وجهها، بينما هو حانت منه بسمة ساخرة على ما فعلته بوجهها، فهو لم يستسغ هيئتها التي صارت أكثر جمالا و لم تحرك به ساكنا، بل أنزلتها من نظره أكثر.
حاول التغلب على ذلك اللهيب المتأجج بصدره حين اقتربت منه، ثم قال بهدوء مزيف:
ـــ اتفضلي اقعدى.
جلست بحماس في انتظار كلمة حانية منه تروى جفاف قلبها الظمآن، فأجلى حنجرته قائلا بجدية:
ـــ جنة أنا مش عارف انتي لاحظتى إن معاملتي ليكي اتغيرت و لا لأ...بس أنا فعلا مش  قادر أكمل معاكي أكتر من كدا...أنا آسف جدا بس مش عايز أظلمك معايا...فقولت ننهي الخطوبة بهدوء...و مالهاش لازمة المماطلة.
تجمد جسدها من الصدمة و علت وتيرة تنفسها للغاية، لم تستوعب بعد ما قاله، فردت عليه و هى تهز رأسها بعدم تصديق:
ـــ انت بتقول ايه؟!..أنا مش فاهمة قصدك.
تنهد بحرارة مشيحا بوجهه للجهة الأخرى، فارتجفت شفتاها و تعثر لسانها و كأنها على وشك فقدان النطق حيث قالت:
ـــ صـ.. صهيب.. انت بتحبنى...انت عامل فيا مقلب.. صح؟!...الـجـ.. الجمعة اللي فاتت كـ... كنت بتقولي إني أقصى طموحاتك...إ.. إننا هنـ.. هنتجوز..أيوة دا مقلب.. لسة الجمعة اللي بعدها مجاتش.
أغمض عينيه في محاولة جديدة للتغلب على ضيق صدره ثم فتحهما ليقول بنفاذ صبر:
ـــ لا أنا بتكلم بجد.
نظرت أمامها بذهول و هي تشير إلى نفسها بسبابتها و تقول بانهيار:
ـــ يعني انت غشتني و ضحكت عليا...عيشتنى حلم جميل و طلعتني سابع سما و فجأة و بدون أي مقدمات و لا أسباب تنزلنى لسابع أرض و تقولي مش قادر أكمل... طاب ازاي؟!
هب من مقعده حين نفذ صبره و بلغ منه الضيق مبلغه و قال بعصبية:
ـــ أنا مضحكتش عليكي و دا مش طبعي و انتي عارفة كدا كويس...بس أنا بشر مش ملاك... يعني وارد مشاعري تتغير و أحس إني كنت غلطان أو مغيب...كلنا بنغلط بس مينفعش نتمادى فى الغلط.
وقفت قبالته لتسأله باستنكار:
ـــ أنا غلطة يا صهيب؟!
سكت و لم يرد إقرارا منه بذلك، فاقتربت منه أكثر بعدما اغرورقت عينيها بالعبرات و قالت بصوت متحشرج:
ـــ بس أنا بحبك...مش هقدر أكمل حياتي من غيرك...راجع نفسك تاني...أكيد في حاجة غلط.. انت لسة بتحبني أنا متأكدة.
رد بملامح جامدة و بنبرة باردة حد الصقيع:
ـــ قراري نهائي مفيش فيه رجوع.
تحولت ملامحها إلى الشراسة بغتة كالأسد الجامح حين ينقض على فريسته حيث جذبته إليها من تلابيبه في حركة مباغتة و قالت بشراسة:
ـــ لا انت مش هتسيبني.. انت فاهم.. مش بعد ما علقتني بيك و رسمت نفسك في أحلامي و ملكت قلبي و شغلت كل تفكيري تسيبنى...مش هسمحلك بكدا يا صهيب.
أمسك يديها ليدفعها بعيدا عنه بقوة و يصرخ بها:
ـــ ابعدي عنى...أنا مش عايزك...أنا بكرهك.. عارفة يعني ايه بكرهك؟!...مش عايز أشوفك تاني..المكتب دا متهوبيش ناحيته تاني... مش عايز أشوفك بعد النهاردة..
نظرت له بصدمة تكاد تقتلها و لكنها تمالكت نفسها و جففت دموعها و ألقت عليه نظرة احتقار و هي تقول "مش مسامحاك".
ثم انصرفت من أمامه بقلب مكلوم و روح نازفة و خرجت من مكتبه لتلملم أغراضها و تغادر المبنى بأكمله.
بينما هو ألقى بجسده على الأريكة الجلدية بقوى خائرة، يشعر بأن قلبه يتمزق، و ضميره يجلده بلا هوادة، يشعر و كأنه اقترف اثما عظيما حين افترق عنها.
لقد أعيته تلك المشاعر المتضاربة المنضرمة بصدره، فجزء منه يريد الركض خلفها و الإعتذار إليها و ضمها بقوة.
و جزء آخر يقنعه أن ما فعله هو عين العقل و في ذلك السبيل راحته و سعادته.
أخذ يضرب رأسه بكفيه المقبوضتين و هو يصرخ بحيرة و عصبية:
ـــ انت عايز ايه؟!...فوق بقى و اعرف انت عايز إيه...
فى تلك اللحظة أحس بقلبه يعتصر في مخضعه،  و بدون وعي و رغما عنه أصدر تأوها عاليا هز جدران مكتبه و هو يصرخ ممسكا بموضع قلبه:
ــــ ااااااه.... مخنووووق.
ظل على هذا الحال من عدم الراحة و عذاب الضمير و الحيرة المميتة وقتا لا بأس به، إلى أن نهض أخيرا و دلف مرحاضه الملحق بالغرفة و غسل وجهه لعله يزيل أثر التعب عنه..
وقف لوهلة أمام الحوض يفكر أن يتوضأ ليصلي لعل الله يرشده إلى الصواب، و لكن أبت جوارحه أن تطيعه و كأنه قد أصابه الشلل.
فخرج من المرحاض و عاد إلى أوراقه و قضاياه لعلها تلهيه عن عذاب روحه و قلبه.

و تشابكت أقدارنا(مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن