الفصل الثالث

923 43 34
                                    

أيا قلب مزقته الأيام، أيا روح انتزعتها الأوجاع، أيا حب ضاع بين طيات الفراق...أما آن للآلام أن تهجرنى و تمنحنى حريتى التى سلبتها، أما آن لقلبى الاستقلال من احتلال الإشتياق؟!... أما آن للقاء العاشقين أن يأتى و يمحو لقائاتنا المشحونة بالقسوة و العصيان؟!... أما آن؟!... أما آن؟!...
جلست شيرويت بفراشها تبكى بحرقة تسترجع مواقفها معه، لقد كان حنونا إلى أقصى حد معها، كان لا يتركها تخرج من البيت بمفردها، كان يلازمها كظلها فى كل مكان، تشعر معه و كأنها أميرة تسير مع فارسها المغوار، تقسم أنها كانت تسير معه مغمضة العينين بسبب يقينها أنه لن يُفلتها، هو عيناها اللتان تريان بهما...ماذا حدث له منذ أن التحق بالجامعة؟!..لما تغير؟!...أيعقل أنه وجد من هى أنضج منها؟!..من هى أكثر منها جمالا؟!...أيعقل أن قلبه معلق بأخرى أنسَته مدللته شيرويت؟!...و عند هذا الحد من الأفكار العاصفة و بدأ يزداد نحيبها أكثر و عادت بذاكرتها إلى الماضى....
فلاش باك...
عندما تخرج حمزة من الكلية أقام له عمه حفلا بسيطا بالمنزل يضم أفراد الأسرة فقط و كانت شهد حينها حديثة الزواج..
تلقى من الجميع التهانى و المباركات و عندما راحت شيرويت لتبارك له نجاحه رد عليها باقتضاب:
ــ الله يبارك فيكي.
اغتاظت شيرويت من جموده و نبرة صوته القاسية، فأردفت و هى تصتك فكيها من الغيظ:
ــ و ناوى على ايه بعد التخرج يا بشمهندس..
رد عليها بقسوة على مرئى و مسمع من الجميع:
ــ و انتى مالك...متبقيش تدخلى فى اللى مالكيش فيه.
احمر وجهها من الحرج و الغضب فى آن واحد، فأسرعت شهد تلطف الأجواء قائلة بضحكة مصطنعة:
ــ هههه...دايما كدا انتوا الاتنين ناقر و نقير...مبتحبش تريحها أبدا.
رمق شهد بنظرة خاوية من التعبير، بينما شيرويت جلست تفرك كفيها بغضب جم، تريد أن ترد له الصاع صاعين.
فى المساء و حينما حان وقت النوم، لاحظ زوجة عمه و ملامحها التى تبدو عليها علامات القلق، ففطن لما يدور بخلدها من عدم رغبتها فى مبيته بالشقة خوفا على ابنتها الشابة، فنهض من جلسته و استاذن منهم قائلا:
ــ بعد اذنك يا عمى أنا طالع أنام..
وليد بتعجب:
ــ طالع تنام فين يابنى.
ــ فى القوضة اللى على السطوح.
أجابه باستنكار:
ــ نعم؟!...و ليه ان شاء الله؟!...ما القوضة بتاعتك موجودة أهى و نضيفة و زى الفل.
ــ معليش يا عمى سيبنى براحتى...أنا برتاح أكتر فى القوضة اللى فوق...و بعدين احنا فى الصيف و الجو بيبقى حلو فيها بالليل.
ــ ميصحش يبقى بيت عمك موجود و تبات على السطوح.
رد عليه بحدة و حزم:
ــ يا عمى سيبنى براحتى...مبعرفش أنام هنا...مبيجليش نوم.
ابتسمت هالة بارتياح ثم ما لبثت أن أخفت ابتسامتها سريعا ثم قالت:
ــ خلاص بقى يا أبو شهد سيبه براحته.
رمقها حمزة بنظرة فيها من الغضب و المقت ما فيها، ثم استأذن و انصرف من أمامهم سريعا.
فى ساعة متأخرة من الليل، لم تستطع شيرويت أن تغفو دون أن تُلقن ابن عمها الغليظ درسا، فنهضت من فراشها و ارتدت عبائتها السوداء مع الحجاب ثم خرجت من غرفتها، و تفقدت النائمين لتتأكد من عدم شعورهم بها، ثم فتحت باب الشقة و خرجت بهدوء تام..
فى ذلك الحين كان حمزة مستيقظا مستندا إلى سور السطوح، شاردا فى جروحه الأليمة، فجأة سمع صوت وقع أقدام، فالتفت ناحية الدرج، فإذا بـ شيرويت تقف أمامه بهيئتها الغاضبة، جن جنونه حينها و أول ما ورد بخاطره أنه إذا رآها والديها فسوف يُلقون عليه باللوم و الاتهامات و حينها سيَثبُت ظن زوجة عمه به، فتقدم منها خطوة و راح ينهرها بصوت مكتوم حتى لايسمعه أحد:
ــ انتى ايه اللى جايبك فى ساعة زى دى...انتى مجنونة...افرض حد شافك يقول عليكى ايه...انزلى...انزلى بسرعة.
تسمرت بمكانها و لم تتحرك قيد أنملة، و أجابته بملامح جامدة:
ــ مش هنزل قبل ما تتأسفلى..
جحظت عيناه باستنكار و صاح بها:
ــ أتأسفلك؟!...و هتأسف لسيادتك الكريمة على ايه؟!
ــ من غير تريقة...اتأسفلى على كل حاجة...و آخرهم احراجك ليا قدام ابويا و أمى و اختى و جوزها النهاردة.
أجابها ببرود:
ــ أنا مغلطتش فيكى...انتى اللى بتدخلى فى أمورى..
جزت على أسنانها بغضب ثم راحت تلوح بيديها بعصبية قائلة:
ــ دا مش تدخل...دا سؤال عادى...و شهد سألتك نفس السؤال بعدى و جاوبتها من غير ما تحرجها...ليه بتعمل معايا كدا..؟!
أشاح بوجهه للجهة الأخرى هربا من مواجهتها و لم يجد ردا مناسبا.
فاستدارت للناحية التى ينظر لها ثم نظرت له قائلة بنبرة متألمة:
ــ أنا كنت فاكرة انك بتحب شهد، لأنك كنت بتكلمها عادى و بتضحك و تهزر معاها...قولت أكيد بتحبها علشان متربيين سوا و سنكم قريب من بعض..بس استغربت لما لاقيتها اتخطبت و كان رد فعلك عادى و كمان كنت فرحان فى فرحها و بترقص كمان...ساعتها بس اتأكدت ان المشكلة فيا أنا...ليه يا حمزة؟!...ليه اتغيرت كدا بعد ما كنت بتحبنى؟!
توترت أوداجه على إثر هذا السؤال و لكنه أخفى توتره بقوله:
ــ و أنا امتى كنت حبيتك يا شيرويت.
أجابته باندفاع:
ــ أيوة كنت بتحبنى.
ــ انتى مصدقة نفسك؟!...انتى عارفة كان عندك كام سنة لما دخلت الجامعة و سيبت البيت و بطلت أزوركم...كنتى لسة عيلة ١٠ سنين بضفاير بتلعبى فى الشارع مع العيال.
أجابته بملامح منكمشة و هى على وشك البكاء:
ــ بس كنت واعية لكل حاجة....و لسة فاكرة كل مواقفك و تصرفاتك معايا...و آخرهم لما كنت رايحة الدرس و أنا فى خامسة ابتدائى و كنت ماسك ايدى علشان نعدى طريق العربيات، ساعتها غمضت عينى و قولتلك شوف يا حمزة أنا ماشية معاك و أنا مغمضة ازاى؟!..ضحكت عليا و قولتلى يا غبية فتحى العربية هتخبطك، قولتلك قبل ما تخبطنى هتخبطك انت لأنك ماشى حواليا مش جنبى، ضحكت أكتر و مسكت ايدى جامد و كأنك كنت خايف عليا و فضلت تمشى ورايا شوية و على يمينى شوية و على شمالى شوية لحد ما وصلتنى الدرس...كل دا مكانش حب..؟!
رد عليها باندفاع:
ــ لا مكانش حب...كان واجب عليا كنت بعمله علشان أنا راجل و شهم و...
أكملت بدلا عنه بنبرة هائمة:
ــ و طيب و حنين و بتحب شيرويت.
أغمض عينيه متنهدا بعمق، ثم أولاها ظهره حتى لا ترى عينيه الملتاعتين للنهل من ملامحها و قال بنبرة جادة:
ــ شيرويت متخلطيش الأمور فى بعضها...أنا لما كبرت و دخلت الكلية بقيت حاسس انى اللى كنت بعمله معاكى دا غلط و ميصحش و انتى بتكبرى و لازم كان يكون فى بينا حدود...هو دا الصح.
ــ و ليه معملتش حدود مع شهد.
ــ شهد كنت بعتبرها أختى.
ــ و أنا؟!
يا لغباؤه...لقد أوقعته فى الفخ...بما سيجيبها الآن؟!..
زفر بعنف ثم صاح بها متهربا من الاجابة:
ــ انزلى بقى يا شيرويت...اللى انتى بتعمليه دا غلط.
نظرت له بازدراء قائلة بملامح متشنجة:
ــ أنا بكرهك.
سكت مليا يتأمل ملامحها التى أنهكها الحزن و كم لعن ذاته أن كان سببا فى ذلك و لكنه فى الأخير رد عليها بنبرة باردة و ملامح خاوية لكى يُنهى على ما تبقى بينهما من وِد:
ــ مش أكتر منى.

و تشابكت أقدارنا(مكتملة) Where stories live. Discover now