الجزء الثاني والثلاثون

3K 338 62
                                    

مرَّ اليوم هادئًا على طيف وجاسم حتى وصلا كل منهما إلى سريره فرجع جاسم بظهره إلى الوراء يسترجع ما حدث له في الفترة الماضية ، اقتحمت طيف حياته كما اقتحمت قلبه ، لم تحتاج مجهودًا حتى تلفت انتباهه ، فقد صار جاسم شخص آخر بفضل هذه الصغيرة ، كان متأكدًا أن من ستوقع به في عش الزوجية ستجتاز جميع اختبارات جاسم العقلية المعقدة دون أي عاطفة حيث أنه قرر منذ فترة ليست بالقريبة أن وظيفة قلبه الوحيدة هي ضخ الدماء ، لا أكثر ..
لكن طيف غيرت هذه القاعدة بل كسرتها وحولتها إلى فُتَات غير نافع ، ظل يتأمل صورتها قليلاً حتى غاط في سبات عميق ..
في الجهة الأخرى طيف تنظر للمجوهرات التي جلبها لها جاسم ، كانت تريد أن تشاركها عائلتها مثل هذا الحدث لكن هذا الأمر لم يصبح مُتاحًا فمنذ أن استقلت طيف هاربةً من المشاكل ولم تعد على تواصل دائم معهم لكنها هاتفتهم وأخبرتهم فلم يبدوا أي ردة فعل !
تذكرت طيف نظرات عينيه في الصباح ثم سألت نفسها هل تسرعت في الأمر لكن سرعان ما جاءت الإجابة من قلبها وعقلها معًا أنها قد تأخرت كثيرًا حتى تفتح قلبها لجاسم ، فطيف كانت ولازالت وحيدة ، دائمًا ما تحتاج إلى شريك لها لكنها لا تجرؤ على طلب ذلك حتى قابلت جاسم ، كان الأمر في البداية يبدو عراكًا لكنها لم تعارك جاسم قط ، لربما نجحت في استفزازه عدة مرات لكنها لم تُقبل على أذيته حتى عندما سنحت لها الفرصة تراجعت سريعًا وما إن وجدت الأمان معه نسيت كل ما أقسمت به وكل ما كانت تنوي فعله ، فقط الأمان ..
عاشت طيف طوال عمرها تبحث عن الأمان فلم تجد أبًا يحنو عليها ويحتوي مراحلها المختلفة لكنها لا تقوى على الاعتراف بذلك أمام أحد حتى جاسم أخفت عليه هذا الأمر ، لم تجد أمًا قريبة منها تسمع قصصها الرتيبة وتقوم بنصيحتها ..
تذكرت طيف ذلك الموقف ثانيةً ، وجاسم يبرحه ضربًا فقط لأنه نعتها بالقمر !! ماذا لو كان تعرض لها أو اقترب منها !! على الأرجح كانت ستجهز الآن لزيارة جاسم المقبلة قبل أن يصدر أمرًا بإعدامه ..
لا يقتصر الأمان على القوة الجسدية فقط وإن كانت مطلبًا هامًا في بعض الأحيان ، لكن لربما كلمةً تضمن لكَ الأمان، نظرةً، حتى الصمت أحيانًا بجوار أشخاص معينين يبث الأمان ..
أعتقد أنه شعور لا إرادي ، فربما تقابل شخص مفعم بالعضلات ويمتلك كلامًا جاشًا لكنك لا تشعر معه بالأمان وهناك شخص أخر لا يتعدى وزنه الأربعون لكنك تمتلك العالم بجواره ، فالأمر أشبه بإشكاليات الدجالين التي لا نفهمها فيطلبون منكَ كف يد نملةً تعرضت للطلاق خمس مرات مع عين تمساح صارع الملك نبوخذ نصر الثاني وانتصر عليه حتى يجلب لها " مقرود " التي تحبه منذ عشرات العقود ..
فالحب أشبه بذلك ، تنجذب وراء أشياء لم تكن من اهتماماتك ذات يوم ، ولا تعي لها معنى لكنك في النهاية تقع تحت أسره ..
ناما الاثنان وهما في قمة سعادتهما فلم يصدق أحد أن يجتمع جاسم وطيف أو أن يجتمع جاسم أو طيف مع شريك لهما !!
استيقظ جاسم وذهب إلى المشفى بعد أن هاتف محبوبته المُدللة واطمئن عليها ثم ذهب لسليم ليرى ما وصل إليه ..
وجده جالسًا والحيرة تبدو على وجهه فسأله جاسم عن السبب فرد سليم :-
= سليم :- لا أعلم ، لكنني متأكدًا أنني لست بخير
- جاسم :- رقية !!
= نعم
- هل تشتاق لها أم لأفعالها ؟
= ما الفرق ؟
- ستعلم حينما تجب ، ما الذي تشتاق إليه تحديدًا !!
= رقية ، اشتقت إليها ، لسماع صوتها ، لنظرات عينيها ، اشتقت لمقابلتنا الغرامية ، للأماكن التي كنا نذهبها سويًا ، اشتاقت أن يهتم بي أحد ، أجد من يحنو علي ، من أقصّ عليه تفاصيل يومي ، ودّدت لو كان بإمكاني أن أتزوج من محبوبتي ، لا أقتنع بما يطلقون عليه زواج صالونات !! كيف سأعيش مع فتاة لا أعرف عنها شيئًا ، ولا هي أيضًا !! كيف سنفهم بعضنا البعض ! هل فترة الخِطبة كافية !! كلا إنها فترة زائفة ، يجاهد الاثنان فيها حتى يخرجا أجمل ما عندهما وما إن ينغلق عليهما بابًا واحدًا تظهر جميع العيوب ..
- وماذا أيضًا !
= لا أريد أن أخوض هذه التجربة بهذا الشكل التقليدي ، كانت رقية هي الأنسب لي لكنها رحلت
- أرأيت ؟ إنك لا تحب رقية  بل كنت تحب كونك في علاقة غرامية
= عفوًا !!
- عندما سألتك عن الشيء الذي تفتقده تحديدًا ، أخبرتني أنها رقية لأن عقلك يريد إثبات ذلك أو أنك أنت من تريد ترسيخ ذلك في ذهنك ومن ثم بدأت تتحدث عما كنت تفعله معها ، كسماع صوتها أو مقابلتها ثم ظهر السبب الحقيقي أنت تخشى أن تخوض تجربةً دون دراسة كافية فعاد عقلك ليفكر برقية مرة أخرى ، أنت توهم نفسك بحبها ، تودّ قول أنك تخشى زيجة تقليدية ، صحيح ؟
= نعم
- وهل استمرت علاقتك بمن اخترتها بطريقة غير تقليدية ؟
= لا
- هل كنت تتعمد إظهار عيوبك أمام رقية ؟
= لا
-  أي كنت تجاهد لتخرج أجمل ما عندك وما إن ينغلق عليكما بابًا واحدًا تظهر جميع العيوب ..
صمت سليم ولم يتفوه بأي كلمة فقد أقنعه جاسم بكلمات بسيطة وأوضح له ما يدور في ذهنه تمامًا ، تحدث جاسم ثانيةً قائلاً :-
- هكذا هو الإنسان يا سليم ، عندما يقع في مشكلة ما لا يبحث عن حلها بل يكون هدفه الأول أن يصير ضحيةً بأي شكل من الأشكال ، وما إن يتوهم السبب يبدأ في إيجاد مبررات لتصرفاته المضطربة بل ويقتنع أنها أسبابًا منطقية لعدم تعافيه ، لكن إن فكر في الأمر بشكل أخر وبطريقةً أخرى سيختلف الأمر تمامًا ، كما تأخذ رأي صديقك في مشكلة لكَ فيبهرك بسيل من الحلول لكن ما إن وقع نفس الشخص في نفس المشكلة لا يجد لها حلاً ، لأن هدفه في المقام الأول حينها أن يصبح ضحيةً ثم يصدقها دون أن يفكر في حل للمشكلة ذاتها ! فتزال قائمةً ..
في هذه اللحظة تأكد سليم أنه أخذ قرارًا سليمًا عندما أبعد طيف واختار دكتور جاسم حمدان لعلاجه ، فهو سيقتصر الطريق سريعًا حتى يتعافى سليم تمامًا ، حينها سيعود لطيف مرةً أخرى ..
هاتف جاسم طيف ليجدها في مكتبها فصعد إليها ثم طلب منها مقابلة أهلها فتوترت هي وبان ذلك عليها بوضوح ، فظن أنه تسرع في الطلب أو طلبه بطريقة غير مناسبة فاعتذر منها على الفور ، وما إن سمعت اعتذاره حتى انهمرت دموعها مما سبب دهشته !!
فآثر الصمت في هذا الموضوع ولكنه ظل يطمئنها بكلامه الهادئ ولكن ما إن تفوه ازدادت دموعها فصمت تمامًا وبات بجوارها ..
كانت طيف في هذا الأمر تفكر هل عليها أن تخبره بحقيقة علاقتها مع أهلها أم تكتمه سرًا باقية حياتها ! هل إن عرف ستتغير نظرته لها أم سيعرف أنه ليس لها أحدًا يجلب لها حقها منه إن ضايقها ؟ ماذا يجب عليها أن تفعل ؟ هل تصارحه وتعتبره عوضًا من اللَّه عما حدث معها أم تأسرَّها في نفسها !
هنا تحدث جاسم بعد أن فهم أن الأمر يتعلق بعائلتها فبادر هو قائلاً :-
- جاسم :- لم أخبرك بما عانيته من أهلي من قبل ، هل تسمعين ؟
نظرت له طيف في استغراب ثم رددت كلمته :-
= طيف :- عانيته ؟
- نعم ، لم أخبر أحدًا بهذا من قبل لكن شيء ما بداخلي يحثني أن أخبرك ، أرجو ألا يكون مخطئًا
= لن يكون كذلك ، أنا أسمعك جيدًا
- لقد عانيت من أبي كثيرًا ، لقد كان رجلاً فظًا ، لا يتكلم بل يده من ترد بدلاً عنه ، كانت أمي تخبره تكرارًا ومرارًا أنني رجل لا يجوز ضربي لكنه لا ينصت لها ويستمر في سياسته ، حتى جعل مني هذا الشخص القاسي ، المتعجرف كما تقولين
ضحكت طيف إثر الجملة فابتسم هو لأنه نجح في مهمته الصغيرة ثم أكمل كلامه :-
- كنت أخشى أن يعرف أحد ما أقوله لكنني معكِ لا أخشى شيئًا ، لا أخشى سوى أن يمسّك ضرًا وأنا غير موجود
= وأنت غير موجود !
- نعم لأنني وأنا موجود لن يجرؤ أحد على التفكير بذلك
كادت طيف أن تخبره عن عائلتها بعد تلك الجملة لكنها تراجعت حتى تفكر ثانيةً وتأخذ قرارًا مصيريًا ..
أكمل جاسم قائلاً :-
- بينما كان يتعامل الجميع معي كَـ سوي يا طيف كانت تتصارع الأمراض النفسية بداخلي من ستلتهمني أولاً
= لن أنكر ذلك ، لقد رأيت فيكَ هذا
- رأيتي فيا ماذا ؟
تأكدت طيف أنها جرحت جاسم دون أن تدري فهمَّت أن تعتذر لكنها قد أفسدت الأمر بالفعل ، فانقلب وجه جاسم وشعر بالحرج منها لكنه أكمل رغمًا عنه ليسألها :-
- هل حقًا تعتقدين أنني مريضًا نفسيًا ؟؟
= لا ، لم أقصد ذلك ، بل قصدت .. ، أن ..
- لا عليكِ يا طيف ، قد فهمت
قامت طيف مسرعة وجلست بجواره ثم لامست كفه ولم تتحدث بل اكتفت بالنظر فنسي هو ما قالته منذ ثوانٍ ..
قام جاسم من عند طيف وهو يفكر في ما قاله لسليم هل من الممكن أن يكون مثله ؟ هل من الممكن أنه يريد خوض علاقة غرامية !! هل هو أيضًا يعيش الأمر ذاته مع طيف !! لكنه سرعان ما طرد هذه الفكرة من ذهنه عندما تذكر أنه لا يلين إلا معها ، لا يرى سواها ، لا يتكلف في الحديث معها فيترك العنان للسانه ليخبرها بما يريد أن يخبرها به ، يغار عليها ، تذكر عندما أخذ درة لتختار مجوهراتها وعندما أخذ طيف ، لم يكن يشعر بشيء مع درة لكنه شعر بكل شيء مع طيف ، كان يريد أن يجلب لها المحل بأكمله ، بل محلين ، ثلاثة ، جميع ما تختاره هي ..
تذكر عندما كان يفتعل المشاكل مع درة على أتفه الأسباب وعندما لمحت له طيف اليوم أنه مريض نفسي ، فعندما لامست يده ونظر لعينيها ارتجف عقله وتوقف عن عمله وهمَّ ليقع مجددًا في حبها ..
ثم نظر لصورتها المحفوظة في هاتفه ثم قال :-
تاللَّه ما كنت مجبورًا ، لقد اخترتكِ بكامل إرادتي العقلية وقوايّ القلبية ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now