الجزء السابع والعشرون

2.4K 313 32
                                    

التقت أعين درة بأعينه فظن أنها ستثور وتغضب وتبدأ في رفع صوتها وهي منهمكة في جذب طيف من شعرها ، ولكن ما حدث عكس ذلك تمامًا ..
سحبت درة كرسي وجلست بجوارنا ثم وضعت يدها على وَجنتها كما يفعل الطفل عند سماع الحواديت وطلبت مننا أن نكمل حديثنا ..
لم تندهش طيف من ردة فعلها وكأنها توقعتها فوجَّهت كلامها إليّ قائلةً :-
= طيف :- كما كنت أقول ، سليم توهّم الحب
قاطعتها درة بسرعة :-
= درة :- عفوًا !!
ابتسمت طيف رغمًا عنها وكأنها قصدت أن تقول تلك الجملة حتى تجذب انتباه درة ، فجرت الأمور كما خُطط لها ، فردت :-
= طيف :- توهّم الحب ، كان من الواضح جدًا أن رقية لا تحبه أو على الأقل لا تبادله نفس المشاعر ، فجميع من حوله لاحظوا ذلك عدا هو ، لأنه كان لا يريد أن يلاحظ ، خُيل إليه أن هذه الفتاة ستكون جنة الأرض بالنسبة له لكنه لو استعان بعقله لتأكد حقًا أنها ستودي به إلى الهلاك ، كان عليه أن يستمع لمن حوله ، أن يعلم أنها ليست مناسبة له ، فإذا تعرضنا للاحتياج نحاول أن نجد حلولاً ، لا يمكن أبدًا أن نربطه بشخص لا يرغب في وجودنا ...
هنا قاطعتها درة مرةً أخرى ، لربما أغضبها حديث طيف الموجَّه لها في الخفاء فقالت لها :-
= درة :- عفوًا ولكن من هي رقية ؟
هنا تدخل جاسم الذي كان يتابع الحوار في صمت و يترقب ردة أفعالهما قائلاً :-
- جاسم :- لا تهتمي يا درة ، إن طيف توجه كلامها إليّ
هنا شعرت طيف أنها أخطأت بعض الشيء فنظرت إلى الأرض في خجل ثم انسحبت من هذا التجمع الثلاثي ..
= درة :- هو احنا ليه مبقناش نتكلم زي الأول ؟ لازم انتحرلك يعني !
- جاسم :- أنا أسف جدًا يا درة بس أنا عندي شغل ضروري ، هخلص وأكلمك
ثم انسحب دون أي كلام ..
ضغطت درة على يدها حتى كادت أن تدميها من شدة غضبها لكنها نظرت إلى هاتفها ، فنسيت أمر جاسم وطيف واتسعت ابتسامتها وملأ الشر وجهها عندما تأكدت أن الأمر تم بنجاح ..
لحق جاسم بطيف ثم نظر إليها بعتاب قائلاً :-
- مهما كانت مشاكلك مع درة مينفعش تفشي أسرار مريض عندك ، صح ؟
شعرت طيف بالأسف ، فهي أرادت أن توصل لدرة رسالةً معينة لكن خانها التصرف فاعتذرت على الفور ..
ذهبا سويًا إلى غرفة سليم فوجداه يكتب بعض الكلمات وما إن رأى جاسم حتى أخفاها بسرعة ، فطمأنه جاسم أنه لن يرى سوى ما يريده هو أن يراه ، فمن حقه أن يحتفظ ببعض الخصوصية لنفسه ، لكن سليم نظر إلى طيف ثم ابتسم لها ابتسامة خفيفة لاحظها جاسم ..
سأله جاسم عن حاله اليوم فرد سليم :-
= سليم :- بخير
- جاسم :- هل هناك ما تريد إخباري به ؟ فقط لأساعدكَ !
= نعم ، أريد الاعتذار لأمي
- سأتصل بها على الفور
= لا تفعل ذلك
- لماذا ؟
= لا أريد أن تراني على هذا الحال
- لكنك بخير وستصبح بخير في القريب العاجل
= سأراها عندما أصبح بخير
- حسنًا كما تريد ، فأنا هنا لأساعدكَ
= لقد علمت ، قلتها مسبقًا
ثم وجَّه سليم حديثه لطيف :-
= سليم :- وماذا عنكِ ؟
فرد جاسم بدلاً منها :- هي أيضًا تريد مساعدتكَ
= سليم :- ولِمَا لا تلفظها هي ؟
نظر إليهما جاسم وقد بدت الغيرة عليه فزاد سليم من استفزازه وخاطب طيف ثانيةً :-
= سليم :- ماذا عنكِ يا طيف ؟
- طيف :- كما قال لكَ دكتور جاسم
كانت هذه الإجابة كافية لترضي جاسم وتمنع غضبه من الانفجار ، فسرعان ما طلبت من سليم أن يتحدث فهما ينصتون إليه ..
= سليم :- أعلم أنني مريض ولكنني مريض بها ، لا أعلم كيف وصل بي الحال لذلك ، جميعهم كانوا على حق ماعدا أنا ، لقد شاهدت العديد من الناس يمرون بتجارب فاشلة ويتخطونها ، فلِمَا أنا لم يحدث معي ذلك ؟ لِمَا يا دكتور جاسم لم أتخطى رقية ؟
- جاسم :- لأنكَ لم تريد ذلك !
= سليم :- ومن أفترض ذلك ؟
- لم أفترض ، بل أرى تصرفاتك
= لكنك لم ترى ما بداخلي
- إن أردت أن تطلعني عليه فأنا هنا
= تتحدث هكذا لأنكَ طبيب
- بل أنت من تتحدث هكذا لأنكَ مريض
هنا صرخ سليم في جاسم وكأن هذه الكلمة أشعلت الرماد المتبقي منه قائلاً :-
= ليس لكَ الحق في الحكم ، إن كان هناك مريضًا فبالطبع هو أنتَ
ظنت طيف أن جاسم سيقوم بتعنيفه سريعًا لكنه تقبل الكلام بأريحية بل رد على سليم قائلاً :-
- حسنًا ، أتفق معكَ ، فمن منا لا يشكو من مرض نفسي ، ولكن هل لكَ أن تخبرني بمرضي ؟ لربما يمكنكَ معالجتي !
هنا هدأ سليم واقترب من جاسم ثم همس له :-
= سليم :- أريد أن أتخلص من الجزء المتبقي منها بداخلي
- جاسم :- ستفعل ذلك وقريبًا
أخذ جاسم طيف من يدها بعدما غادرا غرفة سليم ثم صعدا إلي مكتبه سويًا ، فما إن جلست حتى طلب لها مشروبها المفضل وطلب لذاته قدحًا من القهوة ..
= طيف بندم :- أنا بجد أسفة ، مكنتش أقصد أخرج أسرار سليم
- جاسم :- هو أنتي كنتي عايزة توصلي لدرة إيه ؟
شعرت طيف بالارتباك ولم تستطع أن تجيب وكأن الكلمات قد أُسرت في فمها فهمهمت :-
= هـا !!
ضحك جاسم ثم نظر لها بخبث وقال لها :-
= كنتي عاوزة توصلي لخطيبتي إيه ؟
ما إن تلفظ بهذا اللفظ حتى ظهر الغضب على وجهها وكأنه يرد لها ما فعله سليم ، فأمسكت بالكوب الذي أمامها ثم ارتشفت منه وهي تضغط على فمها دون أن تجيب ، فدَوَت ضحكاته المكان بأكمله ..
حتى طُرق الباب فأذن جاسم للطارق بالدخول فإذا هو نجيب ..
- جاسم :- لقد اشتاقت لكَ جدران الغرفة يا نجيب
ضحك نجيب ليجامل جاسم على دعابته السخيفة ثم قال :-
= نجيب :- أخيرًا كتب لي القدر أن أجلس مع طيف وجاسم دون شجار !
ضحكت طيف ثم قالت :-
- طيف :- لا تقلق فنحن على أعقاب شجار قادم
= نجيب :- لن تفعلي
ثم نظر إلى جاسم ليكرر عليه نفس الجملة :- لن تفعل
فهم جاسم مقصد نجيب فخشي أن يعرضه للإحراج أمام طيف ، فسأله عن سبب مجيئه فأخبره أن هناك حالتين من حالات طيف قد تعافا تمامًا وسيصدر لهما أمرًا بالخروج ..
هنا اتسعت ابتسامة طيف و زينّ الفخر ملامح وجهها ، فسرعان ما أمر جاسم بصرف مكافأة لها ، فبادلته الابتسامة ..
خرجت طيف من غرفة جاسم وهي فخورة بعملها ثم اتجهت إلى غرفة سليم في خفة ، فهي تريد أن تطَّلع على الكلمات التي كان يكتبها ..
- طيف :- هل ستريني إياها ؟
= سليم بخبث :- ماذا تقصدين ؟
- ما كنت تكتبه
= لِمَا تريدين الاطلاع عليها ؟
- لأنك تحب أن تقصّ عليّ ما تشعر به ، أليس كذلك ؟
كانت طيف تظن أنها تسير على نهج دكتور جاسم لكنها لا تعلم أن سليم في أشد حاجة للاهتمام ، فما تفعله ربما يعرضها لأشياء هي في غنى عنها ، خاصةً مع جاسم ..
أخرج لها سليم الورقة التي كان يكتب فيها ثم بدأ يقرأ لها ما كتب :-
" لقد رأيتها ، أقسم ، لم يكن حُلمًا ، لكن شعرت برائحتها ، طيفها الذي يملأ المكان ، لم تأتي إليّ منذ أخر لقاء ، لكنها جاءت ليلة أمس ، كنت أودّ الحديث معها لكنها امتنعت ، كانت ترتدي لباسًا فضفاضًا زادها هدوءًا وجمالاً ، كانت تشبه الملائكة ، طالما كانت كذلك "
كانت طيف تستمع بهدوء وتحاول تحليل الكلمات لكن سليم فاجأها عندما قال لها :-
= سليم :- هناك شيء غريب يا طيف ؟
- طيف :- وما هو ؟
= عندما كنت أخطُ هذه الكلمات كنت أشعر أنني أرى رقية أمامي ، لكن الآن لم أعدّ أشعر بذلك
- وبماذا تشعر إذن ؟
أحمرت وجنتي سليم إثر سؤال طيف ولم يجيبها وطلب منها أن تأذن له بالنوم ، فرحلت على الفور ..
مرت الأيام سريعًا وحال سليم يتطور بشكل ملحوظ والفضل الأكبر يعود لدكتور جاسم المعلن ومجهود طيف في الخفاء ، ولأن جاسم يعلم أن طيف تساعده في علاج سليم فيجعلها تشاركه لكنه إن شعر أن سليم لا يستجب لها فسيغتنم تلك الفرصة ويمنعها من الحديث معه ..
كانت طيف تجلس على المنضدة المطلّة على النهر وإذا بجاسم يأتي من خلفها ويسحب كرسي ويجلس أمامها دون أن يستأذن ، وظل يتأمل المياه معها حتى قاطعته هي :-
= طيف :- ما هي مواهبك يا جاسم ؟
اندهش جاسم للسؤال فلم يهتم به أحد لهذه الدرجة ولم يتطرق لهذه الأسئلة من قبل لكنها أجابها :-
- جاسم :- ليس لدي مواهب
فضحكت ثم قالت :-
= وماذا عن الغرور ؟
ليرد عليها بثقة :-
- إنها صفة متأصلة
= ليس هناك إنسانًا بلا موهبة
- هناك أنا ، أُدعى جاسم حمدان
= ألا تريد أن تخبرني أليس كذلك ؟
- لا أريد أن أخبر سواكِ ، وأنا صغير كنت أدندن
اتسع فم طيف من الدهشة ثم قالت بصوتٍ مسموع :-
= أنت !! أنت تغني ! أنت تمتلك حنجرة ذهبية ؟ كيف !!!
- أخفضي صوتك ، لا تنسي أنني أعمل هنا مديرًا
= أنت تمزح معي !
غضب جاسم من أسلوبها وهمّ أن يرحل لكنها أمسكت بيده واعتذرت له ثم بررت موقفها أنه صارم طوال الوقت فلم تظن أنه يخفي مجموعة من المشاعر بداخله لكنه أجابها أنه لم يغني طوال هذه الفترة ، كان يفعل ذلك منذ قديم الأذل لكنه امتنع وعندما سألته عن السبب فضّل ألا يجيب لكنها ألحت عليه فأخبرها أن والده منعه من ذلك بحجة أنه مجالاً ركيك غثّ لا يليق بنا
= ألم تحاول أن تقنعه
- مرارًا وتكرارًا ، لكنه أبى
= هل ذلك كان سببًا في تعجرفك ؟
- تعجرفي !! لا يا طيف لم يكن سببًا لكنني ذات مرة سمعت شخص يدندن فعندما تتبعت الصوت وجدته أبي !
= ولِمَا لم تواجهه !!
- لقد فعلت ، لكنه أخبرني أن والده أورث له فكرة أن هذا المجال سُوقيّ
= هل لي بمقطع عذب صغير ؟
- ليس عندي ما يمنع ولكن إذا أقنعتِ شخصًا بات قرب الثلاثين عامًا يترنم في الخفاء ..
همّت طيف أن تتحدث لكنها وجدت درة تضرب بيدها على الطاولة وترفع صوتها على جاسم قائلةً :-
= درة :- لقد أخبرتني أنكَ ستنهي عملك ثم تخاطبني ، لِمَا تجلس مع هذا الشيء !!
كادت طيف أن ترد إهانتها لكن جاسم وقف سريعًا وضغط على ذراع درة وظل يهزّها بعنف وهو يصرخ فيها ثم أمرها أن تعتذر لطيف على الفور ، فاعتذرت رغمًا عنها بسبب ألم ذراعها ، فما إن اعتذرت حتى ترك ذراعها في عنف فسقط هاتفها على الأرض فأسرعت لتمسك به وظلت تبحث فيه عن شيء لا يعلمه سواها ، ما إن وجدت التسجيل مازال محفوظًا حتى هدأت ورحلت هي ودموعها ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now