الجزء الثالث والعشرون

2.4K 307 34
                                    

ضربت طيف كفًا على كفٍ ، يا لهذا المعتوه !! باللَّه من يحتاج الخضوع لطبيب نفسي ! إن لم يجد من يساعده فأنا موجودة وبالمجان ..
ذهبت طيف إلى المشفى بعدما هاتفت د. نجيب بخصوص التحقيق وسمح لها بالمجيء ، وأول ما فعلته أن دخلت غرفة د. جاسم لتواجهه بحقيقة مرضه التي يكتشفها الجميع عدا هو ..
مدت طيف يدها بالورقة التي أهداها إياها بالأمس ثم سألته :-
= طيف :- تتذكر ماذا كتبت فيها ، أليس كذلك !
- جاسم :- بالطبع
= هل شرحت لي قصدك منها ؟
- هل حصلتِ على كل هذه الشهادات ولا تعرفي أن تفسري إشتباك بعض الحروف ببعضها البعض !
= أعتقد أن درة تعلم ، سأعطيها تلك الورقة وهي تشرح لي
- لن تفعلِ ذلك
= لماذا كل هذه الثقة ؟
- ببساطة لأنكِ لا تملكين رقمها !
= ألا تخشاها !!!!
- ولِمَا !
= لأنكَ تغازلت بغيرها !
- ومن قال ذلك !
= هذه الورقة خير دليل
- لم أكتب سوى الحقيقة !!
= وما هي الحقيقة ؟
- الحقيقة أن طواف الرحمن لمن أستطاع إليه سبيلاً ، أما طوافكِ فأنا مجبر على سبيله !
= ماذا تريد أن تقول يا جاسم ؟
- تاللَّه لا أعلم ، لكن هذا ليس شفيعًا ألا تناديني بلقبي ، رددي خلفي ، دكتور جاسم ..
تجاهلت طيف ما قاله وقالت في جدية :-
=  متى سأبدأ معكَ في علاج سليم ؟
- لن تبدأي
= لماذا ؟
- ألا تتذكرين ما حدث في المرة الأخيرة !
=  بلى ، وأتذكر أيضًا أنكَ علمت من السبب
- أنتِ
ضحكت طيف وأنهت الكلام فما يهمها أن يصل غرضها لجاسم وقد حدث ، فعادت لتكرر سؤالها مرة أخرى :-
= متى سنبدأ ؟
- لن تبدأي يا طيف ، لن أجعلك تقتربين منه ثانيةً
= تعلم جيدًا أنني سأساعد في تعافيه
- شكرًا لمجهوداتك
= حسنًا كما تريد
أوقفها جاسم محذرًا إياها إن اقتربت من سليم دون علمه ، هو من سيتصدى لها ..
خرجت طيف من الغرفة لتصطدم بدرة التي استقبلتها بنظرات قاسية فتجاهلتها طيف وتركتها ورحلت ..
طرقت درة باب جاسم فسمح لها بالدخول فعاتبته أنه لم يهاتفها أمس ولكنه أعتذر منها وأخبرها أنها ظروف عمله فسألته عما كانت تفعل طيف فثار بركانه وصرخ في وجهها قائلاً :-
- جاسم :- هو أنتي ناسية أن طيف دكتورة هنا !! ثم أن مينفعش تحاسبيني يا درة
= درة :- أنا أسفة يا جاسم مقصدش ، أنا بس بغير عليك
رد الأخر بحزم :-
- مفيش غيرة في الشغل
= حاضر ، أنا أسفة
تركته درة بعدما وجدته مشغولاً وإن صح القول اصطنع الانشغال ..
غضب جاسم من ردة فعل درة ، هو يعلم أن من حق خطيبته الغيرة لكنها ليست أبدًا من حق درة ..
ذهب إلي نجيب ليقصَّ عليه ما حدث فأجابه نجيب :-
= نجيب :- وإيه الغريب في اللي حصل ! واحدة وبتغير على خطيبها
- جاسم :- أنت عارف أني بكره جو الغيرة والتملك والحاجات ديه ، ثم أن مفيش بيني وبين طيف حاجة عشان تغير منها
= لا أنت بتحب جو الغيرة ، بس لما تكون بتحب اللي بتغير
- تقصد إيه ؟
= مقصدش حاجة ، بقولك يا جاسم صح فاكر لما قولتلي أن طيف بتغير من درة ؟ وقتها كنت مبسوط
- أنا مقولتش كده !
- ولكن عيناك فعلت ..
ترك جاسم نجيب بعدما أثار غضبه ، فهو يشعر أنه أودى بنفسه إلى الهلاك ، لقد تسرع عندما نعت درة بخطيبته لكن نجيب قد حذره أن هذا ليس حلاً ، فماذا يجب عليه الآن !!
نزل جاسم ليطمئن على سليم وكان في حالة لا بأس بها ، حاول أن يفهم منه مما يعاني لكن سليم لم يخبره بشيء واضح ، لا يتفوه إلا بكلمات معدودة مثل " هي السبب ، لم أكن أستحق منها ذلك ، لِمَا فعلت ذلك بي " وأشياء مشابهة لذلك وعندما يحاول أن يعرف جاسم من هي التي فعلت به ذلك يرفض بشدة ..
اتجهت طيف إلى غرفة حازم في محاولة منها لمخالفة أوامر جاسم بعدما نجح في استفزازها ، ولكنها سمعت منه ما لا تودّ سماعه ..
فعندما دخلت فاجأها حازم الذي قال لها دون أية مقدمات :-
= حازم :- أرجوكِ لا تكوني مثل زينة
- طيف :- عفوًا !!
= عندما فقدت زين ، تأثرت زينة بفقدانه ولم تهتم بطفلها الأول فكان مصيره الهلاك حتى أنقذه اللَّه وأعاده إليها مرةً ثانيةً
- هل لكما طفل أول !!
= هي لها
- هل توضح لي أكثر !
= أنا طفلها الأول
لم تندهش طيف مما قاله حازم فهي تعلم أن الرجل إذا أحب أعطى حبيبته كل شيء بداية من مشاعره حتى يتمنى أن يجتمعا في الجنة ، فليس غريبًا على حازم أن يرى زينة أمه التي يطمئن بوجودها تارةً ومدللته التي يسعى لإرضائها دَومًا تارةً ..
- ماذا تودّ قوله يا حازم ؟
= أعلم أنك تحبينه
- من هو ؟
= دكتور جاسم
لم ترد طيف وتركته يكمل ..
= لم تقوليها ولن تقوليها لكن عينك تخبر من أمامك بكل شيء ، سأرحل قريبًا جدًا ولا أريد أن تعاد تجربتي مع زينة ، فعليكِ أن تحتويه ، أتركِ لقلبك العنان يا دكتورة طيف ..
ما كاد يكمل جملته حتى دخل دكتور جاسم الذي اتسعت عيناه دهشةً لرؤية طيف ، فهو حذرها أن تقترب من مرضاه بالأخص حازم وسليم ، لكنه لأول مرة منذ أن عرف طيف تعامل بحكمة ، فطلب منها الإستئذان وانتظاره بالخارج ، وبدون تردد أخبر حازم أنه سيصدر أمر بخروجه اليوم ..
خرج جاسم ليمسك بذراع طيف بغلظة قائلاً بصوت منخفض لكنه أجش حتى لا يسمعه أحدًا :-
- وبعدين في العند ده ؟
لم تكن طيف في حالة تسمح لها أن تردّ عليه فكلام حازم ساهم في ارتباكها ، فما إن غضب جاسم حتى اغرورقت عيناها بالدموع ، فـ لانَ قلب ذلك المتعجرف وترك ذراعها وابتعد عنها قليلاً ثم أعتذر في هدوء مُبررًا موقفه
- جاسم :-  يا طيف افهمي ، احنا هنا في مكان شغل ، كفاية عناد بقى مش شايفة وصلنا لإيه ؟
ردت بصوت منخفض ودموعها تتساقط :-
= طيف :- وصلنا لإيه !!
تمنى جاسم في هذه اللحظة لو كان بإمكانه ضمها بين ذراعيه والصراخ فيها عما جعلته يفعل ، تمنى لو استطاع أن يخبرها أنها جعلته يرتدي دبلةً لا يريد إرتدائها قط ، لكنه التزم الصمت وتركها ورحل ..
مرت عدة أسابيع والحال كما هو ، لا تهتم درة بعدم إعلان أمر خِطبتهم بل تهتم باختيار أثاث شقتها وتواجه ذلك بعدم اهتمام جاسم الذي بات يفتعل معها المشكلات لكنها تتفاداها بدهاء ومكر ليعجز جاسم في النهاية ويمر الأمر بسلام ، تهتم طيف بعملها وقد أظهرت تطورًا واضحًا وبدأ اسمها يُذكر بين المرضى ..
أما عن سليم فقد أرهق جاسم بشهادة الجميع ، فقد حاول معه بكل الطرق أن يفصح له عما يعانيه ولكنه لا يستجب ، حاول أن يتواصل مع دائرة معارفه ولكن دون جدوى ، مازال متمسكًا ببعض الكلمات التي تصعب الأمر ..
قررت طيف أن تقتحم غرفة سليم بعدما فشلت جميع محاولات جاسم ، فلعلها تصل لشيء ..
انتظرت في المشفى حتى حلَّ المساء ، وتأكدت أن سليم قد غاط في سبات عميق ، ففتحت باب الغرفة بحرص ودخلت بهدوء وهي تتكىء على أصابع أقدامها برفق دون إصدار صوت ، وجدته نائمًا على السرير وفي يده قلم وورقة صغيرة واقعة على الأرض ، فأخذتها برفق وفتحتها لتقرأ ما فيها ..
" بعدما أمضيت وقتًا لا بأس به في هذه المصحة الروتينية ، قابلت المدعو جاسم حمدان وللحق هو طبيب ماهر ، أعلم أنه الوحيد الذي سيساعدني أن أتعافى مرةً أخرى ، رأيت أيضًا طيف ، رأيت الغدر يخرج من عينيها ، أعلم أنها ستنتقم يومًا ما ..
مرَّت الأيام ولم تمرَّ هي ، مازالت تلك الغصة في قلبي تؤلمني ، مازلت فاقدًا للثقة حتى لذاتي ، بُهت وجهي ، تبدلَّت ملامحي ، صرتُ أشبه بالمومياء ، لا يفصلني عن تعداد الموتى سوى تلك الأنفاس الضئيلة ، فعلت بي مالا تفعله مشنقة الإعدام ، أشعر بالكرب ولا أملك البوح ، سئمت حنجرتي الصراخ ، ذلك الثقب في فؤادي ، ذلك الألم الذي يتوغل في جميع أنحاء جسدي ، من ذا الذي سيضمده ، جُفت دموعي ، ما يرهقني حقًا أنني مازلت أشتاق لها ، كنت أشكو لها منها ، وددَّت لو ربتت بيدها عليَّ لأشعر بالراحة ولكن ما إن همّت لتفعل حتى في مخيلتي أشعر بنيران تخترق أنسجتي ، تاللَّه لم أقدم لها سوى ما ترضاه وقدمت لي ما لا يرضاه اللَّه ، كنت أرتوي من حبها فبعد رحيلها لم يرحل الظمأ عني ، أشعر بالتعب والخذلان ، تحملت الكثير لأصل بها لبر الأمان وعندما وصلت كنت أنا ثمن الرحلة ، لقد تمت الموافقة عليها من قبل قلبي وعقلي فمن سيساندني الآن !! ، أصبحت لاجئًا بعدما كانت مسكني ، سأظل تائهًا للأبد بعدما فقدت بوصلتي ، وقفت أمام المرأة ليالٍ أتأمل ملامحي التي كانت تكتب لها قصائد ، أمازالت أدمية !! ، كنت أتفادى الجميع من أجلها هي ، كنت لا أرى غيرها ، أعلنت سيطرتها على جميع خلايايّ ثم تركتني ، أريد أن أرتمي بين أحضانها ، أريد أن أشعر أنني طفلها المدلل ، اشتقت لنسمات الهواء وهي تتلاعب بشعيراتها الطويلة ، تمنيت لو أن قلبي سامحها على كبيرتها لكنه أبى " ..
ما إن انتهت طيف من قرائتها حتى وجدت يدًا تمسك بمعصمها ..
   
_ جيهان سيد ♥️🌝

من إحدى غرف المصحات النفسية 🖤.Where stories live. Discover now