الأمواج تحترق

By Sahar_Gahssan

21.9K 442 17

الامواج تحترق للكاتبة - آن هامبسون روايات عبير القديمة العنوان الاصلي للرواية Waves of Fire by Anne Hamps... More

2- بارد.... كالنار
3- اليوناني الأسمر الغامض
4- العطلة البريئة
5- عود على بدء
6- فخ من حرير
7- مشاكل محلية
8-الموقف الحرج
9- الرقص على اللهب
10- سماء بلا غيوم

1- في المستشفى

5.1K 71 0
By Sahar_Gahssan

جاءت مكالمة هاتفية لشاني, وقبل أن تتاح لها الفرصة للرد دخلت الأخت غلوفر الى الغرفة وهمست:
-" الرئيسة تريد أن تراك".
-" الآن؟".
وتحدثت شاني الى براين واعدة أن تتصل به بعد دقائق.
-" هل ستقرع أجراس الزفاف قريبًا؟".
ولاحت تقطيبة على جفن شاني وقالت:
-" ما حان الوقت بعد يا جيني".
-" لكنك ستتزوجينه؟".
-" لم يطلب مني الزواج حتى الآن ولكن...".
وظهرت الأبتسامة على وجه شاني مرة أخرى وأكملت عبارتها بنبرة الثقة:
-" بالطبع سأتزوجه".
ورمقت جيني صديقتها بفضول . ولاحظت التغيير في لون وجهها , ثم واصلت كلامها قائلة:
-" أهذا لأنك لا تستطيعين تحمل فكرة رحيلك عن هذا المكان؟".
-" ينبغي أن أعترف بأن الفكرة تضايقني"؟
اعترفت شاني بذلك وهي تتمسك بالسؤال الثاني كوسيلة لتجنب الرد على السؤال الأول.
المستشفى تطل على خليج لوتراس ولأنها أكبر المستشفيات في قبرص, وأكثرها كفاءة, كان المستوطنون البريطانيون يفضلونها على سواها كما تمكنت ممرضة أو أكثر من الممرضات الأنكليزيات الحصول على عمل فيها , وكانت رئيسة الممرضات انكليزية أيضا , كذلك اثنان من الأطباء.
ألقت الرئيسة نظرة على شاني وابتسمت لها وقالت:
-" تفضلي".
ونهضت الرئيسة وأغلقت أحد مصاريع النافذة , فحرارة الشمس أصبحت لا تحتمل , ثم أضافت قائلة:
-" أرسلت في طلبك لأخبرك بأنك ستنقلين الى غرفة العمليات حسب ارادتك".
شكرتها شاني , لأن العمل في غرفة العمليات كان دائماً يجذبها, وعندما جاءت الى مستشفى لوتراس كانت تتمنى أن تعمل مع الدكتور روجرز كبير الأخصائيين في وحدة جراحة الأعصاب, لكن الدكتور روجرز اضطر الآن للأعتزال بسبب صحته, وأجمع كل من في قسم جراحة الأعصاب على أن المستشار الجديد لن يكون لطيفاً مثل الدكتور روجرز مهما كانت شخصيته.
ومضت الرئيسة قائلة:
" الجراح الجديد سيصل بعد ظهر الغد , وأريد أن تستعدي لمقابلته فهو غريب الأطوار على ما سمعت , ويحتمل أن يطلب مقابلة أعضاء الفريق الذي يعمل معه حالما يصل".
وعدت شاني الرئيسة قائلة:
-" سأبقى ... متى سيكون هنا؟".
-" بعد نحو ساعة".
ثم مضت الرئيسة تتحدث عن عملية الآنسة فورستر المقبلة التي سيجريها الجراح الجديد.
-" حسبما سمعت عنه فأن الدكتور مانو لن يصبر كثيراً على عصبيتها".
وغاض الدم من وجه شاني وهي تقول:
-" مانو ؟ أندرياس مانو؟".
-" هل تعرفينه؟".
نظرت اليها الرئيسة بقلق, اذ كان واضحاً أن الأخت ريفز اهتزت اهتزازاً شديداً.
-" أعتقدت ... أعتقدت أن اسم الجراح الجديد مانوليس".
-" يبدو أنها كانت غلطة, هل تعرفينه؟".
كررت الرئيسة سؤالها.
-" كان ... أحد.... زملاء أبي".
وبذلت شاني جهدا لتستعيد رباطة جأشها ونجحت ظاهرياً , لكن خفقات قلبها كانت خارجاً عن ارادتها.
-" منذ متى توفي أبوك؟".
-" منذ خمس سنوات...".
هل مرت كل هذه المدة الطويلة؟ كم يمضى الوقت سريعاً!
-" الدكتور مانو لا يزال يعمل في مستشفى لندن ... أو على الأقل كان هناك حتى الأمس . سيبقى هنا في لوتراس حوالي سنة.".
وتوقفت الرئيسة عن الكلام, وفي تلك اللحظة رن الهاتف وكان كل ما قالته الرئيسة:
-" لا تنسي أيتها الأخت أن تكوني مستعدة لمقابلته".
عندما وصلت شاني الى غرفتها شعرت أنها ضعيفة. منذ أدركت حقيقة شعورها اتجاه براين أرادت أن تتصل بأندرياس , لكنها لم تفكر على الأطلاق في مقابلته.
وهبطت درجات السلم واتصلت ببراين تلفونياً . كان همه أن يؤكد موعد تناولهما العشاء في تلك الأمسية.
وبعد اثنتي عشرة ساعة كانا يتناولان العشاء بالقرب من البحر, والهلال يسطع عاكساً نوره على مياه البحر كالقوس الفضي في السماء المتلألئة.
تناولا سمك البوري الطازج المزين بالبطاطا والسلطة, واختتما الوجبة بثمار التين الطازجة والقهوة التركية, ورقصا على أنغام البوزوكي قبل أن يتجها الى السلالم المؤدية الى الشاطىء وضع براين ذراعه حول كتفيها كمن يريد امتلاكها , كانت الليلة ساحرة , ولم يكن الوقت أكثر ملائمة منه الآن. وبعدما سارا في صمت لحظة أو اثنتين , همس براين :
-" أريد أن أطلب منك شيئاً يا شاني..... وأنا واثق أنك تعرفين ما هو؟".

وكان هذا ما توقعته وما رغبت فيه أيضاً , وأجابت:
-" أعتقد ذلك...".
كان صوتها خجولاً ومتردداً ... وشد براين قبضة ذراعه حولها وقرَبها منه قائلاً:
-" أنني أحبك ... أحبك يا عزيزتي ... أتقبلين الزواج مني؟"
ورفعت عينيها , وقد شعت النسمة الباردة شعره , كم كان جذاباً, وكم يحسدها الجميع ! لكن عقلها كان مضطرباً وهي تناضل بلا جدوى لتجد الكلمات المناسبة . وتملصت , ثم استدارت وعيناها الجميلتان تبحثان عن مهرب من عينيه, وبصوت خال من الأحساس قالت:
-" أنا في الواقع متزوجة".
وفي فترة الصمت التي أعقبت ذلك بدأت تتساءل اذا أخفق في التقاط كلماتها, فقد كانت أقرب الى الهمس .. وأخيراً وجد براين صوته لكنه كان متقطعاً وفظاً وقال:
-" ماذا قلت؟".
-" أنها الحقيقة.... أنا ... أنا متزوجة منذ خمس سنوات".
-" خمس سنوات ؟ لكنك في الثالثة والعشرين من عمرك فقط الآن؟".
وبخشونة أدارها لتواجهه ثم أضاف:
-" متزوجة ؟ أي هراء هذا!".
-" ليس هراء... أرغمت على الزواج ... بنوع من التهديد".
ومرة أخرى تخيلت شاني أمامها ذلك الرجل الغليظ الأسمر الذي لم يرها الا مرة واحدة ومع ذلك تسلطت عليه رغبة لا يمكن قمعها وقالت:
-"هجرته".
وسادت فترة صمت أخرى لم تقطعها الا همهمة الأمواج وهي تتكسر برقة على الشاطىء . وأخيراً قال براين:
-" لا أصدق هذا ... وأرغموك ؟ وهددوك؟ عم تتحدثين , انك تكذبين!".
ولكن سرعان ما فقدت نبرة صوته قوتها , اذ كان يعرف أنه لا يمكن أن يشك أن شاني تكذب . ثم قال:
-" يا الهي , كيف أمكنك أن تضلليني يا شاني ؟ لماذا لم تخبريني من قبل؟".
ثم أطلقها وابتعدت , وقد أجفلت من نبرة اليأس التي شابت صوته وقالت بسرعة:
-" سيكون كل شيء على ما يرام يا براين, يمكنني أن أحصل على الغاء لهذا الزواج لأنني هربت قبل ... قبل... هربت قبل أن يأخذ وجهي".
وتألق أمله لكنه ظل حائراً , وفي هذه اللحظة اكتفى بسؤالها بلهجة اللوم:
-" لماذا لم تخبريني ؟ منذ أسابيع عرفت مدى شعوري نحوك!".
ونفت برقة:
-" ليس منذ أسابيع , كان تخميني منذ أسبوعين بالضبط".
قاطعها بغضب:
-" نحن نخرج معاً منذ ثلاثة أشهر ..... ثلاثة أشهر!".
-" كان لقاؤنا تلبية لدعوتك اياي للعشاء من وقت لأخر".
-" وفي الحفل الذي أقامته الأخت سمولمان أدركت أنك تفكر فيَ أكثر من أي واحدة أخرى".
قبل أن بدأ يخرج معها , كان براين دافيز الشاب الوسيم الضابط في السلاح الجوي الملكي البريطاني بالفرقة الموجودة قرب ليماسول مشهوراً بمغازلته للفتيات . وأضافت بسرعة أذ بدا متوتراً:
-" أقصد أنه منذ أسبوعين فقط بدأت أعتقد أنك جاد... وأنك ستطلب مني الزواج , وحينئذ قررت أن أكتب الى أندرياس أطلب منه فسخ الزواج".
وأجابها مشتت الفكر:
-" أندرياس ؟ أليس أنكليزياً؟".
كانا يسيران على طول الشاطىء , ثم اتجها بطريقة تلقائية الى جدار منخفض وجلسا, وأضاف:
-"لا يمكن أن يكون يونانياً , بالتأكيد؟".
-" زوجي هو أندرياس مانو , جراح الدماغ".
-" أندرياس مانو؟ سمعت عنه , فقد أجرى جراحات عديدة كانت بمثابة الأمل . أليس صحيحاً؟".
وأومأت بالأيجاب:
-" كان أبي كما أخبرتك طبيباً, وكان أندرياس يعمل في المستشفى نفسه".
وتوقفت عن الكلام ثم أضافت بصعوبة كبيرة:
-" أنه .. أندرياس أخصائي الدماغ الجديد في مستشفى لوتراس".
وأعقب ذلك صمت يشوبه الذهول , ولم يبد براين عاجزاً عن الكلام فحسن, ولكنه بدا عاجزاً عن فهم هذا الجزء الأخير من الأنباء , وحاولت شاني أن تتكلم لتضع حدا للصمت المخيف لكنها لم تستطع , وأخيرا قال براين , بنبرات خشنة جعلتها تجفل:
-" زوجك... قادم الى هنا! يا اإلهي , يا له من موقف معقد!".
كانت تحتاج الى التعاطف , الى الفهم , الى كلمة رقيقة تعيد اليها الثقة والأمل , ولكنها لم تلق منه الا غضباً شديداً, ونظرة لا يمكن وصفها الا أنها مهلكة.
-" براين...".
-" من الأفضل لي أن أخبرك بالقصة كلها".
-" من الأفضل أن تفعلي".
عند لقائها ببراين لم يكن زواجها يبدو شيئاً هاماً , فلم تكن ترى أن هناك أية عقبة في طريق فسخ الزواج بسرعة, وسيفهم براين الموقف وسينتظر في صبر حتى تحصل عليه, ولكن الآن لم تعد شاني واثقة على الأطلاق من ذلك؟
-" على الأقل أنت مدينة لي بذلك , لأنك خدعتيني".
-" لا , لا, لا تقل هذا . تلك الحادثة في حياتي مسألة تخصني وحدي , وكانت السبب في تركي أنكلترا حتى أبدأ حياتي من جديد, وكان هذا طبيعياً , ومنذ البداية احتفظت باسمي الخاص , أعني منذ اللحظة التي هجرته فيها, والواقع أنني لم أستخدم اسمه ولا مرة واحدة".
ونظرت اليه في توسل لكنه أدار وجهه ولم تر الا التقاطيع القاسية لجانب وجهه وفمه المقطب ثم قالت:
-" لا يمكنك أن تلومني لأنني لم أخبرك حتى أصبحت واثقة من حبك".
-" حسنا ... وبما أنك أصبحت واثقة فلتعرفي الحقيقة، انني أحبك وأريد أن أتزوجك , فلا تحجبي عني أي شيء لو سمحت".
ولم يكن هذا هو الموقف الذي توقعته على الأطلاق, لم تتلق دليلاً على الحنان , ولا تصريحاً مخلصاً بأنها لا تلام . كانت شاني خائفة من فقدان براين في هذا الوقت.
-"بدأ كل شيء عندما توفيت أمي , فقد لجأ أبي الى الشراب.
كان الأسلوب الهادىء الخالي من الأنفعال الذي بدأت به سرد قصتها مثار دهشة شاني , لكنها لم تبد وكأنها تروي القصة على الأطلاق , بل كأنها تعيشها مرة أخرى.
ظهر في أفق حياتهم ذات يوم من أيام سبتمبر / أيلول المشمسة الجميلة ذلك اليوناني الداكن الشرير الذي يتطاير الشرر من عينيه .. ولم تكن شاني تتوقع, وهي تراقب اقترابه منها , شيئاً عن الأنقلاب الذي سيحدثه أندرياس مانو في حياتها كلها.
كانا في الحديقة يتناولان الشاي, شخصان عاديان يعيشان حياتهما الهادئة الخالية من أية أحداث كبيرة, أبوها الدكتور ريفز البدين الشائب , ظهره مصاب بانحناءة بسيطة وساقه بها عرج نتيجة حادث أثناء الحرب اذ اخترقت قطعة معدنية جسمه واستقرت بالقرب من عموده الفقري , فقد زوجته منذ سنة وأصبح مدمناً على الشراب , مما أثار استياء شاني.
حذرته مراراً, ورغم أنه كان يعرف مخاوفها لم يستطع السيطرة على تلك العادة , كانت زوجته مثل شاني ذات شعر باهت, عيناها زرقاوان واسعتان , وحتى النهاية احتفظت ملامحها بالخطوط الدقيقة والثنيات الخلابة التي امتلكت قلبه منذ لقائهما الأول , جاءت شاني شبيهة بأمها في كل شيء حتى قوامها الفارع المتكامل رغم أنه في حالة شاني, لم يكن مكتملاً تماماً لأنها لم تكن تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها, مع أنها اجتذبت عدداً من القلوب.
كانت أول من قابل الرجل حين هرع عبر المرج الأخضر , حيث ترك سيارته , وتجهمت بعض الشيء لأنه ذكرها بحيوان خطير نشب مخالبه استعداداً لتمزيق ضحيته .
-" أندرياس , كيف جئت الى هنا؟".
ونهض دكتور ريفز وهو يمد يده شاحب الوجه ازاء التعيير المرتسم على وجه زائره وتساءل :
-" هل هناك شيء ما".
ورغما عنها نظرت شاني الى السماء , وبدا كأن سحابة داكنة حجبت الشمس. تغير الجو بوجود هذا الرجل تغيراً كبيراً , وشعرت شاني بقشعريرة باردة تخترق ببطء عمودها الفقري.
-" أود أن أتحدث معك على انفراد , فوراً".
ولم يلق الرجل اليوناني نظره الى شاني على الأطلاق , واتجه الرجلان نحو البيت تبعتهما شاني بعينيها . كان واضحاً أن اليوناني يعاني توتراً عنيفاً , وجهه داكن غاضب مما أبرز التجاعيد التي امتدت من أنفه الى فكه, تلك التجاعيد التي ألقت مسحة الشر على وجه يحمل بالفعل ملامح القسوة المتمثلة في عينين حادتين وشفتين رفيعتين مزمومتين بقوة.. أندرياس مانو جراح الدماغ البارز الذي ذكره أبوها مرات, لأنهما كانا يعملان بالمستشفى نفسه .
وأجرى أندرياس أخيراً جراحة اعتبرت حدثاً, وأبرزتها الصحف في عناوينها الرئيسية , وكان المريض لا يزال في المستشفى وحالته تتحسن بصورة مرضية.
ما الذي يمكن أن يريده رجل مثل أندرياس مانو من أبيها؟ لا بد أنها مسألة خطيرة للغاية, لا يمكن أن تنتظر حتى الصباح, أو حتى عن طريق الهاتف, ولسبب مبهم تسارعت دقات قلب شاني, وتسللت القشعريرة الباردة عبر عمودها الفقري مرة أخرى ولم تعد تشعر بالراحة, فتركت الشاي واتجهت الى البيت من باب آخر ووقفت بلا خجل خارج الغرفة التي كان أندرياس وأبوها يتحدثان فيها.
-" كنت ثملاً".
-" لا يا أندرياس , ينبغي ألا تقول أنني كنت ثملاً".
-" هل كنت ستصف ذلك الدواء اذا لم تكن ثملاً؟".
-" أنني ... أنني..".
وعندما تداعى صوت أبيها بذلت شاني جهداً للسيطرة على نفسها, اذ كانت ترغب في الذهاب اليه والوقوف بجانبه , لكن الوقت لم يكن مناسباً.
-" هل مات؟ بعد جراحتك المدهشة؟".
ووصل صوت اليوناني الى شاني مهدداً مثل التقطيبة الحادة التي سبقت الهجوم.
-" لو كان مات يا ريفز كنت أنت الذي قتلته , بأي حق تصف دواء للمريض؟".
-" كنت أزور أحد المرضى, ولم يكن الرجل قادراً على النوم , ولم تكن أنت هناك ولذلك أعطيته الدواء".
" كانت أوامري أن يستدعوني عندما يحتاجون الي , ولحسن الحظ أنني استيقظت وذهبت لألقي نظرة على الرجل, أما أنت فكنت ذهبت حينذاك. أعتقد أنك كنت ثملاً لدرجة أنك لم تستطع البقاء".
وصرخ دكتور ريفز مما أفزع الفتاة حتى قفزت من مكانها :
-" لا ... لم أكن ثملا ... لا تستطيع أن تثبت ذلك".
-" أستطيع ... وأثبت أن الدواء أعطي بناء على تعليماتك , ولو لم أستيقظ لكان المريض قد لقي حتفه".
وتوقف عن الكلام وبدا لشاني أن غضبه اختلط بالغرور, ولكن مهارته الفائقة كانت تغفر له ذلك – ثم أضاف:
-" كيف سترد على التهمة..؟".
-" الممرضة... يمكن أن تكون غلطتها".
وقاطعه اليوناني بزمجرة:
-" أيها الجبان! لكن يجب أن تتأكد من أنك أنت الذي ستدفع ثمن الغلطة ... انك لست مؤهلاً لتكون أرواح الناس بين يديك".
وازدادت رعشة شاني . كان واضحاً أن والده اقترف خطأ. ويمكن أن تكون العواقب مدمرة, ولا عجب في أن السيد مانو كان غاضباً بشدة, فربما يلقى المريض حتفه كما قال , وقمعت أفكارها لأنها أفزعتها.
وظل الرجلان يتناقشان , أحدهما يتهم واللآخر ينفي.
وبينما كانت شاني تتنصت ساورها الشك في أن أباها يبكي, واندفعت الدموع الى عينيها ... كانت معاناته شديدة, وغالباً ما كان يجلس ويستعيد الذكريات بينما كانت شاني تنصت في صبر.
ورغم أنه كان يذكر شاني بطريقة عابرة فأنه لم يكن معها . كان وحده مع المرأة التي أحبها , وفي أحد الأيام أدرك وجود أبنته ونظر اليها وقال:
-" سيجيء رجل ذات يوم رائع ويراك ويدرك أنك له".
ولم تعلق شاني . لم تكن تؤمن بأن الحب من أول نظرة يمكن أن يحدث كثيراً, وأخيراً قالت وهي تمنحه ابتسامة رقيقة:
-" لا أريد أن أتزوج الا بعد مرور فترة طويلة , فأن مستقبلي ما زال في بدايته ".
-" أجل أعرف , وهو المستقبل الذي كنت أريد أن تختاريه , لكن لا تصبحي متفانية فيه الى درجة أن يفوتك قطار الزواج الرائع".
-" أن ما أشعر به في الوقت الحالي هو أنني أريد قضاء عدة سنوات في التمريض , فالزواج لا يروق لي".
وتجهم والدها أولاً , لكنه عاد وابتسم بفتور وهو يقول أنه عندما يأتي الرجل المناسب ويحبها من أول نظرة فأنها لن تقوى على مقاومته.
وعادت شاني الى الحاضر برعشة عنيفة عندما أدركت أن الأصوات توقفت , وأن اليوناني يسير نحو الباب وأسرعت بغية الوصول الى كرسيها في الحديقة, ولكن لحظة وصلت الى الباب الخارجي كادت تسقط بين ذراعي الغريب الطويل وهو يسرع الخطى خارجاً من المنزل في غضب عارم.
وجفلت من ألم قبضته على ذراعيها , وزفرت قائلة:
-" آسفة".
جعلها التصادم تلهث قليلاً, وعندما رفعت رأسها لفحت أنفاسها وجهه , ناعمة دافئة , وعيناها الجافلتان اللتان تحدقان في عينيه أصبح لونهما بلون سماء الشرق عند الظهيرة. وفي علو لا يصدق نظر اليها وعيناه الداكنتان تشعان ببريق ناعم من الدهشة وعدم التصديق.
-" لا بد أنك شاني؟".
وغمغمت قائلة:
-" أجل, أنا شاني".
-" شاني ! يا للفتنة!".
نطق اسمها بنبرة تأكيد , ولم تكن تدري هل يقصد الأسم أم الفتاة لأن القسوة عادت الى وجهه عندما ظهر أبوها من الغرفة المجاورة.
-" أندرياس , بحق الله, أليس هناك شيء أستطيع أن أفعله حتى تغير رأيك؟ أنني لم أذق الشراب الا بعد وفاة زوجتي عندما شعرت بأنني محطم تماماً".
وتلاشى صوته عندما رأى المنظر الذي أمامه .
-" شاني, ماذا تفعلين؟".
واحمر وجهها بشدة وثنت جسمها قليلاً لتحرر نفسها عندما خف الضغط على ذراعيها وقالت:
-" اصطدمت بالسيد مانو".
وتوسل أبوها.
-" أنت آدمي بالتأكيد ؟ لن تبلغ عني".
-" أدمي؟".
وظل أندرياس يركز عينيه على وجه شاني وكأنه لن يحولهما عنها اطلاقاً , وظهر أغرب تغير في نبرة صوته وهو يغمغم وكأنه يحدث نفسه:
-" أجل , انني آدمي".
وأضافت شاني وهي تعترف:
" سمعت عفواً كثيراً مما قلته لأبي , وما قاله الآن صحيح فهو لم يذق الشراب اطلاقاً حتى عام مضى , عندما توفيت أمي".
وكانت لا تزال تقف قريبة جداً من أندرياس , وعندما رفعت عينيها المليئتين بعبارات التوسل الى عينيه لم تكن تدري الى أي حد أصبح يرغب فيها, بطريقته هو:
-" أرجوك أن تلزم الصمت يا سيد مانو, فهو لن يشرب ثانية على الأطلاق".
وقال دكتور ريفز بحماسة:
-"أقسم على ذلك ! أعطني فرصة , أتوسل اليك , لا تبلغ عني".
كان أندرياس مشغولاً بالمنظر الذي أمامه , ورغم ارتباك شاني من شدة تحديقه فيها , دققت في وجهه , عن عمد, وهي تشعر بالدهشة لأن الأنطباع الأول بقسوة ملامحه بدأ يتلاشى بعض الشيء.. هل ينوي حقيقة أن يفضح أباها , أم أن الأحتمال الأكبر أنه يقصد اخافته , كان واضحاً أنه نجح في ذلك, وبدأ يخالج شاني احساس بالأمتنان عندما تسبب اليوناني الأسمر في ارتباكها وهو يقول:
-" سألتني للتو ما يمكنك أن تفعل يا ريفز, يمكتك أن تعطيني ابنتك".
وغرد طير على الشجرة المنعزلة عند نهاية الحديقة. وكان هذا هو الصوت الوحيد وأخذ كل واحد من الثلاثة ينظر الى الآخر , كانت السحب تكاثفت وحجبت الشمس تماماً , ونظرت شاني الى فوق وهي متجهمة:
-" لا أعتقد أنني أفهمك".
أخيراً تكلم الطبيب وأخذ لسانه يلعق شفتيه اللتين أصبحتا شاحبتين:
-" أريد الزواج من ابنتك , ليس هناك شيء غير عادي في ذلك".
وقال الطبيب بعد لحظة توقف :
" أندرياس . قد يكون المتبع في بلادكم أن يختار الرجل فتاة ويعرض الزواج منها , لكنك لست في اليونان الآن".
وابتسم أندرياس وهو يلقي نظرة في اتجاهه قائلاً:
-" أنا يوناني مع ذلك, ومن الطبيعي أن أدير شؤوني وفقاً لعاداتي , سآخذ شاني منك , وأعدك بأنها ستلقى مني كل راعية و ... اعتبار".
وهز الرجل الأكبر سناً رأسه وقد أصابه الدوار , أما شاني فشعرت بغشاوة غطت عينيها وتعجبت من التردد الذي سبق نطقه بكلمة اعتبار.
وقال أبوها:
-" في البلد لا نعطي فتياتنا ... ان شاني ستقع في الحب يوماً ما, وسيكون زوجها رجلاً اختارته بمحض رغبتها, لأن مستقبلها بين يديها تماماً".
-" ومستقبلك بين يدي!".
تحدث بنعومة بالغة ولكنه ذكَر شاني مرة أخرى بحيوان شبيه بالنمر مستعد لأن ينقض على فريسته , وأبيضَ وجه أبيها عندما اتضح له المغزى الكامل لكلمات زميله.
" أنا لا أستطيع أن أصدق أنك كنت جاداً عندما طلبت الزواج من شاني".
قال هذا بضعف وهو يمد يديه, وفهمت شاني المعنى الذي يقصده وهي تلاحظ التجاعيد الحادة التي أضافت في الحال سنوات عديدة الى عمره, وأدركت شاني وهي ترتعش أن أباها يعرف أن اليوناني الضخم كان جاداً في عرضه , وأثبتت كلمات أندرياس التالية صحة استنتاجاتها.
-" أنا لا أضيع وقتي في قول أشياء لا أقصدها . أرغب في الزواج من ابنتك , وأطلب يدها منك".
ولم يرد الطبيب وأضاف أندرياس في هدوء , ولكن كلماته كانت تحمل تهديداً خسيساً:
-" ابنتك مقابل سكوتي".
وبعدها ظلت شاني تتخذ موقف المتفرج , تحدثت أخيراً وهي ترفع ذقنها في أباء:
-" ذكَرتنا للتو بأنك يوناني, وأنك تتولى شؤونك طبقاً للعادات السائدة في بلدك, ولكن أبي ذكر أنك لست في اليونان الآن , هذه أنكلترا , وتقاليدك تبدو مضحكة في نظر الأنسان الغربي".
ولم تكن تقصد الأستخفاف به , لكن شاني لسوء الحظ , لم تعرف كيف تختار عباراتها , واقترب حاجبا اليوناني المستقيمان الأسودان بعضهما من بعض بطريقة تنذر بالشر وهو يقول في نبراته المألوفة الناعمة التي تحمل في طياتها لهجة التهديد:
-" هل يمكنني القول أن غطرستك تبدو لي مضحكة , في ظل الملابسات القائمة , تلحظين أن أباك في موقف خطر للغاية, ومستقبله وسمعته الطيبة بين يديَ تماماً , وطبقاً لما قررته فأنه أما يحتفظ بمركزه واحترام مرضاه وأصدقائة , وأما أن يتقاعد في اعتزال شائن".
وصرخت وهي تشعر بالندم لما أبدته من غطرسة:
-" عمله هو حياته ... لا يمكنك أن تبلَغ عنه".
وبلا وعي عصرت يديها بطريق مخبولة, واتضح تماماً أنهما أصبحا في قبضة الرجل ... ليته لم يرها ... لكنهه رآها .
-" لا يمكنك أن تفعل هذا ! وعي أبي درسه من دون أن يقع ضرر خطير , أرجوك أن تدع هذا الأمر يمر , لن يمس أبي الشراب مرة أخرى".
وأعلن الدكتور ريفز :
-" سأقدم عهداً مقدساً على ذلك".
وكان صوته متوتراً , واعتقدت شاني أنه سيمس وتراً رقيقاً في هيكل هذا الرجل , ولكن كانت هناك رغبة جامحة تتملكه ختى اختفت أية شهامة لديه, ووجه حديثه الى دكتور ريفز متجاهلا شاني تماما , وقال:
-" أوضحت شروطي , وعليك أن تختار : أما ابنتك وأما التشهير بك , تستطيع أن تخبرني بقرارك غداً ".
وكان على وشك أن يسير خارجاً عندما أوقفه صوت دكتور ريفز :
-" يمكنني أن أخبرك بقراري الآن ... اذهب وبلَغ عني ".
-" أبي ! لا ! ".
واقتربت منه شاني شاحبة الوجه , ووضعت يدها على ذراعه وهي تحاول أن تسري عنه وأضافت :
-" لا يمكنك أن تقرر بدون أن تفكر ملياً في النتائج ".
-" فكرت فيها ملياً".
-" انتظر حتى الغد يا عزيزي , لا تستطيع أن تفكر بوضوح في الوقت الحالي ".
ولم تنظر الى الرجل المسؤول عن كل هذه المعاناة , لكنها أدركت أن الحقد الأسود يشتعل في عينيها لأول مرة في حياتها , وقال أبوها بخشونة :
-" أتخذت قراري".
ثم أشار بيده نحو البوابة في ايماءة بالطرد , ووقف أندرياس في مكانه وهو يراقب شاني وقال بصوت مليء بثقة لا يخطئها أحد:
-" سأمنحك فرصة حتى الغد".
وبصورة غير متوقعة وضع أندرياس يديه الداكنيتن القويتين على كتفي شاني , ثم أدارها لتواجهه , ونظر الى عينيها في عمق , ورغم أنه لم يكن بأمكانه أن يخطىء نظرة الكراهية فيهما رأى شيئاً آخر أيضاً , شيئاً كان يتوقع أن يجده , لأنه قال وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة النصر :
-" انني أتعجب يا ريفز , أتعجب!".
وكان حفل الزواج رائعاً , فكان لأندرياس أصدقاء من اليونانيين والأنكليز , كذلك كان لشاني أصدقاء , وعندما رأوا أندرياس لأول مرة في الحفل همسوا جميعا بعلامات تعجب:
-" أين قابلته ؟ أنه رائع!".
-" أظن أنه عن طريق أبيها , أندرياس مانو الشهير ".
-" لكن يجب أن تعترفوا أن شاني ( شيء آخر) ".
-" هه ... ها هما قادمان ... هل رأيتم من قبل اثنين من قبل بمثل هذه الروعة ؟ وذلك الثوب ... يقولون أنه أحضره اليها بالطائرة من اليونان , حيث صنعت كل غرزة فيه باليد , وكان خاصاً بجدة أندرياس الكبرى".
-" كل هذه الزخرفة والتطريز .... صنعت باليد؟".
-" هكذا قالت الصحف , أن النساء اليونانيات يقضين أعمارهن في الحياكة والتطريز".
-" ذلك العقد , الفصوص من الأحجار الكريمة ! يحتمل أن يكون من أرث الأسرة ".
-" أنها تبدو مثل الأميرة , أراهن أن كل رجل في الكنيسة يحسد زوجها !".
لكن حينما تقدمت شاني نحوهم , واستقرت يدها بجمود على ذراع عريسها , بينما كانت شفتاها مزمومتين وعيناها لا تتحركان , اتخذت التعليقات الهامسة مسارا آخر:
-" عيناها , كم هما حزينتان".
كانت شاحبة للغاية, ومع ذلك كانت أجمل عروس, وفيما بعد , في حفل الأستقبال , وقفت مع زوجها وهي تتعجب .... ترى هل شعرت أية عروس بمثل ما تشعر به من بؤس وتعاسة. والتقت عينا أبيها بعينيها , وفيهما أيضا استقرت أعمق مشاعر الأسى . لقد أراد أن يتحمل نتائج غلطته ولا يضحي بها , لكن شاني هي التي اتخذت القرار , كان أبوها لا يزال يعاني من فقد زوجته لكنه أحب عمله الذي يشغله تماماً بحيث لا يجد وقتاً للشعور بالأكتئاب ولو فضح ولحق به العار – وهو عار سيؤدي به حتماً الى حياة الكسل قهراً – كان بلا شك سيفقد الرغبة في الحياة, وكان هذا آخر ما تريده شاني ولذلك اتخذت قراراً ولم تتزحزح عنه . قررت أن تتزوج أندرياس لكنها ستجعله يندم على اليوم الذي وجه فيه ذلك الأنذار النهائي الى أبيها ؟
هذا ما كانت تحدث به نفسها مراراً وتكراراً دون أن تعرف بوضوح كيف ستجعل أندرياس يدفع الثمن , وبينما هي تختلس النظر اليه وهي تقف بجواره عندما كانا يصافحان الضيوف , شعرت بأن قلبها مات بين ضلوعها . لن تكون اطلاقاً شريكة حياته . ومع ذلك أدركت أنها لم تقدم اطلاقاً على أي عمل انتقامي بدون أن يقع عقابه على رأسها . كان رجلاً من الشرق حيث تخضع المرأة لأرادة الرجل بدون نقاش, ثم ألم يقل أندرياس وهو يقدم ( عرضه) بالزواج منها , أنه سيدبر شؤونه طبقاً لتقاليد بلاده؟
لفترة طويلة وقفت أمام منضدة الزينة , تمعن التفكير في أحداث الأسبوعين الماضيين : موت والدها المأساوي فور خروجه من حفل الأستقبال الذي أقيم بمناسبة الزواج ... هذه الوفاة لم تؤد فقط الى أثارة أعصابها , لكنها أدت أيضا الى زيادة استيائها من زوجها, فلو أنه لم يصر على أن يتم الزواج عندما رغب في ذلك , لما تزوجته على الأطلاق .
ومن الطبيعي أن شهر العسل تأجل لأن شاني كانت تعاني من حزن عميق , لكن بعد مرور أسبوعين نفذ صبر زوجها وأخذ يلح عليها الحاحاً فسرته بأنه رغبة لا يستطيع السيطرة عليها مما أثار استياءها .
-" سنسافر لبضعة أيام ".
قال لها ذلك ورغم أنها كانت تدرك أن توسلها لن يجدي طلبت منه مزيداً من الوقت , ورفض بحزم , ولم يتأثر بدموعها , وقال :
-" ستشعرين بتحسن أثر التغيير ".
وصرخت قائلة وهي تعصر يديها :
-" ربما كنت سأشعر بذلك لو لم أتزوج . ألا تستطيع الأنتظار فترة قصيرة أخرى؟".
وعندما تمسك برأيه جمعت حاجياتها في خنوع , وصحبته الى ( فولكستون) حيث اقترح أن يقضيا شهر العسل , واختار أفضل الفنادق وحجز أفخم جناح لهما؟
وعندما رأته وهو يرتدي بيجامته أدركت كم من الوقت مر عليها وهي واقفة هناك , وارتفع حاجباه عندما رآها , وتقدم نحوها في بطء , ولم تقاوم عندما ضم يديها بين يديه , لكنها كانت شاحبة وخائفة.
وقال مستفسراً بتهكم رقيق :
-" هل تنوين أن تظلي مستيقظة طوال الليل ؟".
ولم ترد , لكن الدم تصاعد الى وجنتيها الشاحبتين , وربت على خدها وقال:
-" لا تخافي مني يا شاني , لن أؤذيك".
يؤذيها ؟ ألم يؤذها بالفعل الى أقصى حد ممكن ؟ دمَر حياتها تماماً.
" هلا أعطيتني فسحة من الوقت؟".
كانت عيناها الجميلتان تتوسلان , ويداها تمتدان في استعطاف ومضت تقول:
-" لا أزال أعاني من صدمة وفاة أبي , وأنت ... لا تزال غريباً عني!".
ولم تتلق جواباً على توسلاتها , وأعتقدت أنها لمست صلابة وخشونة في عينيه أقنعتها بأنها تضييع وقتها , ومع ذلك حاولت مرة أخرى.
-" مساء الغد يا أندرياس , أرجوك أجَل هذا الى مساء الغد".
-" الغد؟".
بدا أنه يفكر في ذلك ولكن تعبيراته كانت غامضة , وتعذر عليها أن تقرأ أفكاره , وبعد فترة وجيزة شعرت بأن جسمها انهار عندما هز رأسه في حزم وقال :
-" الليلة يا عزيزتي .... ينبغي أن يكون الليلة ".
وأدَت نبرة صوته الدالة على تصميمه النهائي الى أن ترفع رأسها بحدة ثم أضاف :
-"لو بقيت معي الليلة فستبقين معي الى الأبد".
وتجهمت. أنه يقول شيئاً غريباً ؟ وتصاعد الدم الى وجهها عندما اتض ما يقصده أو ما استنتجت أنه يقصده . واكتفت بأن قالت , وهي تلقي نظرة غير واعية على الباب:
-" أتخشى أن أتركك؟ الآن بعدما رحل أبي ".
" يمكنك أن تتركيني يا شاني , وان كنت لا أرغب في ذلك" .
وارتفع رأسها الجميل عالياً في الهواء وقالت:
-" رغبت فيَ بمجرد أن رأيتني . واستخدمت معرفتك للفوز بي , فتاة رأيتها ورغبت فيها على الفور , لكنك ستضطر الآن للحياة مع خوف أنها ستهجرك , وهو عقاب حقيقي لك".
وقاطعها قائلاً في نبرات رقيقة:
-" أنا لم أعرف الخوف اطلاقا في حياتي , قلت أنني لا أريد أن تتركيني ".
-" أعتقد أن الزوجة في اليونان لا تجرؤ اطلاقاً على ترك زوجها؟".
-" في اليونان نادراً ما تفكر الزوجة حتى في هجر زوجها ".
واعترف قائلاً :
-" أن زوجها هو السيد , أجل . لكن الخضوع؟".
-" السيادة والخضوع . أي فارق هناك؟".
ورد قائلاً:
-" هناك فارق يا شاني . لأنني أمقت كلمة الخضوع بشدة بينما السيادة لا تزعجني على الأطلاق".
-" هل في نيتك أن تسودني؟".
وتجهم لكنه قال بحزم:
-" سأرشدك وأنصحك . لن أدعك تقترفين أخطاء , يمكن أن تجعل أيامنا شقاء".
-" يا لها من رقة بالغة".
وأدت لهجة التهكم في صوتها الى أن يجفل في دهشة, لأنها كانت غريبة عن المخلوقة الرقيقة التي عرفها خلال مدة تعارفهما القصيرة, ومضت تقول:
-" أن ما تخبرني به حقيقة هو أنك ستفرض قيوداً وأوامر , وستحد من ارادتي , وتحذرني أيضا من النظر الى أي رجل آخر".
وظهر على وجهه تعبير شرير عندما ارتدت شفتاه الى الخلف, وأصبحت عيناه الداكنتان بطبيعتهما مثل عيون معظم اليونانيين , سوداوان تماما كجمرة الغيرة التي تضطرم في أعماقهما , وخطت شاني خطوة الى الوراء, لكن يده أمسكت برسغها وقربتها منه , لم تعرف مثل هذا الخوف من قبل اطلاقاً, لم تفكر في أن يكون لها زوج يطلق العنان لرغباته كما يفعل هذا الوحش.
-" رجل آخر! أجل . يا شاني الجميلة. هذا بالضبط ما أعنيه , انظري الى رجل آخر وسأقتلك . أتفهمين؟ أنك ملكي , زوجتي للأبد ".
وفي هذه اللحظة أثَرت فيه رقتها والدموع التي دفعها الخوف الى عينيها , وأخذت يداه تربتان برفق عليها , وفكرت فيه كجراح يستخدم يديه في خدمة مرضاه, حتى شفتاه أيضا أصبحتا رقيقتين . وعندما أبعدها عنه أخيرا همست وقد راودها الأمل في استجابته :
-" مساء الغد!".
لكنه رفض قائلاً:
-" لو بقيت معي الليلة فلن تتركيني اطلاقاً, أنا واثق من هذا".
وبدا في عينيها كل الأزدراء الذي تشعر به ازاءه , وقالت :
-" هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تتأكد بها من الأحتفاظ بي . أليس كذلك؟ أرغمتني على الزواج , الآن تلجأ الى هذه الوسيلة كي تتأكد من أنني سأبقى معك".
وتساءل في نعومة:
-" ما الذي تقولينه بالضبط؟".
وفكرت شاني في فتاة عرفتها تزوجت يونانياً . واليونانيون يتحدثون بصراحة عن ( انجاب طفل) كررت شاني لأندرياس ما قاله هذا الزوج اليوناني لزوجته ليلة زواجهما , لكن شاني سرعان ما شعرت بالضآلة وارتدت في ذعر نتيجة الأحتقار التي رماها بها وقال لها ببرود:
-"انني لا أتحدث بالأنكليزية غير السليمة, ولا ألجأ لأستخدام هذه الوسيلة التي تقترحينها للأحتفاظ بزوجتي الى جانبي , دون وسائل أخرى , ونكست شاني رأسها , في مواجهة هذا التوبيخ . وانتابها شعور بالذنب:
-" هذا ما قصدته!".
وقال أندرياس وقد نفذ صبره:
-" أعتقد بأنك ستغيرين رأيك فيما بعد".
وبعد فترة وجيزة سألها مرة أخرى أذا كانت ستبقى هناك طوال الليل , وبدا أنه ليست هناك وسيلة للهرب, فأخذت قميص النوم , واستدارت نحو الحمام, وهي تتوقع أن يلقي أندرياس ملحوظة ساخرة ازاء تصرفها , لكنه لم يقل شيئاً , وعند عودتها كان في غرفته الخاصة وقد أغلق الباب الفاصل بينهما , رغم أنه لم يغلق بالمزلاج, وتوهجت عينا شاني بضوء غريب عندما تملكها الخوف وهي تفكر في المحنة المنتظرة, وانتقلت نظراتها من الباب الفاصل الى الباب المؤدي الى الممر . هل لديها الوقت الكافي لأرتداء ملابسها مرة أخرى؟ أين يمكن أن تذهب؟ العمة لوسي؟ العانس التي تكره الرجال, أن العمة لوسي لن تتصل اطلاقا بأندرياس ولن تصر اطلاقاً على عودة شاني اليه ... أجل .... ستكون آمنة مع العمة لوسي , ولن يعثر عليها أندرياس أبدا حيث تكون مختفية هناك في نونتغها مشبر . أنها محظوظة لأنها لم تذكر أمامه اطلاقاً عمتها العجوز , محظوظة جداً في الواقع....

Continue Reading

You'll Also Like

71.6K 1.2K 12
ملخص الروايه : كانت جينيفر تجهل ما كان دان ينتظر منها وهذا ما كان يزعجها على الدوام ان دان لم يذكر ابدا امكانية علاقة طويلة المدى دائمة مكتفيا بطلب...
29.4K 598 7
الملخص اكذوبة واحدة تكفي احيانا لتفتح ثغرة بحجم المرارة في حياة اثنين .... والمرارة طريق شائكة بلا عودة والدافع هو الحب الجنوني.... ولكن النتيجة غالب...
78K 1.3K 12
الملخص. صفقة مثيرة وقف جون مسكال أمام نافدة مكتبه التي تطل على أجمل المواقع في لندن . وفجأة استدار المدير الشاب ليرى مساعدته ترمقه بلطف : - لقد...
161K 3.2K 10
اليونان.....ببحرها الرائع و سمائها الساطعة كانت خيارها لالتقاط الصور. و كان ذلك السبب الوحيد لوجود كايت والش هناك..... حتى قلب فيليب اندرونيكوس...