10- سماء بلا غيوم

2.3K 87 6
                                    

لم تبق الا عشرة أيام قبل رحيل شاني الى أنكلترا, وأصبحت مستعدة تماماً, أعدت حقائبها ونقلت الى ميناء فاما غوستا لترسل من هناك على السفينة التالية الى ليفربول, واستعدت عمتها لأستقبالها, لكن خطابها تضمن عديداً من التعليقات اللاذعة عن الرجال بصفة عامة, وأندرياس بصفة خاصة, ذلك بعدما كان من الصعب جداً على شاني أن تشرح الموقف بدون أن تضع أندرياس في وضع سيء, وأكتشفت من الرد أنها لم تكن ناجحة كما اعتقدت.
وكان من المعتاد أن يقيم أي من أفراد طاقم المستشفى الراحلين حفلاً, وطلبت شاني من الرئيسة الأذن لها بأن تفعل ذلك, وبدت الرئيسة مندهشة الى حد ما وهي تعتقد, أن الموقف لن يكون مريحاً سواء بالنسبة الى أندرياس أو بالنسبة الى شاني, وكانت تجلس هي وشاني في الشرفة , ورغم أن الجو كان دافئاً كانت السماء قاتمة بالغيوم منذرة بالمطر, والأمطار الغزيرة غمرت ترودوس بالفعل حيث أصبح الجو في تلك البقعة المرتفعة بارداً الى حد أن الثلج أصبح متوقعاً قبل وقته المعتاد , وبعدما أعطتها الرئيسة الأذن بأقامة حفل الوداع سألتها:
-" هل ستعودين الى التمريض؟".
-" فيما بعد .. نعم".
-" هل سترعى عمتك الطفل؟".
-" لم أطلب منها, لكن اذا لم تفعل سأضطر الى الأنتظار حتى يدخل المدرسة".
-" ثم تقومين بعمل نصف الوقت بالطبع".
وأومأت شاني وقد أجتذبت أهتمامها سيارة ليديا وهي توقف في موقف السيارات بجانب المستشفى, وخرجت الفتاة , وسارت بنشاط في اتجاه بيت أندرياس , ورمقت الرئيسة شاني بنظرة جانبية , مما جعل وجهها يحمر خجلاً, ولم يكن من الصعب قراءة أفكار الرئيسة , اذ كانت تراودها الأفكار القاسية أزاء أندرياس , وتظن أن شاني كانت حمقاء الى أقصى درجة وقالت:
-" ينبغي أن تكتبي لي, وتدعيني أعرف أحوالك".
ولم ترد شاني ... حالما تغادر الجزيرة ستقيم حياة جديدة لنفسها , وتستخدم اسم زوجها , ولا بد أن تكون هناك قطيعة كاملة , ولن يمكنها حتى أن تكتب لجيني , أفضل صديقاتها , والتمعت دموع في عينيها , وتساءلت : هل سيشعر أندرياس بالأسف لو أكتشف كيف أدى تصرفه الى قلب نظام حياتها ؟ كل ما عرفه هو أنها ستعود الى أنكلترا , ومن الطبيعي استنتاجه أنها ستعمل هناك , وفكرت . ربما يواجه أزمة خطيرة مع ضميره لو عرف الحقيقة , ولكن الأمل هو ألا يعلم بالحقيقة اطلاقاً من أجل الطفل.
وبينما شاني في طريقها الى المبنى الملحق لزيارة بعض المرضى وهي في غير نوبة العمل القت- آليا- نظرة الى موقف السيارات , أصبح واضحاً الآن أن العلاقة بين أندرياس وليديا تقوى بسرعة, يظهران معاً أكثر كثيراً مما لو كانت مجرد علاقة عمل, وذلك منذ ليلة حفل الأخت غلوفر, هكذا فكرت شاني, صحيح أنها أيضا واجهت لحظة انتصار قصيرة عندما رقصت مع زوجها , لكن فوز ليديا كان الأخير , وقالت شاني: وهي تستعير بعضاً من حقد صديقتها ( لكنه لا يستطيع أن يتزوجها)... ستصاب بصدمة لو كان هذا ما تفكر فية.
وكانت عمة لوسيانا في الملحق, اذ زلت قدمها فوق السلم مما أدى الى أصابة رأسها وذراعيها بجراح, لكن اصابتها لم تكن خطيرة , وكانت تستمتع تماماً بالراحة والطعام الجيد, وترف العيش لوجود من يقوم بخدمتها لأول مرة في حياتها , وكانت عجوزاً ذات بشرة متغضنة , لكن شاني وهي تقترب من فراشها رأت عينيها المعبرتين للغاية تبرقان فرحاً, وأمسكت العجوز بيد زائرتها قائلة:
-" أعتقدت أنك ستذهبين بلا كلمة صغيرة معي".
-" لم أكن لأفعل ذلك... أردت أن أتحدث الى الرئيسة في فترة عدم انشغالها".
-" قبل أن تحضري كانت عمتي تقول أنها تود أن تقبلك".
قالت لوسيانا هذا , وكانت قد وصلت في غياب شاني , وجلست على الجانب الآخر من الفراش, وتساءلت شاني بلهفة:
-" لماذا؟".
-" عمتي تحب جميع الأنكليز , ملكتكم ترسل لها مبلغاً من المال كل شهر , ولم تتوقف أبداً أو تتأخر عن موعدها , ولأنها تحب الأنكليز تريد أن تقبلك".
وأحنت شاني رأسها وقبلت العجوز خدها,وكان وجهها مبتسماً ولكنه جاد, كان هناك عمق كبير في بعض هؤلاء السيدات المسنات , وكثيراً ما كانت شاني تتساءل أي نوع من التأثير كن سيتركنه في جزيرتهن لو أنهن كن متحررات ومتعلمات , وسألت شاني, وهي لا تزال تمسك يد العجوز:
-" من قتل والدك في الحرب؟".
-" كان في البحرية البريطانية , وترك لعمتي ستة أطفال, تركها وحيدة تماماً مع ستة أطفال".
وفكرت شاني , وأنا أشعر بالأسف لنفسي من فكرة أن أتعهد بتربية واحد تعهداً كاملاً , واستطردت لوسيانا:
-" كان أكبرهم في الثامنة , لكن والد ملكتكم أرسل لهم مبلغاً من المال لشراء الطعام والملابس , وللأنفاق على تعليمهم , وتلقى جميع أبناء عمتي تعليماً ممتازاً , وهم يعملون الآن في مناصب برواتب كبيرة , ولهذا نحب جميعاً الشعب الأنكليزي".
وابتسمت شاني قائلة:
-" أجل يا لوسيانا , لاحظت أنك أنت وأسرتك من بين القلة الذين عرفتهم ولا يكفون عن تذكيري (بالطرق التي أقامها البريطانيون لنا) وأنت تعرفين الأجزاء الضيقة من الطريق المسفتة, التي تدفع سائقي سياراتكم , لسوء الحظ الى اعادة السير في وسط الطريق, وفي بداية وجودنا هنا أستأجرنا , صديقي وأنا سيارة لمشاهدة شيء من جزيرتكم , وشكوت من هذه العادة, لكنني سرعان ما تعلمت كيف أصمت لأنهم كانوا يقولون لي أنها غلطتي مرددين ( أنكم أنتم الذين أقمتم الطرق لنا)".
وبدا الألم على لوسيانا , وقالت:
-" هذا أمر سيء للغاية".
-" كان كله نابعاً من روح الدعابة , جدلك القصير مع حارس الحقول كان أقرب الى الشجار من أي شيء آخر سمعته منذ مجيئي الى هنا".
-" هذا لأننا جميعا أقرباء , حتى من بعيد, والروابط العائلية قوية جداً في قبرص".
ثم نهضت لوسيانا قائلة:
-" أنا مضطرة للرحيل الآن يا عمتي... غدا ستأتي أمي".
-" لا تنسي أن تروي حديقتي".
-" سأرويها لكنها ستمطر غداً".
-" ربما, لكن ريها ضروري".
ثم رفعت بصرها وقالت:
-" هل أنت ذاهبة أيضا أيتها الأخت؟".
وردت شاني برقة:
-" حان الوقت لتنامي فيللا , تحدثنا بما يكفي".
وشعرت شاني بأن من بين الأشياء التي ستأسف عليها كثيراً عندما ترحل عن الجزيرة فكرة توديع أولئك المسنين الرائعين, فهم يمثلون حياة القرية البسيطة وعاداتها, ولن يأتي جيل آخر ليحل محلهم , لأن قبرص تدور في دوامة التقدم.
لم تبق الا ثلاثة أيام على الرحيل, وأقامت شاني حفلها في الليلة السابقة في غرفة الجلوس الخاصة بالممرضات , وكان طبيعياً أنها لم تدع ليديا, أما أندرياس فكان فاتراً، لكنه في بعض الأحيان , كان لطيفاً وكانت عيناه تلتقيان بعينيها فتلم فيهما ذلك الشعاع الغريب الكامن في أعماقهما وهو يقدم لها بعض المرطبات , أو يجلس في الشرفة ويشترك في الحديث حيث كانت مجموعات عديدة صغيرة تجلس تحت سماء تضيئها النجوم.
-" لا يبدو أن الأمطار أفادت كثيرا".
وشعرت شاني بالحرج حين وجدت نفسها وحيدة مع أندرياس , وأضافت تقول:
-" أعتقد أن ذلك لأن الأرض جافة الى حد كبير, فلا تستطيع الأمطار التوغل فيها".
-" ولهذا نرى السيول الجارفة تغرق الطرق, وقد انهار جانب من الطريق الى فاسيليوس".
وفكرت شاني, مثل هذا الحديث الجاف , وفجأة بدا الجو , مكهربا.
-" بالطبع عندما يتوقف المطر تبزغ الشمس على الفور وتبدأ في تجفيف الأرض مرة أخرى , سيكون الأمر سيئاً للجزيرة لو كان الشتاء جافاً مثل العام الفائت".
وشعرت شاني أن زوجها لديه شيء هام للغاية يريد أن يقوله لها لكنه لا يستطيع أن يجد الفرصة مع وجود كل هؤلاء الناس.
-" ومع ذلك سقطت كمية كبيرة من الثلوج على ترودوس, ولو ظل الحال هكذا فأن المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج ستفيد كثيراً".
وانضم الدكتور غوردون اليهما, ثم جاء شخص آخر أو أثنان من غرفة الجلوس, وأطلق أندرياس تنهيدة صغيرة وبعد فترة قصيرة استأذن بالأنصراف قائلاً أن لديه عملاً يريد أن ينجزه .
وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي استدعي الى نيقوسيا بصورة عاجلة , وعندما وصل الى هناك اتصل هاتفياً بلوتراس قائلاً أنه لن يعود قبل ساعة متأخرة من مساء اليوم التالي , ولم تكن شاني في نوبة عمل , ولكن الرئيسة طلبت منها أن تحمل بعض التقارير الى غرفته.
ووضعتها شاني , ثم لمحت المفتاح ملقى فوق المحبرة , مفتاح الفيللا في ترودوس.
سوارها... شعرت شاني فجأة بأنه من الضروري أن يكون في حوزتها هدية زوجها الوحيدة لها , الى جانب خاتمي الزواج والخطبة بالطبع.
ووقفت بجانب المكتب ثم التقطت المفتاح في تردد... يمكنها أن تذهب الى الفيللا وتعود قبل أن يعود أندرياس... هناك سيارة أوتوبيس تقلع بعد نصف ساعة.
كانت الطريق خالية من العقبات , لكن الثلوج السميكة تكسو الجبال, وبدأت سحب سوداء ضخمة تظهر منخفضة بشكل يهدد بالخطر عندما غادرت شاني سيارة الأوتوبيس , واتجهت نحو الطريق الضيقة التي كان أندرياس يقود سيارته فيها تلك الأمسية التي لا تنسى , وظهرت الفيللا من خلال الظلام صغيرة كئيبة منعزلة ومهجورة , وكانت مظلمة وباردة من الداخل,
واجتاحت شاني رعشة وهي تسرع نحو غرفة النوم , وبعدما وضعت السوار في جيبا خرجت من الفيللا مرة أخرى, وأغلقت الباب بالقفل, وغادرت المكان بدون نظرة واحدة الى الوراء, وسقط الثلج بكميات كبيرة على الجبال الساكنة , وفي الوادي , وكان الأوتوبيس سيواصل طريقة الى برودهروموس ثم يعود, وينبغي أن تلحق به لأنه آخر أوتوبيس ذلك اليوم الذي انخفضت فيه الرؤية الى مجرد بضع ياردات... وأنبت نفسها ... لم تكن فكرة جيدة أن تأتي الى ترودوس , ومع ذلك كانت سعيدة لأنها استعادت سوارها, أن رحلة العودة ستكون مملة وبطيئة لكنها حالما تعود سالمة الى المستشفى لن تشعر بأي ندم على قرارها المتهور بالذهاب الى الفيللا.
وبدأت تركض , ولكن على مسافة قصيرة من الفيللا ارتطمت قدمها بصخرة كبيرة , وفي محاولة لأستعادة توازنها اقتربت من الحافة, وفي ثوان اندفعت الى أسفل على جانب الجبل وضاعت صرختها التي بددها الثلج , وأحاط بها الظلام من كل جانب.
وعندما استعادت وعيها تسللت الى أنفها روائح المستشفى وسمعت الأصوات المألوفة أيضا... المألوفة في غموض... الرئيسة... الطبيب... مونيكومو... ومن بعيد وصل اليها صوت زوجها.
-"شاني"
-وتوقف , ثم أضاف:
-" أيتها الرئيسة, هلا تفضلت بالخروج؟".
واختفى الشبح المتشح باللون الأبيض من خلال الباب... الألم... الأحساس بالضياع... وحدقت عيناها الجامدتان في هاتين العينين اللتين كانتا تنظران اليها... وبرغم كونها لا تزال تشعر بالدوار , زال التعب عنهما, تماماً مثلما زال التجهم عن فم زوجها ... ولم تلاحظ التجاعيد الصغيرة البيضاء القريبة من فكه, أو الحركة التي لم يستطع السيطرة عليها في حنجرته, وقالت بصوت أضعفه الألم:
-" هل أجريت العملية يا أندرياس؟".
-" أجل يا شاني! اضطررت الى ذلك. اذ لم يكن هنا أحد غيري".
-" أذن فلا بد أن تكون راضياً الآن, اذ سلبتني كل ما كنت أملك".
وجفل من تأثير نبرتها التي تعبر عن المرارة والأتهام, ولكنها لم تستطع مرة أخرى أن ترى هذا وأردفت:
-" آمل أن تكون حصلت على المقابل كاملا لأية اساءة ربما تسببت لك فيها".
لأول مرة مرة في حياتها تحدثت بطريقة ظالمة, لكنها كانت لا تزال مريضة جداً لا تستطيع حتى أن تفكر في كيف أتى أندرياس الى هنا, أو كيف نقلت هي نفسها الى مونيكوكو . الواقع أن ألمها كان حاداً الى درجة أن أندرياس اضطر الى حقنها مرة أخرى, وبعد دقائق لم تعد تدري
بأي شيء حولها.
وفي المرة التالية فتحت عينيها كانت في مستشفى لوتراس, وكان باب جناحها الخاص مفتوحاً , ووصلت الى مسامعها أصوات من الخارج.
-" الأخت ريفز هنا , أخبروني بذلك".
هذا صوت ليديا , لا بد أنها وصلت للتو.
-" أجل , كانت الشوارع خالية من العقبات , ولذلك أحضروها في سيارة اسعاف صباح اليوم".
-" أندرياس , هل ما سمعته صحيح؟ سمعت أثنين من الممرضات تتحدثان عن طفل".
-" لسوء الحظ ! أنها فقدت الطفل".
-" لسوء الحظ! أعتقد أنها سعيدة جداً . يا له من أمر مثير للأشمئزاز لكنني كنت دائماً أعتقد أنها من ذلك الصنف".
وجاءت المقاطعة ناعمة:
-" شاني هي زوجتي , والطفل كان ابني".
وهتفت ليديا:
-" زوجتك؟".
-" أجل يا ليديا زوجتي, والآن , عن أذنك , يجب أن أذهب اليها فقد بدأت تستفيق".
وأغلق أندرياس الباب, وتقدم ببطء نحو الفراش, وشعرت شاني بيده الباردة فوق جبينها قبل أن يسحب كرسياً ويجلس , وكان وجهه مرهقاً لكنه ليس كئيباً ولا منهكاً كما كان في آخر مرة.
-" كيف تشعرين الآن؟".
-" أفضل كثيراً, زال الألم".
ومرت لحظة صمت شابها الأرتباك , ثم أضافت:
-" شكرا لك يا أندرياس , أنقذت حياتي على ما أعتقد , ثم لم أكن أقصد تلك الأشياء الفظيعة التي قلتها هناك . سامحني".
-" ليس هناك ما يدعو للغفران يا عزيزتي, كنت ضعيفة جداً في الواقع ساعات بعد العملية".
وسرت في جسمه رعشة لكنه أضاف مبتسماً:
-" ومع ذلك ستتقدمين تقدماً طيباً الآن, وسنجعلك تستردين صحتك في وقت قصير جداً".
كان صوته منخفضاً , ورقيقاً , وأخذ بيدها وهو متردد وكأنه خائفاً من توجيه السؤال الذي كان يتأرجح على شفتيه, لكنه سألها في الحال , وكانت لهجته , للغرابة تتسم بالثقة:
-" أتحبينني يا شاني؟".
-" أجل يا أندرياس , أحبك, هل عرفت أنت ذلك؟".
-" أعتقدت أنني عرفت منذ فترة , أثناء تلك النوبة القصيرة من الغضب التي انتابتك في غرفة العمليات , اذ كان في امكاني أن أقسم بأنك تشعرين بالغيرة من ليديا , لكنك بددت ذلك الوهم عندما أجبت على سؤالي عن براين ... لماذا كذبت؟".
-" كنت خائفة جداً أن تشك بوجود طفل في أحشائي , ولم أكن أريد أن تأخذه مني ... أقصد تشاركني اياه , اذ لم يكن من مصلحة الطفل أن ينشأ وهو يدين بالولاء لأثنين متباعدين".
كانت على وشك أن تسأل كيف عثروا عليها لكن أندرياس مضى في حديثه:
-" وهكذا تركتني أعتقد أنك ما زلت تحبين براين... لماذا يا عزيزتي لم تكن لديك الشجاعة لتخبريني؟".
أمتلأ قلب شاني بفرح جديد برغم فقدها الطفل , وشرحت له الأمر فظهر على وجهه تعبير الندم, ثم قال:
-" كانت كبرياء حمقاء تلك التي جعلتني أقول أنني فقدت اهتمامي بك, شعرت بمرارة , اعتقاداً بأنك وافقت على تهديدات براين , وماذا زلت تفضلينه , بعد اجازتنا الرائعة في كوز, لو أنك أخبرتني عن الطفل, لماذا لم تفعلي؟".
-" أعتقدت أن البديل الذي ستقدمه لي هو الحياة معك من أجل الطفل فقط".
ونظرت اليه وقد أمتلأت عيناها بالدموع:
-" لم يكن في استطاعتي أن أفعل ذلك بعدما أحببتك كما أحببتك , وأعتقدت أنني لو رفضت العيش معك فستصر على أن تأخذ الطفل مني ... بعض الوقت".
وفرت دمعة من عينيها وأضافت:
-" أكدت أنك فقدت الأهتمام بي , و ... قلت أنك لا تريد أن تراني ثانية ... أعتقدت أنك تعني هذا , وأعتقدت أنني أكتشفت مشاعري بعد فوات الأوان".
-" لا تبكي يا حبيبتي الصغيرة , هل أنت متعبة؟ أتريدين أن تستريحي؟".
وهزت رأسها , وانحنى لكي يقبلها , ثم جفف دموعها ومضى يقول:
-"كان خطأ مني أن أقول ذلك, لكنني ظننت في ذلك الوقت أنني لم أعد أحتمل أكثر مما تحملته وشعرت بأنني لن أرغب اطلاقاً في رؤيتك ثانية, لأنه بهذه الطريقة فقط يمكنني أن أبدأ بالنسيان , لكنني عرفت أنني لن أستطيع أن أنساك, ومع ذلك تفوهت بتلك الكلمات القاسية , ثم واصلت محاولاتي لأن أثير غيرتك معتقداً أنني سأنجح في النهاية , وبذلت محاولة لأتحدث اليك في حفل الوداع لكن لم تكن لدي فرصة".
وقاطعته قائلة:
-" أعتقدت أنك تريد أن تقول لي شيئاً ... لماذا لم تفعل؟".
-" كان هناك عدد كبير من الناس , وخيل الي أننا سنتحدث في اليوم التالي , لكنني ستدعيت الى نيقوسيا , وعقب عودتي مبكراً عما توقعت أرسلت في طلبك , وقالت الرئيسة أنك لا بد أن تكوني رحلت مبكرة لأن آخر مرة رأتك فيها كانت عندما طلبت منك أن تضعي بعض التقارير على مكتبي , ولم أشعر بالأنزعاج حتى افتقدت المفاتيح فجأة ... كان
هناك سبب واحد لذهابك الى الفيللا وهو استعادة سوارك , وكانت مشاعري مضطربة جداً حينئذ , وشعرت بأن ذلك يعني أنك تهتمين بي ولكن من ناحية أخرى كنت قلقاً للغاية من فكرة ذهابك وحدك الى ترودوس في ذلك الطقس, ثم علمت أن الأوتوبيسات توقفت عن السير وقررت أن أستقل سيارتي الى الفيللا".
-" في تلك العاصفة الثلجية؟".
-" أعتقدت أني لن أجد اسوأ من وجودك حبيسة هناك , دون طعام , ولكن...".
وتوقف وهو عاجز عن الأستمرار في الكلام لحظة , ثم أردف:
-" لم تكوني في الفيللا, وكنت خائفاً... لأول مرة في حياتي, وعندما رأيتك على ضوء المصابيح الأمامية للسيارة هناك الى جانب تلك الشجرة التي أنقذت حياتك , اذ منعت سقوطك... كان من الممكن أن تدفني وسط الثلوج, لكن الشجرة أنقذتك مرة أخرى , ونقلتك الى مونيكومو , هناك تلقيت صدمة أخرى".
ونظر اليها في حزن ومضى يقول:
-" اضطررت لأجراء العملية يا شاني العزيزة... تفهمين بالطبع".
وأمتلأت نفسها ندماً على الكلمات التي تفوهت بها حالما استعادت وعيها, كم عانى زوجها وهو يجري العملية فقط لأنه ليس هناك غيره, وناضل من أجل أنقاذ حياتها كما ناضل من أنقاذ حياة الكثيرين, كم كان رقيقاً! لم يكن على الأطلاق مثل الوحش الذي بدا ليلة هربت منه, ولا الرجل الذي أخافها كثيراً بتصرفاته المعبرة عن الرغبة في التملك, وهمست:
-" كن حمقاء منذ البداية , والآن أتمنى من كل قلبي لو بقيت ".
-" كانت غلطتي , بدأت بداية خاطئة تماماً, لكنني قصدت أن أكون رقيقاً معك, محباً حتى تدركي مشاعري ازاءك , ومتى شعرت بذلك ستكونين كريمة , وستبقين معي, برغم أنك لا تحبينني".
-" كان هذا ما قصدته عندما قلت أنني لو بقيت معك ليلة واحدة فسأبقى للأبد ... ولكن حينئذ...".
-" كنت صغيرة جداً يا حبيبتي , كان ينبغي أن أفهم بوصفي طبيباً".
وجلسا برهة في صمت, ثم قالت شاني:
-" أندرياس , أنا لم أوافق على ما فعله براين , في الواقع لم تكن لدي فكرة عن نواياه , وكنت قد قررت بالفعل أن أنفصل عنه قبل أن يهددك وأدركت بعد الأجازة أنني لا أستطيع اطلاقاً أن أتزوج براين, ولو أنني حتى في ذلك الوقت كنت مضطربة للغاية بشأن مشاعري أزاءك , لكنني سرعان ما عرفت بصدق , وبعد ذلك كنت قلقة بشأن الطفل...".
وقاطعها وهو ينظر اليها بلهفة:
-" ألم تشعري بالأستياء مما فعلت؟".
-" لا لأنني كنت أعرف حينئذ أنك أنت هو الشخص الذي أريده ... ليس بالعقل الواعي, ولكن ذلك كان مترسباً بداخلي دائماً".
-" وجئت لتخبريني... عندما قلت لك أنني لا أريد أن أراك ثانية أبداً؟".
وأومأت وهي تواقة الى التغاضي عن ذلك الموقف , لكنه أضاف وقد ازدادت عيناه سوادا من الندم:
-" يؤلمني أن أتصور أنني تسببت في ألمك , بينما كان كل ما أريده هو أن أحبك وأعنى بك".
ثم أطلق تنهيدة عميقة وقال:
-" كما قلت ظللت أحاول, وفي حفل الأخت غلوفر تلك الليلة , اقتنعت بأنك تغارين من ليديا , ولذلك أظهرت لها قدراً من الأهتمام أكبر من المعتاد".
-" أظهرت لها الأهتمام قبل فترة طويلة من حفل الأخت غلوفر, وفعلاً كنت غيورة برغم أنني أنا نفسي لم أكن أعرف ذلك , كانت دائماً في بيتك , وكنت لطيفاً معها في ذلك اليوم في غرفة العمليات , وصدمتني بطلبك أن أخرج, بل أنك اقترحت حينئذ أن أعتذر لها!".
وضحكت لكنها مضت تقول أنه بدا وكأنه يهتم بليديا فرد قائلاً:
-" لم يكن هناك شيء من هذا , كانت تؤدي بعض الأعمال لي , على آلتي الكاتبة , ولذلك جاءت مرات الى بيتي , كما تناولت أنا طعام العشاء في منزلها لأنني وجدت أبويها جذابين , وفي يوم الحفل طلبت مني أن أوصلها ووافقت لأنه كان من عدم اللياقة أن أرفض".
وابتسم لها في رقة ثم قال:
-"كنت أنت دائماً فتاتي منذ ارتطمت بي ووقعت بين ذراعي وتطلعت الي بهاتين العينين الجميلتين ... أحببتك منذ النظرة الآولى".
-" أبي وقع في حب أمي من النظرة الأولى , وكان يقول أن الشيء نفسه سيحدث معي...".
ثم أضافت في نبرة أسف:
-" كنت حمقاء للغاية منذ البداية".
-" لا , كنت أنا أنانياً , أنني أدرك ذلك الآن ... لكنني ليلة هربت مني أدركت أنني يجب أن أتركك حتى تنضجي وتستمتعي بحياة العزوبية قبل أن تستقري في الحياة الزوجية , وقررت البحث عنك فيما بعد عندما تصبحين أكثر نضجاً... جئت الى هنا بنية التود اليك , كما تحب الفتيات الأنكليزيات أن يتودد اليهن الشبان , ولهذا قبلت هذا المنصب لمدة عام الا أنك طلبت حريتك على الفور حتى يمكنك أن تتزوجي شخصاً آخر, وتحطمت آمالي لأن فكرة تعلقك بشخص آخر لم تطرأ على بالي اطلاقاً ... وأعتقد أن هذا كان غروراً ".
-" لا يا أندرياس, كان طبيعياً أن تتوقع أنني سأظل وحدي لأنك أنت نفسك لم تفكر اطلاقاً في الأرتباط بأنسانة أخرى ".
-" لست ملومة في أي شيء يا شاني , كان ينبغي أن أخبرك عندما كنا سعيدين في كوز , بأنني أحببتك ... كان هذا سيوفر علينا قدراً كبيراً من الألم ".
-" لكنك لم تفعل بسبب براين, أعتقدت أنني ما زلت أهتم به".
ما زالت شاني تعتقد أن اللوم يقع عليها ... كان ينبغي لها أن تعرف , عندما لمست رقة زوجها ورعايته, أن دافعه هو الحب وليس مجرد الرغبة , وكانت تلك الأجازة فرصة لها لتكتشف حقيقة أندرياس , ولم تنتهزها , وأضافت :
-" في وقت من الأوقات شعرت بأنك تدبر شيئا...".
-" أدبر شيئاً".
-" شعرت بأنك تود الوصول الى طريقة لمنع الغاء الزواج , حتى لو كان المحامي على حق . هل ... أقصد...؟".
ولم تستطع أن تصوغ سؤالها فساعدها أندرياس :
-" تساءلت اذا كنت قصدت من البداية أن أجعل الغاء الزواج مستحيلاً؟ أتتني الفكرة مبكراً لكن كما قلت لم تكن تلك الطريقة التي أردتها , اذ كان الأمل يراودني في أن أتي الي بمحض أرادتك , ولك بعد تلك التهديدات , قررت وضع حد لفكرة أنهاء زواجنا".
وارتعشت شفتاها, ولاحظ زوجها وتفهم الأمر وأضاف:
-" أنك متعبة ... والآن يمكنك أن تنعمي بفترة راحة طويلة".
ثم وضع ذراعها تحت الأغطية التي جذبها تحت ذقنها وقال:
-" هل ستنامين أم أعطيك شيئاً؟".
-" سأنام ... وأنت يا عزيزي هل نمت على الأطلاق منذ ليلة أمس؟".
وأخبرها بأنها ظلت غائبة عن الوعي أربعاً وعشرين ساعة, وبعد ذلك بدأ بأعطائها الأدوية المهدئة.
-" لم أكن أريد أن أحضرك بعد, لكن التنبؤات الجوية ساعدتني في اتخاذ القرار ... اذ كانت الثلوج ستسد الطريق".
-" مررت بوقت طويل قلق وسأعوضك عن كل ما عانيته يا أندرياس".
-" عوضتني فعلا بأنك أحببتني".
وانحنى ليقبلها قبلة اتسمت بالأجلال الى حد كبير, وعندما اعتدل سألته:
-" متى سأغادر الفراش؟".
-" قريباً جداً ... سنقضي معاً ميلاداً رائعاً".
-" كيف تبدو كوز في هذا الوقت؟".
-" لن تسافري يا حبيبتي".
-" ألم تقل أنه مكان رائع لقضاء شهر العسل".
-" لن يكون هناك شهر عسل حتى يسمح طبيبك لك بذلك".

* * *

كان الربيع قد هبت نسائمه على جزيرة كوز الجميلة عندما وقفا معا فوق مرتفعات أسكلبيون , وقد توردت وجنتا شاني بالصحة, وبرقت عيناها بوميض متلألىء , ومن كل مكان حولهما كانت تهب النسمات محملة برائحة الأزهار بينما أشجار السرو تتمايل برشاقة , والشمس تسطع في سماء ايجة الخالية من السحب.

ورفعت شاني عينيها الوالهتين الى وجه زوجها , فأخذ بيدها بين يديه مبتسماً.

تــمت

الأمواج تحترقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن