6- فخ من حرير

1.6K 31 1
                                    

كان مستشفى مونيكومو يحتل ربوة عالية في جبال ترودوس بين قريتي يدهولاس وبروروموس, وبعد وصول أندرياس الى لوتراس ببضعة أسابيع استدعى لأجراء جراحة هناك, وكان عدد أفراد طاقم المستشفى ناقصاً في ذلك الوقت فرافقته شاني, وراعها مثل أندرياس تماماً نقص الأمكانات في المستشفى الواقع في منطقة يمكن أن تكثر حوادثها , فلم يكن الطريق الجبلي ضيقاً ووعراً فحسب , مع وجود انحناءات خطيرة يفصل بين الواحدة والأخرى مئات قليلة من الياردات , ولكن المنطقة كانت أيضاً مكاناً معروفاً باجتذاب عشاق التزلج في الشتاء, ولم يشر أندرياس مرة أخرى الى قلة المعدات ولذلك دهشت شاني عندما استدعاها أندرياس الى غرفته في صباح اليوم التالي لمكالمة براين الهاتفية , وقال انه اتصل بالطبيب الشاب المسؤول في مونيكو ووافق بسرور على اقتراح أندرياس بأن يذهبا معاً ويعدا قائمة بالمعدات الضرورية , ثم يطلب الطبيب استكمالها عندئذ, وكانت شاني وأندرياس تقابلا في غرفة العمليات مرة واحدة منذ الأجازة , وفي تلك المرة كان الجراح الفاتر الجامد, وبالأضافة الى ذلك كان يبدو متوتراً, واجتاح شاني شعور بالقلق لسبب غامض , لكنها استطاعت أن تسيطر عليه في النهاية لأن أندرياس حدد خططه في نبرات هادئة وقال:
-"أنه يريدها أن تذهب معه الى ترودوس فهل لديها بعض الأقتراحات؟ وزاد هذا الطلب دهشتها , وفكرت في غرابة الأمر, فلماذا يشغل نفسه بمثل هذا المستشفى الصغير؟ وقال كما لو كان يقرأ أفكارها:
-" يحتمل أن أستدعى لأجراء جراحات في مونيكلومو في المناسبات المقبلة لذلك سأذهب لمعرفة ما اذا كان يمكن تزويدها بالمعدات بصورة أفضل".
-" متى تنوي الذهاب؟".
وقال انه ذاهب بعد ظهر اليوم نفسه, وعند ذاك نظرت اليه في شك وقالت:
-" لن يكون أمامنا فسحة طويلة من الوقت, الا اذا كنت تفكر في العودة بسيارتك في الظلام".
-" القيادة لن تزعجن, وسنبدأ رحلتنا حوالى الثانية عشرة وسنتناول شيئاص من الطعام ونحن في الطريق"
وتوقفا عند قرية ليفكا لتناول الغداء, حيث أكلا الكباب والسلطة وشربا القهوة التركية, وكانت ثمار التين تتدلى من شجرة بجوار المطعم , ولما رأى أندرياس نظرات شاني متجهة اليها سألها اذا كانت ترغب في بعضها.
-" نعم".
قالت ذلك وهي تشعر شعوراً غريباً بالأضطراب لأن هذا ليس أندرياس الذي عرفته أثناء الأجازة , وكان التغيير فيه كبيراً حتى أن الأيام التي قضياها في كوز بدت وكأنها لم تحدث على الأطلاق وأضافت:
-" ربما لا يريدون أن نقطعها".
-" هل سمعت أبداً عن قبرصي يتردد في قطف شيء اذا ما أراده زائا؟ انهم يشعرون بالفخر عندما يرغب المرء في شيء يمتلكونه".
وكان هذا صحيحاً , ولم تقدم أي أعتراض آخر, وبعد دقائق قدمت اليها ثمار التين نظيفة في سلطانية من الزجاج, وأكلت شاني منها , وسأل أندرياس بعد فترة وجيزة وهو يلقي نظرة على ساعته:
-"هل أنت مستعدة؟".
-" أجل...".
وبعد ميل ونصف ميلاً الى نهاية المطاف , وفتح أندرياس الباب , وخرجت من السيارة الى صمت مطبق, الى عالم من الصخور وقمم التلال الحادة المهجورة عدا المبنى الصغير حيث أقيم المستشفى, وقال أندرياس وهما يدخلان:
-" يمكنك أن تتحدثي مع رئيسة الممرضات بينما نقوم نحن بجولتنا , واستقبلتهما الرئيسة وطبيب يوناني قبرصي شاب مبتسم , وأضاف أندرياس:
-" سأرسل في طلبك لو احتجت اليك".
وتطلعت شاني بسرعة , لكن وجهه كان جامداً ... ( لو احتجت اليك) ... أي شيء غريب يقوله , اذا كان لا يتوقع أن يحتاج اليها فلماذا جاء بها الى هنا؟".
وفي النهاية أرسل بطلبها , لتعد بعض المذكرات , وكان هذا كل ما فعلته , بل ان هذه المهمة الصغيرة كان يمكن أن تقوم بها احدى ممرضات المستشفى, وفي أية حال لم تعلق شاني أية أهمية.
أخيراً عندما خرجا من المستشفى وجدا نفسيهما وسط جو مخيف من الظلام والأشباح الغامضة, وظهرت الحدود السوداء لجبل أوليمب وسط السماء القرمزية الداكنة وحذرهما الطبيب قائلاً:
-" أنها طريق خطرة في الظلام. اذا كنتما تفضلان البقاء فان هناك فندقاً قريباً".
ورد أندرياس:
-" لا , شكراً لك".
وأطلق الطبيب ضحكة قصيرة وهو يقول:
-" خذا راحتكما اذن, فقد أحصى صديق لي يوماً ما مائة وتسعة وخمسين منحنى على طول الطريق الى أسفل, انها طريق وعرة".
وكانت المنحيات رفيعة , ذات منعطف حاد الى درجة أن السيارة بدت كأنها تسير على عجلتين فقط, وبعدما قطعا نحو خمسة عشر ميلاً، أدركت شاني فجأة ما يحيط بها اذ أنها كانت تائهة وسط أفكارها وقالت:
-" هل تسلك طريقاً مختلفاً؟".
ولم تكن هناك طريق أخرى, وفي مكان ما تحول أندرياس الى ما لم يكن يزيد عن مسار جبلي وعر , وأضافت:
-" ضللت طريقك, هل أخرج وأعيدك الى الطريق؟".
وكز بصره على الضوء المنبعث من مصباح السيارة الأمامي وهو يقول:
-" انني أمتلك فيللا صغيرة هنا. أجل... انني أراهاوأريد أن أصل الى هناك".
-" لم أكن أعرف أنك تمتلك فيللا".
وكان كثيرون يمتلكون فيللات في منطقة ترودوس , وقد اعتادوا الذهاب لقضاء شهرين وسط الجبال أثناء الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة وأضافت شاني:
-" هل تمتلكها منذ فترة طويلة؟".
-" منذ نحو ستة أسابيع, لكنني لم أستخدمها بعد اطلاقاً".
وتكسر الحصى الخشن تحت عجلات السيارة حين دخلا الى أرض خلاء في الغابة العميقة, في أجمل بقاع وادي مارا باسا . كانت الطريق ضيقة حتى أن الأغصان المنخفضة للأشجار لامست السيارة.
توقفت السيارة, وأخيراً استطاعت شاني أن ترى ظل الفيللا.
-" أنها بقعة رائعة".
ووقفت شاني بجانب السيارة, وهي تمعن النظر وتفكر أنه كان الأفضل لو أن أندرياس زار الفيللا وهما في طريق الذهاب لأن رحلة العودة ستستغرق بعض الوقت, ثم أضافت:
-"هل هناك شيء مهم تنوي أن تفعله؟"
لم يجبها, وفتح قفل الباب وبعد ثوان أصبحت الصالة والفناء غارقين في الضوء, وسارت شاني الى الأمام وهي تنظر حولها نظرة اعجاب ثم قالت:
-"انها لطيفة جداً, ستجدها مفيدة في الصيف المقبل, والناس يستخدمون الفيللات أيضا في الشتاء فلدينا نادي التزحلق على الجليد هنا... لا شك أنك تعرفه".
-" ستكون فكرة جيدة أن يأتي المرء الى هنا لممارسة رياضة الشتاء, لا بد أن أفكر فيها".
وكان هناك صوت قرقعة حادة, واستدارت شاني اذ أغلق أندرياس الباب خلفه ثم أدار القفل, وأمام نظراتها المندهشة أسقط المفتاح في جيبه وهو يقول:
-" طوفي بباقي البيت , أن غرفة الجلوس جذابة للغاية".
ووقفت بلا حراك , توقف قلبها عن الخفقان , وبدا الظلام الذي تركاه وراءهما في الخارج كما لو كان يطبق عليها من كل جانب, ولا يسمح الا بالرؤية الذهنية للحظات الفزع التي انتابتها قبل أن تهرب من ذلك الأجنبي الأسمر الذي لم يكن هدفه الا امتلاكها... وتمتمت وقد جف حلقها:
-" المفتاح ... ماذا تفعل؟".
-" هربت مني مرة يا شاني...".
واتجهت يده النحيلة السمراء بحركة آلية الى جيبه , ومن خلال قماش سترته الخفيف تحسس المفتاح ثم أضاف:
-" لن يحدث هذا الليلة".
وكان أسلوبه رقيقاً , وانحسر خوف شاني مؤقتاً, وحلت الدهشة محله لماذا يفعل هذا بها؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ طوال الأجازة كان هناك مجرد اقتراح , أعقبه تسليمه على مضض لقرارها, ولم يكن في امكانه آنذاك أن يستخدم القوة كما يمكنه الآن! لكنه لم يظهر لا الغضب ولا الحقد ازاء مراوغتها لطلبه بأن يجعلا تلك الأيام الأخيرة القليلة في كوز بمثابة شهر عسل؟ اذن لماذا يخطط وبحساب لأخضاعها لقوته؟ وهمست:
-" أندرياس ... انك لا تستطيع...".
وزاغت عيناها بين الباب المغلق بالمفتاح والمصاريع المغلقة للنوافذ لماذا تضيع الكلمات ,وحاول أن يمسك بيدها وقال:
-" لا أستطيع ... ما الذي لا أستطيع أن أفعله؟".
ما زالت الرقة باقية في أسلوبه , وتجهمت ... لأن تصرفه ما زال يحيرها, وسألت نفسها مرة أخرى,لماذا اختار هذا الوقت بالذات؟ زيارة مونيكومو , لا بد أنه رتب ذلك في هذا الصباح فقط. ولغرض واحد هو أن تكون هنا ... الليلة.
وبدأ اليأس والخوف يختلطان في احساسها بالمرارة , لكنها حاولت أن تحتفظ بتماسكها , وقالت:
-"لا يمكنك أن ترغمني على شيء ! انني لست زوجتك ولن أكون اطلاقاً! وهكذا يجب أن تفتح الباب وتعيدني الى لوتراس!".
واتسعت حدقتاه وقال:
-" لست زوجتي؟ أذكر أنه أقيم لنا حفل زواج رائع".
وتحركت لتشد مقبض الباب ... تصرف لا جدوى منه لكن لا يمكنها أن تقف هناك دون أن تفعل شيئاً , وقالت:
-" دعني أخرج!".
واكتفى أندرياس بمجرد النظر اليها بشيء من التفكير , واذ ابتعدت عن الباب , قال لها:
-" هذا أقرب الى التعقل يا شاني".
-" أنك غشاش! خدعتني من قبل, وفعلت ذلك مرة أخرى, جئت الى هنا في براءة تامة معتقدة أنك تزور الفيللا لسبب حيوي!".
ورد بضحكة:
-" وأي سبب حيوي أكثر لدي؟ ستكون هذه يا زوجتي الفاتنة , ليلة شهر العسل بالنسبة الينا , تأخرت كثيراً لكن قد تكون أكثر متعة لهذا السبب".
-" أتعتقد أنه لن يكون هناك الغاء للزواج لو أبقيتني هنا لكن...".
-" متأكد".
وابتسم صوته بزمجرة ناعمة, وفاجأها هذا التغيير ثم أضاف:
-"بعد هذه الليلة لن يكون هناك جلبة أخرى حول الغاء الزواج , ولا تهديدات أخرى".
تهديدات ؟ أي نعومة نطق هذه الكلمة, لكن شفتيه كانتا قد ارتختا الى الخلف فكشفتا عن أسنانه... عم يتحدث؟ انها لم توجه أية تهديدات أبداً,لكن لا جدوى من المجادلة معه, وبدلاً من ذلك ذكرته بأن رئيسة الممرضات وباقي طاقم المستشفى في لوتراس سينظرون شرراً الى هذا الهروب , ورد بلهجة مهذبة رقيقة:
-" واجهتنا مشكلة نفاذ الوقود , فاضطررنا الى المبيت في فندق".
-" فكرت في كل شيء!".
كان يقف بجوار المدفأة العالية المبنية من حجر, وامتلأ موقدها بكتل جذوع الأشجار , ثم مضى يقول, كمن يقرر أمراً واقعاً:
-" يمكننا أن نتناول وجبة... هناك سيدة من يدهولاس تأتي لتهوية البيت وتنظيفه, اتصلت تلفونيا بالعمدة هذا الصباح وطلبت منه أن يعطيها تعليمات بأن تملأ الثلاجة طعاماً".
-" لا أريد أن أتناول شيئاً!".
-" لا تكوني حمقاء , بالطبع يجب أن تأكلي".
-" هذا شيء لا يمكنك أن ترغمني على عمله , عندما أقول لن آكل فأنني لن أفعل!".
وتجمعت دموع الغضب في عينيها.
وانحنى , وأشعل عود ثقاب في المدفأة , ثم اختفى داخل المطبخ, وتحركت شاني نحو النافذة , لكنها لم تحاول الهرب, اذ كانت شاني واثقة أن زوجها سيسمع أي صوت يصدر من غرفة الجلوس , وبدأ رأسها ينبض , وأرخت يديها , أن قرارها فيما يتعلق ببراين كان ملكاً لها وحدها أما مسألة الغاء الزواج فقد تقررت الآن ... كانت زوجة أندرياس , وينبغي أن تبقى على هذه الحالة بقية حياتها , ووصل الى مسامعها صوت زوجها:
" شاني ... تعالي ساعديني, ليست لدي أية فكرة عن كيفية اعداد هذه الشرائح من اللحم".
تحركت بطريقة آلية , ودخلت المطبخ , كانت في شبه غيبوبة , فهي كارهة زوجها , ومع ذلك واعية تماماً لأعترافها الأخير, بأن أندرياس يقتحم ذهنها باستمرار وأن هذا يثير القلق.
وغمغمت وهي تلتقط طبق اللحم:
-" أنه مجمد".
" سنضطر الى الأنتظار حتى يذوب الثلج, أعتقد أن لدينا وقتاً كبيراً , لكن ألا يمكن وضعه في الفرن كما هو؟".
-" أجل , سيمكن طهوه في النهاية".
ورفعت عينيها في عينيه فلم تجد فيهما الا الرقة.
-" تعالي اذن , وأعدي البصل والخضار".
وفجأة ومضت عيناها:
-" قلت أنني لست جائعة".
-" ستشعرين بالجوع عندما تشمين رائحة الطعام, اليك الجزر , والآن دعيني أرى... نعم طلبت من أجني أن تحضر لي قرنبيطة , لا بد أنها في مكان ما".
وردت بسخرية:
-" أنت ماهر للغاية!".
-" لا بد أن يتغذى المرء يا عزيزتي".
وضحكت عيناه في عينيها , وأدار ظهرها اليه, لكنها أعدت الخضار , وسرعان ما كانت الكسرولة في الفرن, ووقفت بجوار الموقد, وهي مندهشة من طاعتها, ومع ذلك هل من الصواب أثارة غضب زوجها؟ لا بد أن تتحمل المحنة . لماذا تغضب أندرياس وتجر على نفسها المتاعب؟.
وهكذا تناولت الوجبة, رغم أنها كانت تغص بالطعام أحياناً, وبعدما رفعت الأطباق وغسلتها أخذها أندرياس بين ذراعيه بلا مقاومة من جانبها , وقال بعد فترة:
-" لم أكن اطلاقاً أنوي أن يكون الأمر بهذه الصورة يا عزيزتي , بحثت عنك والأمل يراودني أنني عندما أجدك أستطيع اقناعك بالمجيء الي برغبتك, لكنك طلبت منحك حريتك على الفور حتى يمكنك الزواج من شخص آخر, وفي أثناء هذه الأجازة ؟ كنت آمل..."
وتوقف عن الكلام , وأبعدها عنه ونظر في حزن الى عينيها لكنه لم يكمل كلامه, ما الذي كان يوشك أن يضيفه؟ ووسط وميض من الذكرى سمعته يقول:
-" وعندما تنتهي هذه الأجازة اذا كنت لا تزالين تريدين الغاء الزواج...".
أذا ؟ اذن كان الأمل يراوده في ألا تصبح – عندما تنتهي الأجازة – راغبة في الحصول على حريتها , يا له من رجل غريب ! لو لم تكن واثقة أن هدفه الوحيد هو امتلاكها لأعتقدت أنه يهتم بها ... ونظرت اليه باحتقار وقالت:
-" كنت تأمل في الواقع, أن أستسلم طائعة؟ وهذا ما لن تحققه أبداً , أرغمتني على الزواج بتهديد بغيض, وبخدعة حققت رغبتك , لكنني لن أكون لك اطلاقاً".
ومن الغريب أنه رد على ذلك بلهجة هادئة رقيقة:
-" ستكونين ل يا شاني ... في هذ ه الليلة الوحيدة ستكونين ملكي تماماً , أعرف بانك ستكرهينني , لكنني لن أدعك تحصلين على ذلك الألغاء".
-" أذن فأنت تعترف أخيراً، بأنني أستطيع أن أحصل عليه , قلت أنك وحدك فقط من تستطيع الغاؤه , بينما كنت تعلم طوال الوقت أنه ليس علي الا أن أسرد ملابسات الزواج فأحصل على حكم بالغائه".
-" لم أعترف بشيء من هذا, ما زلت أرى أنني وحدي الذي أستطيع الغاء الزواج وأنت تعرفين ذلك جيداً... لقد ناقشت الأمر مع...".
وقطع كلامه وهو يصر على أسنانه ثم أضاف:
-" لم كل هذا الكلام؟ كما قلت بعد الليلة لن يكون هناك مجال للتساؤل حول فصم زواجنا".
كانت في الحديقة في الخارج عندما أتى أندرياس من المنزل, وكان هواء الجبال منعشاً ونقياً اكتسب الدفء من مروره عبر الوادي وامتلأ برائحة الصنوبر, ولمست معصمها بأصابعها بلا وعي, ثم تجهمت , ولسبب غامض قررت أن ترتدي سوارها , هدية أندرياس لها بمناسبة الزواج, وكانت فوق طاولة الزينة وينبغي لها أن تستعيده , وحلق طائر عبر الوادي وأخذت تراقبه , وقد امتلأ عقلها طبيعياً بالأحداث المثيرة الأخيرة.
قال لها زوجها بنبرة تتسم بالحزن( مجرد ليلة واحدة وتصبحين ملكي تماماً) وتوقعت أن تكتشف حقيقة كلماته الأخيرة تلك, لكن هل تكرهه؟ واضطربت عندما تذكرت مرة أخرى شكوكها وحيرتها حينما تقتحم صورة زوجها عقلها.
وتقدم نحوها واستدارت وهي تتعجب لأنه يبدو كما هو, وجهه قاس عنيد , عيناه باردتان وحادتان كالصلب, كيف تبدو هي نفسها؟ مشطت شعرها حتى دون القاء نظرة على المرآة , انها تدرك أن وجهها تشوبه حمرة الخجل , وعينيها تلمعان بادراك جديد , وشعرت أيضاً أن القلب الذي كان ينبغي له أن يكون بارداً بسبب الكراهية أخذ يخفق بسرعة بالغة, ونظر اليها زوجها لحظة, فلاحظ احمرار وجهها وحركة يديها بشكل عصبي , لكنه لم يعلق بشيء على هذه الأشياء حينما قال بنبرة عتاب فاترة:
-" توقعت أن يكون افطاري معداً فوق المائدة عندما خرجت من الحمام, وبدلاً من ذلك أجدك واقفة في الشرفة هنا .... تحلمين".
-" سأحضر لك شيئاً ... هل تريد افطاراً مطهواً؟ رأيت بعض اللحومات والبيض في الثلاجة".
-" مجرد قهوة وخبز مقدد ... مع قليل من المربى... وتناولي أنت ما تشائين".
وابتعدت مندهشة أنه يمكن أن يكون موضوعياً ومتباعداً هكذا , في لهجته يتصرف كأنها لم تكن بالنسبة اليه أكثر من مجرد شخص تعرف عليه بالمصادفة.
وتناولا الوجبة في الشرفة, لم يتفوه أي منهما بكلمة واحدة وتساءلت شاني عما يفكر به . هل تخبره بحيرتها؟ هل تعترف بأن الكراهية التي كانت لتشعر بها ازاءه بدأت تتبدد في بطء , وكانت تختفي الآن ؟ كيف يمكنها أن تفعل ذلك وهي تعلم أنه لا يحبها؟
ومع ذلك , وهما في طريق العودة الى المستشفى حاولت أن تفتح الحديث وتخبره بمشاعرها , ولكنه كان يرد بكلمات متقطعة , وأخيرا لزمت الصمت , وهي تعتقد أنها ستجد فيما بعد أخرى أكثر ملائمة.
وعند وصولهما الى لوتراس أبلغوه على الفور بأنه مطلوب لمستشفى نيقوسيا, وشرح للرئيسة كيف نفذ البنزين من السيارة وأصبحا منعزلين وسط الجبل, وكانت المعلومة الوحيدة التي قالها:
-" واضطررنا للمبيت في فندق".
وفي اللحظة التالية مضى, وعلمت شاني فيما بعد أنه سافر من نيقوسيا الى أثينا حيث سيبقى أسبوعين أو ثلاثة, ليكمل ما بقي من اجازته.
في مساء اليوم التالي حاولت شاني أن تطلب براين تلفونياً لكنه كان في نوبة عمل, وحاولت مرة أخرى مساء الخميس , بالنتيجة نفسها وتساءلت , هل سيأتي في نهاية الأسبوع؟ راودها الأمل بذلك فكلما أسرعت باعترافها كلما كان ذلك أفضل, كان ضميرها ما زال يوخزها قليل , بدأت حرارة عواطفها تفتر منذ قسوة براين ازاءها عندما أخبرته بزواجها, وتحولت أفكارها تلقائياً الى أندرياس , والى رد فعلها المثير للدهشة لأنتصاره المخطط عليها , كان ينبغي أن تكون الكراهية وعدم الصفح هما العاطفتان اللتان تجتاحانها , لكن عوضاً عن هذا وجدت نفسها تقع في حيرة جديدة, اذ برغم أن أندرياس لم يحبها أثبت أنه محب رقيق , وأدهشتها رقته تماماً وأخضعتها وفكرت, انه بالتأكيد لم يكن بامكانه أن يحظى بها عن طريق معاشرتها فقط؟ ليس هذا أساساً يقوم عليه زواج دائم, أذهلتها أفكارها , وحاولت أن تنسى تلك الليلة, وتبعد عن نفسها أية فكرة للحياة مع ذلك الأجنبي الأسمرالذي لا يعدو حتى الآن أن يكون غريباً, وهزت رأسها , كيف يمكن أن يكون غريباً عنها وهو زوجها بكل معنى الكلمة؟.
وأتى براين مساء الجمعة , واتصل بها هاتفياً من نيقوسيا قائلاً أنه سيقابلها بالمقهى الذي يفضله كلاهما, وشعرت شاني , وهي تقترب من منضدة اختارتها خارج المقهى , أن الجو الخيالي الذي يسيطر عليه, لا يجعله المكان الملائم للأفصاح عن أنبائها , وسرعان ما تقدم براين نحو موقف السيارات وبرغم أن شاني شعرت باضطراب من جو الأنتصار والخيلاء الذي بدا عليه وهو يقترب من المنضدة, لم تكن مستعدة تماماً للمعلومات التي كانت ستسمعها على الفور.
ولم يضيع وقتاً, لكنه جلس على كرسي أمامها وبادرها بقوله في نبرات رنانة:
-" حسمت الأمر معه! ألم يذكر مانو شيئاً لك عن مكالمتي التلفونية؟".
ومدت شاني يداً مرتعشة الى خدها وسألت:
-" مكالمة هاتفية؟ هل اتصلت بأندرياس؟ بشأن ماذا؟".
-" الغاء الزواج! استشرت محامياً وقال أنه صحيح أن زوجك هو الطرف المتضرر , أو سيعتبر كذلك. ولذلك قررت أن أعالجه بجرعة من الدواء الذي يصفه, أخبرته بأنه اذا لم يلغ الزواج في وقت سريع فأنني سأفضحه ... سأخبر العالم بما فعله معك!".
واحمر وجهه الوسيم من أثر الشعور بالرضا, وكل ما استطاعت شاني أن تفعله هو أن تحدق مذعورة , ثم قالت وهي ترتعش:
-" صوبت بالفعل مسدساً نحو... رأس أندرياس؟".
-" صوب مسدساً نحوك طوال تلك السنوات الماضية, اذن لم لا؟".
وضحك من التعبير الذي ارتسم على وجهها , حيث أخطأ فهمه ثم مضى يقول:
-" فكرة مدهشة... وكانت فعالة للغاية , ويمكنني أن أخبرك بأنه لم يجادل كثيراً , بل قبلها مذعناً".
وضحك مرة أخرى بسخرية , وأجفلت شاني , كيف أمكنها أن تحب هذا الرجل على الأطلاق, وتفكر في أن تقضي بقية حياتها معه؟.
وبحث عن يدها , لكنها رفعتها من فوق المنضدة, وتجهم براين من تصرفها , لكنه قال بمرح:
-" سنتزوج قريباً جدا, الآن بعد أن تدخلت في المسألة, وزوجك بالأسم فقط مهزوم تماماً".
كانت كلماته منسقة, لكنها باهتة, بينما كانت أفكارها في مكان آخر- التهديدات- ذكر أندرياس التهديدات التي عالجها بطريقته الفعالة وسألت:
-" متى اتصلت هاتفياً بأندرياس؟".
-" صباح الثلاثاء , كنت قابلت المحامي بعدما اتصلت تلفونياً مساء الأثنين مباشرة , لكنني لم أستطع وقتئذ أن أتصل بزوجك, ولذلك اتصلت به صباح الثلاثاء وقلت له بنجاح وجهة نظري".
بنجاح... كان من الممكن أن تضحك شاني , لكنها قالت بصوت متهدج محطم جعل رأس رفيقها يهتز:
-"وهكذا هزم... أليس كذلك؟".
-" تماماً... لم يقل كلمة واحدة".
-" ولا كلمة واحدة؟".
-" زل لسانه بكلمة أو اثنتين بين حين وآخر".
وألقت عليه شاني نظرة جانبية وهي تقول:
-" موافقاً على الغاء الزواج؟".
-" ليس بالحرف الواحد لكنه كما قلت هزم تماماً....".
وتوقف براين لحظة ثم قال:
-" قبل أن أنهي المكالمة حاول أن يموه بعبارة غامضة , عندما أخبرته بأنه هزم والأفضل أن ينسحب بكرامة".
-" قلت ذلك لأندرياس!".
-" بالطبع, وحينئذ قال أنه يهزم فقط عندما يخرج الموقف من يده وأن هذا بالتأكيد لن يحدث, كان تمويها كما هو واضح".
-" هل ذكر اسمي؟".
تساءلت شاني بفضول وهي تتعجب لماذا التزم أندرياس الصمت ازاء الحديث التلفوني مع براين, ثم أضافت:
-"أعني غير ما حدث عندما هددته؟".
-" سأل اذا كنت على علم بأنني أنوي تهديده , وقلت أنك لا تعلمين شيئاً عن هذه المكالمة التلفونية, ولكنك ستوافقين تماماً على أي تصرف من جانبي طالما أنه سيحررك".
-" بمعنى آخر هل أعتقد هو أنني كنت طرفاً فيما تفعله؟".
وكاد يغمى عليها .. أندرياس كان يعتقد فيها هذا؟ في الليلة التي كان يبثها فيها حبه برقة . يعتقد أنها أخبرت براين بأنها لا تهتم بالأساليب التي تستخدم ما دامت تؤدي الى أن يطلق سراحها, ومضى براين يقول:
-" قلت أنك مصممة على الزواج مني... أجل , كان يعتقد أنك طرف فيما أفعله".
وظهر المضيف , وتناول منه براين قائمة الطعام, ثم أردف:
-" هيا لنشرب الأنخاب, ولنقم احتفالاً ثانياً!".
وقالت بلا انفعال:
-" ليس هناك شيء نحتفل به".
وعقد حاجبيه حيث أدرك أخيرا معنى كلماتها وقال بقلق:
-" ماذا تعنين؟".
-" ما أقوله بالضبط" ... لا شيء نحتفل به".
-" الأفضل أن تشرحي لي".
وواجهت نظرته المحدقة, ولم تجد أي مصدر حقيقي للأنزعاج , مجرد قلق بسيط لا أكثر , والواقع أنه لا يزال يشعر بنشوة الأنتصار , وقالت بنبرة باردة:
-" أن تدخلك دفع أندرياس الى أن يمسك القانون في يده, والحصول على الغاء الزواج أمر مستحيل. جعلني أبقى معه طوال الليل في فيللا يملكها في الجبال".
قالت هذه الكلمات من دون أن يحمر وجهها أو تتردد , مجرد عبارة خالية من أي انفعال , مسحت نظرة الأنتصار من عيني براين , وتعبير السخرية في فمه وقال:
-" أنت ... هو ؟ انني لا أصدق".
-" لا يمكن أن أكذب في مسألة كهذه".
وزحف على عينيه غضب أسود وهو يقول:
-" الشيطان! أرغمك أن تبقي هناك . وأن تتحملي لكنه سيدفع ثمن هذا , سأمرغ اسمه في الوحل".
" لحظة واحدة يا براين".
كانت شاني شاحبة تماماً وقلبها يدق بجنون , لكنها سيطرت على صوتها عندما مضت تشرح التغيير الذي طرأ على مشاعرها لبراين :
–" كنت اتخذت قراري قبل أن نقضي أندرياس وأنا الليلة في الفيللا. بأنني سأخبرك في نهاية هذا الأسبوع عندما تأتي ... وهذا ما كنت أعنيه عندما قلت أن هناك ما هو أهم من مجرد موقف من أندرياس العنيد أزاء الغاء الزواج , كان في امكاني أن اخبرك عبر الهاتف , لكن كيف أعرف أنك قررت التدخل بتلك الطريقة؟".
-"التدخل؟لي الحق في التدخل, باعتباري زوج المستقبل لك!".
لكن شاني هزت رأسها وقالت:
-" أخبرتك للتو بأن مشاعري اتجاهك تغيرت بالفعل"؟
وحملق فيها وأخذت عروق عنقه تنبض بشدة:
-" تجلسين في هدوء تخبرينني بذلك! لا يبدو أن هذا يزعجك كثيراً".
واندفعت الدماء الى وجهها عند سماعها هذا الكلام, ولم تعد ساقاها تقويان على حملها ولكنها صممت على أن تنهض من مقعدها وقالت برقة:
-" لم أكن أقصد أن نفترق كعدوين , لكن يبدو أننا صرنا كذلك, لم يكن لك أي حق في أن تهدد زوجي , ولو عرفته كما عرفته أنا لما نظرت الى تعليقه نظرة استخفاف بل كان ينبغي أن تشعر بالقلق البالغ ازاءه, ان ما فعله لم يكن مفاجأة لي ولا سيما الآن بعدما عرفت دقائق الموقف , أندرياس أقوى من أن يرهبه أحد بالصياح".
والتقطت حقيبتها من فوق المقعد وأخذت تضرب عليها بأناملها في اضطراب ومضت تقول في توسل:
" براين... أنك لن تذكر هذا لأي شخص ؟ أرجوك لا تذع أن أندرياس زوجي... لن تتحدث... هل تعدني بذلك؟".
وأخيراً قال وعيناه تحومان حولها:
-"لا تخافي ... لن أذكر أيا منكما ما دمت حياً".
-" شكرا لك".
ووقفت هناك, تراقب حركة يده المضطربة يقبضها ثم يبسطها , ثم يمسك بفرش المائدة أحياناً في أوج غضبه, وأضافت:
-" أنني آسفة...".
-" لا تضيعي جهدك في الأعتذارات , أنا لا أريدك ولا أعتقد أن أحداً غيري سيفعل".
أضاف العبارة الأخيرة في احتقار وردت برقة:
-" زوجي سيفعل".
ثم تركته ومضت.

الأمواج تحترقWhere stories live. Discover now