5- عود على بدء

1.6K 31 2
                                    

وكانا ينويان تناول الغداء في كوز, عاصمة الجزيرة, لكن موسيقى البوزوكي المفعمة بالحياة , انسابت اليهما من مقهى في طريقهما الى المدينة وجذبتهما اليها, وكان هناك رجلان يرقصان رقصة سوسكا , وتساءل أندرياس:
- ما رأيك ؟ اللون المحلي أم الفندق الضخم؟".
-" اللون المحلي".
ودخلا, وسارا بجانب الراقصين, واختارا سمكتين كبيرتين حمراوين من سمك البريوني من بين المجموعة المختلفة من الأسماك الطازجة المعروضة تحت زجاج المنضدة الطويلة.
وأخيراً جاءتهما الوجبة, حيث جلسا أمام مائدة تحت ظلال أشجار العنب, وشربا الزتزينا وهما يتناولان الطعام, وبعد ذلك تناولا القهوة التركية, وكان الآخرون يحملقون فيهما ويتحدثون عنهما, وقدمت رقصة أخرى خصيصاً لهما, حيث كان الرجل يردد أغنية حزينة , وهو يقع على الأرض ثم ينهض ثانية عدة مرات في حركات تدل على اليأس, لكنها رشيقة.
وسألت شاني:
-" ماذا يفعل؟".
-" انه من كاليمونس , وهي جزيرة أخرى ليست بعيدة عن كوز, حيث يشتغل معظم الرجال بصيد الأسفنج وهي عملية خطيرة للغاية, وهذه الرقصة ترجع جذورها الى الحياة القائمة هناك, الأغنية حزينة جداً وتعبر عن أسى الرجل من عجزه عن آداء الرقصة التي كان في وقت من الأوقات , يستمد منها أقصى درجات النشوة".
-" وهل الحركات تعبر عن الغطاس المشلول وهو يحاول أن يرقص كما كان يفعل من قبل؟".
وأومأ أندرياس وهو يقول:
-" أنه يظل يقع على الأرض , لكنه يصر على مواصلة الرقصة التي أحبها ذات مرة وكان يؤديها برشاقة".
وانتهت الرقصة وسط تصفيق مدو, وبينما كان الراقص يهم بالجلوس أشار اليه أندرياس , ودعاه للأنضمام اليهما وقال له:
-" الواضح أنك من كوليمونس , كيف جئت الى كوز؟".
-" تزوجت فتاة من كوز , ولذلك أقيم هنا".
-" هل كنت صائد اسفنج؟".
وأمأ الشاب ثم قال:
-" بدأته وأنا في السابعة عشرة, وظللت ست سنوات أقوم بهذا العمل, كنت سعيداً عندما وجدت هذه الفتاة التي تمتلك بيتاً وأرضاً واسعة ورثتها عن أبيها".
http://www.liilas.com
وسألت شاني بلهفة:
-" حدثني عن صيد الأسفنج , كان زوجي يشرح رقصتك لي...",
وتوقفت عن الكلام وهي مندهشة من الطريقة الطبيعية التي أنزلقت بها كلمة ( زوجي) واحمرت وجنتاها وتعمدت تجنب نظرة أندرياس لكنها أدركت تلقائياً أن عينيه مركزتان عليها.
وشرح الشاب كيف كانت السفن تخرج من الميناء في كاليمنوس في شهر ابريل (نيسان) من كل عام , وتبحر نحو ساحل أفريقيا الشمالي حيث يوجد اسفنج من نوع ممتاز بصفة خاصة وأضاف:
-" جميع السفن تبحر معاً وهو منظر رائع, لكن المرء يلوح بيده مودعاً أقاربه وهو يعلم أنه لن يراهم لمدة خمسة أشهر , وأن بعضهم يعود مشوها , وأن البعض الآخر قد لن يعود على الأطلاق".
ومضى يصف الأحتفال الذي يقام في الميناء قبل ابحار الأسطول وأضاف:
-" الأحتفال الذي يقام في موسم الفصح يكون حزيناً كئيباً , لكن ذلك الذي يقام في سبتمر ( أيلول) يكون أكثر مرحاً وابتهاجاً , في موسم العودة".
وقالت شاني وقد تسللت الى صوتها لهجة سخط:
-" وأعتقد أنكم لا تحصلون على أجر مناسب لهذا العمل؟".
-" أجل نفعل, أننا نحصل على أجور عالية جداً تدفع لنا مقدماً، لأنه يجب أن نترك لأسرنا ما يكفيها".
وأومأ أندرياس وهو مستغرق في التفكير:
-" أيدفع قبطان السفينة هذه الأموال لكم؟".
-" هذا صحيح , وهو يحصل على قرض من الحكومة".
-" وعند عودتكم يتم بيع الأسفنج للتجار على ما أعتقد؟".
-" أجل , يباع بالوزن, لكن يجب أن يجف أولاً".
وتعجبت شاني لماذا لم تفكر من قبل في الأسفنج الذي تستخدمه في حمامها ولذلك سألت:
-" هل يتحرك الأسفنج في جميع أنحاء البحر؟".
-" لا, أنه يتشبث بالصخور, ولا بد من شده, وفي بعض الأحيان يكون التيار قوياً, ولذلك فان عملية جذبه من الصخور تكون شاقة جداً, كذلك فان المرء لا يكون لديه متسع كبير من الوقت اذا كان يعتمد على تنفسه الطبيعي".
ونظر الى شاني قائلاً:
-" أتعرفين ماذا يفعلون توفيراً للوقت وللنزول الى القاع بسرعة؟".
وهزت رأسها فأضاف:
-" أنهم يتمسكون بصخرة ضخمة تؤدي بهم الى القاع بسرعة كبيرة".
وارتجفت , وهي مقتنعة بأنها في كل مرة تشتري فيها اسفنجة ستفكر في الأخطار التي يواجهها هؤلاء الرجال الشجعان في كاليمنوس.
وقالت بعد فترة وجيزة وهما يغادران المقهى:
-" ألم يكن مثيراً؟ أنني سعيدة للغاية لأنا قابلناه".
-" وأنا أيضا".
تطلعت شاني وهي تنظر الى أندرياس بصفته زوجها فقط, كان فتياً ومرحاً معظم الوقت, ليس على الأطلاق كالرئيس القاسي نافذ الصبر يصدر الأوامر اليها في غرفة العمليات, لكن كم هو مختلف في جميع النواحي, أنه الآن في اجازة, بعيداً عن هموم عمله وقلقه, وطوال سنوات الأنفصال تلك- كلما مرت صورته مثل حلم سريع عبر ذاكرتها كانت لا تشعر نحوه الا بالأشمئزاز , اذ كانت ترى غريباً أسمر في غرفتها , لا يتأثر بتوسلاتها الصبيانية , لكنه الآن يتصرف بطريقة مختلفة تماماً , وقطعت أفكارها عندما وصلا الى مدينة كوز.
واستأجرا الدراجات كل يوم تقريباً بعد ذلك, وركبا الى عديد من القرى في أنحاء الجزيرة , لكنهما بقيا في العاصمة يومين كاملين وهما يرتادان الأماكن الأثرية.
-" لم أر مثل هذا العدد الكبير في منطقة صغيرة كهذه!".
هتفت شاني بذلك ذات يوم وهما يركبان دراجتيهما في طريقهما الى الملعب( الجمنيزيوم ) القديم, وكان الطريق الى هناك طويلاً تحف به على الجانبين شجيرات الدفلى , وقد امتلأت الحدائق بالأزهار تحمل عطرها الزكي نسمة باردة خفيفة تهب من ناحية البحر.
وترجلا وأسندا دراجتيهما الى شجرة وسارا نحو المكان.
-" من أين هذا العدد الكبير من الأماكن الأثرية؟ انها منتشرة في جميع أنحاء المدينة".
-" تذكري أن آخر هزة أرضية وقعت عام 1933, ورغم أنها كانت مدمرة أدت الى كشف عدد هائل من الكنوز الأثرية التي كانت المباني قد قامت فوقها عبر العصور, وتفادوا في المدينة الجديدة اقامة المباني في هذه الأماكن كي يخرج علماء الآثار كل هذه الأشياء العجيبة التي نراها الآن".
وأخيرا وصلا الى المدرج حيث جلسا يستريحان تحت أشعة الشمس الدافئة ويأكلان ثمار الرمان التي التقطها أندرياس من شجرة فوق رأسيهما.

الأمواج تحترقWhere stories live. Discover now