8-الموقف الحرج

1.4K 32 0
                                    

أول مرة أصيبت فيها شاني باغماء كانت وحدها, وثاني مرة كانت في غرفة رئيسة الممرضات , عندما كانت في طريقها الى السوق, وتوقفت لتسليم رسالة الى الرئيسة , وعندما أفاقت كان دكتور غوردون يمسك برسغها ويسألها:
-" ألديك أية فكرة لماذا أغمي عليك أيتها الأخت؟"
وترددت هل عرفوا؟ كانت واثقة أنهم خمنوا , لكنها لم تكن تستطيع أن تكذب على أية حال , وأعقب اعترافها صمت قصير ثم تحدثت الرئيسة بصوت ينم عن الألم والأسف:
-" براين يعلم بالطبع؟".
وابتعد الطبيب وضمت شاني يديها في حجرها ثم قالت:
-" لا ... انني لم أخرج مع براين منذ فترة من الوقت".
وتحدث الطبيب بهدوء ودون أي تلميح بلومها:
-" صحيح... جيني أيضا قالت أنكما افترقتما".
-" لم نر بعضنا بعضا منذ ستة أسابيع".
كانت تحاول كسب الوقت وهي عاجزة عن جمع شتات أفكارها أو تحديد ماذا تقول, ونظرت اليها الرئيسة بخشونة وهي تقول:
-" ستخبرينه بالتأكيد؟".
وهوت رأسها , وانطلقت من بين شفتيها تنهيدة طويلة مرتعشة, وأخيراً استطاعت أن تتكلم بعد تردد طويل:
-"أنه ... أنه ليس طفل براين".
-" ليس طفل براين؟ طفل من اذن؟".
تحدثت الرئيسة وهي تمعن في التفكير , وحبست شاني أنفاسها , هل يمكن أن تكون فطنت للحقيقة؟ ولم تترك شاني مشاعر الشك مدة أطول بل كانت متلهفة للخروج , لذلك أعلنت أنها تشعر بتحسن وغادرت الغرفة, لكنها رجعت لتستعيد حقيبة مشترياتها التي وقعت منها بجوار المكتب عندما انهارت, وكانت الرئيسة تقول:
-" لدي شكوكي, رغم أنني لا أجرؤ على الأفصاح عنها, لكنني تذكرت فقط منظراً صغيراً هنا عندما كانت الأخت تبدو فرحة على نحو ملحوظ , وعندما سألتها عن السبب قالت لا يمكنها أن تخبرني بعد... الواضح أنها كانت تأمل أن يتزوجها الرجل, والواضح أنه رفض".
-" تقولين لا يمكنك الأفصاح عن شكوكك , هل هو واحد من طاقم المستشفى؟".
-" يا دكتور , لا أستطيع أن أقول شيئاً , لكنني متأكدة أنني أعرف من هو الأب".
وربتت الرئيسة على وجنة شاني , كانت الرئيسة حادة الذكاء , لكن ذلك المنظر الصغير كما تسميه, لا يمكن في حد ذاته أن يثير شكوكها, كذلك كانت الرئيسة تتذكر أن شاني والسيد مانو احتجزا في ترودوس , واضطرا الى البقاء هناك... في فندق... على حد قول أندرياس.
وأخيراً طرقت شاني الباب وفتحته وقالت:
-" تركت حقيبتي".
والتقطتها ثم نظرت الى الرئيسة وأضافت:
-" لعلك لا تقولين شيئاً".
-" طبيعي أن الموضوع لن يتعدى هذه الحدود".
كان هذا رد الرئيسة المحدد لكنها أضافت:
-"عندما تشعرين بالقدرة على الحديث ربما تودين المجيء الي ومناقشة مشروعاتك معي؟".
-" أود أن أستريح فترة...".
همت بالحديث عندما قاطعها الطبيب قائلاً:
-" استريحي الآن ثم افعلي ما تقترحه الرئيسة, تعالي وتحدثي معها".
وبعد دقائق قليلة كانت شاني مستلقية على فراشها, وهي تحدق في السقف وتفكر في التقدير الكبير الذي كانت توليها اياه الرئيسة دائماً , وفرت دمعة من عينيها , وكان من الممكن أن تذهب اليهما وتكشف الحقيقة , وتثير دهشتهما عندما تقول ( نعم, أنه طفل أندرياس ) لكن لا حاجة لأن يشعرا بالأسف لها لأنها متزوجة منه زواجاً شرعياً , ولكن سرعان ما خمدت هذه الرغبة , كان بمحض ارادتها أنها خلعت خاتم زواجها , وظهرت بمظهر المرأة غير المتزوجة, لو أدركت اتجاه تفكيرها قبل ذلك بفترة بسيطة لأصبح كل شيء على ما يرام, لكن اهتمام أندرياس بها أنتهى الآن , ولم يعد يرغب في الأعتراف بها كزوجة له, وليس لها حق في تعريضه للأقاويل التي لا بد أن تشوه سمعته ... لم يكن هناك الا طريقة واحدة للسلوى , أن تبتعد عن لوتراس, وبذلك تتجنب مزيداً من الخزي ... لقد وضعت خططاً بالفعل, فقد ترك لها أبوها أموالاً لم تمسها بعد لحسن الحظ, وبموافقة الرئيسة ستبقى في لوتراس شهراً آخر أو شهرين ثم ترحل الى أنكلترا حيث تقيم عمتها حتى يولد الطفل, ثم اذا كانت عمتها غير راغبة في تحمل متاعب طفل في البيت , فأن شاني ستعثر لنفسها على بيت صغير, وفيما بعد, عندما يذهب طفلها الى المدرسة, ستتولى وظيفة ممرضة نصف الوقت في احدى المستشفيات المحلية, هكذا كانت خططها, أنها تريد الطفل وتنوي أن يكون لها وحدها, واذا علم أندرياس بوجوده يمكن أن يطالب بأن يعيش معه جزءاً من الوقت, لكنها مصممة أن ينشأ الطفل في بيئة مستقرة و واتخذت قراراً حاسماً بألا تدع زوجها يعرف أي شيء عنه.
وفي اليوم التالي قابلت الرئيسة , وأخبرتها بالخطط التي وضعتها .
-" هل ستقبلك عمتك؟".
-"أنا متأكدة أنها ستفعل , فأنا ابنة أخيها الوحيدة وستفرح بأن أعيش معها".
-" حسناً ... هذا يبدو ترتيباً مرضياً".
وتوقفت الرئيسة عن الكلام لحظة, وهي تنظر مباشرة الى شاني, ثم قالت بلهجة شك, مع نبرة حذر:
-" بشأن البقاء هنا, هل ترين ذلك قراراً حكيماً؟".
ولم تخطىء شاني فهم النصيحة الرقيقة , واحمر وجهها خجلاً, ومع ذلك فأن أفكارها في هذه اللحظة لم تكن تتعلق بحرجها هي, بل كانت تتساءل عن رأي الرئيسة في أندرياس, لأن استنكارها الأكيد الناجم عن اعتقادها بأنه تصرف تصرفاً بعيداً عن أصول المهنة , أثار قلق شاني, لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً ازاء هذا, وفي كل الأحوال فأن سمعته في أمان كاف, وقالت الرئيسة أنها لا تستطيع أن تفصح عن شكوكها , وكان هذا صحيحاً لسبب بأن أندرياس هو والد طفل شاني فلا يمكنها أن تكون واثقة تماماً من ذلك.
واستغرقت شاني في التفكير فيما يحدث لو عرفت الحقيقة في أي وقت , حينئذ سيضطر أندرياس الى الكشف عن زواجه حتى يحافظ على سمعته الطيبة.
وأخيرا قالت شاني:
-" أود أن أبقى , وسينفعني المال".
وكان هذا صحيحاً , لأنها لو اضطرت الى ايجاد سكن خاص لها فأن أموالها ستفيدها , غير أن شاني كانت تعلم أن المال ليس هو العامل الهام , فاذا بقيت في لوتراس سيظل احتمال الصلح قائماً , أما اذا رحلت فأن الأنفصال سيكون نهائياً, ومع ذلك أدركت شاني أنها تتعلق بخيط أمل ضعيف للغاية.
ووافقت الرئيسة قائلة:
-" أعتقد أن المال عامل هام , لكن هل فكرت في احتمال أصابتك بالأغماء وأنت في غرفة العمليات؟".
واختتمت الرئيسة قولها بأن هذا سيكون محرجاً تماماً لشاني وللجراح, قالت ذلك لتأكدها من أن أندرياس يعلم بحالة شاني.
وقالت شاني بابتسامة فاترة:
-" آمل أن تمر مرحلة الأغماء قريباً".
وهوت الرئيسة كتفيها وهي تقول:
-" الى متى تريدين أن تبقي هنا؟".
-" نحو شهرين".
وبعد تفكير وافقت الرئيسة ولكن شاني غادرت الغرفة وهي تحس بمشاعر متباينة, ربما كان الأفضل أن تترك العمل الآن, أي أمل لديها حقيقة؟ فتر اهتمام أندرياس بها, أو ربما انتقل الى ليديا موراي, أن البقاء سيضني قلبها, فقد اكتشفت حقيقة مشاعرها نحو زوجها في وقت متأخر جداً.
ولم تصب شاني بالأغماء في غرفة العمليات, لكنها أحياناً, كانت تبدو شاحبة , وفي احدى المرات , بعدما تفرس أندرياس في وجهها بدقة , قال:
-" أنك شاحبة... ألست على ما يرام؟".
وقفز قلب شاني , هل سيرغب فيها لو علم ؟ لا شك في ذلك. لكن أي شعور بالرضا سينتابها وهي تعلم أنه لم يقبلها الا من أجل الطفل؟ ومع وجود هذه المشاعر الجديدة والرقيقة القوية داخلها لم تكن مستعدة للحياة مع أندرياس الا اذا كان –على الأقل- راغباً فيها كزوجة من أجل نفسها.
-" أنني بخير يا سيدي".
تعمدت أن يكون صوتها فاتراً وخالياً من الأحاسيس , لأنها خشيت أن يكتشف السر, وفكرت بقوة أن الطفل ملك لها ولو علم أندرياس به فأنه سيرغب في مشاركتها اياه حتى لو رفضت أن تعيش معه.
وبعد ذلك بأسبوع قالت جيني عندما فرغت من نوبة عملها ومرت معه في عنبر المرضى:
-" أنه يبدو عنيفاً دائماً هذه الأيام , سأشعر بسعادة غامرة عندما يرحل!".
-" تعنين أنه عصبي؟".
-" ليس بالضبط , لكنه في حالة مزاجية غاضبة , سأل الآنسة رونسون اذا كانت تحصل على كفايتها من الطعام, وقالت لا فاعتبر هذه غلطتي".
-" الآنسة رونسون لا تحصل أبداً على ما يكفيها من الطعام, فلها شهية مفتوحة دائماً كجواد".
-" أعرف , وكذلك الجميع عدا السيد مانو".
-" ألم تخبريه بأنها متذمرة دائماً؟".
-" ويطير رأسي ؟ لا يحتمل هذا , كان سيئاً بما يكفي عندما جاء في البداية , لكن الآن أصبح لا يطاق".
ولم تقل شاني شيئاً , وبعد فترة وجيزة قالت جيني وهي تمعن في التفكير:
-" أنني أتساءل كيف يتصرف مع ليديا ؟ فهي تبدو متألقة هذه الأيام , ولذلك أعتقد أنه يحتفظ بمظهر خاص لها وحدها".
كانتا تجلسان في شرفة شاني تحتسيان القهوة, وصبت شاني مزيداً من القهوة لنفسها وظهرت تقطيبة على حاجبيها , كيف كانت تتمنى أن يقع في حب ليديا ؟ ومع ذلك لمجرد أن يوافق على الغاء الزواج , وأخيراً غيرت الموضوع وقالت بهدوء:
-" سأرحل عما قريب يا جيني... أريد العودة الى أنكلترا , عمتي كما تعلمين تعيش وحدها تماماً".
ونظرت اليها جيني بفضول قائلة:
-" عمتك؟ لكنك لم تهتمي بأمرها اطلاقاً من قبل, وقلت أنها تحب أن تعيش وحدها, وكنت دائماً تقولين أنك أحببت الجزيرة , وستشعرين بالحزن لو رحلت عنها".
وأعقب ذلك صمت غريب, ولهذا السبب ظلت تؤجل الأمر حتى الآن, قالت:
-" جيني... أريد فقط أن أرحل, وأرجوك ألا تسأليني أية أسئلة أخرى".
وتجاهلت جيني توسلاتها وسألت:
-"براين؟ أنك مضطربة جداً بسبب انفصالك عنه".
-" كان الأمر مثيراً للأضطراب الى حد ما ".
جاء هذا الرد المراوغ من شاني , ربما كانت تلك أفضل وسيلة للخروج من المأزق , لتدع الجميع يعتقدون أنها سترحل بسبب براين, أنها لا تستطيع أن تفكر في عذر آخر, كان هذا عذراً ضعيفاً, وسيعطي انطباعاً بأن شاني بطبيعتها لا تميل الى الأستقرار , لكنه سيفي بالغرض.
وقالت صديقتها بطريقة فظة:
-" في رأيي أن لقاءك به كان أمراً مؤسفاً , فهو انسان عابث ولا أعتقد أنه سيتغير سلوكه على الأطلاق".
وتوقفت , لكن شاني ظلت صامتة ومضت تقول:
-" لم تقدمي تفسيراً بشأن هذا الأمر, ولم تقولي اطلاقاً كيف حدث؟".
-" كان هناك سبب قوي جداً, لكن لا أستطيع التحدث عنه , حتى معك".
-" آسفة, ... أود لو أستطيع مساعدتك".
وظهرت سحابة قاتمة على وجه جيني وقالت :
-"هل اتخذت قرارك بالرحيل نهائياً؟".
-" الرئيسة تعلم, وهي تبحث بالفعل عن بديلة".
-" أذن ليس هناك احتمال بأن تغيري رأيك؟".
-" ليس هناك أي احتمال".
لو أمكنها فقط أن تفضي بسرها, سيساعدها هذا بالتأكيد على ازاحة عبء ثقيل من الأسى واليأس عن كاهلها, فقد استمر أندرياس يعاملها بلا مبالاة قاسية , لكن الأفضاء بسرها مستحيل, وقالت بفتور:
-" سأعود الى الوطن قبيل الميلاد".
-" بمثل هذه السرعة؟ بعد أقل من ستة أسابيع".
-" بل خمسة أسابيع".
ردت شاني بذلك وبدأت تعد الأيام.
وقالت جيني بعد فترة:
-" أعتقد أنك تعرفين ما تفعلين لكنني متأكدة أنك ستشعرين بالأسف , أنني لم أصادف بعد أحداً يمكنه أن يغادر هذه الجزيرة بدون أن يشعر بالأسف".
وفكرت شاني , ولا أنا سأرحل بدون أسف... أسف مرير لأنها لمتر النور قبل الآن, لو أمكنها فقط أن تعود القهقرى وتعيش مرة أخرى تلك الأيام التي عاشتها في كوز, لو أنها فقط لم تكن مفعمة بالشك أزاء براين لوافقت على شهر العسل , ولأصبحت الآن مع زوجها , بحث عنها ووجدها أخيراً, وطلب منها أن تعيش معه ونصحها قائلاً: فكري في الأمر يا شاني, فأمامنا طريق طويلة يمكن أن تتسم بالشعور بالوحدة, وخلال الأجازة حاول جاهداً التقرب اليها ولكنها رفضته , وأرهقته المحاولات حتى ماتت كل رغبة فيها, ولا بد أن تفقد هي الأمل مثله, ربما لو لم يظهر لها الرغبة الجامحة في التملك , لنظرت اليه نظرة مختلفة , أتى الى قبرص يحدوه الأمل في استعادتها , والواضح أنه لم يكن يتوقع الأصابة بصدمة دخول رجل آخر في حياتها, هذا أشعل نيران غضبه , وظهرت سماته البدائية واضحة.
ومنذ ذلك الحين اكتشفت شاني جانباً مختلفاً تماماً في طبيعته, لمست منه الطيبة والعناية الرقيقة عندما كانت في الأجازة معه, وفيما بعد لمست رقته كحبيب.
وسرعان ما انتشرت أنباء رحيلها , لكن لدهشتها لم يسألها أحد عن السبب , لا بد أن جيني أوضحت لهم الأمر, فتجنبوا احراجها لكن الأقاويل ستتردد , وسوف يعرف أندرياس كالآخرين السبب المفترض لرحيلها, وسيظن أن هناك أكثر من مجرد شجار بين حبيبين , فهو جعل الزواج بين شاني وبراين مستحيلاً... ليتها كانت تستطيع فقط أن تذهب اليه وتخبره بأن هذا الأمر لا علاقة له ببراين, ولكنه يتعلق به هو من كل الجوانب, وكان هو الوحيد الذي لم يتحدث اطلاقاً عن رحيلها, وبدا أخيراً غارقاً في حالة لا مبالاة فاترة, في غرفة العمليات كان يصدر الأوامر وهي تطيع, وفي عنابر المرضى كانت جيني أو أية من الممرضات الأخريات يرافقنه في جولته, يتنفسن الصعداء عندما تنتهي المحنة, ولم يكن يبدو انساناً طيباً الا مع المرضى, حيث يسأل عن راحتهم واذا كانت لديهم أية شكاوى, وكانت ليديا تحوم حوله وقد أصبحت تقوم الآن ببعض الأعمال الكتابية لعديد من الأطباء , لكنها كثيراً ما كانت تذهب الى منزل أندرياس ,وترددت تعليقات حول هذا الموضوع. وبعد ظهر أحد الأيام دخلت ليديا الى غرفة العمليات , بينما كانت شاني تعد العدة لجراحة سيجريها أندرياس فيما بعد, كانت ليديا تحمل حقيبة أوراق كتب عليها الحرفان الأولان من اسم أندرياس (أ_م) وتجهمت شاني للحظة, ربما كانت ليديا تقوم بعمل لأندرياس أيضا, وكان هذا معقولاً اذ لديها متسع كبير من الوقت.
وحدقت شاني بتساؤل في زائرتها, ورغم أن وجهها كان شاحباً كان متماسكاً بشكل جميل, وكانت مستغرقة في أفكارها بشأن طفلها , أنها تريده صبياً لكنها تشعر بأنه سيكون شبيهاً بها, ويكتسب لون بشرتها المتوردة, ومن ناحية أخرى لو كانت بنتاً فأنها ستشبه أندرياس... سمراء بملامح قوية دقيقة, أندرياس بالطبع سيرغب في انجاب صبي لأن جميع الرجال اليونانيين يرغبون أن يكون أول أطفالهم ذكراً, وهكذا تأمل أن يكون, لكن لو كان صبياً فسيضيع بلا أب عندما يحتاج الى رفقة, أما البنت فلن تفتقد أباها كثيراً, الأفضل اذن أن تتمنى ... وابتسمت شاني لنفسها... وما جدوى كل هذه المفاضلة؟.
واقتربت ليديا من شاني وهي تفحص الأدوات وقالت:
-" لدي رسالة لك".
-" نعم؟".
-" ايفينيا من القرية طلبت مني أن أخبرك بأن طلبك جاهز, أعدت لك بعض فوط المائدة المشغولة".
-" أشكرك لنقلك الرسالة, سأذهب لأحضارها غداً".
وعلقت ليديا بعد فترة:
-" سمعت أنك سترحلين عنا؟".
-" أجل , أني راحلة".
-" قبل الميلاد؟".
-" صحيح".
وتركت شاني مهمتها وابتعدت لتفحص الأسطوانات , وهي تأمل في أن تفهم ليديا وترحل, لكنها بقيت بجانب المنضدة ثم قالت:
-" هذه مفاجأة تامة!".
ونظرت شاني اليها, وتذكرت تأكيد ليديا بأنها هي وأندرياس يحتمل أن يعلنا خطبتهما عقب عودته من كوز, وكانت ليديا تأمل أن يصحبها معه الى الجزيرة, ولم يصحبها معه, واستنتجت أنه ذهب وحده... أية صدمة ستتلقاها لو علمت أنه ذهب الى هناك مع زوجته!.
وعندما أصبح واضحاً أن شاني لن تتكلم قالت ليديا بفتور:
-" هناك تكهنات عن سبب قرارك غير المتوقع بالرحيل... أفراد طاقم المستشفى يعتقدون أن هذا يرجع الى خلاف نشب بينك وبين الشاب صديقك".
وتحركت الى حيث كانت شاني تفحص مرة أخرى عربات نقل الأدوات التي أعدتها من قبل, الجراحة لن تجري قبل الرابعة, فقد أجرى أندرياس جراحة في نيقوسيا في الصباح, وهو الآن يستمتع بقسط من الراحة, وأردفت الفتاة :
-" لكن هذا ليس السبب الحقيقي , أليس كذلك؟".
-" لا أعتقد أنني أفهمك يا آنسة موراي؟".
وانطلقت ضحكة ساخرة أثارت أعصاب شاني وقالت ليديا:
-" لا يبدو أن أحداً غيري لاحظ , لكنه واضح جداً لي منذ فترة أنك تطمعين في رئيسك, وهذا ليس جديداً بالطبع, فالممرضات كثيراً ما يطمحن الى الزواج بالأطباء , ولكنهن نادراً ما ينجحن , وأعتقد أنك تجدين الموقف مستحيلاً؟".
وقالت شاني بنبرات باردة كالثلج:
-" آنسة موراي , هلا غادرت غرفة عملياتي!".
وضاقت عينا ليديا , وخيَم اللون الداكن على وجنتيها وقالت:
-" حذرتك قبلاً من افتقارك الى الأحترام , واذا لم تكوني دقيقة فأنني سأبلغ الرئيسة عنك".
-" أفعلي هذا بكل رضا, اذا كنت ترين أن لك شكوى".
واتجهت نظراتها نحو الباب... لا بد أن فترة راحة أندرياس قصيرة لأنه دخل في تلك اللحظة , واحمر وجه شاني , كذلك وجه ليديا, وأخذ أندرياس ينقل نظراته بين كل منهما متسائلاً , لكن أيا منهما لم تتحدث , وسأل شاني:
-" أهناك شيء ما؟".
-" لا يا سيدي".
-" لكنني متأكد أن هناك شيئاً ما... ليديا و لماذا انت هنا؟".
-" جئت لتسليم الأخت ريفز رسالة".
وابتسمت , وفي الوقت نفسه كانت تهز رأسها تعبيراً عن الحيرة ثم أضافت:
-" وبدلاً من أن تشكرني أمرتني بالخروج".
-" حقاً؟".
وتركزت عينيه على شاني , وارتسمت في أعماقهما أغرب تعبيرات وأضاف:
-" هل هذا صحيح؟".
-" شكرتها...".
وللحظة نسيت شاني أن أندرياس هو رئيسها في المستشفى, وأردفت:
-" شتمتني , ولا أريدها هنا! وهكذا يمكنك أن تطلب منها الخروج".
وأعقب كلماتها صمت مخيف, ووضعت يداً مرتعشة على فمها, لكنها لم تستطع أن ترغم نفسها على الأعتذار, واستمر أندرياس ينظر اليها بتلك النظرة الغريبة, ورغم أنه أنَبها بقسوة خالجها أنطباع لا تفسير له بأنه فعل ذلك لمجرد أنه ليس لديه مجال للأختيار , حيث أن ليديا كانت شاهدة على أنفجارها الذي لا ينم عن الأحترام.
وارتسم على وجه ليديا تعبير الفوز الممتزج بالغموض وهي تنقل نظراتها بين شاني وأندرياس الذي- رغم كلمات اللوم والتحذير القاسية- كان لا يزال ينظر الى زوجته بلهفة أكثر منه بغضب.
ولم تلاحظ شاني اياً منهما , حدقت في الأرض واحمر وجهها واشتدت حرارته من أثر المحاضرة التي ألقت عليها للتو, كانت غاضبة من نفسها وأشد غضباً أزاء ليديا لأنها أثارتها بهذه الطريقة التي فقدت معها السيطرة على نفسها, وكانت غاضبة على نحو غير منطقي, من زوجها لأنه جاء الى غرفة العمليات بدون توقع, لم يكن له الحق في المجيء الى غرفة العمليات في هذا الوقت قبل موعده!
وكان ينتظر أن تنظر اليه حتى يتحدث اليها, وشعرت بذلك فتعمدت أن تستمر في خفض رأسها, ولذلك تحدث مع ليديا بدلاً منها:
-" لماذا أمرتك الأخت بالخروج؟ لا بد أن يكون هناك سبب لذلك".
-" أنني لا أعرف حقيقة يا أندرياس".
كان صوتها خفيضاً وهي تتصرف بطريقة من تريد أن تبدو متسامحة, وراغبة في تخفيف حدة موقف غريب وأضافت:
-" من المحتمل أن تكون الأخت ريفز مرهقة, ومن ثم سريعة الغضب".
قالت ذلك وهي تبتسم بسرور ثم أردفت:
-" الأخت تعمل هنا والمفهوم أنها ترغب في القيام بعملها بدون مقاطعة وأنا أفهم ذلك".
واتسعت عيناها الجميلتان اللتان أخذتا تنظران في عينيه بينما انفرجت شفتاها بالنداء, ونظرت شاني لترى ابتسامة سريعة ترتسم على وجه زوجها الذي قال بنعومة موافقاً:
-" أعتقد أنك على حق يا ليديا, كان كرماً منك أن تدعي المسألة تمر بهذه الرقة, وأنا واثق من أن الأخت ريفز عندما تشعر بأنها أقل ارهاقاً ستعترف بذلك عن طيب خاطر وتعتذر عن وقاحتها".
وارتفع ذقن شاني , لكن شيئاً ما لم يكن يستطيع أن يسحب الكلام من بين شفتيها ما دامت ليديا في الغرفة, وتجاهلت كليهما, وبدأت تعد الآلات من جديد, وهي تأمل أن يؤدي تصرفها هذه المرة الى التأثير المرغوب, وقالت ليديا:
-" سأذهب الآن يا أندرياس , هل أراك قبل المساء؟".
واختلس نظرة الى حقيبة الأوراق التي تحملها ثم الى ساعته وقال:
-" هل ستذهبين الى بيتي الآن؟".
-" أجل, كنت في طريقي الى هناك عندما تذكرت الرسالة التي وعدت بنقلها الى الأخت ريفز".
-" أعدي قدراً من الشاي, سأكون معك بعد بضع دقائق... لديك مفتاحك؟".
-" أجل".
ونظرت ليديا في اتجاه شاني نظرة خبيثة , ثم منحت أندرياس ابتسامة رائعة ثم رحلت, وحينئذ قالت شاني وقد خف غضبها:
-"لم يكن ينبغي لي أن أتحدث معك بهذه الطريقة , خاصة أمام الآنسة موراي".
وتوقعت أن يرتسم في عينيه تعبير قاس صارم , لكن كان كل ما رأته هو أن التعبير الغريب تغلغل في أعماقهما مرة أخرى, قال:
-" لم تكن لدي فكرة أنك تكرهين الآنسة موراي".
وشعرت بالحيرة, أين الأسلوب المتشدد الذي أصبحت معتادة عليه الآن , وردت:
-" لأ أهتم بالآنسة موراي فأستطيع أن أحبها أو أكرهها".
-" لا تهتمين؟ لماذا اذن أمرتها بالخروج؟".
-" ليس لها أي حق في الوجود هنا".
-" سبب وجودها هنا يبدو معقولاً, نقلت اليك مشكورة رسالة تهمك".
-" ما أقصده هو أنها لم يكن لها أي حق في البقاء ... أعني بعدما سلمتني الرسالة".
-" لماذا بقيت؟".
-" لا يهم".
ردت شاني بذلك وقد نفذ صبرها, لماذا يشغل أندرياس نفسه بحادثة تافهة كهذه, ثم أضافت:
-" لن يهمك أن تعرف".
وقال متجاهلاً تعليقاتها:
-" قلت أنها شتمتك... ماذا قالت لتثير غضبك الى هذا الحد؟".
-" لا يمكنني أن أخبرك".
أين الولاء الذي يدين به لليديا ؟ أم أنه لا يدين لها بأي ولاء؟ ولا تعني بالنسبة اليه أكثر من ما تعنيه بالنسبة الى أي من الأطباء الآخرين الذين تقوم لهم بأعمالهم؟ الواضح الآن أنها تقوم بآداء عمل لأندرياس, فهو يكتب المقالات والتقارير وبالطبع يحتاج الى كتابتها على الآلة الكاتبة, وعبست شاني , لا يمكن أن تكون العلاقة مجرد علاقة عمل لأن أندرياس وليديا يخرجان معاً في بعض المناسبات , ومن المعروف أنه تناول العشاء عدة مرات مع والدي ليديا في بيتهم.
-" لا يمكنك أن تخبريني... ايه؟ لا بد أن يكون هناك سبب قوي يجعلك لا تستطيعين ذلك؟". ولم تقل شيئا وبعد لحظة سأل أندرياس بنعومة:
-"قد يكون هناك شيء ستخبرينني به".
ونظر مباشرة اليها , ووجدت صعوبة في مواجهة نظرته , ثم أضاف:
-" هل أنت عائدة الى بلادك حقيقة بسبب الأنفصال عن براين؟".
وخفق قلبها ... أنه يبدو كما لو كان يتغلغل في أعماق روحها , وكان سؤاله غريب وغير متوقع... انه طبيب, ... هل من الممكن أن تكون بذور الشك بدأت تترعرع في عقله؟ ولو عرف بنبأ الطفل هل سيعرض عليها أن تبقى معه رغم أنه , باعترافه, لم يعد يهتم بها! ولو رفضت عرضه فسيأخذ الطفل منها, والقانون يمكن أن يمنحه هذا الحق, وكذبت يائسة:
-" أجل... بالتأكيد من أجل براين".
وظلت نظرته اليها لحظة طويلة مخيفة, ثم تكورت شفتاه وقال:
-" أعتقد أنك تعتبرينني مسؤولاً عن هذا الأنقلاب في حياتك؟".
-" أنك مسؤول".
همست بذلك دون حاجة بها لأن تكذب هذه المرة, ورد عليها بلهجة تتسم بشيء من السخرية:
-" كنت سأمنحك شرف الأتصاف بالشجاعة... وكنت ستتغلبين على الأزمة في الوقت المناسب , فلم تكن هناك حاجة الى اتخاذ مثل هذا القرار المتهور".
وتوهجت عيناها بشكل غريب وهي تقول:
-" لماذا تهتم يا أندرياس؟ قلت أنت بنفسك أنك لم تعد تهتم بي".
وكان صوتها منخفضاً أجش يحمل نبرة توسل يائسة لم يفهمها زوجها , وقال:
-" أنك على حق , فقدت اهتمامي بك , اذن لماذا أزعج نفسي بمستقبلك؟".
وبنظرة احتقار جارفة تركها تقف هناك , وقد استندت يدها المرتعشة على عربة المعدات بعدما أندثر شعاع الأمل الرفيع في نفسها بالسرعة التي ولد بها.

الأمواج تحترقWhere stories live. Discover now