ظلال

By Illusion_Mercy_2000

4.3K 215 549

على اختلاف الجنسيات و الطباع و العادات جمعتها الظلال صدفة في حفلة لا تمت لما هم عليه أو ما يشعران به بصلة.. ب... More

ظلال جمعها القدر..
أعداء أم أصدقاء؟!
آلام؛ شكوك؛ و مغفرة..
سقوط الأقنعة..
أربعة أحبال للقدر..
فلك؛ تروس ؛ و زمن..
أسرى إلى الأبد..
في انتظار العواقب..
أميرة القلوب المحترقة..
ناجون؛ضحايا؛و مقاتلون..
سبأ؛ الغد الجديد..
كل شيء و النقيض..
أجساد فانية..
ليلة من الجنون..
كفارة..
كتاب الحب..
عرش من رمال..
الليلة الأخيرة..
ما قبل الفراق..
سماء ملطخة بالدم..
قربان..
حتمي كالقيامة..
هيام و عتاب..
أنصاف حقائق..
هدنة و سلام..
أحاديث عابرة..
تنبؤات مبهمة..
نافذة على الروح..
عدو حميم..
زهرة عاصية..
حروب زائفة..
وصب دامي..
طرق متشابكة..
الحب و المخاوف..
سيدة العشائر..
بدايات مستحدثة..
أبناء المنفى..
رائد الهدنة..
ليل سرمدي..
حب طاغية..
ضحية الضحية..
نسيان مدبر..
عاصفة غير متوقعة..
فتيل الذاكرة..
حداد معلق..

رصاصة الرحمة..

81 5 28
By Illusion_Mercy_2000

دوي رصاصة..بخارها يخرج من فوهة السلاح مرتاحا..مطمئنا بعد أن أبقى الثقل داخله إلى هدف غير مسمى..فالأهداف بالنسبة للرصاص واحدة..لا يهم من أصابت و لا كيف و لا متى..
المهم أن يرتاح السلاح و يتخفف من أثقاله فيعود إلى حافظته خفيف الروح و الجسد بغض النظر عن الضحايا و عن المهام أكانت مكللة بالنجاح أم لم تكن..

و مجددا شيء صغير بهذا الحجم يقلب الموازين كافة..رصاصة غرض مطلقها -المكنون في نفسه- الرحمة و ظاهرها العذاب..

ذلك الطريق إلى رائد لم يكتمل أبدًا..الرصاصة مستقرة في ساق يوسف..
و ليلى تتابع الأوضاع..ترى أشياء كالمعجزات..إن أخبروها يوما أن رجال هذه الأرض و سادتها سيحبون على هذه الشاكلة لسخرت من القائل و لاتهمته بالجنون..

أما الآن فهي مدركة أنها وحدها أصيبت بخفة العقل..وحدها خدعت في مظهرهم و تناست حقيقة ما تضمه صدورهم من عاطفة..عاطفة لا تشبه شيئا آخر..عاطفة تقارن بنفسها فقط فليس في قاموس العواطف شيء مثلها كي تتم هذه المقارنة..
و فرضا إن تمت..فلن تكون عادلة..فهذه المشاعر قد تخطت العدل إلى الرحمة..و عبرت جسور المنطق إلى أرض الروح..و تركت خلفها كل صراعات العالم فلا شيء ذي جدوى سوى الحفاظ حقا على ما يمتلكون..

إيران في لحظة قد أشهر سلاحه..أما زين..زين و انفعالاته تركت فاهها مفتوحا..غير آبهة بزوجها المتألم على الأرض..و لا تعير انتباها لنافورة الدماء الحارة المتدفقة من ساقه..

ترى زين إذ يصرخ..صراخا في حدته كالزئير..كأسد أصابوا زمرته فأمسى هو الجريح..
صوته يفوق دوي القنابل..ترى في عينيه أنينا لا يكفي عويله أن يشرحه و لا يصفه..تنظر إليه و قد سبقته يده إلى جرحه..إلى حيث يستشعر حضور سديم حتى في غيابها..كل ما في زين يحن إلى سديم..يحن إليها حنين الكهل إلى صباه و دياره الأولى..حنين الجندي إلى النوم على ركبتي أمه آمنا في منزله..حنينا كحنينه إلى والده!!

في عينيه سديم كبركان لا يقف أمام حميمه شيء..تزيل كل ما أمامها حتى الجليد في عينيه..تصهر باقي الوجود في داخله..
هذه اللحظة لم تدرك ليلى ذلك فقط بل أدرك زين هو الآخر إذ يقفون على الصراط بين الموت و الحياة أن سديم ما عادت فقط - بالنسبة له - حجابا ملطخا بالدم و لا قطعة ملابس على دمى العرض و لا حتى زهرة عاصية قد تذبل يوما و تأول إلى الموت و النسيان..
بل أصبحت كشجرة الصنوبر..ترمز للأبدية داخله..تتعمق في تربة روحه فلا يصبح في حضور جذورها محل لخرسانة من حديد..

يده على خصره حيث السلاح..يقف بوزنه كاملا على ساقيه غير آبه بجراحه..
عكازه الطبي قد عانق الأرض منذ زمن..و لكنه مشلول..
لا يستطيع أن يطلق الرصاص في حضور سديم..و لا يستطيع أن يقترب منها بينما هي في حصينة بين يدي بيان..

هي التي التجأت إليه فور سماع الرصاص..و أصبح هو درعا لها..
ردة فعلها العفوية تركته مصابا بالحب و مهملا للرصاص..
هي التي لطالما أرادت أن تحميه اليوم و بكل تلقائية تطمئن لدرجة أن تطلب حمايته..اليوم هما وجهان لدرع واحد و الهايم يرتدي هذا الدرع و يقف في المنتصف..
إذ ارتمت بين ذراعيه تهاوى بها إلى الأرض سريعا..منكبا عليها..
يحاوطها بكل ما أوتي من قوة..يخفيها بين ثنايا صدره، قلبه، جوارحه كافة بل يخفيها حتى في نسيج ملابسه..

هما جسدان متكوران على بعضهما البعض كأنما هما في التحام تام..
لا تستطيع عين مجردة الفصل بينهما..
منكب عليها و هي ترضى بالانكماش داخله..

أما يوسف فقد فقد وعيه بينما يهمس باسمها..و بهذه البساطة حل وجوم ثقيل على المكان..لا أحد قادر على الاقتراب..الجميع يراقب من خلف الأبواب الزجاجية للمشفى..
طاقم طبي كامل و لا يجرؤ أحدهم على الخروج لسحب يوسف و لا الاطمئنان على الباقين..
الجميع في انتظار الشرطة..و الشرطة لا تزال منهم ببعيد..

كأنهم أُسروا في إطار لوحة..تحولوا ألوانًا حارة و لكن بلا حركة أو أنفاس..
جامدون..سُحبت أرواحهم إلى متاهة من ذهول و خوف مدقع و شلل عظيم..

زين كان أول المتحركين..إلى بيان مسيره هكذا يهيأ للناظرين..و الحقيقة أنه يسير إلى أكبر اختباراته في الحياة..إلى سديم..

بيد مرتعشة..و أعين تفيض وعيدا، خوفا، شفقة، انهيارا و شيئا ما أعمق من ذلك الذي يسمونه العشق..
وضع زين كفه على كتف بيان..
بيان الذي نسى الموقف و نسى نفسه و نسى التنفس..
بيان الذي كان يعرف شيئا واحدا في تلك اللحظة هو أنه جاهز أن ينصهر مع سديم و يفنى كلاهما من العالم..بعيدا عن كل القسوة و الظلم فيه..

كم يتمنى الآن لو أنهما نبتتان..أو بضعة رمال على شاطيء ما..أو أي شيء..
أي كيان يضمن لهما بعضا من الراحة و بعضا من سلام..

-" بيان.."

بهدوء همس..و كأنه يعرف أن سديم مستقرة في نوم ما و لا يريد أن يقلق سكينتها..و لكن من أين له أن يعرف بنومها..
ربما لأنها لو كانت مستيقظة لما ظلت مستكينة إلى هذا الحد..لزلزلت الدنيا حتى تتأكد من سلامة بيان..لانتفضت و انتفض جسد بيان استجابة لها..
لتتاثر عبق مشاعرها في الأجواء..
لو كانت مستيقظة لغلبت بهالتها المحبة أثر الرصاصة..

-" بيان.."

هزه هزة بسيطة هذه المرة..بيان يرفع رأسه رويدا رويدا..سديم نائمة على صدره..مغمضة العينين..نظارتها سقطت بالفعل في مكان ما تحت الأرجل..

-" هل أنت بخير؟! هل سديم بخير؟! "

سأل أخيرا..و بيان ينظر إليه بأعين زائغة غير مستوعبة للموقف..
يطالع كفيه فلا يجد دماء عليهما..لهذا اليوم أديمه غير مخضب بحنائها..
و لكن لماذا يبدو و أن أحدًا يحاول انتزاع آثارها؟!
لم كل هذا الخوف و السكون إن كانت حقا حاضرة؟!

يعدل وضعيتها بين يديه..مغلقة العينين..يتأمل جسدها كافة و يبحثه عن أثرٍ لجرح ما فلا يجد..لا شيء سوى أنفاسها المنتظمة و جسدها الرخو..

-" سديم.."

همس باسمها..يد تجول وجهها و الأخرى تدعم جسدها..

-" سديم.."

هذه المرة ينادي بقوة..بعنفوان..يحرك جسدها بين يديه رغبة في استيقاظها..
زين الذي كان محبوس الأنفاس أصبح واعيا أخيرا لنفسه..
أشار لرجاله - الذين كان قد انطلق بعضهم خلف القناص و وقف بعضهم على مقربة للحماية -
أن يذهبوا و يحضروا الأطباء..

إيران استجاب هو الآخر ينطلق إلى جوار ليلى و يوسف..

-" يوسف قد.."

قبل أن تكمل ليلى جملتها حدجها زين بنظرات أقوى من طعنات الخناجر..فصمتت..كل تلك السنوات التي مرت خلقت في وجدانها وهم مجابهته و الوقوف أمامه وجها لوجه..و لربما استطاعت هي ذلك إن لم يكن قد أصابه رصاصة العشق..و يا ليته مجرد عشق..
بل عشق أسود..وصب دامي..محرم..مدمر..

التفت مجددا إلى بيان و سديم..و إيران يساعد الأطباء في حمل يوسف و يرافق ليلى إلى الداخل..

-" هل استفاقت؟! ما بالها؟؟ "

سأل زين..بالكاد يستطيع احتواء دموعه و الغصة التي امتدت من روحه إلى جسده..من أصغر خليه فيه إلى أكبر عضو داخل جسده..إلى كبده..

-" هي بخير..نائمة.."

بيان في حد ذاته لا يزال يرتعش..يتمتم بهذه الكلمات بغير وعي لمن يحدثه..هو حقيقة يحدث نفسه..يطمئن ذاته القلقة و فؤاده المضطرب..

-" هذا لم يحدث قط من قبل حسب علمي و معرفتي بها..إذا ما بالها الآن؟! ماذا يعني نائمة؟! "

بيان هو الآخر مقطب ما بين حاجبيه..لا يزال قابضا عليها بقوة..
يفكر بعمق لماذا حدث هذا؟!

-" لأول مرة تخلت عن المقاومة..أليس من حقها؟! أليست بشرا؟! أليست كالنساء في هذا العالم و لها كل الحقوق كامرأة؟!
صمدت كثيرا سديم..اليوم صدقت بكل كيانها أنها آمنة..اليوم صدقت حقا بأنه لا بأس و إن لم تستطع الحرب..و أنه لا ضير في الالتجاء..و لا خيانة للحب و الحياة إن فضلت أخذ قسط من الراحة..
سديم نائمة..دعوها تنام..ترتاح قليلا من أعباء هذا العالم..لترتح روحها الصادقة من الحب تماما كما ترتاح من المصاعب..
لعلها في نومها الذي اختارته هذا تمسي هادئة بلا استنزاف و تستجمع طاقتها ليوم جديد.."

بيان يستعيد ثباته..يتأملها نائمة بين ذراعيه..يخاطب ذاته و يخاطبه متناسيا الموقف و زين و يوسف..
أتى الأطباء يحاوطونهم..ينظر هو لهم بأعين زائغة..لا يرى فيهم وجوها و لا ملامحا بل أشباحا تحاول أن تنزع من بين يديه روح حبيبته..

أخرج سلاحه في حركة لا إرادية..ثباته زائف على ما يتضح..
كل شيء في هذه اللحظة مشوش..مشوه..ينافي كل ما عرفوا من قواعد و طبيعة..
سديم لا تقود الجدال بل انزوت للسكينة..هو الآن درع و حصن و سلاح..
هو كل شيء و هي ترضى الآن بمحلها فقط كجسد محب هش يغفو بين أحضانه..
ما كان له أن يتركها بين أيديهم..أطباء أو علماء..أشباحا أو شيطانيًا..
لم يكن ليستسلم..

-" بيان.."

صرخ زين محاولة لإفاقته مما هو فيه..

-" من سيقترب من زوجتي سأقتله..لا مزاح..و لتأخذ كلمتي على محمل الجد.."

بعد جملته الأخيرة غطى أذن سديم و أطلق رصاصة في الهواء..تجمد الأطباء مكانهم حتى أذن لهم زين بنظرة من عينيه أن ينسحبوا و يتراجعوا..
بيان تمسك بسلاحه حتى اختفى الجميع كما أتوا..
و من ثم رويدا رويدا أنزله..يتركه أرضا بجواره و لا يعيده مستقرا على الخصر تحسبا لأي طارئ..

ثم يعود بكل انتباهه إليها..يهدهدها بين يديه..يحتويها أكثر فأكثر..

-" سديم..سنذهب من هنا..سآخذك..سأحرسك..سأحميك..بعيدا عن كل هذا العبث.."

همس في أذنها..يقوم بروية كي لا يترك جسدها دون دعم..و زين يراقب..يحترق جوفه و لكن لا يستطيع أن يقترب..
بينما يحمل بيان سديم بين يديه بكل ما أوتي من قوة و يضمها بكل ما يمتلك من عنفوان..لا يملك زين سواء البقاء ثابتا و ذرف بضعة من قطرات مالحة من بحر عينيه..لقد ظن طوال حياته أن مقلتيه سماء عاصفة..أم الآن فيدرك أن سديم غيرته إلى بحر مالح، جائع لا يشبع و لا يُرتوى منه..
فقط المقبلون على تحدي تقلبات الأزرق الشاسع..هؤلاء الذين يرضون بالموت طواعية في العمق..من يطلبون الملح رغم معرفتهم أنهم سيزدادون عطشا..
هم فقط يستطيعون النجاة..
فقط سديم تستطيع أن تنجو داخله..لا أحد قبلها..و بعد تلك الرصاصة فويل لقلبه..للسماء داخله و لبحره..ويل لكل ما فيه فلا أحد بعدها قادر على أن يستوطنه..
###
خرجت ليلى إليه بعد دقائق من مغادرة بيان و سديم..كلاهما بعيدان في الأفق..سرب هما و هو طير وحيد..

-" ذهبت زهرتك..انظر إلى حالك..كم أنت مثير للشفقة يا زين.."

نظراته تزداد حدة رغم ما يعتيره من هدوء ظاهري..هدوء ما قبل العاصفة..

-" أنت أطلقت تلك الرصاصة أليس كذلك؟! أعرف الوحش الذي يسكنك أكثر مما أعرف ذاتي..عشت عمرا بأكمله تروضه..تمسك بطرف العدالة فتستغلها كي تقيد هواجسك..بينما ظننت أن الحب لعنة الوحش داخلك لا شفاءه جعلتك هي تصدق بالعكس أليس كذلك؟!
عشت سنوات معي تجاهد كي تظهر الحب بينما كنت باردا كالثلج..أردتني في حرب السلطة..في ما قضيناه من عمر سويا أنت قد أحببت أن أكون سلاحا في عدائك و لكن لم تجد في نفسك ما يكفي من القوة لمحبتي..
و ها هي سديم تنتقم لي و لدجلة و لكل من ظلمت..
كان يهيأ إليك أنك ستحتمل؟! أن تطلق رصاصة في حضورها بأمرك..أن تستأمن يد أحدهم ليصيب يوسف فيخفف من حسابه معك قليلا..
أردت القصاص فانقلب عليك ما أردت..
انقلب السحر على الساحر فحتى رغم فوزك الظاهري فإنك في جوفك مهزوم..مخذول مهما فعلت..
يخيل إليك أن جذورها داخلك لا عمق لها بما فيه الكفاية لتتأذى أنت من دوي رصاصة في حضورها..
و لكن انظر لما حدث..آه لو أن معي مرآة فأريك حالتك..
لو كنت قد سجلت صراخك..ليتني استطعت..ليتني فعلت..
قلبك العتي على الحب هذا قد انهار أمامها..أعين الجليد هذه تتوسل حضورها..
تخللت جسدك من جراحك و انتشرت كالسم..
أشفق عليك..فأنا لست واقعا في الحب..أنت روح مسمومة لا تعرف شيئا عن الهيام سوى الأسود منه..
كيف ستنجو يا قاضي الأرض؟! كيف ستطهر ذاتك و تقيم عدالتك بعد أن أصبحت سديم شوائبك؟! ستستيقظ صباحا و تنظر فلن تجد شيئا في قلبها سوى بيان و ما تريد أن تصنع معه من عائلة..
هل للقاضي من نجاة؟! و على فرض أن القاضي تنجيه عدالته..ماذا عن زين؟!
زين الصغير الذي هجرته أمه..و هجرته أنا من بعدها..
زين الذي لم تستطع امرأة أن تقف أمام ظلمه الذي لا ينقشع إلا في ساحات محاكمه..
هذا سينجو من سديم؟! من التي ارتضته وحشا كاسرا دون تغيير أو تعديل؟!
يوسف أمام ما تكنه ل سديم مجرد مبتديء..مجرد طفل صغير يتعثر في خطواته..يوسف قد يعيش..هذا الهيام قد يقوده للجنون..قد يتركه معطوبًا لعمر كامل..أما أنت فسيقتلك هذا الحب..سيصهرك كما تصهر النيران الذهب..سيجففك كما تجفف الشمس الجلود..سيأكلك كما تتلذذ النار بأكل نفسها بعد أن تنهي غابات كاملة..
لا رحمة لك من بأسك إلا برصاصة كالتي أمرت اليوم بإطلاقها..
و إن فضحت سرك..أو فضحه أحدهم فسنسديك معروفا..حينها ستنهال عليك رصاصات الرحمة من مختلف الأيدي و الأسلحة..
ذق من حميمك الذي أذقتنا..هذا يا زين ما كسبت يداك.."

لم يحرك زين ساكنا أمام كل ما قالته..آخر همومه في التو اللحظة هو ما تقول..
هو في الأساس شارد في سديم..في نبضات فؤاده التي ترفض العودة إلى مسارها الطبيعي و لا تزال متمسكة بإيقاع الركض في الماراثون..
أتمزح معه؟! أيخشى هو التنكيل به في هذا الوصب؟! أتخال هي أنه يهاب الوجد؟! هيهات..قد كان يعيش بلا روح و لا إحساس قبل سديم..
أما و قد أخرجها القدر في طريقة..أما و قد عرف الآن مقدارها داخله فلا تراجع..أسود هيامه أم أبيض..ذنب أم فضيلة..شقاء و انصهار أم شفاء و اكتمال و سعادة..هو ما عاد يأبه..
هو يأبه بأربعة أحرف..هو مريض و مسموم بروح واحدة..
روح هي دولة في حد ذاتها..عالم كامل و كون فسيح..
هي سديم..

-" نسيت أن أخبرك..قد اتصلت بأهلها..سيحضرون في خلال عشرة أيام..هذه المواجهة التي كنتم تهربون منها قادمة قادمة..
أبواب الجحيم ستفتح عليكم..و ستنهار الصورة الملائكية البريئة ل سديم..
في حبها قد تخلت كثيرا وضحت كثيرا..تركت عائلتها على جنب و تناست الأعراف و التقاليد..منحت ذاتها رخيصة دون زفاف و لا فستان و لا أهل يعقدون القران مثل الجميع..
عشرة أيام و سينهار هذا الصرح..ستنتهي كل الأحلام الجميلة..
و ستصاب سديم و لكن هذه المرة برصاصتي أنا.."

التفت له لتخبره هذه الكلمات وجها لوجه..قد فتحت على نفسها بابا من العداء تعرف جيدا أنها لا طاقة لها بعد الساعة أن تغلقه..
تتأمل مقلتيه فلا تحتاج بعدها لكلماته أن تجاوبها..
الآن هم جميعا في جحيم مقيم..و السلام عقبى للناجين..
###
إلى الفندق الذي يمتلك فيه جناحا خاصة مغلقا لأجله قد توجها..هناك حيث يرغب معها في بداية جديدة..بداية لا تلوثها ذكريات الندوب و الألم..خالية من شوائب مهيتاب و السيادة و الصراع أيًا كان سواء على العشق، المصالح أو المال..

على ذلك السرير الأبيض وضعها بهدوء..فصلها عنه يشعره و كأنه ينزع قلبه من صدره مستخدما يديه العاريتين..
و لكن أي الخيارات أمامه؟! عليه أن يضعها لتستريح قليلا و ينزل هو طالبا لحقيبة الطوارئ مرة أخرى..
هنا سيعزلها عن العالم و لو قليلا..سيتخفف كل منهما أعبائه و يشرعان في خلق ذكريات سعيدة..في العيش كما يجب أن يكون..

صعد مجددا بعد أن أحضر الحقيبة..متعرق تعرق رجل أقسم على نفسه أن يسابق البرق و يتحدى الزمن..
غير ثيابه بنفس ذات السرعة و لكن دون أن يخل بشيء من ترتيب الحقيبة..
و من ثم هرع إليها..يأخذها على صدره المضطرب..يشتهي في قربها بعضا من سكينة..

يفتقدها كالمجانين..يشتهي أن يسمع صوتها و لو لوهلة..أن تطمئنه أنها حاضرة..موجودة..أنه لم يفقدها لمصير سيء كالجنون أو الغيبوبة..
يتنهد بتثاقل..يضع يدها على قلبه و يتمسك بها..ينتفض جسده مع كل خفقة من خفقات فؤاده..كيانه مزلزل..مزعزع..مرارة الفقد على لسانه و يخشى أن يبتلعها فتصل حلقه..فلا نجاة حينها و لا فرار..

-" سديم.."

همس و دمعة حارة قد سقطت من عينيه..لو أنه لم يكن مستقرا على السرير لتهاوى جسده في هذه اللحظة..

-" لا شيء يريحني بقدر رؤيتك نائمة باطمئنان إلى هذا الحد..و لكن ليس بيدي..السهام في قلبي ليست بيدي..تطاردني هواجس سوداء كالخناجر تقطع شرايني واحدا تلو الآخر ثم لا تكتفي فيأتي الدور على الأوردة..
هذا الفؤاد نازف..يشتهي وصلك..في الموت كما الحياة..في النوم كما الاستفاقة..
البقاء بدونك لا يحتمل..سديم..لا أحتمل أن يذكر اسمي ممزوجا بالعاطفة من امرأة بعدك..و أن تكشف جراحي على امرأة غيرك لهي مهانة لي..
هذه مرتي الأولى في الهيام و أعدك إنها للأخيرة..
أعدك أن يوافيك هذا الذي يخفق في صدري أينما كنتِ..
أعدك..حتى دون جهد منا..فأنا مؤمن بأن الله الذي جمعنا في الأرض سيجمعنا في القيامة..
و لكن.."

يمسك نفسه كي لا ينتحب..الدموع تنهمر من عينيه ساخنة كأنها قبس من لهيب فتزاد روحه اشتعالا لا حلما و صبرا..

-" بيان.."

كاد لا يصدق أذنيه..يكذب كل حواسه..أطراف أصابعها تتحرك بهدوء متمسكة بقماش الملابس على صدره..تقبض على القميص كما لو أنها تريد التمسك بقلبه..
اعتدل في وضعيته ليضمها أكثر..و يصبح قادرا على رؤية وجهها في الوقت ذاته..

-" سديم؟! "

ينادي بتساؤل و خوف..لا يزال الشك يتغمده..

-" رأسي ثقيل..أريد الاستناد على كتفك قليلا.."

تمتمت بهذه الجملة و صوتها ناعس..

تنفس الصعداء أخيرا..كأنما كان يعرج في السماء فنسى التنفس في طريقه إلى الأعلى و الآن أعادوه إلى الأرض حيث الهواء..

-" سديم..سديم..أعدك ستنامين قدر ما تشائين و لكن سأحضر لك الدواء و قليلا من الحساء..لأجل الله يا سديم.."

لم تجب سديم سوى ببعض أصوات معترضة..فقبل بيان جبينها كي تهدأ قليلا..

-" سأعود سريعا و لكن لا استسلام للنوم.."

أمسك بيان برأسها بين يديه في حذر ليضعها مستقرة على الوسادة..
وجد دمعة عاصية تفر من بين جفونها لتحفر مسارها على خديها..
فنهل من مائها المالح دون تفكير..

-" دموعك غالية..أنت امرأة عمري..ابنة فؤادي..و صغيرتي التي ما ظننت أنني سأحصل عليها قط..أتبكين حبيبتي؟! سديم..أيرضيك أن تترك دموعك على شغاف قلبي أثرا كأثر الشمع الساخن على أديم كأديم الأطفال؟!
أيرضيك؟!

أخذت سديم نفسا عميقا إلى صدرها..كلماته تعيد لها الطاقة..تعيد لها الرغبة في الحياة و مجادلتها..لو يعرف هو كم تشتاق هي إليه و هي مستقرة بين يديه على هذه الشاكلة..لو يعرف لما سأل..لما استجدى وقف دمعها بالسؤال..
لطلب منها فقط..و ما كانت هي لترد حبيب روحها طلب..

وضعها على الوسادة إذ استكانت و ذهب لطلب الطعام و اخراج الدواء من الحقيبة..
استوقفه شيء ما لم يلحظه قبلا..مذكرة بلون عينيه..
أخرجها يقلبها بين يديه لثوان معدودة ثم قرر فتحها..

( حبيب روحي..إن كانت هذه الكلمات بين يديك الآن فهذا يعني أن السبب قد تقطعت بنا بعيدا عن بعضا البعض بشكل أو بآخر..
في غياب جسدي عنك فإن روحي باقية معك..و كلماتي هي أثر النفس التي أكن فيها الحب لك..كلماتي هي إرثي لك..و محبتي لك باقية إن شاء الله للقيامة..
ماذا تفعل هذه المذكرة هنا؟! أنا فقط أخشى عليك الشوق و الوحشة في ذهابي أيًا كان السبب..فقدنا الكثير من ذكرياتنا في بيت مهيتاب..و لكن الآن و قد عاودنا تلك الجدران على أنها منازلنا فلا شيء في قلبي غير الامتنان..أريد أن أصنع معك ذكريات جديدة و خواطرا أبدية تعيش داخلنا و إن لم يكن لها على أرض الواقع أثر..
دعك من الكلام عن الماضي و الآن لتفسح لي مجالا في قلبك كي أخبرك كم أحبك..
أرى فيك رقة الأيل..عاطفتك بريئة إلى هذه الدرجة..كأنما تنظر إلى العالم و إلي بعين صغير الغزال إذ يفتح عينيه في كنف أمه لأول مرة..
و أرى فيك إصرار المهر إذ يصل الحياة فيقف تارة و يتهاوى تارة حتى يطوي الأرض طيا تحت أرجله..
أراك قويا و بريئا من الدماء كالذئب البريء من دم ابن سيدنا يعقوب عليهما السلام..
أراك كما لا يسعني أن أرى أحدًا آخر..
و ليكن حبي ختام هذه الخاطرة..)

يد بيان ترتعش..لكلماتها سحر و رونق يستحوذ على نفسه كافة فلا يترك فيها قطرة لأحد من دونها..مع كل لفظ منها يزداد تأكدا أنها و إن توقفت يوما عن حبه فقد تأخر الأوان بالنسبة له..الآن هو غارق في هيامها..مدمن لها محبة كانت أم كارهة..الجيمع إذ يحضر ذكرها على وجدانه أغراب..
و بما أنها لا تغيب عنه لحظة فإذا لا أحباب بعدها..

الشبع ما هو إلا شائعة أطلقها الهائمون مخافة الحسد..في الهيام يتضور المرء جوعا بلا شبع..يزداد ظمأ بلا ارتواء..
إلا أنه وضع المذكرة على جنب..بضعة لحظات استقى من قربها بعضا من الطاقة كي يستعين بها على الصمود أمام ما تركته من كلمات..
يعطيها الدواء و من ثم يطلب بعضا من الحساء..و يعود فيجلس جانبها..
و يفتح المذكرة مرة أخرى..

( إن سألوني لماذا أكتب سأقول راودني حب بيان عن الناس أجمعين..
ظننت أن السكارى من الحب ما هم إلا أساطير..و ها أنا أسطورة منهم..
ذائبة أنا في رائحتك..في كل ما ينتمي إليك..في القماش الذي يلمس جسدك في تلك الأزرار التي تنتقيها بيديك..
أعلم كم تحبني..أرى انعكاسي في عينيك..أشعر بلهفتك تحاوطني كما يديك..
تسكن إلى جواري كطفل صغير أنهكه العالم فلم يجد حصنا آمنا غيري فأتى إلي..خصلات شعرك كالذهب الناعم..كالكشمير الأسود..
كم أشتهي رؤيتك في بذلة بلون المياه إذ يراودها عن وقارها السكر..
افتح قلبك لي..دعني أعبر فأصل إلى الزمرد المتمركز في منتصف روحك..
تائهة في ظلامك..ساكنة في ظلالك أو محترقة بنيرانك و نورك..
لا آبه..فقط أريد أن أضمن لذاتي مكانا في روحك..الآن و للأبد..)

أغلق بيان المذكرة..يكاد قلبه ينفجر..يعتصر الملاءات تحت يديه..تتغمده سعادة كما لو أنه فوق السحب..و يعتريه سقم كأنما سحبوه من الدرك الأسفل للنار..سقم من فقدانها..سقم من شوقه إليها بينما تتخذ هي من النوم ساترا لها عن مآسي العالم..

-" سديم.."

قبض على يدها..يشد عليها بكل ما أوتي من قوة..

-" لا أستطيع دونك..لا أشبع منك..كلماتك تستقر في فؤادي كسهم لا يمكن نزعه..و لكنها لا تكفيني..بل أتضور جوعا..من فضلك..من فضلك.."

سحب يدها إليه..بكل هيبته يقبلها..و يضعها على صدره..علها تستجيب..علها تستمع..

طرق على الباب أخرجه من حالته تلك..مسح عينيه سريعا ثم استجاب للطارق..أدخل صينية الطعام بنفسه و أغلق الباب..
بهدوء وضعها..فكر في تجهيز شيء ما قبل أن يوقظها..
أجرى بعض المكالمات و أنهى بعض الترتيبات..و أصبحت كل المفاجآت جاهزة..
غدا يوم المسير إليها..يوم يجتمع بها لمرة واحدة و بعدها يظلان ملتحمان للأبد حتى إن افترق الجسد عن الجسد..

بيان الفارس التائه في هيامها الآن يصنع بنفسه طريقه إليها..يمسك بالدفة كي لا ينجرف هذا الحب بعيدا عنه..يبذل ذاته كي تكون هي قادرة على منح الحب كما تريد و لو ليلة و تكون قادرة على تصديق عاطفته و احتضانها دون مخاوف من الأهل و الظروف و العادات و التقليد..

اليوم هي أبدت الاستعداد لخوض هذه الطريق..و غدا يهرول هو إليها كي يلتقيا في البداية.. فيسيران سويا إلى المنتصف و من بعدها إلى المالانهائية فقط عبر هذا الهيام خط النهاية و ها هو لا يزال حيا..لا يزال قائما..لا يزال بثبات مستمرا..

ذهب إلى جانبها..يساعدها على الجلوس..تمتم هي باسمه بين الفنية و الأخرى..

-" لست جائعة..النوم.."

أخبرته بشكل متقطع..ابتسم هو بحنو..ترك الملعقة من يده و مرر يده على وجهها بحنو..

-" لأجلي..أنا جائع..كيف أستسيغ الطعام دونك؟! كيف يقبله جوفي و جوفك فارغ؟! "

همس لها بهذه الكلمات..موقن هو أنها تسمعه حتى دون حديث..هو في باطنها..و هي منسوجة في حشاياه..
و مجددا لم تعارض..تأكل باستكانة..بأعين مغلقة لا تخشى ما هو قادم..

أنهوا الوجبة سويا..هي ملعقة وهو الأخرى..يشتهي مشاركتها أي شيء و كل شيء مهما بدا صغيرا، بلا قيمة أو حتى تافها..

قام لوضع صينية الطعام بعيدا..أمسك هاتفه يتأمله للحظات ثم أغلقه قبل أن تتاح لزين الفرصة أن يخبره بما هو قادم و فعل ذات الشيء في هاتف سديم..
يعزلهما عن العالم رغبة في شفاء الجراح بشكل سليم..
العالم يحترق خارجا أما هما فيستعدان لمشاركة السعادة..
و من بعدها يواجهان العالم المحترق من جديد..

Continue Reading

You'll Also Like

1.6K 261 42
مِــــــــجرد فتاة بائسة تحاول الخروج مِــــــــن سواد ليلها الحالك فــــــتجد نفسها وًســــــــط زوبعة لا خروج مــــــــنها فتصطدم بحقيقة أنها تزوجت...
1K 115 8
‏"أخبروني أين يباع النسيان، وأين أجدُ ملامحي السابقة، وكيف لي أن أعودُ لنفسي؟! "
3.1K 124 18
- قرر، خطط، ونفذ ،ثم قال أسدل ستارَ الملحمة. ببساطة بكل قناعة حرق ماضينا وحاضرنا ,وحدد معالم مستقبلنا واحكم بناء أساسات تلك القلعة بشكل ممتاز، كدمى م...
2.8K 113 4
هل لديك موهبة ؟ هل تظهر مشاعرك ؟ كل ما يدور حول هذا الكتاب : اكتشف موهبتك ! واظهر مشاعرك ! هل بإمكانك ذلك !؟