مرت من هنا الجزء الثانى من سل...

By AyaMostaffa

134K 2.7K 92

ومرت من هنا الجزء More

المقدمة
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادى عشر
الفصل الثانى عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادى والعشرون
الفصل الثانى والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثانى والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون والاخير
الخاتمة
ملحوظة

الفصل الاول

4.8K 79 5
By AyaMostaffa

الفصل الأول

( مأساة عائلة )

المحتوى الان غير مخفي
بالكاد تمكنت ليندا من إيقاف الباص في الوقت المناسب أمام مدخل الحارة التي تقيم فيها .. توقف السائق متذمرا من تنبيهها له بعد تجاوزه للموقف بعدة أمتار .. ترجلت بسرعة مخفية حرجها من شرود ذهنها عن الطريق .. وقفت فوق الطريق باضطراب شديد .. في قلب الازدحام المميز لهذه المنطقة الشعبية في هذا الوقت من النهار .. غير واعية لنظرات الناس العابرة لها في تأمل سريع لكيانها الضئيل الذي جعلها تبدو أشبه بطفلة تائهة

لم تكن ليندا بارعة الجمال .. كانت مميزة الشكل فحسب .. بشرة قمحية كانت دائمة التورد ذات يوم .. عينان واسعتان بلون الذهب تشعان في قلب وجهها ببريق حائر يبدو وكأنه يستجدي الحماية من الآخرين .. أنف صغير الحجم وفم ناعم لم يبتسم حقا منذ مدة طويلة .. كلل هذا المظهر شعر فاحم السواد رفعته بعيدا عن وجهها .. وبنية جسدية صغيرة بالكاد تجاوز طولها المائة وسبعة وخمسين سنتيمترا .. حتى ملابسها الرسمية الأنيقة التي اشترتها من متجر للملابس المستعملة .. لم تستطع منح مظهرها الجدية اللازمة .. ماذا عليها أن تفعل الآن ؟ .. هل تعود إلى البيت ؟ .. وكيف ستبرر لعادل مغادرتها مقر عملها قبل ساعات من انتهاء الدوام ؟ .. هل تخبره الحقيقة ؟ .. بأنها قد طردت من عملها .... مجددا ؟

في المرة الأولى التي طردت فيها قبل أكثر من عام .. تمكنت من اختلاق عذر مقنع بدلا من إخباره بالحقيقة المخجلة .. إذ أنه ليس بحاجة إلى المزيد من خيبات الأمل .. هل ستكذب عليه هذه المرة أيضا ؟.. أم تكون صريحة .. وتخبره بان (نادر عزمي) الذي تعمل لديه بالكاد منذ ستة أسابيع .. قد عرض عليها علاوة مجزية مقابل تقديمها له بعض الخدمات الجنسية بعد انصراف باقي الموظفين في نهاية نهار العمل ؟

أغمضت عينيها بقوة للحظات .. ثم فتحتهما .. وجذبت حزام حقيبة يدها الجلدية الصغيرة لتحكم وضعها فوق كتفها ..وسارت تخترق صفوف المارة الذين تدافعوا فوق الرصيف الضيق .. واتجهت عبر بضع شوارع جانبية نحو المبنى الذي تقيم فيه عائلتها منذ أربع سنوات

تجاوزت المدخل الذي تجمعت القاذورات في زواياه .. واعتلت الدرج المهترئ الذي فاحت منه الروائح المختلفة المنبعثة من خلف الأبواب العتيقة .. وأحست بالحسرة وهي تتذكر شقتهم القديمة .. التي كانت رغم بساطتها .. أفضل من عش الفئران الذي قدر لهم الانتقال إليه

مقر إقامة العائلة الحالي .. كان عبارة عن شقة صغيرة إضافية بنيت على السطح .. مكونة من غرفتي نوم .. وصالة صغيرة .. ومرفقات متواضعة .. فتحت الباب المعدني .. فأصدر صريرا وهو يتحرك أمامها .. دعت الله أن يكون عادل خارجا في هذه اللحظة .. ثم تذكرت بأنه نادرا ما يترك الشقة

الصالة المؤثثة بأريكتين قديمتين .. وطاولة صغيرة اعتلاها جهاز تلفزيون قديم الطراز .. ومكتب مهترئ في الزاوية مخصص لعمل عادل .. وقد اكتسى سطحه بأوراقه المبعثرة .. كانت خالية

وقبل أن تتنفس الصعداء .. أتاها صوته قادما من باب المطبخ يقول بعصبية :- ما الذي تفعلينه هنا ؟

التفتت إليه بتوتر .. وهي تراقبه يتجاوز مدخل المطبخ بصعوبة معتمدا على عصاه الخشبية الثقيلة .. بينما علا القلق وجهه الذي كان وسيما فيما مضى .. أما الآن فقد اكتسى بالشحوب .. وقد غطت لحية خفيفة وجنتيه الغائرتين وذقنه .. بينما أحاطت هالات سوداء عينيه البنيتين

قالت متوترة وهي تشد أصابعها حول حزام حقيبتها العريض :- لقد أخذت إذنا للمغادرة باكرا كي أتمكن من مرافقة أمي إلى المستشفى .. أين هي ؟

من الغريب كيف تنساب الكذبات المتقنة من أفواهنا دون تخطيط عند الحاجة .. بينما كانت تفكر بهذا .. قال بخشونة :- تعرفين بأن مواعيدها تكون عادة في الصباح الباكر .. وأن منى من يرافقها عادة .. لم لا تكفين عن اللف والدوران .. وتقولين الحقيقة مرة واحدة ؟

نظرت إليه باضطراب فأخذ نفسا عميقا وقد خمن وحده ما حدث :- لقد خسرت عملك .. أليس كذلك ؟

صاحت بيأس :- لم يكن ذنبي هذه المرة

تحرك أمامها نحو الصالة .. فراقبت قامته النحيلة والطويلة بالملابس البسيطة التي بدت واسعة عليه ورددت :- لم يكن ذنبي يا عادل

ألقى نفسه على إحدى الأريكتين ممددا ساقه اليمنى أمامه .. مسندا عصاه إلى جانبه قائلا بجفاف :- ما الذي حدث ؟

حكت له ما حدث باختصار دون شرح للتفاصيل وهي تتحاشى النظر إلى عينيه .. فأجفلت عندما ألقى عصاه بعيدا بعنف وهو يشتم بغضب .. هتف من بين أسنانه :- الحقير

اقتربت منه قائلة :- عادل .. أرجوك .. إهدأ

قال بمرارة :- كيف تريدينني أن أهدأ وأنا أرى شقيقتي الصغرى تهان وتحتقر من قبل أشخاص عديمي الضمير والأخلاق .. وأنا عاجز عن حمايتها والانتقام لكرامتها منهم ؟

هزت رأسها قائلة :- لا داعي لهذا .. فقد تركت العمل على الفور .. دون حتى أن أرد عليه .. الأمر لا يستحق أن ...

قاطعها صارخا :- لا يستحق ..!!.. تمس أختي في شرفها وأخلاقها .. ألا يستحق هذا أن أهب لآخذ حقها ؟ لو أنني لم أكن عاجزا وضعيفا ..

هتفت بألم وهي ترى عذابه الشديد :- لا تقل هذا يا عادل

ضحك بسخرية مريرة :- هذه هي الحقيقة يا لندا .. أنا لم أعد رجلا حقيقيا منذ سنوات .. منذ أقعدني عجزي في البيت ومنعني من حماية عائلتي وحتى من إعالتها

أسرعت تقول بحرارة :- أنت تبذل جهدك

أشار نحو الطاولة المهترئة .. والملفات المتناثرة عليه قائلا بازدراء :- هل تسمين قيامي ببعض أعمال المحاسبة المأجورة في البيت عملا ؟ .. بالكاد يكفي ما أجنيه ثمنا للطعام .. الكل يرفض منحي وظيفة حقيقية بسبب إعاقتي وعجزي عن القيام بعمل رجل سليم .. وها أنت تتحملين مسؤولية تفوق قدرة شابة في عمرك تتنقلين من وظيفة إلى أخرى متحملة سوء المعاملة والاستغلال بحثا عن دخل إضافي يساهم في حل مشاكلنا التي لا تنتهي

أطل ألم عميق من عينيه الذابلتين وهو يهمس :- ليتني كنت من مات في ذلك الحادث

صرخت به بعنف :- إياك أن تقول هذا

:- لو أنني أنا من مات .. وهو من نجا .. لكانت الأمور أسهل بكثير عليكما

تدفقت الدموع من عيني لندا العسليتين .. وقد تكدس الألم فوق قلبها حتى أفقده القدرة على احتمال المزيد من الضغوط .. :- لماذا تفعل هذا بي ؟ لماذا ؟ ألا تعرف كم تؤلمني كلماتك ؟ ..أنا لا أستطيع احتمال المزيد .. لا أستطيع

اندفعت نحو إحدى غرفتي النوم والتي تتقاسمها مع والدتها .. ورمت نفسها فوق أحد السريرين الصغيرين .. وبدأت تبكي وتبكي بلا توقف

لم تكن عادة من النوع المستسلم لضعفه .. فقد تعلمت خلال السنوات القليلة الماضية بأن الضعف والبكاء لا يطعمان خبزا .. كما لا يوفران ثمن علاج والدتها الباهظ .. إلا أنها في هذه اللحظة .. كانت قد وصلت إلى حد من اليأس .. لم تكن قادرة على كبته أكثر .. أربع سنوات مرت عليهم كالجحيم منذ حادث السير الذي أودى بحياة والدها .. وتسبب لعادل بإعاقته الدائمة

لم تكن عائلتها الصغيرة ثرية في يوم من الأيام .. ولكنها كانت مكتفية الحال .. والدها كان محاسبا في شركة خاصة .. كما كان عادل .. الذي كان شابا متألقا ومرحا .. طموحا للغاية .. ضاحكا على الدوام .. إلا أن ذلك الإنسان اختفى وانتهى مع الحادث .. كما انتهت حياة والدها

المحزن في الأمر .. أن أحدهما لم يكن سائق السيارة التي فقدت السيطرة في مساء ممطر .. وانحرفت عن الطريق لتصطدم بشاحنة كبيرة بالكاد أصيبت بخدش

أما سيارة الأجرة التي كانا يستقلانها .. فقد تهشمت تماما .. وكان يبدو للناظر من بعيد بأن أحدا لا يمكن أن يخرج منها حيا

مات السائق على الفور .. كما مات والدها .. أما عادل فقد خرج بإصابات خطرة أدخلته غرفة العمليات على الفور .. بقي يعد ذلك لأيام طويلة غائبا عن الوعي دون أن يعرف أحد إن كان سيصحو يوما أم لا

ولكنه فعل .. واضطرت العائلة لبيع الشقة الواسعة التي كانت تأويهم .. وذلك لسداد مصاريف علاج عادل .. الذي تماثل للشفاء في النهاية .. إلا أن الحادث أبى إلا أن يترك له تذكارا متمثلا بساق معطوبة .. وألم نفسي صادر عن إعاقته فاق آلامه الجسدية .. وهو يرى الشقة الحقيرة التي انتهى حال عائلته إليها .. ويرى شقيقته الصغرى والوحيدة .. التي ما تزال طالبة صغيرة في الجامعة .. تضطر للسعي بين الوظائف بهدف إعالة الأسرة .. بالإضافة إلى الحزن المخيم على الجميع بسبب فقدانهم للوالد الرائع الذي مات فجأة

بدأت الأمور تستقر تدريجيا . خف الألم والحزن مع الوقت .. بدأ عادل يعمل من البيت بعد رفض الجميع توظيفه بسبب إعاقته .. ولأنه لن يتمكن من تحمل ضغط العمل مع الألم الشديد الذي ما زال يشعر به كلما سار عليها .. وجدت هي وظيفة جيدة كسكرتيرة في مكتب إحدى أكبر الشركات الصناعية والتجارية في البلاد

كانت الامور تتحسن حقا .. قبل أن تبدأ بالتدهور فجأة

.. تبين أن والدتها مصابة بفشل كلوي مزمن .. وكانت هذه صدمة كبير على العائلة التي بالكاد تعافت من مأساتها الأولى

والدتها الطيبة الحنون .. مصابة بمرض لا شفاء له .. وذي كلفة مرتفعة .. ثم قامت هي بارتكاب أكبر خطأ في حياتها .. الخطأ الذي تسبب بطردها من عملها .. وها هي بعد تنقلها بين عدة وظائف تافهة وغير مناسبة .. عاجزة عن تقديم المساعدة لعائلتها .. وتسبب المزيد من الحزن والمرارة لعادل

أحست بيده فوق ظهرها .. تربت عليها بحنان .. فتوقفت عن البكاء .. وتمالكت نفسها ..و جلست فوق السرير إلى جانبه .. فقال بصوت حزين أثار شجنها :- أنا آسف يا عزيزتي .. لديك ما يكفي من الهموم .. وها أنا أضاعفها لك بتذمري الدائم ورثائي لنفسي

تمتمت :- أنا لست غاضبة منك

:- بلى .. أنت غاضبة مني لأنني لست ممتنا بما يكفي للفرصة التي منحني إياها الله للحياة.. أعرف بأنك وأمي عشتما فترة صعبة بعد الحادث خوفا من فقدانكما لي كما فقدتما أبي

قالت بصوت مختنق :- لا فكرة لديك عن مدى امتناننا وسعادتنا لوجودك بيننا يا عادل .. إنني أدعو الله يوميا وأشكره عشرات المرات على نجاتك من ذلك الحادث .. لا أستطيع أن أتخيل كيف كان حالنا ليكون بدونك معنا

همس باكتئاب :- رغم عجزي عن تقديم أي مساعدة فعلية لكما .. إلا أنني لا أتخيلكما أنت وأمي تعانيان وحدكما .. أنا أيضا أشكر الله دائما على نعمه التي لا تحصى .. ولكنني لا أستطيع إلا أن ..

قاطعته قائلة بحزم :- توقف عن التفكير السلبي حول نفسك .. أنت لست عاجزا .. أنت أخي الأكبر الذي سأظل دائما بحاجة إلى دعمه وحمايته .. مجرد إدراكي لوجودك في حياتنا .. بأنني قادرة على اللجوء إليك وقت الحاجة .. يجعلني أقوى .. يدفعني لتحمل كل شيء والسعي بإصرار إلى الأمام بثقة وشجاعة لعلمي بأنني لو حصل وسقطت .. فأنت ستكون موجودا لتساعدني على النهوض مجددا .. لو تعرف فقط كم يؤلمني إغضابي الدائم لك وتخييبي لأملك مرة بعد مرة .. أتمنى لو أنني كنت أكثر نفعا .. لو أنني كنت رجلا .. لما تجرأ نادر عزمي على التحرش بي وإهانتي ودفعي لترك العمل كما حصل اليوم

لأنها كانت محقة .. امتنع عادل عن التعليق .. ساد الصمت للحظات غرق خلاله كل منهما في أفكاره ومخاوفه .. قبل أن يسألها :- ماذا ستفعلين الآن ؟

تمتمت :- سأعاود البحث عن عمل آخر .. لابد من وجود شركة ما .. أو مكتب ما بحاجة إلى توظيف سكرتيرة ذات خبرة في مكان ما

:- من الأفضل عدم إخبار أمنا بخسارتك لوظيفتك .. فهي لا تحتاج إلى مزيد من القلق

بالفعل .. عند عودة والدتهما من جلسة العلاج برفقة منى .. أخفى الاثنان عنها الأمر .. وعندما خلدت للراحة داخل غرفتها .. وانفردت لندا مع ابنة عمتها في المطبخ الصغير الذي احتواهما معا بصعوبة .. حكت لها لندا ما حدث بالتفصيل وهما تعدان طعام الغداء .. مما جعل وجه منى الأسمر يحتقن غضبا وهي تتوقف عن فرم محتويات السلطة الخضراء على الطاولة الصغيرة :- أرجوك .. لا تقولي لي بأنك قد رحلت بكل بساطة دون أن تفضحي ذلك السافل

قالت لندا بمرارة :- فضيحته فضيحة لي أيضا يا منى ..لم أحتمل فكرة تحدث الناس عني بالسوء لأنهم لن يصدقوا أبدا بأنني لم أشجعه على التحرش بي

:- أخبريني إذن بأنك قد صفعته على الأقل .. أو رميت بشيء ثقيل على رأسه سبب له ارتجاجا في المخ

أطلت نظرة عجز من عيني لندا فتنهدت منى قائلة :- لا فائدة .. ستظلين دائما الفأرة الصغيرة الخائفة والجبانة

هتفت لندا بغضب :- لا تقولي هذا

اعتذرت منى على الفور قائلة :- سامحيني يا لندا .. ولكنك تثيرين غيظي دائما بضعفك واستسلامك .. نحن نعيش في عصر لا نصرة فيه إلا للأقوياء .. إن لم تتحولي فيه إلى ذئب أكلتك الذئاب .. إن لم تأخذي حقك بيديك وأسنانك .. فستعيشين حياتك كلها تركضين خلف سراب دون أن تحققي أي إنجاز حقيقي

تركت لندا ما كانت تقلبه في المقلاة قائلة بغلظة :- ما الذي كنت تريدينني أن أفعله ؟ الرجل يفوقني حجما بعدة أضعاف .. كان ليمسح بي الأرض إن رفعت صوتي في أمامه

:- أنا لا أتحدث فقط عن هذه الحادثة .. في كل مرة يظلمك فيها أحدهم .. تتركين له المكان وترحلين بصمت .. بحق الله .. لقد كانت هذه هي وظيفتك الرابعة لهذه السنة .. أنت لست في وضع يسمح لك بالتنقل بين الوظائف

هتفت لندا بيأس :-ألا تظنين بأن الانتقال من وظيفة وضيعة إلى أخرى أكثر وضاعة يرهقني ويتعبني ؟ .. في كل مرة يترأسني فيها رجل لا يقل حقارة عن ( نادر عزمي ) دون أن أجد وسيلة للوقوف في وجهه إلا بالرحيل بصمت .. عارفة بأن خياراتي محدودة بدون رسالة توصية مناسبة

استدارت منى نحوها ممسكة بخصرها قائلة :- وخطأ من هذا ؟ .. خطأ ذلك الرجل الذي طردك من عملك بلا رحمة .. دون أن يكتفي بقطع رزقك وحرمانك من رسالة التوصية .. بل استعمل ما لديه من سلطة كي يمنع أي شركة محترمة من توظيفك

هزت لندا رأسها فتطاير شعرها الأسود حولها وهي تقول :- لا تستطيعين لومه يا منى .. هل نسيت السبب الذي طردني لأجله ؟

هتفت منى بحدة :- ومن علي أن ألوم إذن ؟.. من عليه أن يتحمل مسؤولية وضعك المأساوي الحالي ؟

صمتت لندا وقد قفز اسم معين إلى ذهنها .. كان الاسم يتردد بين أفكارها كثيرا في الآونة الأخيرة .. وكانت تتناساه على الفور متأكدة من استحالة الفكرة التي بدت معقولة جدا في هذه اللحظة .. هل يمكن أن يتغير حظها مرة واحدة إن استمعت إلى نصيحة منى .. وسعت لأخذ حقوقها بيدها

تمتمت :- أنت محقة يا منى .. يجب علي أن أقاتل كما يفعل الأخرون .. وإلا دفنت حية .. لا وضع أمي .. ولا حالة عادل تحتمل مني المزيد من الاستسلام والتخاذل

قبل أن تستفسر منى المرتابة عن سبب تغير أفكار لندا .. هدر فجأة صوت عادل وهو يقول بجفاف :- ألم تجهز بعد الوليمة التي تعدانها ؟ .. أم أننا سننتظر حتى تنتهي ثرثرتكما النسائية التافهة

التفتت الفتاتان إليه حيث وقف عند باب المطبخ يحدق فيهما واجما .. لم تلاحظ لندا الطريقة التي تقابلت فيها نظراته مع نظرات منى التي واجهته بصلابة قبل أن تقول بهدوء :- سيكون جاهزا خلال دقائق

ثم نظرت إلى لندا قائلة :- يجب أن أذهب .. كل ما عليك فعله هو تحضير المائدة وسكب الطعام

هتفت لندا باستنكار :- ألن تتناولي الطعام معنا ؟ لن أقبل بهذا أبدا .. عادل .. قل شيئا

عادت منى تواجه نظرات عادل الجامد الوجه بتحدي .. بينما قال هو بعد لحظات من الصمت :- طبعا ستتناولين الطعام معنا .. فأنت من أعده على أي حال

تراقص الهزل في عينيها السوداوين .. وحده هو من لاحظ التهكم في نبرة صوتها وهي تقول :- سأترككما تتناولانه بسلام .. لقد وعدت أمي بالعودة باكرا إلى البيت

عادت إلى تجاهله موجهة اهتمامها نحو لندا قائلة :- اخبري خالتي بأنني سأكون موجودة لأخذها في موعد الجلسة القادمة .. ولا تنسي إخباري بما يحصل معك

نزعت رداء الطبخ .. وأعطته لها .. ثم تجاوزت عادل عبر الباب الضيق .. فابتعد بحركة حادة وكأنه يخشى أن تلمسه .. وراقبها بصمت وهي ترتدي معطفها .. وتغادر

تمتمت لندا :- ما الذي كنا سنفعله بدون مساعدتها لنا ؟

انتفضت عندما هتف بها عادل بحدة مفاجئة :- لم أعد جائعا .. سأنام قليلا

ابتعد وقد بدت خطواته أكثر ثقلا وهو يجر ساقه خلفه .. راقبته هي بذهول للحظات .. قبل أن تترقرق الدموع في عينيها وهي تهمس :- هل تراك تعرف السلام يوما يا عادل ؟

#######

دخل صلاح إلى مكتبه صباحا بشكل هائج دون أن يلقي نظرة واحدة نحو سكرتيرته التي اعتادت دائما التواجد لحظة وصوله مهما كان الوقت مبكرا .. كما اعتادت على تلك الحالة التي تصيبه كلما كان غاضبا فبالكاد يلحظ وجودها .. هبت واقفة باضطراب ولحقت بخطواته السريعة إلى داخل مكتبه الواسع وهي ترحب به بكلمات واهية .. بينما وضع هو حقيبة أوراقه السوداء فوق المكتب الضخم المصنوع من خشب الجوز الثقيل .. واستدار نحوها هاتفا بفظاظة :- ألم يصل رشاد بعد ؟

قالت بارتباك :- ليس بعد

استل هاتفه المحمول من حزامه .. وحاول الاتصال به كما كان يفعل منذ ساعات .. قال ساخطا :- هاتفه مغلق .. أراهن على أنه قد أقفله كالعادة فور خروجه من مبنى الشركة مساء الأمس كي لا أتمكن من الوصول إليه

تململت آية في وقفتها مانعة نفسها من التعليق ( أليس هذا ذكاء منه ؟ .. فأنت يا سيدي قادر على إحالة نهار أي شخص إلى عاصفة هوجاء من القلق والتوتر بكلمة واحدة )

ولكنها كالعادة .. كبتت أفكارها عارفة بأن التصريح بها قد يكلفها عملها .. تنفست بارتياح عندما فتح الباب دون إنذار .. ودخل عبره شاب ذو وسامة خشنة تناسبت مع ضخامة جسده .. ملامحه حملت رصانة وهدوءا .. منحاه مظهرا أكثر نضوجا من سنوات عمره الواحد والثلاثين المماثل بالضبط لعمر صلاح .. تبادل مع آية نظرة تفاهم سريعة .. قبل أن يقول بهدوء :- آسف لتأخري .. وعلى إقفالي الهاتف أيضا .. فأنا لن أعيش حياة طبيعية كما لن تستطيع أنت إن كنت تمطرني باتصالاتك طوال النهار

دون أن يضيع صلاح وقته في العتاب قال بصرامة :- قل ما لديك فورا

استأذنت آية خارجة دون أن يشعر بها أحدهما .. إذ كان رشاد يتحدث بإسهاب وقد ظهرت الجدية التامة على ملامحه الوقورة .. أما صلاح .. فقد كان يستمع إليه باهتمام شديد .. بينما كان الغضب ينمو باضطراد داخل صدره .. عندما صمت رشاد أخيرا .. هوت قبضة صلاح فوق سطح المكتب المصقول تضربه من بين أسنانه :- الحقير

راقب رشاد الغضب الذي ارتسم على الملامح النبيلة لرئيسه بصمت .. كان يعرف بأنه يكره الخيانة .. يكره أن يخدعه أحد أو يستغفله .. يعرف أيضا بأنه بالإضافة إلى امتلاكه لعقل عبقري جعله يحتل بسهولة مكان عمه الراحل في الأوساط التجارية والصناعية .. بل ويضاعف بجهده وذكاءه وطموحه أعمال شركات العائلة العديدة .. فإنه عدو مخيف للغاية .. وإغضابه لا يمكن بأي طريقة من الطرق أن يكون محمودا

هب صلاح واقفا .. واتجه نحو النافذة .. ونظر بعينين لا تريان إلى المنطقة التجارية المعروفة التي يطل عليها مبنى الشركة الرئيسي .. أخرج علبة سجائره .. ودس واحدة بين شفتيه وهو يحاول أن يهدئ من نفسه كي يتمكن من التفكير جيدا بمشاكله الجديدة

هو حقا لم يكن بحاجة إلى المزيد من المشاكل .. لديه ما يكفي من الهموم والأعباء منذ صمم على التوسع في أعمال العائلة ... وتطوير نشاطاتها لتشمل العديد من المجالات الجديدة

لم يكن بحاجة إلى المزيد من المال .. أو السلطة .. كل ما كان يهمه هو أن يغرق نفسه أكثر فأكثر في العمل .. فقط كي لا يفكر بأي شيء آخر

.. جزء منه .. كان يعترف بإقرار بأنه إنما يجتهد في تطوير نفسه في رغبة داخلية منه للتفوق على الرجل الوحيد الذي تمكن من إشعاره بالنقص والدونية .. الرجل الذي سرق منه أغلى ما يملك .. أو ما ظن نفسه يملك .. ( هشام عطار )

بغضب ونزق .. كما يحس في كل مرة يتجه فيها تفكيره نحو ذلك الجزء المظلم من ذكرياته .. رمى سيجارته أرضا .. وسحقها بقدمه بحركة عنيفة بدت غير مألوفة من شخص يبدو عليه الرقي من بداية رأسه ذي الشعر البني الداكن المصفف بعناية .. وانتهاءا بحذائه الجلدي اللامع ..

عاد بتفكيره إلى مشكلته الحالية .. إلى ( نديم فهمي ) .. أحد الد أعدائه وأكبر منافسيه .. العداوة بينهما تعود إلى عشرات السنين .. عداوة عائلية قبل أن تكون تنافسية

حتى الآن .. هو لا يعرف سبب الكراهية التي جمعت يوما بين عمه المرحوم .. ووالد نديم فهمي المتوفي بدوره .. في الواقع هو لا يهتم بأن يعرف .. ما يهمه هو أنه كان دائما قادرا على التصدي وبنجاح للمؤامرات التي لا يتوقف غريمه عن تدبيرها ضده .... حتى الآن ....

لم يكن صلاح قط بالخاسر الجيد .. وعندما يعرف بأن سبب خسارته لعدة عقود وصفقات مهمة لحساب الشخص نفسه ليس راجع للصدفة .. فإن غضبه يكون مضاعفا

قال ببرود :- من يكون ؟

:- حافظ سعيد

التفت صلاح نحو رشاد عاقدا حاجبيه وهو يقول :- هل أنت متأكد ؟

:- ليس تماما .. إلا أنه قد شوهد مرارا مع أحد موظفي نديم فهمي المقربين .. كما أنه أحد الأشخاص القلائل المتاح لهم الوصول إلى معلومات مهمة ونافعة لنديم بحيث يتمكن من تكبيدنا كل هذه الخسائر مرة واحدة

ازداد شكل فم صلاح صرامة .. وقد أطلت نظرة ظلمة من عينيه.. نظرة يعرفها رشاد جيدا .. قال بتوتر :- ما الذي تنوي فعله ؟

قال صلاح ببرود :- سأتدبر أمره

:- لا تستطيع طرده دون دليل على خيانته .. كما أنه أحد أقدم الموظفين في الشركة وأقربهن فيما مضى من عمك المرحوم .. ماذا لو كان بريئا ؟

عاد صلاح ليجلس على مقعده الجلدي الضخم وهو يقول بهدوء :- لا تقلق . . سأجد الدليل .. يمكنك أن تعود إلى مكتبك الآن

تردد رشاد عندما وجد رئيسه قد انهمك في العمل على حاسوبه المحمول .. فاستدار مغادرا .. قبل أن يوقفه صوت صلاح من خلفه قائلا :- ما زال موعدنا قائما هذا المساء .. صحيح ؟

ابتسم رشاد وهو يرد من فوق كتفه قبل أن يخرج :- بالتأكيد

خرج مغلقا الباب وراءه .. دون أن يرى تلك النظرة القاتمة التي ارتسمت في عيني صلاح .. وإلا لشعر بالخوف والقلق .. مما يخطط له رب عمله الشاب

انتهى الفصل الاول

الكاتبة بلومى




Continue Reading

You'll Also Like

1.5M 27.7K 66
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" الذي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
1M 20.1K 43
تم نقلها من منتدى روايتي الثقافية للكاتبة المتميزة HAdeer Mansour
535K 25.1K 36
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
650K 13.8K 47
رواية للمبدعة حياتي هي خواتي " عادات وتقاليد تفرض عليهم قيود حديديه مفتاحها أختفى فى نهر الحياه لا خلاص منها حتى بالموت ... يعشقون ولكن لا نقطه تلاقى...