الفصل الثالث والعشرون

3.2K 73 1
                                    



الفصل الثالث والعشرين
مرت من هنا
المحتوى الان غير مخفي
محملة بالأكياس الكثيرة .. فتحت لندا باب البيت لتفاجئ بالنور الخافت لبعض مصابيح الصالة المضاءة .. فكرت بحيرة :- هل عاد صلاح ؟
لمحت سترته السوداء مرمية جانبا فوق أحد المقاعد .. وحقيبة أوراقه ملقية بإهمال على الأرض .. لم يكن من عادته العودة في هذا الوقت .. تركت الأكياس جانبا .. وبحثت عنه في أرجاء المنزل الفسيح حتى وجدته في مكتبه .. كان يجلس خلف مكتبه الضخم .. يحني رأسه إلى الأمام .. ممسكا به بكلتي يديه .. وقد بدا مرهقا للغاية بشعره الفوضوي .. المصفف بعناية عادة .. بدا وكأنه قد مرر يديه عبره مرارا أثناء حالة غير مألوفة من التوتر .. قميصه كان محلول الأزرار فظهر صدره المكسو بالشعر الداكن .. أحست بجاذبيته تدغدغها كالعادة .. وبالقلق من الحالة الغريبة التي تجده عليها لأول مرة .. ارتبكت ولم تعرف إن كان عليها أن تتقدم نحوه أو أن تتركه لوحدته بعض الوقت حتى يكون مستعدا لها .. آلمها إحساسها بأنها رغم مرور أسابيع على زواجهما إلا أن الألفة بينهما لم تصل بعد إلى حد منحها جرأة اقتحام خلوته بلا تردد أو استئذان .. جزء منها عرف بأن صلاح سيبقى دائما محتفظا بجانب منه بمنأى عنها .. مهما طال زواجهما أو ازداد قربا .. بينما هي تتراجع إلى الخلف .. رفع رأسه وكأنه قد أحس بوجودها .. نظر إليها بعينيه الخاويتين وكأنه لا يراها .. اضطربت .. وقالت بخفوت :- آسفة لأنك لم تجدني عند وصولك .. لم أعرف بأنك ستعود مبكرا هذا المساء
حدق بها دون أن يبدو أنه قد سمعها .. قبل أن يسألها بهدوء شديد ناقض حالته الفوضوية :- أين كنت ؟
تقدمت إلى الداخل وهي تقول بتوتر :- خرجت للغداء مع جودي .. أصرت على اصطحابي معها إلى السوق بعد ذلك لشراء هدية لتمام في عيد ميلاده .. أنت تعرف بأنها ستقيم حفلة كبيرة له بعد أيام .. ووجدت نفسي أشتري فستانا جديدا لأجل المناسبة
جمود عينيه جعلها لوهلة تظن بأنه غاضب منها .. إلا أنه سرعان ما قال بلهجة تخللها عبث طفيف :- هل ستتسنى لي رؤية الفستان .. أم سيكون مفاجأة لي أنا الآخر
ضحكت بارتياح قائلة :- لن أريه لك .. أخشى أن تفسده كما فعلت مع غيره
وقف قائلا :- ما لونه ؟
تورد وجهها كما في كل مرة تسمح فيها لنفسها بالنظر إلى قامته القوية بحرية بينما كان يتجه نحوها .. باعدت نظرها عنه وهي تهمس :- أبيض اللون
ابتسم برقة وهو يقف أمامها :- أحبك في اللون الأبيض
قالت برقة مماثلة :- أعرف
ساد الصمت للحظات قليلة .. بدا من الغريب أن لندا لم تشعر يوما بالقرب من صلاح كما كانت خلالها .. قطع لحظة التواصل النادرة قائلا :- ماذا فعلتما أيضا ؟
تنحنحت لندا كي تسيطر على مشاعرها قائلة :- أوصلتني إلى الحارة القديمة كي أزور والدتي .. ثم عدت وحدي بسيارة أجرة بعد ذلك
قطب قائلا :- يجب أن أجد لك سائقا ينقلك حيث تشاءين ريثما تتعلمين قيادة سيارتك بنفسك
رمشت بعينيها مرددة :- سيارتي !!
وضع يده على كتفها وقادها نحو النافذة .. أشار إلى نقطة ما قائلا :- أظنك لم تلحظي العروس الجميلة الواقفة خارجا عندما ترجلت من سيارة الأجرة
حدقت مذهولة في السيارة الحمراء الرياضية الصغيرة .. وهتفت غير مصدقة :- أهذه لي أنا ؟
التفتت إليه هاتفة بانفعال :- لم تكن مضطرا لهذا .. أنا لا أحتاج حقا إلى ..
وضع أنامله على شفتيها مسكتا إياها قائلا :- لا تقولي شيئا .. لن أسمح لزوجتي بالتنقل بين سيارات الأجرة بعد الآن .. غدا سيكون سائق خاص في انتظارك .. ليوصلك أينما شئت .. وابتداءا من الأسبوع القادم .. ستزورك مدربة خاصة بانتظام لتعلمك قيادة السيارة بنفسك
ظلت تنظر إليه معقودة اللسان للحظات وقد ترقرقت دموع التأثر والفرحة الطفولية في عينيها .. قبل أن تتمكن أخيرا من القول :- لماذا تدللني بهذا الشكل ؟
ربت على وجنتها .. ونظر إلى وجهها الجميل الرقيق قائلا :- أنت زوجتي .. وأنا أحب أن أراك سعيدة
ثم أردف سائلا بشيء من التوتر :- هل أنت سعيدة يا لندا ؟
بدون أي كلمة .. أحاطت خصره بذراعيها .. واحتضنته بشكل أجفله في البداية .. ثم سرعان ما أحاطها بذراعيه .. وتركها تنتمي إلى صدره للحظات .. أحست به يعتصرها دون أن يؤذيها .. وكأنه يحاول زرعها بين أضلعه .. أحست بالسعادة والأمان .. وتلاشى شيء من إحساسها الذي لا يتوقف بعدم الثقة والقلق .. صلاح هو زوجها .. وحبيبها .. وكل حياتها .. رفعت رأسها فجأة .. فلمحت تعبيرا غريبا في عينيه بينما كان يحدق في نقطة بعيدة .. رأت شيئا من العذاب والتعاسة في العينين اللتين استحال لونهما إلى أخضر معدني ميزته على الفور .. إنه اللون الذي يصبغ عينيه عندما تغلبه عواطفه .. والذي تراه غاليا أثناء خلوتهما في غرفة النوم .. عرفت بأن شيئا عميقا يؤرق صلاح .. منذ أيام وهو مشغول البال .. أدركت بأنه لن يتحدث إليها إن ألحت عليه .. وأملت بأن يأتي إليها بنفسه يوما ليفضي لها بهمومه .. ما عليها فعله الآن هو محاولة شغله عن مشاكله بها كما في كل مرة يعود فيها إلى البيت مشغول البال منذ زواجهما .. سألته بحنان :- هل أنت جائع ؟ .. هل أعد لك ما تأكله ؟
:- لا .. سنأكل خارجا .. ألا ترغبين بتجربة سيارتك الجديدة ؟ .. سآخذك بها إلى العشاء هذه المرة .. ما رأيك ؟
ابتسمت بفرحة طفولية وهي تقول :- امنحني دقائق قليلة أبدل خلالها ملابسي
قال بسرعة :- لا حاجة إلى هذا .. تبدين رائعة كما أنت ..
أمسك بيدها .. وقادها إلى باب المنزل متجاهلا ذهولها من عفويته غير المعتادة .. تناول سترته قبل أن يغادرا المكان .. ثم استقلا السيارة الصغيرة التي ذهبت بأنفاس لندا إعجابا بفرشها الجلدي الثمين الذي فاحت منه رائحة السيارة الجديدة .. همست بانبهار :- إنها رائعة .. لا أظنني سأتمكن يوما من قيادتها .. أنا حقا لا ..
قاطعها وهو يديرك المحرك قائلا :- لا أريد ترددا .. لندا القديمة قد انتهت وذهبت بلا رجعة .. زوجتي يجب ألا تخاف أبدا من قيادة مهرة صغيرة طيعة كهذه
استجابة لإطراءه الرقيق .. زمجرت السيارة برفق .. وتحركت بنعومة على الإسفلت .. خرج بها من قلب المدينة .. وأدركت بعد مرور بعض الوقت بأنهما يتجهان إلى ذات المطعم الذي أخذها إليه حافظ سعيد قبل أشهر قليلة عندما ثبتت بجرأة خيانته بكاميرا هاتفها .. لاحظ صلاح توترها وهما يسيران خلف النادل بالزي الرسمي الذي قادهما إلى إحدى أفضل الموائد .. وقال وهو يزيح لها الكرسي لتجلس :- ما الأمر ؟ ألم يعجبك المكان ؟
تمتمت :- يعجبني بالطبع .. إلا أنه يذكرني بموقف أرغب بنسيانه
حكت له باختصار عن دعوة حافظ سعيد لها إلى الغداء دون أن يدرك بأنه كان يصطحب معه الفتاة التي ستحكم على حياته بالانهيار .. قال صلاح بهدوء وهو يلاحظ اختفاء ابتسامتها :- أمازالت هذه الذكرى تزعجك ؟ .. ظننتك أدركت بأنه قد استحق ما أصابه بسبب خيانته
تمتمت :- أنا أعرف جيدا معنى أن تقوم بشيء يخالف مبادئك بسبب الحاجة أو الاضطرار .. السيد حافظ لم يكن مخيرا .. وأنا متأكدة من هذا .. لقد قرأت في عينيه نفس التعاسة التي كنت أراها في عيني كلما نظرت إلى المرآة خلال تلك الفترة .. إن كان حافظ سعيد قد خان الشركة التي احتضنته لسنوات طويلة فهو قد فعل لأجل عائلته فقط ..
قال بشيء من الغلظة :- هل تظنين أي سبب مهما كان قد يكون كافيا لأي شخص كي يسبب الأذى لغيره .. أنت على الأقل لم تسببي ضررا يذكر .. تواطؤك ضده كان لسبب وجيه تماما
رفعت عينيها إليه متمتمة :- هل كان تجسسي على هشام عطار لسبب وجيه هو الآخر يا صلاح ؟
توتر طفيف مس فمه .. وانقبضت أصابعه الممسكة بقائمة الطعام .. عرفت بأنها قد مست نقطة حساسة بملاحظتها فغيرت الموضوع قائلة :- أما كنت لتفعل المستحيل لأجل عائلتك مهما كانت الظروف يا صلاح .. أعرف بأنك كنت تكن لعمك المرحوم مودة كبيرة .. كما أنك تهتم بجودي وكأنها أخت حقيقية لك .. أما كنت لتفعل أي شيء مهما كان خاطئا لحمايتها
نظر إليها متفكرا للحظات قبل أن يقول :- الأمر مختلف .. أنا بالفعل أدين لعمي وعائلته بالكثير .. فقد احتضنني هو وزوجته كابن لهما بعد وفاة والدي .. فتمكنا من نزع كل إحساس باليتم داخلي برعايتهما واهتمامهما
قالت بتعاطف :- أتخيل صعوبة الأمر على طفل صغير أن يموت والديه قبله ويجد نفسه فجأة عضوا في عائلة أخرى .. مهما كان قربك من عائلة عمك .. لابد أنك قد افتقدت والديك كثيرا خلال تلك الفترة
قال بجفاف :- والدي نعم .. لقد افتقدته كثيرا إذ أنه كان مقربا مني .. أما والدتي .. فلم تكن ذلك الشخص الحنون على أي حال .. كانت تكره أمومتها لي إذ ظنت بأنني قد أعقتها عن تحقيق طموحات حياتها بميلادي الغير متوقع
رمشت بعينيها بارتباك إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها صلاح عن والديه .. أحست بالسخرية المريرة تتخلل صوته وهو يتحدث عن والدته .. عرفت بأن غضبا كامنا وراء لهجته المستهترة وكأنه يحاول إيهامها بأن الماضي لا يعني له الكثير .. بينما في الواقع وكما أدركت هي بغريزتها المتيقظة بأن جرحا عميقا قد ترك أثره داخل قلبه .. جرحا مازال يعوقه حتى الآن من أن يتفاعل كما يجب مع أحاسيسه كإنسان .. ما الذي فعلته أمك بك يا صلاح ؟
لم تجرؤ على طرح السؤال .. بل ظلت تنظر بشفقة إلى وجهه الجامد مما جعله يهتف بغلظة :- توقفي عن التفكير في الأمر .. الماضي قد رحل وانتهى .. الحاضر والمستقبل هما ما يجب أن يشغلا تفكيرك
مد يده عبر المائدة .. وتناول يدها الصغيرة .. ونظر إلى عينيها قائلا بإصرار :- أنا حاضرك .. ومستقبلك .. وأنت حياتي الآن .. توقفي عن محاولة تحليلي .. أنا كما أنا .. كما تعرفينني بالضبط
وهل أعرفك حقا يا صلاح ؟ .. ابتسمت له باضطراب وهي تجاريه عندما رفع قائمة الطعام وبدا باقتراح الأصناف عليها .. تناولا الطعام بجو من السلام والهدوء بدا رائعا جدا لها .. بدا وكأن حديثهما العابر عن ماضيه الغامض وكأنه لم يكن .. وهي لم تكن بحاجة إلى الكثير من الجهد لتتناساه وتدفع صلاح للابتسام والضحك مع حكاياها المرحة عن طفولتها الشقية ..
الأمسية كانت كاملة تماما في نظر لندا بعد ذلك .. الطعام اللذيذ .. والنسيم المنذر باقتراب الخريف .. أعمدة النور الصفراء الشاحبة والتي سبغت على المكان جوا رومانسيا لذيذا .. كل هذا ساهم في جعل لندا تشعر بالخفة والسعادة .. وهي تتلقى اهتمام صلاح المخدر .. مستسلمة لدلاله وعنايته بها .. وحديثه الممتع عن مغامرات الجامعة المتهورة قبل أن ينضم إلى عمه في أعمال العائلة .. قالت باسمة :- يبدو رشاد صديقا مخلصا
تمتم بابتسامة باهتة :- هو كذلك .. أميل أحيانا إلى نسيان مزايا الأشخاص المحيطين بي واعتبارهم من المسلمات .. وهي عادة سيئة لا تظهر نتائجها إلا عند فقدانهم
أمسكت يده .. ونظرت في عينيه قائلة :- أنت لا تعتبرني من المسلمات يا صلاح .. أليس كذلك ؟
نظر إلى عينيها طويلا .. وكأنه يفكر بكلامها .. قبل أن يقول بجفاء :- لا شيء على الإطلاق بات من المسلمات في حياتي منذ فترة
لم يمنحها جوابا ... هل تستطيع اعتبار جملته المبهمة تأكيدا أم نفيا .. اختفى شيء من سرورها وقد عاودها ذلك الإحساس بعدم الثقة والقلق .. لاحظ تباعدها المفاجئ فسألها :- هل تشعرين بالتعب ؟
تمتمت وهي تمس جبينها :- لا .. مجرد صداع بسيط
أشار إلى النادل وهو يقول :- ربما حان وقت عودتنا إلى البيت .. لقد تأخر الوقت
وافقته بإيماءة صامتة .. وراقبته وهو يدفع الحساب .. ثم أدركت عندما غادرت المائدة معه بأنها لا ترغب لهذه الأمسية بالانتهاء .. عندما ابتعدا عن الساحة التي تراصت فيها الموائد قالت :- لنتمشى قليلا
قطب وكأنها تكلمت بلغة أخرى وردد :- نتمشى
قالت ساخرة :- نعم .. نتمشى .. إنه نشاط يقوم به العامة عادة عندما يكون المناخ معتدلا .. وعندما يتواجدون في مكان جميل كهذا ..
قال عابسا مجاريا لها في سخريتها :- أستطيع أن أتمشى إن أردت هذا
ضحكت برقة وهي تتأبط ذراعه .. وتسير الهوينة معه بين الأشجار عطرة الرائحة في الحديقة البديعة المحيطة بالمطعم .. التزما الصمت في البداية وكأنهما يستمتعان فقط بتواجدهما معا .. بالألفة والمتعة بصحبة كل منهما للآخر .. كانت تسند رأسها على كتفه .. تستنشق رائحة السجائر تفوح منه .. تنعم بدفئه .. دون أن تلاحظ التقطيبة التي علت حاجبيه وهو يحدق في نقطة غير مرئية أمامه .. وإلا لكانت نسيت على الفور إحساسها المؤقت بالأمن والدفء .. مدت يدها بتكاسل عندما مرا أسفل شجرة ياسمين كبيرة .. وقطفت زهرة ناعمة بيضاء .. قربتها من أنفها .. واستنشقت رائحتها العطرة بعمق وهي تغمض عينيها ... لم يستطع إلا ملاحظة انتشائها بهذه المتعة الصغيرة .. والانجذاب نحو رقة تعابيرها الخاشعة وهي تدس الزهرة بين طيات شعرها الكثيف .. رأى ضحكة عابثة ترتسم فوق شفتيها .. فسألها بفضول :- ما سر هذا الابتسامة الماكرة ؟
فتحت عينيها ونظرت إليه وقد فاجأتها مراقبته لها .. قبل أن تضحك قائلة :- لا شيء مهم .. لقد تذكرت قصة قديمة وأنا أستنشق عبير الياسمين
قال :- احكها لي .. علني أكتشف لغز هوسك الغريب بهذه الزهرة
ابتسمت وهي تنظر إلى أزهار الياسمين التي تدلت بدلال من الأغصان الغضة .. وقالت :- ليس هناك لغز .. أنا أحب رائحة الياسمين ليس أكثر
توقف فجأة .. واستدار مواجها لها وهو يحني رأسه بطريقة جعلتها تقول معترفة :- حسنا .. أنا أشفق على أزهار الياسمين وأتعاطف معها .. منذ كنت طفلة صغيرة .. كنت أراقب هذه الزهرات الرقيقة وهي تنمو وتنضج على أغصان الشجرة التي كانت تطل على نافذة غرفتي في بيتنا القديم .. كنت أعشق شكلها الصغير الناعم .. وكنت أتخيل وريقاتها الدقيقة أحجار من الماس فأجمعها دائما .. حيث أخبئها في جاروري متخيلة أنها تميمة حظ خاصة لا يعرف بها سواي حتى تجدها أمي بعد أيام ذابلة فترميها من وراء ظهري ..
صمتت متفكرة وهي تستعيد الذكرى .. ثم قالت وهي تسير حاثة إياه على فعل المثل إلى جوارها :- عادل كان يسخر مني عندما كنت أظهر حزني لمرأى تساقط الوريقات على الأرض .. حيث يدوسها المارة غير مقدرين قدسيتها وقيمتها الروحية كما كنت أراها .. قبل أن تصفر وتجف .. وينتهي بها الحال متطايرة هنا وهناك مع كل نسمة عابرة .. ذات يوم .. وكعادته .. ألف قصة قصيرة أهداني إياها في عيد ميلادي الخامس عشر .. وأنا كنت أحب قصصه هذه .. ومازلت أحتفظ بها حتى الآن في ملف بين أغراضي الخاصة أخرجها بين الحين والآخر لإعادة قراءتها من جديد .. تلك القصة أثرت بي كثيرا .. ومست شيئا في أعمق أعماقي بحيث لم أستطع قط نسيانها
رفعت رأسها إليه تقول باسمة :- هل ترغب حقا بأن أحكيها لك ؟
انتظر حتى مرت فتاتان تسيرا معا على مقربة منهما وهما تثرثران دون أن تتوقفا عن الضحك .. ثم قال :- بما أنك لم تظهري أي بوادر تعب تعيدنا إلى السيارة .. فسماع القصة هو أفضل خيار متاح لدي .. صحيح ؟
قالت مداعبة :- في الواقع لا خيار أمامك .. أنت ستسمع القصة شئت أم أبيت
صمتت للحظات قبل أن تقول :- بطلة القصة فتاة اسمها ياسمين .. عرفت بجمالها الأسطوري الذي تصاحب مع طباع حادة لا سيطرة لها عليها .. وقعت في حب شاب ثري مدلل جذبه جمالها وعنفوانها .. بعد أن قطف نضارتها كما تقطف الزهرة اليانعة .. بدأ يجد الجانب العاطفي العنيف فيها منفرا له .. وأخذ يبتعد عنها شيئا فشيئا حتى فعل أخيرا ما يفعله عادة كل شاب خسيس حصل مسبقا على غرضه من فتاته .. تخلى عنها وارتبط بفتاة أكثر قابلية للترويض .. مما أثار جنون الفتاة التي طاردته بلا هوادة لفترة حتى يئست من استعادة حبه .. بعد فترة وجيزة وجدت ياسمين ميتة .. في بهو xxxx مهجور غير مكتمل البناء .. لقد أنهت حياتها برمي نفسها من أعلى نقطة في بئر السلم .. سقطت كما تسقط الزهرة بعد أن تنضج وينأى الغصن بحملها وثقلها .. سقطت على الأرض الصلبة .. المهجورة والمتسخة .. ميتة .. وحيدة وذابلة .. وقد اختفى جمالها الذي شهد لها دائما ... ولم يبقى من تلك الفتاة التي عرفت دائما بالحيوية والتألق إلا أثرا غابرا في عينين انطفأت فيهما الحياة
هبت نسمة أخرى داعبت سترة صلاح المفتوحة .. وتخللت الخصلات الناعمة لشعر لندا المتناثر حول وجهها .. الذي بدا في هذه اللحظة وهي تحكي القصة .. أشبه بوجه قديسة خالدة .. تتغنى بصلواتها .. وتنشر جوا من الرهبة والقلق بنبرة صوتها المنخفضة والمعبرة .. وكأن زوجته الرقيقة والضاحكة قد اختفت .. وتجسدت في ملامحها الغامضة ونظرة عينيها البعيدة .. خيال وروح تلك الفتاة التي فضلت أن تنهي حياتها بعد أن فقدت حبها الكبير
أحس صلاح بعدم الارتياح وهو يتململ في وقفته دون أن يجد ما يقوله سوى :- قصة حزينة للغاية
:- لم تنتهي القصة بعد
قال بانزعاج لم يعرف سببه وحاول جاهدا أن يخفيه :- حقا ؟
نظرت إليه بإمعان محاولة قراءة أفكاره .. ومعرفة ما يحس به خلف القناع الجامد لوجهه الوسيم .. ثم أكملت :- بعد فترة وجيزة من انتحارها المشهود .. وجد حبيبها الخائن ميتا في ظروف غامضة .. في قاع xxxx آخر .. غير مكتمل البناء بدوره .. لم يكن هناك أي أثر لتعرضه لهجوم ما .. فقط كانت عيناه الخاليتان من الحياة تحدقان برعب وكأنه قد رأى شيئا يستحيل على بشري احتماله .. لم يكن حوله أي دليل أو علامة على تواجد أي شخص آخر معه في المكان وقت وفاته .. شيء غريب واحد لفت انتباه الشرطة أثناء التحقيق .. كومة من أزهار الياسمين النضرة كانت منثورة على مقربة من الجثة .. حيث لا أثر لأي شجرة ياسمين قريبة .. أغلقت القضية دون أن يجد أحدهم تفسيرا لها .. وكادت تذهب طي النسيان لو لم تتبعها حوادث مشابهة لا تقل عنها غموضا .. رجال عرفوا بالغدر والخيانة .. وجدوا موتى في ظروف غامضة في أماكن مهجورة .. بنظرة الرعب المألوفة في أعينهم .. وفي كل مرة .. كانت تلك الكومة الغريبة من أزهار الياسمين على مقربة من كل جثة .. مما جعل الناس الذي شهدوا موت الفتاة المأساوي ومازالوا يذكرونه .. يفسرون ما حدث على أنها روح الفتاة الغاضبة والمغدورة .. تحوم في الأجواء لتنتقم من كل عاشق غادر .. تاركة ورائها أثرا يرمز لاسمها .. ياسمين .. ومنذ ذلك الحين .. كلما رأى أحدهم كومة من الياسمين منثورة على الطريق .. خمن بأن روحها التائهة والباحثة عن انتقام لن ينتهي .. قد مرت من هنا
لم يدرك أحدهما بأنهما قد توقفا عن المشي .. نظر صلاح إلى الظلام القادم من بين الأشجار الكثيفة وقد ظهر تعبير غريب في عينيه الفضيتين .. بينما ظلت هي تنظر إليه بفضول في انتظار معرفة رأيه بالقصة .. استمر صمته لدقيقة كاملة قبل أن يقول فجأة :- شقيقك مجنون
أطلقت ضحكة ارتياح عالية وهي تمسك بذراعه محاولة طمأنته وقد عرفت بأنه قد تأثر مرغما بالقصة .. وقالت بمرح :- لقد سبق وأخبرته بهذا كلما حكى لي قصة غريبة من هذا النوع .. وهو كان يرد علي دائما بأن الفرق بين الجنون والعبقرية خيط رفيع .. لطالما كان عادل يخرج كل سوداويته وأفكاره المزعجة بقلمه .. والنتيجة قصصا مختلفة ربما تبدو غريبة إلا أنها قطعا مميزة ..
نظر إليها صلاح متأملا فمها الباسم وعينيها الضاحكتين .. وفكر بأنها المرة الأولى التي يراها فيها ضاحكة حقا وبانطلاق .. دون أن يرى في عينيها تلك النظرة .. نظرة شخص يتوقع دائما أن يتعرض لخيبة الأمل .. أراد أن يمسك بهذه الضحكة .. وأن يحتفظ بها في ذاكرته دائما .. بل أراد أن يحتفظ بها في عينيها إلى الأبد .. هذه المرأة الطفلة .. ببراءتها وبساطتها وعفويتها .. تعيده حيا من جديد .. تشعره بأنه إنسان يستحق أن يحب .. وأن يحب في المقابل .. عند هذه الفكرة .. غامت عيناه .. واختفت التسلية منهما .. أحست لندا بتغير مزاجه .. فقالت بقلق :- صلاح ... ما الذي يزعجك ؟
قالتها وكأنها تعرف منذ البداية بأن ثمة شيء يشغله .. وكأنها تفهمه .. تشعر به .. وتحاول أن تخفي عنه هذا كي لا تدفعه للهرب منها .. بهجتها وهذرها السطحي منذ بداية الأمسية .. ما كانا إلا محاولة منها لإبهاجه .. ونزع متاعبه من عقله .. دون حتى أن تسأله عنها ..
معرفته لهذا .. جعله يشعر بالاضطراب .. ليس هذا ما أراده من علاقته بها .. ليس هذا المستوى من التفهم والقرب .. ليس هذا البذل .. وهذه التضحية منها .. فهو يعرف بأنه أبدا لن يكون أهلا لها .. يعرف بأنه رغم اهتمامه بها .. ورغبته بإسعادها .. إلا أنه سيكون السبب في نزع الضحكة من عينيها .. إنه جزء من كينونته .. شيء لا يستطيع تغييره مهما حاول .. بالضبط كما قالت آية
شدت ذراعه لتلفت انتباهه إليها وهي تردد بقلق :- صلاح
عاد ينظر إلى وجهها .. فأجبر نفسه على رسم ابتسامة شاحبة على شفتيه وهو يقول :- أظنني أنا المتعب بعد نهار العمل الطويل
أطل الذنب على الفور من عينيها الجميلتين وهي تقول :- وانا الأنانية التي أجبرتك على السير طويلا برفقتي رغم رغبتك بالعودة إلى البيت .. أنا آسفة حبيبي
ضمها إليه وقبل قمة رأسها .. وهو يقول بهدوء :- لا تأسفي .. لقد استمتعت بكل لحظة قضيناها معا هنا .. وبالقصة بالطبع وإن كانت قد سببت لي رهابا ضد الياسمين المتساقط على الأرض والذي سأتحاشاه أينما رأيته منذ الآن فصاعدا .. وطبعا .. كوابيس قادمة لا أظنها ستنتهي
ضحكت برقة قائلة بعبث :- لا تقلق .. لن تزورك الكوابيس إن أرهقتك كل ليلة بما يكفي كي تنام بعمق وبلا أحلام
برقت عيناه باستجابة إلى وعدها المغري .. أحنى رأسه نحوها هامسا بصوت أجش :- هذا وعد سأمسكه عليك إلى الأبد .
قادها إلى السيارة .. دون أن تعترض هذه المرة .. آخر ما فكرت به لندا قبل أن تأخذها توقعات الليلة الطويلة المنتظرة .. هو أن صلاح لم يخبرها حتى الآن .. عما يزعجه .


مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىKde žijí příběhy. Začni objevovat