الفصل السادس والعشرون

3K 64 0
                                    



الفصل السادس والعشرون
سامي

رفعت منى رأسها عن الكتاب الذي كانت غارقة في قراءته .. وابتسمت وهي ترى سامي يصيح بالقطة الصغيرة التي غاصت بين كومة أوراق الخريف الصفراء المتساقطة عن الشجر .. على بعد أمتار منها حيث تجلس في حديقة المنزل الغناء .. على منضدة معدنية مخصصة للحدائق .. تنعم بالجو المنعش ... وبالرائحة العطرة للحشائش الخضراء المجزوزة حديثا .. تفكر بأنها لم تر سامي بهذه السعادة منذ فترةطويلة ..
دوى صوت رنين هاتفها المحمول الملقى إلى جوارها على المنضدة ..فابتسمت عندما رأت اسم المتصل .. رفعت الهاتف إلى أذنها وهي تقول بشقاوة :- الجمعية الخيرية قد أقفلت .. أي قبلات أخرى تطلبها ستضطر لدفع ثمنها مسبقا ونقدا

استمعت إلى قهقهة عادل العالية بانتشاء .. وأحست برعشة السعادة تسري في كيانها وهي تسمعه يقول :- من حسن حظك أنك بعيدة عني في هذه اللحظة
قالت خافقة القلب :- وماذا كنت لتفعل لوأنني كنت قريبة ؟
احمر وجهها وهي تسمع تعليق عادل العاطفي .. فحملت الهاتف ونهضت مبتعدة عن مجال سمع سامي رغم إدراكها لغيابه التام عما حوله .. همست بشوق :- اشتقت إليك
اجابها بحسم :- أريد أن أراك .. ما عدت تزوريننا مؤخرا .. وقد اشتقنا إليك أنا وأمي كثيرا
قالت بحزن :- ليتني أستطيع زيارتكم كل يوم ... إلا ان ساعات مغادرتي البيت باتت محسوبة علي منذ بدء الإجازة المدرسية .. وأمي .. حسنا ... لا تحبذ كثيرا ترددي عليكم بعد زواج لندا
قال بجفاف جعلها تندم على فتحها الموضوع :- الأمر لا يتعلق بلندا ... كلانا يعرف بأن والدتك ترفض أي احتكاك لك بي
قال محاولة استرضاءه :- لا فائدة من التذمر من والدتي ما دمت لا أمتثل لرغباتها في الأصل
:- إذن .. متى اراك ؟
ضحكت من إصراره الطفولي ... الذي ذكرها بعادل القديم .. الذي بدأت باستعادته منذ زفاف لندا الأسطوري .. والتزامه بعمله الجديد حيث عاد ليشعر بقيمته كإنسان وشخص له قيمته وفائدته ... حيث الكل يعامله باحترام وتقدير تاق إليه منذ زمن ...
ومع زواج لندا .. وتكفل صلاح الحاسم بمصاريف علاج والدته .. فقد أصبح عادل قادرا على البحث عن شقة أخرى في منطقة سكنية افضل ... وقد وجد واحدة بالفعل بمساعدة منى قبل اسبوعين .. تقع في الطابق الثاني من مبنى جميل بإيجار مناسب لمرتبه الجديد ..
سألته متجاهلة لهفته عليها :- هل وقعت عقد الشقة الجديدة ؟
:- وقعته بعد أن أخذت أمي لرؤيتها ... أعجبها أنها لن تكون مضطرة لصعود خمسة أدوار للوصول إلى الشقة بعد كل يوم تقضيه في المستشفى ... سأستلمها الأسبوع القادم ... وسنكون قادرين على السكن فيها على الفور بعد ذلك .
أحست منى بدموع السعادة تخنقها وهي تسمع تلك النبرة الحماسية في صوت عادل ... وكأنه قد استعاد طموحه وحبه للحياة .. استمعت إليه وهو يثرثر بلا انقطاع عن مشاريعه الجديدة ... وأغمضت عينيها وهي تدرك ضمنا بان هذا التغيير في حياته ... يعني قطعا أنها ستعود لتصبح جزءا من حياته وقلبه من جديد ...
قال وقد لاحظ صمتها :- أين شردت بعيدا عني ؟.. هل تستمعين إلى ما أقول ؟
رمشت بعينيها لتطرد الدموع عن رموشها ... وقالت حريصة على ألا يظهر صوتها شيئا من مشاعرها .:- طبعا أستمع إليك .... و أستغرب عدم إصرار لندا على رؤية الشقة قبل اتخاذ أي قرار بشأنها
قال متذمرا :- شقيقتي الصغرى نائمة في العسل .... منذ زواجها بالكاد تجد وقتا لمرافقة أمي إلى المستشفى صباحا .. وتزورنا في أوقات متقطعة ... تقول دائما بأنك أنت من يجب أن يساعدني في اختيار الشقة .... ماذا تراها تقصد ؟
تجاهلت منى العبث في صوته وهي تتساءل إن كان حقا جاهلا لما يدور في حياة أخته الصغرى أم أنه يتعامى فحسب عن رؤيته كي لا يعذب نفسه أكثر ... لندا ليست سعيدة ... ربما كانت في أسابيع زواجها الأولى .. إلا أنها ومنذ فترة تبدو ذابلة بعض الشيء .. تضحك لمنى وهي تحكي عن حياتها الجديدة بمرح ... عن آخر مغامراتها في المطبخ .. تسخر من نساء المجمع الراقي اللاتي وجدت نفسها مضطرة لمعاشرتهن .. غافلة عن أن منى كانت دائما قادرة على رؤية ما وراء ابتسامتها ... لندا .. ليست سعيدة .. ولو أنها لا تحاول إبقاء تفاصيل علاقتها مع زوجها لنفسها .. وكأنها تحمي نفسها من انتقاد الآخرين وشماتتهم باختيارها .. لتمكنت من سؤالها صراحة عما يقلقها ويزعجها ...
قالت بلهجة عادية :- أظنها تتهرب من مساعدتك في الانتقال إلى الشقة الجديدة وترمي هذا العبء فوق رأسي أنا
:- وهل تمانعين ؟
ضحكت وقد نسيت مخاوفها وقالت :- حاول أن تمنعني ... فأنا لا أثق أبدا بمواهبك في الترتيب ... اكتب كما تشاء ... ودع التنسيق المنزلي لأصحاب الموهبة ..
صمت فجأة ... فأحست بالتوتر يصل إليها عبر الهاتف .. مشاعره وصلت إليها وكأنها تراه أمامها .. وكأنها ترى الدفء والشوق في عينيه .. وكأنها سمعته يناجيها ويسألها عن الوقت الذي سترتب فيه أغراضها داخل بيته .. كسيدته ..
أغمضت عينيها .. وهمست :- عادل
قال بصوت أجش مكررا :- تعالي لرؤيتي
همست بصوت مرتعش :- أخاف أن أفعل
فهم مخاوفها دون الحاجة إلى أن تشرحها ... منذ اكتشف كل منهما حلاوة الاحساس بقرب الحبيب وملمسه .. بدفئه وعاطفته ...ما عاد للسيطرة على النفس بينهما مكان .. في كل مرة يلتقيان فيها ... ينفردان فيها صدفة اثناء غياب والدة عادل في غرفة أخرى.. كانت أيديهما تتشابك على الفور .. تتبعها الشفاه برسالة شوق عابرة تنتهي بسرعة تاركة ورائها روحين تائهتين معذبتين ... تائقتين للمزيد
هذا الانفجار العذب في مشاعرهما أخافها ... فقد عرفت بأن إرادتها تتلاشى تماما فور أن يلمسها عادل .. عادل الذي عاد أخيرا ليغمرها بحبه من جديد .. ليغرقها بكلمات العشق القديمة التي مازالت تحفظها في ذاكرتها .. عادل الذي عاد إلى الحياة ليحييها هي من جديد ..
هل يعرف عادل بالضبط بم تغامر عندما تستسلم لحبه وتفقد إرادتها فور أن ينظر إليها بعينيه الحالمتين .. ؟
قال لها بخشونة :- أعدك بألا ألمسك هذه المرة
أخذت نفسا مرتجفا وهي تتذكر آخر مرة فقد فيها سيطرته على مشاعره .. عندما امتلكت يداه إرادتهما الخاصة فعبرتا بطريقتهما عن حبه لها ... أجفلت يومها وتراجعت عنه .. فابتعد هو على الفور ذاهلا من نفسه ..كلاهما كان ذاهلا من بدائية غرائزهما ووحشيتها ..
كرر بإصرار :- سأبقي مسافة آمنة تفصل بيننا ... وستكون والدتي معنا في كل لحظة .. أضحي بأي شيء كي لا أفقدك مجددا .. مهما كان عذابي كبيرا وأنا أراك دون أن ألمسك
تنهدت بعمق ذهب بعقله و هي تقول بإرهاق :- أصدقك يا عادل .. أصدقك .. المشكلة أنني لا أستطيع الخروج ببساطة دون استجواب من والدتي التي تجن ما إن تشعر بأنني سأراك .. ما إن يبدأ العام الدراسي الجديد بعد أسبوعين حتى أحصل على مزيد من الحرية ..
صمت للحظات قبل أن يقول بهدوء :- مازال والداك يكرهان أي علاقة لك بي ؟
قالت بلطف :- ستتغير نظرتهما إليك فور ان يعرفا مدى حبي لك
سمعت صوت أنفاسه العنيفة عبر الهاتف .. وتذكرت ما كان قد قاله لها مرة عن تأثير كلمة الحب عليه عندما تخرج من بين شفتيها .. قال بصوت أجش :- أحبك .. وأحب ظلمة الليل في عينيك .. وحلاوة العسل في شفتيك .. أسمع صوتك وأكاد أشعر بملمسه الحريري يلف فؤادي ويسحره فلا ينبض إلا لأجله ..
همست لاهثة :- عادل
سمعت صوتا يدر خلفها :- منى
انتفضت وهي تستدير لمواجهة والدها .. كان ينظر إليها بوجه جامد بينما يحمل حقيبته بإحدى يديه وقد عاد لتوه من عمله .. أسرعت تهتف عبر الهاتف بارتباك :- آه .. سأكلمك لاحقا يا ندى
أنهت المكالمة وهي تقترب من والدها داعية الله ألا يلحظ توهج وجهها أو اضطراب أنفاسها .. وقالت بابتسامة مرتعشة :- مساء الخير أبي .. لقد عدت باكرا
تأملها بنظرات باردة متفحصة .. أعود دائما في مثل هذا الوقت ... أرى أن حديثك مع ( صديقتك ) قد أنساك الوقت ..
نطق بكلمة (صديقتك ) بنبرة ساخرة جعلت وجهها يزداد احمرارا .. إلا أنها استعادت رباطة جأشها قائلة :- ربما ... لقد أخذنا الكلام قليلا
أومأ برأسه واجما وهو يقول :- ارى هذا ... وهل اتفقتما حول لقائكما القادم .. أم تركتما الأمر للظروف
أجفلت بانزعاج من فكرة استماع والدها لحديثها مع عادل .. سألته بغضب :- هل كنت تستمع إلى محادثتي ؟
قال باستفزاز :- وهل لديك ما تخفينه ليسبب لك كل هذا الانفعال ؟.. لا اظنك جبانة بحيث تنكرين الهوية الحقيقية للشخص الذي كنت تحدثينه ؟ أنا لم أربيك لتكوني كذلك
زمت فمها وقد برقت عيناها السوداوان بتحدي .. قبل أن تقول :- لم لا نتوقف عن اللف والدوران ... أنت تعرف بأنني كنت أتحدث إلى عادل
كان يعرف .. منذ رآها من بعيد تتحدث هامسة و لمح التعبير الذي لم يسبق له أن رآه في عيني ابنته ... لقد رآى الحب .. الحب الخالص
إلا أن سماعها تقولها بصوت عالي ... جعلت الدماء تفور داخل عروقه وهو يقول من بين أسنانه :- لقد سبق وأخبرتك برفضي لأي علاقة لك بذلك الشاب
هتفت بغضب :- إلا أنك لم توضح أسبابك بما يكفي ... ما الذي لا يعجبك في عادل .. هه ؟ أنه فقير ؟ أنه لا يرقى إلى مستوى الدكتور فوزي الأشقر العظيم ... ؟.. لأنه لا يمثل شيئا من الصهر المثالي الذي تتمنى ان يرث أعمالك .. أليس كذلك ؟
هدر غاضبا :- هو لا يناسبك
اتسعت عيناها وهي تكمل وكأنها لم تسمعه :- لأنه عاجز ... صحيح ؟ ..لأنه لا يرقى إلى الكمال الذي ترفض أي شيء لا يقاربه ... إعاقته تقرفك .. وتنفرك .. كما تنفر بالضبط من ابنك المعاق
هتف بها صارخا :- اصمتي
هدأت قليلا عندما رأت عذابا نادرا يتجلى في عيني والدها .. الذي خطا نحوها هاتفا بانفعال :- أنا لم أطلب أبدا أن أحرم من إنجاب ابن قادر على الوقوف إلى جانبي ووراثة ما شقيت حياتي كلها لأصنعه .. أنا لم أطلب ألا تنجب والدتك المزيد من الأولاد لي غير ابنة عاقة لا تفعل إلا ما يناسبها .. وقطعا لم أطلب أن يكون ابني الوحيد عاجزا حتى عن تناول الطعام بدون الحاجة إلى مساعدة
رمى حقيبته على الأرض وقد فقد أعصابه .. بينما انكمشت منى متفاجئة لنفجار والدها غير المألوف .. تنفس بعنف محاولا تهدئة نفسه .. ثم تمكن من النظر إليها قائلا بعنف :- لا ألام أبدا على رغبتي في الحصول على ابن بديل .. ابن قوي قادر على تحقيق طموحاتي .. ابن أفخر به أمام الناس .. وأثق بأنه سيصون ما أورثه إياه .. لقد حرمني الله من ذلك الابن ... ألا يحق لي البحث عن بديل له في صهر أعرف أنه سيسعد ابنتي .. ويحقق أحلامي ؟
رفعت رأسها عاليا وقد ترقرقت الدموع في عينيها دون أن تسمح لها بالانهمار وقالت :- لن تحقق الرضا الذي تنشده حتى تعرف قيمة ما لديك يا أبي
تجاوزته لتدخل إلى البيت .. قبل أن تستدير وتقول له أخيرا :- وعادل .. الذي تتكبر عليه دائما .. هو الوحيد القادر على إسعادي ... إن كانت سعادتي تهمك حقا كما تقول
دخلت إلى البيت دون أن تنتظر ردا .. واعتلت الدرج بسرعة لتغيب داخل غرفتها قبل أن يرى أحدهم دموعها .. استندت إلى الباب ... وأغمضت عينيها بقوة .. همست متألمة :- ليتك هنا .. ليتك إلى جانبي .. تضمني وتخبرني بأننا سنكون معا .. لابد أن نكون معا
أطلقت نفسا عميقا حارقا وهي تمسح دموعها بظاهر كفها ... وتخرج من الغرفة باحثة عن سامي .. كالعادة .. لن تجد الطمأنينة إلا في عيني سامي الصافيتين ... عينين تظهران دائما وكأنهما قد رأتا الكثير .. وعرفتا الكثير .. خلف صمته الأبدي
غرفته كانت خالية .. استغرقت لحظات لتتذكر بأنها قد تركته في الحديقة يلاعب القطة الصغيرة .. أسرعت تنزل الدرج متجاهلة سماعها لصوت والديها يتجادلان حول شيء ما في غرفة الجلوس ..
الحديقة كانت خالية ... لا أثر على الإطلاق لسامي .. نظرت حولها بشيء من الإحساس المتلبد .. دون أن تستوعب مظهر البوابة المفتوحة .. وما تعنيه .. ثم رمشت بعينيها مخرجة نفسها من ذهولها وبدأت تنادي بصوت مهتز :- سامي ...
اتجهت نحوالباب .. وخرجت إلى الشارع الخالي والهادئ .. نظرت إلى الإتجاهين دون أن ترى أثرا لإنسان .. ثم تحررت أخيرا من جمودها .. وبدأت تصرخ بلوعة :- سامي

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىWhere stories live. Discover now