الفصل الحادى عشر

3.2K 71 2
                                    



الفصل الحادي عشر
ما وراء القناع

كالعادة .. بقيت لندا تعمل لنصف ساعة إضافية بعد انتهاء الدوام .. تبذل جهدها لإنهاء عملها كاملا .. كي لا يجد أحدهم أي سبب للتذمر منها .. مر أسبوعان على رحيل السيد حافظ من العمل .. بكل بساطة ... توقف عن الحضور إلى المكتب .. دون أن يعرف أحد السبب الحقيقي لتركه مكانه في الشركة الذي حافظ عليه لأكثر من خمسة عشر عاما .. استلم مكانه موظف آخر .. أصغر عمرا وأكثر جدية .. وطبعا .. عادت نادية لعملها كما عادت سكرتيرة السيد صلاح .. أما هي .. فقد انتهى بها الحال في المكان الذي بدأت منه .. كموظفة صغيرة في قسم السكرتاريا .. وهو ويا للغرابة .. جعل إحساسا بالراحة يجتاح لندا .. أخيرا هي موظفة عادية .. تعمل وتكسب رزقها مقابل عملها كما يراه الناس .. لا أعمال تنقص من قدرها وتقلل من قيمتها بعد الآن .. فهي تشعر بأن السيد صلاح قد عرف بطريقة ما بأنها ليست حقا من ذلك النوع الذي يستسيغ مهمات مماثلة .. وتشك بأن يعود لتوكيلها بمثلها مجددا ..
عشرون يوما تقريبا مرت منذ آخر مرة أوصلها فيها صلاح النجار إلى بيتها .. لم تتحدث إليه من بعدها أبدا .. أو يحاول هو الاتصال بها .. رشاد وحده قابلها مرة ليمنحها شيكا بمبلغ كبير مقابل خدماتها الإضافية فرفضته بتهذيب .. قالت له بوضوح بأنها لم تقم بالتجسس على حافظ سعيد لأجل المال .. بل فعلتها لأنها لم تكن مخيرة .. ولتحافظ على عملها .. ابتسم لها وفي عينيه تقدير صريح .. وقال لها بهدوء :- لن يعجب السيد صلاح تصرفك .. ولكنني أشك بأن يناقشك به
في الواقع .. لم تر صلاح نجار إلا عرضا أثناء مروره عبر صالة الاستقبال في الشركة برفقة رشاد أو برفقة سكرتيرته الحسناء ..والتي عرفت لندا من زميلاتها بأنها خطيبة رشاد منذ أكثر من سنة .. لم تكن هذه هي الأخبار الوحيدة التي حصلت عليها من زميلاتها اللاتي لا يتوقفن عن الثرثرة أثناء العمل .. فقد عرفت الكثير عن صلاح النجار خلال تواجدها برفقة الفتيات اللاتي تقبلنها بسرعة بينهن .. أكثر مما عرفت خلال اتصالها المباشر به ..
عرفت بأنه يتيم احتضنه عمه وجعل منه ابنه وشريكه وخليفته .. عرفت بأنه رجل قاسي جدا ولا يرحم إن اقترب أحد ولو من بعيد من عائلته مما فسر لها ردة فعله العنيفة عندما ابتزته بتهور في لقاءهما الأول .. وعرفت بأن لديه ابنة عم أخرى غير أماني .. مقربة منه جدا .. وتزوره دائما في مكتبه .. وهي بارعة الجمال .. ومتزوجة من شخص لا يقل ثراءا عن عائلتها ..
وعرفت أيضا .. بأنه زير نساء كبير .. لا يتردد في استغلال امرأة ثم رميها وراءه بلا رحمة بعد انتهاءه منها .. وأنه عازب لا أمل في استقراره .. إذ أن لا امرأة بالنسبة إليه تستحق أن تحمل اسمه
حللت لندا هذه المعلومات طويلا في ذهنها .. وفكرت بأن جزءا منها خلال احتكاكها السطحي به .. قد تمكن من رؤية شيء مختلف تحت القشرة القاسية والفظة لصلاح النجار .. هناك جزء في نفسه يحاول جاهدا إخفاءه عن الآخرين .. جزء انكشف لها عدة مرات دون أن يعرف .. في انفعالاته النادرة .. في كلمة عابرة ..وحتى من نظرة تعاطف لم يقصدها ..
عندما أباحت لمنى بأفكارها هذه خلال لقاءاتهما المختلسة من وراء ظهر عادل خارج البيت .. عنفتها منى بقسوة .. وقالت بغضب :- لن أفاجئ لو جئت إلي في الغد دامعة العينين على قصة حزينة اختلقها عقلك الصغير هذا ونسبها إلى رئيسك المبتز الحقير هذا .. مشكلتك أنك رقيقة القلب يا لندا .. رقيقة بشكل طفولي لا أمل منه .. أمثال صلاح نجار لا يستحقون حتى أن تفكري بهم .. لأنك لن تحتلي أي جزء من عقولهم الغارقة في الصفقات الرابحة .. وحياتهم المرفهة .. ومغامراتهم المكلفة .. فكري بعملك فقط .. فهو الشيء الوحيد الذي يعنيك ويرتبط بذلك الرجل
وقد عملت لندا بنصيحة قريبتها .. وها هي تبذل جهدا كبيرا في عملها لتثبت لصلاح نجار بأنها موظفة جيدة .. وأنها تستحق الفرصة التي قدمها إليها .. غالبا .. شفقة ورأفة بها بعد أن عرف بظروفها الصعبة ..
أقفلت جهاز الكمبيوتر .. ونظرت إلى ساعة معصمها بقلق .. لقد تأخرت مجددا .. ولكن لا موعد لوالدتها اليوم في المستشفى .. وغالبا ستمكث لديها الجارة الطيبة التي تقيم في الطابق السفلي حتى عودة لندا أو عادل من عمليهما .. مع أن لندا تشك بأن نوايا الجارة .. الأرملة الثلاثينية ..تتعلق بشقيقها عادل .. وكأنها تجد فيه فرصة جيدة لتتخلص من وحدتها بعد وفاة زوجها الذي كان يكبرها كثيرا في العمر
حملت حقيبتها .. وغادرت غرفة السكرتاريا .. ولاحظت الهدوء الشديد للمبنى .. لم يكن هناك سوى بعض الموظفين ذوي المسؤوليات الكبيرة المضطرين للبقاء ساعات إضافية لأجل الاطمئنان على سير الأمور أو لحل مشكلة كبيرة .. وقفت أمام المصعد الكهربائي .. وانتظرت وصوله إلى الطابق الثاني حيث تعمل وهي تعبث بهاتفها .. ابتسمت عندما تلقت رسالة ظريفة من منى في اللحظة التي فتح باب المصعد أمامها .. وقبل أن تدخل .. أجفلها الشخص الذي وجدته واقفا هناك .. لقد كان صلاح النجار .. لم تدرك هويته حتى أصبحت داخل المصعد الضيق .. ورغم أنه لم يكن ينظر إليها .. إلا أنها عرفته بقامته النحيلة القوية .. التي احتوتها بذلته الأنيقة .. كان يقف مسندا رأسه إلى الجدار .. وكأنه غائب تماما عما حوله .. قبل أن تفوق كان الباب قد أغلق خلفها .. ووجدت نفسها حبيسة في المكان الذي ازداد ضيقا بوجوده .. انزوت بعيدا تنتظر أن تصل إلى الطابق الأرضي وتخرج دون أن يشعر بها .. إذ لم يبد عليه أنه قد أحس حتى الآن بأنه قد حظي برفقة .. أهو متعب إلى هذا الحد ؟.. أحست بالقلق وهي تتأمله من جديد .. اقتربت منه لتشعر برائحة عطره الثمين تتغلغل بين أنفاسها .. ورغما عنها أحست بقربه منها مثيرا كالعادة .. مخيف .. إنما مثير .. كمن يدخل بإرادته بيت الأشباح في مدينة الملاهي .. كمن يستجدي الإحساس بالخطر ويستلذ به .. همست :- سيد صلاح
لم تسمع ردا .. لو أنها فتاة عاقلة .. لانتظرت بصمت انتهاء اللحظات القليلة القادمة .. ثم ابتعدت عنه بأسرع ما يمكنها .. إلا أنها لم تكن كذلك .. كما أن القلق على الرجل الذي لم يظهر أي ردة فعل حتى الآن على محاولتها التحدث معه .. طغى على أي تعقل لديها .. رفعت صوتها مرددة :- سيد صلاح
رفع رأسه أخيرا .. ومنحها نصف التفاتة .. لاحظت النظرة المشوشة في عينيه .. والاحمرار الذي علا وجنتيه .. أنفاسه كانت ثقيلة .. وكأن ثقلا يجثم فوق صدره ويمنعه من التنفس بسهولة .. رمش بعينيه ناظرا إليها .. ثم ضيق عينيه محاولا التركيز كأنه لم يستطع التعرف عليها .. إلا أنه سرعان ما عبس قائلا بغلظة :- الفأرة الصغيرة المذعورة العينين .. ما الذي تفعلينه هنا ؟.. ظننت بأنني لن أضطر لرؤيتك من جديد
قالت بغيظ :- صدقني .. أنا أكثر منك كرها لهذا اللقاء .. ولكنني مضطرة لاستعمال المصعد للوصول إلى الطابق السفلي .. مثلك تماما
تقلصت ملامحه .. وكأنه يعاني من ألم شديد .. مد يده يمسك بجبينه قبل أن تهتز وقفته فأسرعت لا إراديا تمسك بذراعه وتساعده على الاستناد إلى الجدار .. صاحت بهلع :- سيد صلاح .. هل أنت بخير ؟
أبعدها عنه بفظاظة وهو يقول :- طبعا بخير .. ولا أحتاج أبدا إلى مساعدتك .. أو إلى مساعدة أي شخص آخر
فتح الباب .. فنظرت إلى صالة الاستقبال الفارغة .. والتي تنتهي ببوابة المبنى حيث يقف حارسي الأمن بتأهب لأي طارئ .. كان بإمكانها الرحيل .. ورمي كل شيء ورائها .. أن تترك صلاح النجار لأي محسن آخر يهتم بأمره .. فهو لا يستحق اهتمامها .. صحيح ؟
بالكاد خطت خارج المصعد عندما تذكرت غروره وكبرياءه .. رجل كهذا .. لن يطلب مساعدة شخص آخر حتى لو كلفه هذا حياته .. تخيلته يحاول بإرادته الحمقاء قيادة سيارته وحده .. بحالته هذه .. لم تفكر كثيرا .. عادت أدراجها نحوه وقالت بحزم :- سيد صلاح .. أنت متعب .. وبحاجة إلى المساعدة .
توقعت أن يصرخ في وجهها .. أن يزجرها بغلظة طالبا منها الانصراف .. إلا أنه لدهشتها .. نزع قناع القوة .. ومسح بيديه وجهه الشاحب .. وقال بصوت أجش وهو يسند ظهره إلى الجدار وكأنه غير قادر على الوقوف وحده :- ساعديني للوصول إلى سيارتي
أسرعت بدون نقاش تدس نفسها تحت ذراعه .. متلهفة بطريقة غريبة لمساعدته .. كان ثقيلا على جسدها الضئيل .. ولكنه كان يحاول مساعدتها بالسير بصعوبة محاولا الاحتفاظ بتوازنه .. بل بوعيه لأطول فترة ممكنة .. غمغم من بين أنفاسه :- الباب الخلفي
فهمت بأنه يرفض أن يراه أحد .. حتى موظفي الأمن على هذه الحالة من الضعف .. وإلا فإن خبر مرضه ومساعدة الموظفة الصغيرة له .. سيعم أروقة المبنى منذ الصباح الباكر .. قادته نحو الباب الخلفي والذي وقع خلف أروقة مخصصة للخدمة والصيانة .. الباب كان مقفلا من الداخل .. تمكنت من فتحه ومساعدته على الخروج إلى الشارع .. قال لاهثا :- سيارتي أمام المبنى ..
قالت بحزم :- لن نصل إليها .. من الأفضل أن نوقف سيارة أجرى ..
لم يناقشها عندما أشارت إلى أول سيارة أجرة عابرة .. ساعدته على الدخول إلى المقعد الخلفي .. وجلست إلى جانبه وهي تملي عنوان منزله على السائق .. التفتت إلى صلاح لتجده قد أغمض عينيه بإرهاق .. وقد ناقض شحوب وجهه الاحمرار الذي علا وجنتيه ... لاحظت أنه يتنفس بصعوبة .. فقالت بقلق :- سيد صلاح .. هل أنت بخير ؟
لم يمنحها ردا .. فخمنت بأنه قد استسلم للنوم .. أم أنه قد فقد الوعي ؟ .. مدت يدها بجرأة لتلمس وجهه .. ثم سحبتها على الفور وقد أحست بحرارة وجنته الخشنة باللحية النامية .. احمر وجهها .وحاولت التفكير بحيادية .. إنه محموم .. وبشدة .. استلت هاتفها وحاولت الاتصال برشاد .. فقد لاحظت أكثر من مرة بأن علاقة وثيقة تجمع بين الرجلين ..
هاتف رشاد كان مقفلا .. حاولت الاتصال به مرارا دون فائدة .. فأعادت هاتفها إلى حقيبتها .. ونظرت من جديد إلى صلاح النجار .. تتأمل ضعفه الغير مألوف .. وأحست بشيء يتحرك داخلها .. أهي ا لشفقة ... أهو الاهتمام .. العطف .. لم تعرف .. إلا أنها أحست بغريزة الأمومة تشتعل داخلها .. وتمنت لو تستطيع مساعدته بأي طريقة .. أخافها إحساسها هذا .. وعرفت بأنها قد تخالف وعدها لمنى مجددا بالتفكير به بشكل شخصي .. وهل يمكن وصف حالتها هذه بأي شيء بعيد عن الشخصية .. لقد سقط الرجل مريضا بين ذراعيها .. ماذا عليها أن تفعل ؟؟؟ ..أ تتركه يعاني وحيدا دون قلب رؤوف يوصله إلى بيته على الأقل ؟
نعم .. هذا ما عليها فعله .. أن توصله إلى بيته .. تتركه في عهدة تلك الخادمة المسنة التي فتحت الباب لها عندما جاءت لزيارته بصحبة رشاد من قبل .. ثم تتركه وتعود أدرجها إلى بيتها قبل أن تثير قلق عادل عليها
أشارت للسائق بالتوقف أمام الفيللا الجميلة التي تذكرها جيدا رغم مرور وقت على زيارتها الوحيدة لها .. دفعت له أجرته مانعة نفسها من التحسر على المبلغ الذي اضطرت للتخلي عنه لتوها .. ثم نظرت إلى صلاح هامسة :- سيد صلاح .. لقد وصلنا
لا رد .... :- سيد صلاح .. يجب أن تساعدني لنغادر السيارة وندخل إلى المنزل
قال السائق بصوته الثخين :- هل تحتاجين إلى أي مساعدة في إدخاله إلى المنزل ؟
امتعضت رغما عنها من فكرة دخول هذا الرجل الغريب لبيت صلاح .. ألا يكفي أنها هي ستضطر لدخوله بدون معرفته؟ .. قالت بفتور :- لا .. سأتدبر أمري
ربتت على وجنته هذه المرة .. ففتح عينيه .. ونظر إليها .. قالت برفق :- يجب أن تساعدني يا سيد صلاح .. إنها خطوات قليلة نصل بعدها إلى البيت
رمش بعينيه وكأنه يحاول التشبث بوعيه الضائع .. قال بصوت بدا بعيدا للغاية :- البيت !!
قالت بتوتر :- نعم البيت .. أرجوك .. ساعدني قليلا فقط
أغمض عينيه قائلا :- أستطيع السير وحدي
إلا أنه تعثر فور أن غادر السيارة .. فأمسكته مجددا .. وكادت ساقاها تنهاران تحت ثقله .. كان يحاول جاهدا ألا يضع وزنه كاملا عليها .. إذ أنه رغم حالته الصعبة .. عرف بأنها عاجزة تماما تحمل ثقله .. كان متعبا للغاية .. كل جزء من جسده يصرخ بألم .. منذ متى وهو يعاني من الإرهاق الجسدي .. منذ يومين .. إلا أنه رفض أن يأخذ أي قسط من الراحة رغم إصرار رشاد الذي لاحظ إرهاقه .. وآية التي لم تتوقف عن إبداء ملاحظاتها القلقة والمزعجة .. شيئا فشيئا .. وجد نفسه عاجزا حتى عن رفع رأسه دون أن تدوي ضربات عنيفة غير مادية في صدغيه .. أو السير خطوة دون أن يصيبه الدوار .. والضعف في ساقيه .. رباه .. منذ متى لم يمرض صلاح أو يعاني بهذا الشكل .. والأدهى أن الفتاة السمراء .. ذات العينين الشبيهتين بعيني الغزلان الشاردة .. كانت الشاهدة على ضعفه المكروه هذا .. وها هي تحاول جاهدة إسناده رغم إحساسه بها تكاد تنهار تحت حجمه الذي يفوق حجمها بكثير
قالت بنفاذ صبر :- هل هناك من يفتح لنا الباب ؟
مد يده إلى جيبه ليخرج مفاتيحه .. وحاول دس المفتاح في قفل البوابة الكبيرة فلم تستطع يده المرتعشة التركيز .. حتى اضطرت لتناول المفتاح منه .. وفتح البوابة .. كما اضطرت لفتح باب الفيلا الخشبي ا لكبير .. دخلا البهو المظلم .. فأشار إلى بقعة ما إلى الجدار :- النور
مدت يدها لتفتح النور .. فسطع ضوء الثريات الضخمة المتدلية من السقف .. تخلى عن سترته بصعوبة .. وألقى نفسه على أقرب مقعد .. حبيبات العرق كانت قد تجمعت على جبينه المتغضن .. بينما أغمض عينيه بإرهاق شديد .. قالت بقلق :- أنت بحاجة إلى حبتين من دواء مسكن .. هل يوجد منها في المنزل ؟
لم يمنحها إجابة .. عندما بدأت تكرر السؤال قاطعها لاهثا :- في المطبخ .. قد تجدين شيئا في المطبخ
ترددت في تركه هنا وحيدا .. ولكنها عرفت بأنه لن يكون ممتنا إن عاملته كطفل صغير .. تجولت في البيت الواسع بحثا عن المطبخ حتى وجدته .. كما توقعت .. كان واسعا وأنيقا وحديث الطراز .. ذلك النوع من المطابخ الذي يحث المرء على قضاء نهاره كاملا فيه .. بحثت في الأدراج والخزائن .. حتى وجدت ضالتها .. عادت مجددا مع كوب من الماء وحبتين من الدواء .. فوجدت الصالة فارغة .. نظرت حولها بتوتر .. ثم تعلقت عيناها بالدرج الشبه لولبي المؤدي إلى الطابق ا لأعلى .. هل صعد بنفسه رغم تعبه إلى الأعلى ؟ .. لمحت ربطة عنقه مرمية في منتصف الدرج .. فاعتلت الدرجات ببطء وحذر وهي تحدث نفسها ( أنت غبية يا لندا .. وستندمين أشد الندم على دخولك بيت رجل غريب وتهورك بهذه الطريقة .. لو عرف عادل ما تفعلينه لمات من خيبة الأمل ) .. وصلت إلى الطابق العلوي .. ووقفت تنظر إلى غرفة الجلوس الصغيرة والتي انبثق منها رواق مؤدي إلى غرف النوم .. أحد الأبواب كان مفتوحا .. اقتربت منه بحذر وقد سمعت صوت حركة مكتومة قادمة منه .. نظرت عبره إلى الغرفة الواسعة جدا .. غرفة أنيقة .. عملية بطريقة لا تسيء إلى ذوق أي أنثى .. خالية من أي لمسات شخصية باستثناء زجاجات العطر الرجولية المرصوفة على منضدة الزينة .. علبة سجائر مستعملة مرمية فوق المنضدة المجاورة للسرير مع منفضة كريستالية نظيفة .. وعلى السرير العريض .. كان صلاح النجار ممددا على ظهره .. بلا أي حراك .. وكأنه قد فقد حسه بالواقع تماما .. إلا أنه كان عاري الجذع .. وقد رمى قميصه جانبا قبل أن يصل إلى سريره بمعجزة
ارتعشت وهي تقف قريبة من السرير .. تنظر إلى جسده القوي الممدد أمامها .. بشرته الناعمة كانت تلمع بالعرق الغزير .. صدره كان يعلو ويهبط بسرعة بإشارة واضحة لمرضه .. إلا أنها لم تكن قادرة في هذه اللحظة إلا على ملاحظة جماله الرجولي النادر .. شعره القاتم والشديد النعومة كان مشعثا فوق رأسه .. بشرته الشاحبة ازدادت قتامة مع لحيته النابتة .. تمعنت في ملامحه الوسيمة .. رموشه الكثيفة المسبلة .. وأنفه المثالي الشكل .. وفمه الحازم عادة .. كان مسترخيا في هذه اللحظة .. شفتيه الممتلئتين كانتا منفرجتين قليلا .. فبدا أكثر إنسانية .. أكثر رقة وضعفا .. وبعيدا تماما عن رجل الأعمال القاسي والمتسلط الأناني الذي عرفته .. انزلقت عيناها نحو صدره الصلب .. وذراعيه القويتين .. وارتعشت مجددا وهي تفكر بأنها لم يسبق لها أن رأت رجلا شبه عاري باستثناء شقيقها عادل .. وأنها لم تر يوما رجلا بهذا الكمال .. ولم تشعر يوما بهذا التقلص الغريب في معدتها لمجرد النظر إلى رجل .. بل ورجل مريض أيضا ..
اقتربت قائلة بارتباك :- سيد صلاح .. لقد أحضرت الدواء
لا إجابة .... وضعت الكوب وحبتي الدواء على المنضدة الصغيرة المجاورة للسرير .. وانحنت فوق الجسد الرجولي الساكن .. وكررت :- سيد صلاح
لمست هذه المرة ذراعه .. هزتها كي تنبهه .. فشعرت بالذعر لسخونة بشرته .. تناست ارتباكها .. وهزته مجددا ففتح عينيه أخيرا .. ونظر إليها من بين رموشه الكثيفة .. قطعتا الفضة اللامعتان كانتا بلا أي تعبير ... وكأنه قد غادر عالم الوعي منذ فترة .. وما استجابته لصوتها إلا ردة فعل لا إرادية لا أكثر .. قالت بحزم :- يجب أن تشرب الدواء .. عليك أن تساعدني
لم يبد أنه قد فهمها .. إلا أنه لدهشتها .. تحرك .. مد يده نحوها فأمسكتها عفويا .. حاول جذب نفسه .. فجلست إلى جانبه دون تفكير تسند جسده وتساعده على الجلوس .. يا إلهي .. لقد كان قريبا منها للغاية .. جسده الحار ملتصقا بجسدها المرتعش .. أحست بصلابة صدره فانتابها إحساس غريب بالخوف .. بالتهديد .. بالضعف .. لم تعرف حقا .. كل ما عرفته .. هو أنها يجب أن تغادر هذا المكان .. وبسرعة .. وضعت حبتي الدواء بين شفتيه .. وساعدته على ارتشاف ا لقليل من الماء .. وعندما حاولت إعادته إلى مكانه .. أطلقت شهقة عنيفة عندما تشبث بها جاذبا إياها معه .. وضعت كفها تلقائيا على صدره الصلب تحاول دفع نفسها بعيدا عنه .. ولكن ذراعه القوية كانت قد أحاطت بجسدها الرقيق .. وجذبتها لتسقط بشكل كامل فوق صدره .. تخبطت فوق وهي تقول بحرج يشوبه الذعر :- سيد صلاح .. اتركني أذهب
تدلت خصلات شاردة من شعرها الأسود فوق وجهه وفمه .. فأخذ نفسا عميقا وهو يهمس :- ياسمين
ارتبكت .. وحاولت لملمة شعرها بيدها الحرة .. بينما نظر إليها بعينيه الناعستين .. اللاتي أطلت منهما نظرة تفيض بعاطفة هزت كيانها .. همس بين أنفاسه اللاهثة :- حبيبتي .. هل عدت إلي أخيرا ؟
انتفضت صدمة .. وهي تسمع شفتيه ينطقان بكلمات مثخنة بالعاطفة الفجة .. لوهلة .. جمدت مكانها .. وأخذها إحساس بأن هذه العاطفة الغير مألوفة .. موجهة نحوها هي .. مد يده يداعب وجنتها الناعمة .. فتلاحقت أنفاسها .. اهتزت مشاعرها بين خوف وإثارة .. حتى همس :- أنت لي .. لطالما كنت لي .. حبيبتي .. أماني قلبي .. أنت .. أنت وحدك كنت أمنية حياتي التي لم أرغب سواها .. ألا ترحمينني قليلا ؟ .. ألا تأخذك الشفقة برجل منذ تركته .. وهو صدى حتى لأشباه الرجال ؟
اهتز صوته .. وكأنه يتعذب .. فتدفقت دموعها .. تأثرا .. وحزنا على ما يخفيه هذا الرجل البارد القاسي داخل قلبه من ألم ومشاعر .. يحملها نحو امرأة قطعا لم تكن هي .. بل هو يراها فيها في هذه اللحظة بتأثير المرض .. ما سبب إحساسها بالألم والخيبة .. لإدراكها ما كانت تدركه منذ البداية ؟
تمكنت هذه المرة من الإفلات منه .. فلم يعترض .. أغمض عينيه بإرهاق .. وغرق في غيبوبة عميقة .. تراجعت إلى الخلف .. تنظر بألم نحو الجسد المسجى أمامها .. ثم نظرت حولها إلى الغرفة المرفهة .. وفكرت بأنه رجل وحيد .. ثري جدا .. ولكنه وحيد وبائس .. لا يملك حتى يدا حانية تربت عليه أثناء مرضه ..أين تلك المرأة المسنة التي قابلتها في المرة الماضية ؟ هل تأتي كزائر عابر ينظف ويطبخ .. ثم تغادر تاركة هذا الرجل وحيدا لمصيره .. أدركت لندا أنها لا تستطيع البقاء هنا معه أكثر .. لقد تأخرت بما فيه الكفاية .. عادل ينتظرها الآن بقلق عاصف .. يحاول الاتصال بها دون فائدة وقد أغلقت هاتفها أثناء تواجدها في المطبخ هربا من استفساراته التي لا تملك ردا عليها..
ولكنها لا تستطيع تركه وحده .. ليس وهو على هذه الحالة .. إنه بحاجة إلى العناية .. إلى أن يشعر بوجود آدمي معه .. يمنحه الدعم والحب والاهتمام .. هذا الرجل مريض .. ولكنه مريض بالوحدة والبؤس .. وعلاجه .. علاجه أن يجد حبيبته الضائعة التي صنعت منه الرجل القاسي القلب الذي ظنته عليه منذ عرفته .. ماذا عليها أن تفعل .؟
قبل أن تكمل تساؤلها .. أجفلها رنين هاتف لا ينتمي إليها .. هاتف أرضي جاور السرير .. دوى بصخب غاضب وكأنه يمنعها من التمادي في أفكارها .. اتخذت قرارها بحزم .. واتجهت نحو الهاتف لترد على المكالمة .. وقبل أن تقول أي شيء .. هدر صوت أنثوي غاضب :- أنا لا أصدق .. حقا لا أصدق .. أنا وتمام ننتظرك منذ أكثر من ساعة .. نحاول الاتصال بك على هاتفك المقفل بدون فائدة .. لأجدك هنا ..!! .. هل تراك نسيت موعدنا أم أنك تحاول فقط إصابتي بنوبة قلبية ؟
ارتبكت لندا من الهجوم المفاجئ .. وعقد لسانها للحظات نبهت الفتاة في الجانب الآخر لوجود مشكلة ما .. قالت بقلق :- صلاح .. أهذا أنت ؟ .. ألو
أخذت لندا نفسا عميقا ... وقالت أخيرا :- أنا آسفة
صمت شديد ساد عبر الأسلاك .. تبعه صوت الفتاة تقول بريبة :- من يتكلم ؟
قالت لندا بارتباك :- أنا موظفة لدى السيد صلاح .. هو متعب قليلا .. وقد ساعدته للوصول إلى المنزل
هتفت الفتاة بلهفة :- هل هو مريض ؟ صلاح مريض ؟ .. إنه لا يمرض أبدا .. أين هو .. دعيني أكلمه
قالت لندا بانزعاج وهي ترمق الجسد الجامد القريب منها :- لا يستطيع محادثة أحد .. اسمعي يا آنسة .. لقد ساعدت السيد صلاح للوصول إلى بيته .. إلا أنني لا أستطيع البقاء معه أكثر .. لن يكون هذا مناسبا .. إن كنت تعرفين أحد أقاربه أو ...
قاطعتها الفتاة قائلة بحزم :- سنكون هناك خلال دقائق
وأقفلت الخط بلا مقدمات تاركة لندا المذهولة من فظاظة المتكلمة .. ثم قدرت بأنها قلقة بالتأكيد على صلاح وقد أظهرت لهجتها في بداية الاتصال عمق علاقتها به .. أتكون هي الحبيبة المفقودة التي نزعت الحياة من قلب صلاح النجار .. وتركته ميتا غير قادر على أن يحب أحدا آخر ؟
عنفت نفسها لجرأة أفكارها .. ما الذي تعرفينه عن صلاح النجار لتحكمي عليه .. بل ما الذي تعرفينه عن الحب لتقدري عواقبه ؟
ألقت نظرة أخيرة على المريض الغافل عما حوله .. وعرفت بأن هذه ستكون المرة الأخيرة التي ترى فيها رئيسها الغامض بهذا الضعف .. بهذه الإنسانية والهشاشة ... بدون أن تفكر .. اقتربت .. ولمست شعره الناعم .. وكأنها كانت تتمنى دائما لمسه .. ثم مرت بأناملها على ذقنه الخشنة .. مستغربة إحساسها بلمس رجل غريب .. رجل سيكون غضبه كبيرا إن عرف ما تفعله .. عندما تحركت أناملها لتلمس صدره القاسي .. تجمدت وسألت نفسها .. ما الذي أفعله هنا ؟
تراجعت بمزيج من الذعر والرهبة .. واندفعت خارجة من الغرفة وقد أحرجها التفكير بصديقة صلاح تصل لتجدها في غرفته .. تلمسه كالمهووسة .. وكأنها لم تر رجلا من قبل
انتظرت في الطابق السفلي .. متشبثة بحقيبتها ومستعدة للهرب .. حتى لمحت ضوء سيارة تقف أمام البوابة المعدنية .. وقفت عندما سمعت صليل المفاتيح ممتزجا بحديث دائر بين شخصين عند الباب .. فكرت مصدومة :- وتملك نسخة عن المفاتيح ؟
فتحت جودي الباب .. ودخلت مسرعة غير مبالية بتمام الذي كان يحاول عبثا تهدئة قلقها .. رأت الفتاة الواقفة في منتصف الصالة .. تحتضن حقيبتها وكأنها تستمد منها الأمان .. الفتاة كانت في مثل عمرها تقريبا .. مع أنها كانت تبدو أصغر بحجمها الصغير وملامحها الطفولية .. رغم التساؤلات التي كانت تجتاح عقلها ..إلا أنها طرحت على الفور السؤل المهم :- أين هو ؟
قالت الفتاة بتوتر :- في غرفته .. لقد أخذ حبتين من قرص مسكن وهو نائم الآن .. إلا أنه مريض جدا .. حرارته مرتفعة .. ويهذي في الكلام .. أظنه بحاجة إلى طبيب
لمس تمام كتف جودي قائلا بهدوء :- سأصعد إليه
فتحت فمها لتعلن عن مرافقتها له .. إلا أنه ضغط على كتفها .. ورمقها بنظرة خاصة فهمتها على الفور .. كما فهمتها الفتاة الشاحبة الوجه .. لقد تركها لتفهم دور الفتاة المتطفلة في كل ما يحدث ..
بينما اعتلى تمام الدرج بخطواته الواسعة .. التقت نظرات الفتاتين .. أحست لندا على الفور بالنقص والدونية أمام الفتاة البارعة الجمال .. ذات الملامح الشديدة الحلاوة .. رغم رقتها الظاهرية .. فقد تأملتها الفتاة بهدوء شديد جعل لندا تتمنى لو أنها ارتدت شيئا أفضل من تنورتها السوداء الضيقة .. وقميصها الوردي الذي تجعد بالتأكيد بعد نهار العمل الطويل .. قالت جودي بهدوء :- أنا جودي .. ابنة عم صلاح .. وهذا زوجي الذي صعد إليه لتوه .. لقد كنا في انتظاره لتناول العشاء معنا عندما اتصلت بغرض توبيخه لتأخره
ابنة عمه .. متزوجة .. لا .. ليست سارقة قلبه الغامضة إذن .. عادت جودي تتحدث :- أخبرتني عبر الهاتف بأنك موظفة لديه
قالت لندا بتوتر :- لقد تأخرت في الخروج اليوم من الشركة فصادفت السيد صلاح .. لقد احتاج مساعدتي لأنه لم يرغب بأن يلاحظ أي أحد توعكه .. حاولت الاتصال بالسيد رشاد .. إلا أن هاتفه كان مقفلا
أومأت جودي برأسها وكأن ذكر معرفة الفتاة برشاد قد طمأنها .. قالت :- هذا هو طبع صلاح للأسف .. يكره أن يشهد أحد على ضعفه .. لا بد أنه يثق بك كثيرا ليعتمد عليك في مساعدته للوصول إلى البيت .. مع العلم أنه انتقائي جدا حول الأشخاص الذين يدخلهم بيته
احمر وجه لندا .. وأبت أن تخبرها بأن هذه لم تكن زيارتها الأولى لهذا المنزل .. تمتمت بحرج :- لا أظنه يذكر حتى أنه طلب المساعدة .. وقد ينسى كل شيء عني عندما تزول الحمى عنه .. لقد كنت قلقة إذ أنني قد تأخرت في العودة إلى بيتي .. لم أستطع تركه دون أن يكون أحد ما برفقته .. على الأقل ليشعر بوجود أحدهم إلى جانبه في حالته هذه .. وفي الوقت ذاته .. وجودي هنا غير مناسب على الإطلاق .. عائلتي قلقة الآن لتأخري .. ولن تكون مسرورة إن عرفت بأنني كنت برفقة رجل عازب في بيته وحدنا دون رفيق .. حتى لو كان مريضا
ابتسمت جودي .. وقد استشعرت براءة الفتاة الشبيهة بالقطة المذعورة .. وتخيلت مشاعر صلاح عندما يصحو ليتذكر لحظات ضعفه التي شهدتها هذه الفتاة .. ستستمتع كثيرا بالنظر إلى وجهه في تلك اللحظة
نزل تمام .. فاستقطب اهتمام الفتاتين .. قال بقلق :- سأتصل بالدكتور جلال .. إنها حمى قوية .. ليست خطرة .. ولكنني أفضل أن يراه الطبيب ..
قالت جودي :- سأتصل به حالا .. بعد أن ألقي نظرة على صلاح .. تمام .. هذه هي الآنسة ...
أسرعت لندا أمام نظرة الاستفسار تقول بحرج :- لندا
:- لندا .. سيكرهها صلاح كثيرا عندما يصحو ويعرف بمساعدتها له
التقط تمام ابتسامة جودي .. فنظر باطمئنان إلى الفتاة قائلا بتأكيد :- سيكرهها .. ولكنه قطعا سيكون ممتنا لها
أجفلت لندا لابتسامة الشاب الذي لاحظت جاذبيته الشديدة .. فبادلته الابتسام بتردد وهي تشك بكلامه .. فصلاح النجار سيكون أي شيء إلا ممتنا لها في الصباح .. تمتمت :- يجب أن أذهب الآن .. آسفة على إزعاجكما .. وعلى تطفلي على منزل قريبكما بهذا الشكل
اقتربت منها جودي وهي تربت على كتفها قائلة بحرارة :- أنا لست آسفة لأنك أنت من اهتم به .. من الواضح أنك تهتمين لأمره كثيرا .... كرب عمل بالطبع
احمر وجه لندا .. وهي تعتذر مجددا .. وغادرت الفيلا تكاد تعثر في خطواتها .. هواء أيار البارد لم ينجح في تهدئة نبضات قلبها الثائرة .. أو في تخفيف احمرار وجنتيها وهي تتذكر كل لحظة مرت منذ سقط مديرها الشاب بين ذراعيها داخل حجرة المصعد .. وحتى لمحت لها جودي بشيء بدأت هي نفسه تشك بوجوده

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن