الفصل الحادى والعشرون

3.5K 72 0
                                    



الفصل الحادي والعشرون

أنا لك ..... كلي لك

رفع صلاح رأسه عن الأوراق التي كان يراجعها كما فعلت آية الواقفة إلى جواره .. تستمع إلى ملاحظاته باهتمام .. ونظرا إلى رشاد الذي طرق الباب المفتوح بحدة قبل أن يقف عبره .. ينظر إليهما بجفاف .. لم يبد على صلاح انه انتبه للتغير الذي أصاب صديقه خلال الشهر الذي مر بعد زفافه .. بعكس آية التي خطت إلى الخلف تلقائيا وحمرة الحرج والألم تصبغ وجنتيها ..
نظرة صلاح العابرة لم تستمر طويلا .. إذ قال بطريقته العملية :- تعال يا رشاد .. أنا أنتظرك منذ الصباح .. هناك ما أريدك أن تلقي نظرة عليه ..
تمتمت آية بخفوت :- أستأذن
قال صلاح وهو يقف :- هلا طلبت لنا بعض القهوة .. سيستغرق هذا وقتا
قال رشاد ساخرا غير قادر على منع نفسه :- نعم .. لم لا تعدين لنا بعض القهوة .. أنت تعرفين كيف يحبها صلاح .. أعني كيف نحبها
حرجها لم يمنعها من إلقاء نظرة نارية عليه قبل أن تغادر المكتب .. بينما توجه صلاح نحو زاوية الجلوس مشيرا لرشاد بالانضمام إليه قائلا :- مهما كان الشيء الذي تختلفان حوله هذه الأيام .. سوياه بسرعة .. فخطيبتك تشرد كثيرا هذه الأيام
قال رشاد بفظاظة :- لماذا تظننا مختلفان .؟ .. الأمور بيننا على خير ما يرام
قال صلاح وهو ينظر إلى صديقه بطريقة ذات معنى :- ربما أنا مشغول هذه الأيام ولا أمنحك وقتي كالسابق منذ زواجي .. إلا أنني لست أعمى البصيرة .. أنت أعز أصدقائي .. وآية أقرب الموظفين إلي وتعمل لدي منذ فترة طويلة .. وأنا أعرفكما أكثر مما تظنان
قال رشاد بسخرية مريرة :- لا تكن متأكدا من هذه النقطة
قال صلاح بنفاذ صبر وهو ينشر الأوراق على طاولة القهوة المنخفضة :- أعرف بأنكما ستتصالحان كالعادة .. ولكن لتفعلا بسرعة .. نحن نمر في فترة حرجة .. ولا وقت نضيعه في ترهات العشاق .. تعال والقي نظرة على ...
بينما انهمكا في نقاشهما حول العمل ناسيين أي شيء آخر .. كانت آية في الخارج .. تتلوى فوق مقعدها بتوتر واضطراب .. منذ حفل الزفاف المشئوم ورشاد يرفض التعاطي معها بأي طريقة ... يرفض الرد على اتصالاتها .. ويخرج من منزله متعمدا عندما يعرف بزيارتها لوالدته التي لم تعرف إلا أن ابنها قد تشاجر مع خطيبته رافضا ذكر الأسباب .. وكأن الاعتراف بالحقيقة التي عرفها تجرح كبرياءه ورجولته ..
حتى الآن .. كانت تمنحه الوقت الكافي كي يستعيد هدوءه ويدرك عقم غضبه منها .. إذ أنها لم تخنه يوما أو تكذب عليه .. لقد أخفت عنه فقط مشاعر لا قيمة أو أهمية لها اتجاه صديقه المقرب .. ابتسمت بمرارة ساخرة من نفسها لاستهتارها بصعوبة الموقف .. رشاد رغم حبه لها .. ومرحه وطبيعته الساخرة .. إلا أنه غير متسامح بالمرة .. خلال خطوبتهما الطويلة .. عرفته آية بما يكفي لتدرك بأنه لن ينسى ما فعلته به بسهولة .. وهي مستعدة لمنحه كل ما يحتاج إليه من الوقت .. وما يطمئنها هو أنه لم يطالبها بعد باستعادة خاتمه .. أو يلغي الخطوبة كما توقعت أن يفعل .. وهذا معناه أنه ما يزال متمسكا بها بطريقة ما
ولكن إلى متى عليها أن تنتظر ؟ .. لقد مر شهر كامل .. شهر كامل دون أن ينظر إلى عينيها بحب وعاطفة كالسابق .. دون أن يمطرها بكلمات الغزل التي كانت تضايقها دائما بجرأتها .. بمحاولاته الماكرة للمسها وتقبيلها ضد إرادتها .. لإغاظته لها بطريقته الرجولية الفظة .. لقد اشتاقت لرائحته .. لحضوره المطمئن .. لإلحاحه الدائم وإصراره على كسر تحفظها .. لماذا لم تدرك حتى الآن إلى أي حد تحبه .. وتهتم لأمره ؟
مهما كانت مشاعرها اتجاه صلاح .. فإنها متمسكة برشاد .. ولن تقبل إلا بكسب حبه وثقته مجددا .. ولكن كيف ؟ .. من أين لها أن تعرف السبيل للحصول على غفران رجل مجروح كرشاد ؟
دخل عامل المقهى بصينية القهوة .. فوقفت تتناولها منه لتقدمها بنفسها .. طرقت الباب .. ودخلت .. كان الرجلان ما يزالان يتحدثان بإسهاب في الزاوية .. توقفا عن العمل .. ونظرا إليها بينما وضعت هي الصينية على طاولة القهوة .. وبدأت تقدم لكل منهما فنجانه .. عندما قدمت الفنجان لرشاد .. اقتربت منه .. ونظرت إلى عينيه .. بينما توتر فمه الصارم رافضا مبادرتها .. تبادلا النظرات .. فوجد نفسه يحدق بلون عينيها الشديد الزرقة .. ويستنشق رائحة عطرها الناعم مما أثار لديه ردة الفعل المعتادة نحوها .. توسلته عيناها أن يمنحها أملا ولو ضئيلا .. أن يأخذ فنجان القهوة منها على الأقل .. كعلامة على أنه قد يسامحها ذات يوم .. إلا أن قربها منه .. وإحساسه بحرارة جسدها على بعد سنتيمترات قليلة منه .. جعلا عقله يضج لفوضى مشاعره نحوها .. لم يعرف ما عليه فعله .. هل يمسك بها ويقبلها أمام صلاح مثبتا ملكيته لها .. أم يبعدها عنه بعنف رافضا أن يأخذ غلافا جميلا لا مضمون فيه ... سمع صلاح يقول له بنزق :- هلا أخذت منها الفنجان على الأقل ؟
عندها .. تحرك واقفا أمام عينيها المصدومتين .. وقال بفظاظة :- أنا راحل .. سأكلمك لاحقا
وعندما خرج مسرعا من المكتب .. قال صلاح بحدة مخاطبا الفتاة المذهولة :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ .. الحقي به
في ظروف أخرى .. لضحكت آية وسقطت أرضا من شدة الضحك وهي ترى صلاح .. الرجل الحديدي الذي عرف دائما بافتقاره للعاطفة وقسوته .. يطلب منها اللحاق بخطيبها .. وتسوية مشاكلها معه وفي منتصف نهار عمل .. ما الذي فعلته بك عروسك الصغيرة يا سيدي ؟ .. هل نجحت أخيرا في إذابة جليد قلبك .. وسمحت للإنسان داخلك بالخروج أخيرا ليرى النور ؟
دون أن تعترض .. تركت المكتب ولحقت برشاد إلى مكتبه .. وجدته هناك .. جالسا خلف المكتب الكبير .. ممسكا برأسه بين يديه وقد بدا في غاية التعاسة ... أحست بالألم لما يعاني منه بسببها .. فأغلقت الباب ورائها بهدوء شديد .. وهمست :- رشاد
رفع رأسه .. واستعاد صلابته على الفور قائلا بجفاف :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ .. ما الذي تريدينه مني ؟
قالت بابتسامة مرتجفة :- وما الغريب في زيارة خطيبة لخطيبها ؟
ضحك ساخرا وهو يقف قائلا :- عن أي خطيبة تتحدثين ؟ .. الخطيبة المغرمة برجل آخر غير خطيبها ؟ ..
قالت بحدة :- أنا لا أحب صلاح
صاح بنزق :- بحق ا لله .. لا تستخفي بي .. لقد اعترفت لي صراحة بمشاعرك اتجاهه ليلة زفافه .. عندما لم تحتملي رؤيته يتزوج بأخرى غيرك
هزت رأسها قائلة بيأس :- الأمر ليس كما تظن
إلا أنه لم يكن مستعدا للاستماع إلى تبريرها أو محاولاتها للنفي .. نظر إليها مباشرة وسألها ما تاق منذ البداية لسؤالها إياه :- لماذا قبلت بي خطيبا إن كنت تحبينه ؟
توترت .. وهربت بعينيها بعيدا عنه .. فتحرك من مكانه بخفة نحوها وهو يكرر :- أخبريني .. لماذا اخترتني أنا ما دمت ومنذ البداية تحبينه هو ؟
توتر الهواء من حولهما والصمت القاسي يلفهما .. عندما قال بقسوة :- لأنني كنت متاحا .. ومناسبا .. وقريبا منه بحيث لا تضطرين للابتعاد عنه
هتفت بعنف :- هذا غير صحيح
شهقت بعنف عندما أمسك بذراعيها بقسوة وهزها صائحا :- في كل مرة كنا فيها معا .. كنت تفكرين به .. الحزن الذي كنت أراه في عينيك كان بسبب أنني لم أكن هو
هتفت بيأس :- لا
الغضب لون عينيه السوداوين .. وجعله أعمى حتى عن التفكير .. كبرياءه الجريحة ذكرته بكل لحظة جمعت بينهما .. عندما كانت تتحاشى النظر إليه .. تبدو بعيدة وضائعة .. وكأنها أبعد ما تكون عن المكان الذي ترغب في التواجد فيه
قال بلهجة خطرة جعلتها تغمض عينيها خوفا من قربه الشديد :- ألهذا السبب كنت تنفرين من لمساتي .. تكرهين قبلاتي وتبعدينني عنك .. لأنك في قرارة نفسك .. كنت تريدينني أن أكون هو ؟
قالت نائحة دون أن تفتح عينيها :- هذا غير صحيح .. غير صحيح
لم يستطع تحمل قربها منه .. ووجودها بين يديه .. نظر إلى فمها المرتجف .. وبشرتها الناعمة .. وتذكر شوقه الذي لم يتوقف نحوها .. وازداد غضبه لفكرة أن جمالها هذا كان محجوبا عنه بسبب رجل آخر .. الجزء اللئيم منه أراد أن يعاقبها .. أن ينتزع منها ما منعته عنه لأشهر .. أن يؤلمها ويعذبها .. لم يستطع بحالته تلك .. التفكير إلا بسحبها إليه .. وتناول فمها بين شفتيه .. مقبلا إياها بقسوة جعلتها تنتفض ذعرا .. قاومته بيأس محاولة الخلاص من قسوة أحضانه .. وعنف قبلاته المسيطرة والوحشية دون فائدة .. امتدت يده لتثبت رأسها مانعة إياها من الخلاص منه .. لم يتركها إلا وهي تنشج ببكاء خنقتها شفاهه بغلاظة .. أبعدها عنه دون أن يتركها .. احتفظ بها أسيرة ذراعيه القاسيتين .. ونظر إلى انهيارها بلا رحمة .. بينما تدفقت دموع الذل من عينيها بلا توقف وهي تبحث في عينيه عن أي أثر لرشاد الذي عرفته دائما .. رشاد الحنون والدافئ .. المرح ذو العاطفة الجياشة .. هذا رجل آخر تجهله .. او أنها لم تحاول يوما أن تعرفه حقا بالحدود التي رسمتها لعلاقتهما .. قال بخشونة :- هل أهنتك ؟ .. هل آلمتك ؟ .. بقدر ما أكرهك وأتمنى إيذاءك .. بقدر ما أحبك رغما عن أنفي .. أحبك إلى حد قد يدفعني لقتلك بانتزاع قلبك من بين أضلعك كي لا يحظى به غيري .. أحبك وأريدك بعنف أحتقر معه نفسي .. إلا أنني لست ضعيفا لأرضى بالفتات الذي كنت تقدمينه لي في السابق .. إما كل شيء .. أو لا شيء
دفعها عنه حتى كادت تتعثر وتسقط أرضا .. نظرت إليه بين دموعها .. وأناملها المرتعشة تلمس شفتيها المتورمتين .. بقدر ما كانت تشعر بالألم والإهانة .. بقدر ما كانت تعاسته تؤلمها .. كانت تعرف بأنه يعاقبها محاولا استعادة شيئا من كرامته الجريحة .. ولدهشتها .. وجدت أنها لا تمانع .. إن كانت إهانتها وتعذيبه لها يرضيانه ويساعدانه على نسيان زلتها فهي لا تمانع .. المهم أن تستعيد حبه لها .. أن تستعيد الرجل الذي أحبته دون أن تدري .. عندما كانت غارقة في أوهام حب مستحيل أفسد حياتها قبل أن يفسد حياة رشاد
حاولت استعادة توازنها وهي تمسح دموعها قائلة :- هل تظن بأنني بمعاملتك القاسية لي سأتوقف عن السعي وراء غفرانك يا رشاد ؟ .. أتريد أن تبعدني كي لا تعترف لنفسك بأنك ما زلت تحبني كما كنت وربما أكثر ؟ .. لا تنتظر مني أن أفعل هذا .. لأنني لم أكن يوما متمسكة بك كما أنا الآن ...
ابتعد عنها هاتفا بغضب :- بحق الله .. اذهبي من هنا
هزت رأسها قائلا من وراء ظهره :- لن أتوقف يا رشاد حتى تسامحني .. وتعرف بأن ما كنت أكنه من مشاعر نحو صلاح مهما كان نوعها .. لم يعد موجودا .. أنت وحدك من يهمني .. أنت وحدك من أريد .. وأنا مستعدة لانتظارك حتى تقرر القبول بي كما أنا .
لم يمنحها ردا .. بل ظل بعيدا .. يتحاشى النظر إليها .. حتى أحس بها ترحل .. وتغلق الباب ورائها .. ظل واقفا مكانه لفترة طويلة .. يفكر باستغراق شديد .. يستعيد كل كلمة قالتها .. كل نظرة .. يستعيد شعوره عندما عرف ملمس شفتيها أخيرا .. ومعنى وجودها بين ذراعيه .. وفكر .. لن تكون آية لغيري .. ستكون لي ..
قست نظراته وهو يقسم بأنها ستنظر إليه يوما .. فلا ترى غيره أبدا .. سينتقم من آية بطريقته الخاصة .. ولن يكون رشاد لو لم يحصل على ما يريد

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىWhere stories live. Discover now