الفصل الثالث

3.3K 71 2
                                    


الفصل الثالث

جدول لا ماء فيه

المحتوى الان غير مخفي

لم يغفل صلاح عن عيني الفتاة الصهباء التي تعلقت به منذ دخوله المطعم .. كانت تجلس مع مجموعة من الشابات الضاحكات بمرح تستمع إليهن دون أن تتوقف عن استراق النظر إليه بين الحين والآخر مرسلة نحوه الابتسامة تلو الأخرى على أمل أن يرد لها إحداها
سمعة صلاح السيئة مع النساء .. والتي ذاع صيتها خلال العام الفائت .. لم تكن مفبركة أو مبالغ بها .. إلا أنه كان انتقائيا للغاية فيما يتعلق بالصحبة التي يحب قضاء الوقت معها .. كان يصر على أنه هو .. من ينتقي الفتاة المناسبة .. في الوقت المناسب .. وفي المكان المناسب .
وتلك الفتاة رغم جمالها .. اختارت وقتا غير مناسب على الإطلاق لتقدم عرضها الصامت لرجل الأعمال الشاب .. الذي تذكرت رؤيتها لصورته عبر شبكة الإنترنت قبل أيام في مقال اقتصادي تحدث عن آخر إنجازاته
رغم ملاحظته لمحاولاتها لفت نظره .. فقد كان عقله بعيدا تماما عن المدار الذي كان يسير فيه تفكيرها .. لقد كانت أنظاره معلقة بطاولة تقع في الطرف الآخر من الصالة الواسعة .. جلس حولها زوجين في مقتبل العمر .. ظهر الحب واضحا في كل نظرة أو لمسة تبادلاها .. ما أثار اهتمامه حقا .. كان الطفل الصغير المسجون في مقعد مرتفع مخصص للأطفال .. أخذ يركل بقدميه ويصرخ محتجا ومطالبا بالاهتمام غير عابئ بالإزعاج الذي يسببه لباقي رواد المطعم الشديد الفخامة
عمر الطفل لم يتجاوز العام .. صغير الجسم .. يظهر التمرد الغاضب في عينيه البريئتين .. وفي فمه المزموم .. رؤيته .. وملاحظة صبر والديه وحنانهما عليه .. حرك شيئا في صدره ظن لفترة طويلة أنه قد قتله .. إلا أنه اكتشف حديثا ومنذ 3 أشهر بالضبط .. بأنه ما يزال حيا .. ويتحرك متململا داخله .. يتحين الفرصة المناسبة للخروج ..
شيء رغم إدراكه له .. إلا أنه كان جاهلا تماما لحقيقته .. إن كان حنينا إلى ماضي لم يعرفه .. أو شوقا إلى مستقبل مستحيل
تناول هاتفه المحمول .. وعبث بأزراره كي تظهر له على الشاشة تلك الصورة التي سمحت له جودي بسماحة وفخر أن ينقلها إلى هاتفه عندما قابلها الأسبوع الماضي .. ولم يتوقف عن النظر إليها منذ ذلك الحين
نظر إلى صورة الرضيع الرائع الجمال الشبه نائم .. وقد علت ملامحه الناعمة السلام والهدوء .. وكست رأسه بعض الشعيرات السوداء الناعمة .. وبدا بعيدا كل البعد عن أماني .. لقد كان نسخة مصغرة عن هشام عطار .. إلا أن هذا لم يمنعه على الإطلاق من أن يغرم بالطفل الصغير .. كشيء أصبح جزءا من عائلته .. مهما كان اعتراض والديه على هذه الصلة
فدماء آل نجار العريقة – كما كان عمه المرحوم يصفها – تجري في عروقه .. كما أنه قطعة من المرأة التي شكلت لفترة طويلة جزءا مهما من أحلامه
لقد أيقظ هذا الطفل داخله حاجة بدائية لم يفهمها بعد .. حاجة باتت تعذبه .. تلعن لياليه بالسهر .. وأيامه بالقلق
منذ متى لم يقابل أماني ؟ .. منذ ستة أشهر .. في ليلة زفاف جودي وتمام .. كانت موجودة برفقة زوجها .. تبدو فاتنة بفستان اخضر تناغم مع لون عينيها .. لقد بدت سعيدة جدا وهي تتأبط ذراع زوجها الفخور .. الذي كان لا يتوقف عن تقريبها إليه حماية لها .. وإشعارا له هو بملكيته لها ...
تلك الليلة ....
أغمض صلاح عينيه متذكرا عذاب تلك الليلة .. الجهد الكبير الذي بذله كي يخفي ألمه عن الآخرين .. كي يقوم بواجبه كوكيل للعروس المتألقة .. التي وجدت سعادتها أخيرا مع رجل حصل على احترام صلاح وإعجابه .. بالحب الشديد الذي أظهره لابنة عمه .. وبواقع كونه عريسا مناسبا من الناحيتين المادية والاجتماعية للاقتران بأحد أفراد العائلة
بالرغم من رفض أماني لأي احتكاك به .. وكراهيتها الشديدة له والتي لم تخف رغم مرور أشهر .. ورغما عن زوجها الواقف له بالمرصاد متأهبا في انتظار أي خطأ منه .. كان صلاح يراقبها من بعيد بوسائله الخاصة .. إذ أن جزءا منه لم يتقبل بعد خروج أماني التام من حياته .. ولن يفعل أبدا
احتسى ما تبقى من قهوته التي بدأت تبرد وهو يتساءل .. إلى متى سيظل يعذب نفسه بحب امرأة لم تعد تنتمي إليه ؟ في الواقع .. هي لم تنتمي إليه قط من قبل .. لن ينسى أبدا النظرات التي كانت ترمق بها زوجها في حفل الزفاف .. النظرات التي أمل يوما أن توجهها نحوه هو ..
لقد عرف بأنه قد خسر قلبه يوم تزوجت أماني .. وبأنه أبدا لن يعرف معنى أن يخفق قلبه بحب امرأة .. لأنه أبدا .. أبدا لن يجد امرأة تشبه أماني .. بجمالها .. وقوتها .. وشجاعتها ..
إذن .. وماذا بعد ؟ ..متى سيتمكن من ملأ هذا الفراغ الذي يحتل روحه ويسكن أيامه ؟
:- آسف لتأخري
رفع رأسه نحو رشاد الذي ألقى نفسه على المقعد المواجه له وقال :- لم تتأخر كثيرا
دارت عينا رشاد في المكان للحظات ثم قال متهكما :- أليس من المبتذل أن تختار أحد مطاعم نسيبك دون غيره للقائنا ؟
قال صلاح وهو يشير بيده نحو النادل الذي أسرع نحوه :- لو لم يكن الأفضل لما فعلت
كان رشاد متأكدا من هذا .. فصلاح لا يعرف على الإطلاق معنى أن يكون مجاملا .. ثقته بنفسه .. وعدم اهتمامه بآراء الآخرين .. خصلتين حددتا جزءا كبيرا من شخصيته التي يعرفها رشاد جيدا بحكم صداقتهما التي تعود إلى أيام الجامعة
أحد أهم ركائز هذه الصداقة .. التناقض الواضح في شخصيتيهما .. صلاح كان مثالا لابن العائلة العريقة .. الثري الحاد المزاج والسريع الغضب .. في حين انحدر رشاد من عائلة بسيطة عصامية .. وتميز بشخصيته الهادئة والمتزنة .. هذا التناقض كان ما جعل كل منهما يكمل الآخر بطريقة ما .. بالإضافة إلى الخصلات المشتركة بينهما .. كالصراحة .. والمباشرة .. والإخلاص الشديد لكل ما ينتمي إليهما
رشاد كان أكثر الأشخاص معرفة بصلاح .. يعرف بأنه خلف القناع القاسي والبارد الذي يرتديه أمام الناس .. يكمن إنسان وفي وقوي .. يمكن الاعتماد عليه وقت الشدة ... وأنه يخفي داخل قلبه المتحجر .. عاطفة عنيفة وحساسية يجهلها الكثيرون .
والآن.. بعد مرور سنوات طويلة على تخرجهما ... يعمل رشاد مع صلاح كأحد أهم مدراءه التنفيذيين .. وكأهم الأشخاص المعتمد علهم من قبله .. والموثوق بهم تماما
انصرف النادل بعد أن أملى عليه الرجلان مطلبهما .. ثم التفت صلاح نحو رشاد الذي ابتدأ الحديث قائلا :- ما الذي تنوي فعله مع حافظ سعيد
أشعل صلاح سيجارة وهو يقول :- لا تقلق .. لقد بدأت العمل على الإيقاع به
:- وما دور جاسوستك الصغيرة بخطتك الغامضة ؟
قست عينا صلاح وهو ينفث دخان سيجارته قبل أن يقول ببرود :- خطيبتك تمتلك فما ثرثارا
قال رشاد ببساطة :- آية لا تخفي عني شيئا تعرف مسبقا بأنك ستطلعني عليه .. كما أنها الآن حاقدة عليك لإقصائك لها من عملها فجأة نافية ثقتها بنواياك .. ثم إياك أن تنسى بأنني كنت الوسيط يوما بينك وبين سكرتيرة هشام عطار ؟
قال صلاح بهدوء :- لقد ظهرت الفتاة في وقتها .. نستطيع استثمار مواهبها لصالحنا .. وأخبر خطيبتك بأن تتوقف عن النواح .. لن تخسر وظيفتها فلا مبرر لذعرها .. أتساءل أحيانا كيف تحتمل تذمرها الدائم ؟
قال رشاد ضاحكا :- كيف تحتملها أنت بما انك تراها أكثر مما أفعل ؟ أظنك تشعر بالغيرة فقط لأن سكرتيرتك الحسناء لم تقع في شباكك كغيرها من الفتيات .. واختارت صديقك عوضا عنك
رسم صلاح ابتسامة باهتة على شفتيه وهو يقول :- ربما
لاحظ رشاد تلك السحابة التي مرت فوق عيني صديقه .. قال متعاطفا :- أمازلت تفكر بها ؟
اتجهت عينا صلاح تلقائيا نحو العائلة الصغيرة التي بدأت تلملم أغراضها بهدف المغادرة .. ثم قال بجفاف :- وهل أملك سوى التفكير ؟
قال رشاد بهدوء :- تعرف جيدا بأنك يجب أن تنساها يا صلاح .. أنت لن تهدر ما تبقى من حياتك في ذكرى امرأة نبذتك دون أن تنظر ورائها أبدا .. ليس صلاح نجار من يفعل هذا
فكر صلاح صامتا ( قد يفعل إن كانت المرأة هي أماني النجار ) ولكنه قال باستهزاء رافضا تعاطف صديقه :- أظنك أنت من يشعر بالغيرة الآن وقد أحاطتك آية بقيودها الفولاذية وأصبحت حريتك رمز لشيء لم يعد موجودا
ضحك رشاد دون أن يبدو عليه القلق للفكرة وقال :- الحرية نعمة مبالغ في تقديرها يا صديقي .. أنا لم أخلق لأكون نسرا متوحدا يجول السماء بلا تعب دون رفقة مثلك أنت .. بما أننا نتحدث عن الرفقة .. ثمة صهباء فاتنة تكاد تأكلك بعينيها إلى اليمين منك
أشعل صلاح سيجارته التالية مع وصول الطعام إلى مائدتهما وهو يقول بجفاف :- لا تروقني الصهباوات
رفع رشاد أحد حاجبيه قائلا بمكر :- ليس هذا ما أذكره
التوت شفتي صلاح بابتسامة خبيثة وهو يقول :- لا أستطيع إنكار مزاياهن
تناول الصديقان العشاء بهدوء ومرح تخلله مزيج بين جدية العمل واهتمام الصحبة .. ومداعبة الصداقة الخشنة
راقب رشاد صلاح وهو ينفث سيجارته ال...... لقد ضاع في عددها منذ فترة .. لم تكن شراهة صديقه في التدخين بهذا الشكل فيما مضى .. عرف بأن أي نصيحة قلقة تبدر منه ستقابل بالسخرية والتمرد .. قال :- نحن نجلس في زاوية مخصصة لغير المدخنين يا صلاح
لم تلق محاولاته أي صدى لدى صلاح الذي قال بلا مبالاة :- إذا ...
قال رشاد مستهزئا :- آه .. كدت أنسى بأنك نسيب صاحب المكان .. وأن أحدا لن يجرؤ على مناقشة أفعالك
فكر صلاح مبتسما بأن تمام لو كان هنا لفعل بلا تردد .. فزوج ابنة عمه لا يخشى أبدا التصريح برأيه والدفاع عن معتقداته مهما كانت هوية خصمه
نظر رشاد إلى وجه صلاح للحظات قبل أن يقول فجأة :- إن كنت قد أنهيت طعامك فلنغادر المكان
قطب صلاح قائلا :- إلى أين ؟
ابتسم رشاد قائلا بتواطئ :- إلى حيث تنال المعاملة التي تستحقها كبشري فاني مثلنا يا سيد صلاح .. هيا قم معي ولا تكثر من الأسئلة
بعد نصف ساعة .. كان الصديقان يجلسان حول طاولة خشبية في أحد المقاهي التي توسطت منطقة أثرية .. هواء الربيع البارد كان يلفحهما حاملا معه صوت صباح فخري الشجي وهو يستجدي الوصل من ربة الوجه الصبوح صادرا من مكبر للصوت وضعه صاحب أحد المقاهي خارجا .. بينما سار سكان المدينة هنا وهناك في الساحة الواسعة المطلة على مشهد مهيب لإحدى القلاع الأثرية الضخمة ..
عائلات .. عشاق .. أصدقاء .. أطفال يتراكضون هنا وهناك .. امتزجت رائحة الياسمين برائحة المعسل المحترق وأبخرة النارجيلة الزكية .. برائحة الذرة المشوية التي انهمك صبي في الخامسة عشرة بتقليبها فوق مشواة بدائية .. وبيعها ملفوفة بأوراق الجرائد للأطفال
ترك صلاح سترته وربطة عنقه في سيارته .. فبدا قريب الشبه من طلاب الجامعة المحيطين به .. تتعالى صيحاتهم وضحكاتهم السمجة .. وبدا مرتاحا للغاية وهو ينفث دخان النارجيلة .. مستمتعا بالجو الخيالي والعائلي المحيط به من كل جانب .. قال رشاد :- هل أعجبك المكان ؟
ابتسم صلاح قائلا :- هل تمزح ؟
عاد ينظر حوله قائلا :- لم آت إلى هنا منذ دهور
منذ فقد حقه في أن يكون شابا .. عندما بدأ العمل مع عمه فور تخرجه ... وترك متع الدنيا ومباهجها البسيطة وراءه
أحضر النادل لهما الشاي المعطر بالنعناع .. بينما مال رشاد نحو صلاح قائلا بجدية :- لقد أحضرتك إلى هنا لأتحدث إليك عن حياتك يا صلاح .. منذ أشهر وأنت تقتل نفسك بين أعمالك التي لا تنتهي .. ومغامراتك العاطفية العابرة الخالية من المعنى .. إن تابعت حياتك على هذا المنوال .. فإنك ستنهار قريبا لا محالة
لو أن محدثه شخص آخر غير رشاد .. لسخر منه .. أو قمع تدخله بفظاظة .. إلا أنه صمت طويلا هذه المرة قبل أن يقول بهدوء :- لا تخف يا رشاد .. لا أنوي الوصول إلى ذلك الحد
قال رشاد بقلق :- هل تعدني بأن تمنح حياتك فرصة وتبدأ التفكير بنفسك ولو لمرة ؟
ابتسم صلاح قائلا :- أعدك
ظهر الارتياح جليا على ملامح رشاد قبل أن يبدأ باحتساء كوبه بتلذذ بعكس صلاح الذي فقد ابتسامته فجأة وهو يتساءل إن كان قادرا على الوفاء يوما بهذا الوعد

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىWhere stories live. Discover now