الفصل الثاني

ابدأ من البداية
                                    

رمقها دورين بنظرة عابسة تملؤها التساؤلات , فهو لا يدري معنى تصرفاتها الغريبة , كيف له أن يعلم أنها أمضت حياة منعزلة ؟ حياة فتاة منبوذة ويتوقع منها الجميع أن تتعلم شعورا واحدا فقط.... هو الشعور بالأمتنان ؟ كيف له أن يعلم , أن اللحظات العابرة التي أمضياها معا... كانت بالنسبة لجولييت بحرا من السعادة ؟ لو علم دورين الحقيقة , وهي أنها لم تعرف الحب قبل الآن.... لو عرف شدة توقها الى الحنان , وحاجتها اليه.... لما فعل ما فعل, ولما كانت النتيجة أن يكره جولييت الى هذا الحد.
كان الصباح مشرقا والثلج يغطي التلال , ورائحة الطعام تملأ المنزل , أستيقظت جولييت من نوم عميق ودخلت المطبخ مرتدية ثوبا فضفاضا , ناعما يلائم قامتها الرشيقة.
" عيد ميلاد سعيد".
" شكرا ماغ , رائحة الطعام شهية جدا".
أجابت ماغ والأبتسامة تعلو وجهها:
" هذا لأنني طباخة ماهرة".
ثم أدارت رأسها نحو علبة مغلفة بورق أحمر ساطع.
" هديتك , تجدين بطاقة المعايدة في الداخل , أرجو أن يكون عيد ميلادك عيدا سارا مليئا بالمفاجآت السعيدة".
" شكرا ماغ".
وأقتربت جولييت لتكشف ما في العلبة , وجدت فرشاة للشعر فضية اللون.
" ماغ , أنها رائعة".
وراحت جولييت تسرح شعرها الذهبي الأشقر الذي كانت أشعة الشمس تتراقص فوق خصلاته الطويلة الحريرية.
" يسعدني أنها أعجبتك, أخترتها لك منذ شهر تقريبا , أردت أن أعبر لك عن أمتناني لأنك جعلتني أشاركك بيتك".
" أمتنان ؟ أرجو ألا تتفوهي بهذه الكلمة أبدا".
بدا التعجب على وجه ماغ , لكنها سرعان ما تطرقت الى موضوع مختلف وقالت:
" أتيك الآن بطعام الفطور الذي أعددته لهذه المناسبة".
وما هي ألا دقائق حتى عادت ماغ تحمل صينية وعليها طعام افطور.
" أنا اليوم في خدمتك , ما عليك ألا أن تأمري وسأنفذ".
ضحكتا معا , ثم جلستا لتناول الطعام قرب النافذة التي تطل على حديقة المنزل الجميلة.
همست جولييت:
" خمسة وعشرون".
ثم أضافت:
" لا شك أن حياتي تغيرت كثيرا خلال السنين الماضية".
رمقتها ماغ بنظرة تساؤل لكنها لم تعلق , ملأت فنجانها بالقهوة وعندما نظرت الى جولييت من جديد , وجدت على وجهها نظرة تجهم فسألتها:
" ماذا يعكر صفو أفكارك؟".
لم تجب جولييت ألا بعد لحظات من الصمت الطويل.
" رجل يدعى دورين كوراليس".
" رجل؟ لم أشاهدك يوما برفقة رجل".
" تعرفت على واحد أو أثنين , وخرجت معهما قبل مكوثك هنا برفقتي".
" وهذا الرجل , هل هو أنكليزي؟".
" لا , يوناني ".
" وأين تعرفت عليه؟".
" هنا في أنكلترا , خلال زيارته لهذا البلد".
شردت أفكار جولييت كأنها تحاول أن تسبر الماضي ,ثم قالت:
"نعم , لقد مضى وقت طويل منذ ذلك اللقاء".
" أعرفك منذ سنين , ولم تبوحي بشيء عن ماضيك بعد".
" لا أمانع في الكلام عن الماضي , بل يسرني أن أعرف شيئا عن ماضيك , فذلك يساعد في توطيد علاقتنا".
شرعت جولييت تسرد قصتها منذ البداية , وكيف صبغت شعرها بالأسود لتلفت نظره اليها , وعند سماعها ذلك صاحت ماغ:
" ماذا؟ صبغت هذا الشعر الأشقر الرائع ؟ لا شك أنك فقدت صوابك".
" صحيح , كنت قد فقدت صوابي , وقعت في حب هذا الرجل منذ أن أطلعت على صورته مع تانيا , أردته أن يلاحظني , أن يبادلني شعوري , لكنني كنت أحارب في معركة خاسرة منذ البداية , فتانيا ساحرة الجمال , بينما كنت أنا بسيطة المظهر الى حد البشاعة في ذلك الحين".
وأطلقت جولييت ضحكة عالية عند رؤيتها التعبير الذي أرتسم على وجه ماغ.
"لكن من المستحيل أن أصدق أنك كنت قبيحة المظهر".
أبتسمت جولييت , وأستمرت تتلو قصتها والحدثة التي جرت في الغابة بينها وبين دورين.
" يبدو أنه ظنك فتاة سهلة الأغراء".
" ربما , لكنني لن أغفر له ما فعل نتيجة تصرفي الطائش الساذج".
" قبل أن تتابعي , أخبريني هل تزوج أبنة خالتك؟".
" لا أعتقد , فالرجل اليوناني لا يتزوج خليلته , رغم أن تانيا جعلتني أعتقد في ذلك الوقت أنه طلب يدها للزواج , صدقيني أن هذا يجعلني أبكي طوال الليل , بقيت على هذه الحالة أياما عديدة لم أعرف خلالها سوى البرس والتعاسة وخيبة الأمل , كنت أياما لا أتمناها لأحد".
" هل علمت حينذاك أنهما كانا عاشقين؟".
" لا , كنت في السابعة عشرة من عمري , نشأت في القرية ولم أخرج برفقة رجل أبدا ,لم أكن أعرف شيئا عن العالم , كنت أعتقد أن العلاقة التي تربط تانيا بدورين علاقة بريئة , ولم أر فيها أي شر".
توقفت جولييت عن الكلام قليلا لتجمع أفكارها ثم قالت:
" مهما كانت الفكرة التي كوّنها عني في ذلك الوقت , ليس هناك ما يبرر ردة فعله , فلو لم يتسرع , لكان أدرك أنني أختلف تماما عن تانيا, فهي أستسلمت له منذ لقائهما الأول".
" وكيف تعلمين ذلك؟".
" كنت في الحديقة ذات مساء وسمعتها تقول له ( لم يمض على لقائنا سوى وقت قصير , وها نحن نقاسم بعضنا نعيما من الأحاسيس ) , طبعا لم أفهم معنى كلامها حينذاك ولكنني فهمت بعد أن بلغت مرا معينا".ماذا فعل دورين أثناء نزهتكما في الغابة؟".
" لم يفعل شيئا في البداية , لكنه أساء فهم النظرات الودية التي رمقته بها خلال الأيام التي أمضاها معنا , نظرات جعلته يعتقد أنه من السهل أن يحصل علي جسما وروحا متى شاء".
" وأنت في سذاجتك بقيت تجهلين حقيقة أفكاره".
" طبعا , وحين أساء فهمي , قرر أن يواجه خالتي وزوجها ويصارحهما بما حصل , وحذرهما أنه أذا لم يتخذا التدابير اللازمة , سأسبب لهما متاعب شتى , أخبرهما أنني حاولت أغراءه , وأنه كان من السهل عليه أن يستغل الموقف , لكن شهامته وحرصه على سمعة العائلة التي أستقبلته في منزلها منعته عن ذلك".
" جولييت , يا له من أنسان بغيض ,أنت أشرف فتاة تعرفت عليها".
" كما قال دورين , لو كنت في وطنه لكان ولي أمري أنهال عليّ ضربا , صدقيني أن زوج خالتي كاد يقوم بالمثل لو لم أهدده بتبليغ الشرطة".
" وماذا فعل أذن؟".
" تحولت معاملته لي من سيء ألى أسوأ , وأظهر الجميع نحوي أحتقارا وأزدراء لا يمكن أن يتحمله أحد , والذي جعل الأمر أسوأ هو أن تانيا نشرت الخبر في القرية كلها , فبات الجميع يتجنبونني , حتى أعز الأشخاص وأقربهم لدي , وذات يوم أعترضني رجل من القرية وأنا في طريق منعزلة وحاول الأعتداء علي , شرعت أصرخ وأبكي , ووضع يده على فمي طالبا مني أن أكف عن التمثيل , فجميع سكان القرية يعرفون أي نوع من الفتيات أنا".
وأغرورقت عينا جولييت بالدموع وهي تكمل قصتها:
" في النهاية أتى السيد غودفري لمساعدتي , كان دائما بمثابة صديق لي , لكنني لمحت على وجهه خيبة أمل وكأنه يفكر أنني نلت ما أستحق.
بعد ذلك باتت الحياة في القرية لا تطاق , ولم يكن فيجعبتي سوى القليل من المال , قررت أن أترك القرية وأواجه العالم مهما كان الثمن , وذات ليلة مظلمة بعد أن نام الجميع , حملت حاجياتي ورحلت".
" الى أين؟".
" كما تعلمين , لم يكن لدي أي مكان ألتجىء اليه , تملكني الرعب , أذ وجدت نفسي أواجه عالما لا أدري عنه شيئا , أسرعت الى محطة القطار وأشتريت بطاقة الى مانشستر , كان القطار على وشك الأنطلاق , فلم يسنح الوقت للحمال الذي كان يعرفني أن يسألني عن شيء , وساورني الشك في أنه ربما سيبلغ الشرطة , فتركت القطار قبل وصولي الى مانشستر بمحطة واحدة , ثم ركبت القطار الكهربائي الى روكبي , التي تبعد عن مانشستر عدة أميال".
" روكبي؟".
" لم يبق معي سوى باون واحد ,ولم يكن بأستطاعتي الذهاب الى أي مكان آخر , كانت روكبي تعج بالمارين , فقضيت الليل في محطة القطار وفي الصباح التالي أنطلقت الى المدينة لأيجاد مكان رخيص أسكن فيه , ثم ذهبت أبحث عن عمل".
توقفت جولييت قليلا محاولة أن تتذكر ما حصل بالتفصيل .
كانت ماغ جالسة على الأريكة تفرك يديها بعصبية , وعلقت جولييت قائلة عندما لاحظت هذا:
" لا حاجة الى القلق , أنه الماضي , هو مضى ولن يعود".
" أعلم ذلك , لكنني لم أسمع من قبل قصة مثيرة ومحزنة الى هذا الحد , وماذا فعلت بعد ذلك؟".
" يبدو أنني في طريقي الى المدينة تعرضت لحادث فظيع".
" حادث؟".
" حادث أرتطام بباص , لا أذكر شيئا عن الادث لكن حسب تقرير الشهود , يبدو أنني عبرت الطريق وكأنني أحاول الأنتحار".
" يا لك من مسكينة , لم يكن عمرك سوى سبع عشرة سنة , وحيدة خائفة , ولا أحد يبالي , جولييت... أكاد أنفجر بالبكاء".
" ماغ , يا عزيزتي أهدأي , فكما قلت لك لم يعد الماضي سوى ذكريات , لا أذكر من ذلك اليوم سوى أنني كنت أسير في الطريق وفي قلبي حقد وضغينة أتجاه ذلك الرجل الذي حطّم حياتي , وكان سبب الأضطهاد الذي تعرضت اليه, وعندما أستيقظت في المستشفى , أخبرني الطبيب ما حصل وأعلمني أنني أعاني من جراح عديدة بالأضافة الى تشويه بالغ للوجه".
أومأت ماغ برأسها أذ أدركت نتيجة ما حصل فقالت:
" وكان الحل الوحيد أجراء عملية تجميل جراحية".
" نعم , الحقيقة كنت قبيحة المظهر من قبل , فقبلت أن أخضع لعمليات متتابعة كانت نتيجتها أن تغير وجهي كليا , كان الطبيب جراحا بارعا , أدى عمله بشكل متقن يقرب من المثالية".
" لا شك أنه أبدع في محاولته".
تورد وجه جولييت وأجابت:
" صحيح , أنني مدينة له بتحويل مجرى حياتي كلها , بقيت في المستشفى لمدة عشر أشهر , لم يعرف فيها أحد هويتي الشخصية أذ فقدت أوراقي من جراء الحادث , وتصنعت فقدان الذاكرة , والطبيب الذي كان يعالجني منع أي شخص مهما كانت أهميته من أزعاجي , وأعطى الممرضات المسؤولات عني أوامر صارمة بأبقائي في حالة راحة كاملة , أذ يساعد ذلك على شفائي العاجل ونجاح العملية الجراحية , وقبل خروجي من المستشفى سمح الطبيب للعاملة الأجتماعية بمقابلتي , فساعدتني في الحصول على عمل , وما هي ألا أيام معدودة حتى أبتدأت عملي , وكان يقتضي الأعتناء بعجوزين في منزلهما , سكنت معهما وأصبحنا أشبه بعائلة , لم يكن لديهما أي أقارب , وعندما توفيا تركا لي هذا البيت , أحببتهما حب الأبنة لوالديها وبادلاني هذا الح , وكلما طال بقائي معهما , كلما توطدت علاقاتنا وأزدادت الثقة بيننا , فأخبرتهما بكل شيء عن ماضيي , بعد أن عرفا قصتي , قررا معاملتي كأبنتهما وليس كخادمة , وأصرا على ذلك حتى أنهما أرسلاني الى المعهد التجاري حيث تخرجت كسكرتيرة , كنت أبقى في رفقتهما كل ليلة وخلال عطلة الأسبوع , ولم أخرج أبدا رغم أصرارهما علي بالخروج , لكنني شعرت أنه من واجبي أن أبقى معهما دائما , علّهما يحتاجان الى شيء , بقائي الدائم في البيت لم يكن يشكل أي عائق بالنسبة لي , أذ كنت سعيدة بحياتي معهما".

توقفت جولييت لتحتسي المزيد من قهوتها وفي نظرتها هدوء وطمأنينة , ثم أستمرت قائلة:
" السيد والسيدة ماثلي , كان هذا أسمهما , قدما لي ما حرمت منه منذ طفولتي , وذلك الحب والرعاية والعطاء الدائم جعلني أسترجع أحترامي لنفسي وللآخرين , وأخذت أواجه العالم بثقة لم آلفها من قبل".
" لا شك أنك قطعت كل أتصال مع حياتك السابقة كأميلي لوزار".
" طبعا , فمنذ مغادرتي للقرية وأنا أستعمل أسمي الحقيقي وهويتي الحقيقية , يحيث أنه من المستحيل على خالتي وزوجها أن يعلموا بمكان وجودي".
" أسم جديد , حياة جديدة , ووجه جديد , حتى لو جمعك القدر بعائلة خالتك فلن يكن بوسعهم معرفتك".
" لم أعرف نفسي بعد العملية , تغيرت كليا , فعندما قارنت نفسي بصورتي القديمة كدت أفقد وعيي , سآتيك بالصورة حالا".
وأسرعت جولييت الى غرفتها لتعود وفي يدها صورتها وهي في السابعة عشرة , حدقت بها ماغ مقارنة الصورة بصاحبتها وهتفت قائلة:
" غير معقول , يا له من تغيير فظيع فالوجهان يختلفان الى حد بعيد".
" يمكنك القول أن حادث أصطدامي بالباص كان خيرا علي , فبالأضافة الى وجهي الجديد شعرت أنني حرة طليقة , بقدرتي أن أواجه خالتي أو زوجها أو تانيا أي يوم كان , ولن يعلموا من أكون".
" أفهم ما تعنين , كان شعرك أسود في هذه الصورة".
" ألتقطها دورين وأعطاني أياها قبل رحيلي".
" أهذا يعني أن دورين يعرفك كأميلي لوزار بالشعر الأسود والوجه القبيح؟".
" تماما".
تجهم وجه جولييت وبدت عليه القساوة وعادت اليه النظرة الحاقدة المرة , دورين كوراليس...... لم يغادر ذهنها منذ أن جمعهما القدر ذلك اليوم المشؤوم ... كم تكره ذكراه ولا يتملكها ألا شعور طاغ بالحقد والأحتقار نحوه كلما ورد عل مخيلتها , لا أحد يعلم عمق كراهيتها له ورغبتها بالأنتقام منه في أول فرصة سانحة.... ماذا لو تعرّف على جولييت هاردي الشقراء الساحرة التي أحتضنتها عائلة كريمة وجعلت منها أنسانة سعيدة مطمئنة وواثقة من نفسها؟ فبعد أن قضت أربع سنوات في رفقتهما , توفيا واحدا بعد الآخر وخرجت جولييت الى المجتمع , أصبح لها صديقات عديدات وباتت حياتها مكتملة من كل النواحي ألا الناحية العاطفية , فهي لم تزل تجهل الحب على حقيقته.
لكنها لم تعد المخلوقة الطائشة التي أساء دورين فهمها , وحطم حياتها الأجتماعية في قريتها دورست , وشوّه سمعتها هناك , كان عمله هذا أشبه برمي نعجة للثعالب الجائعة , وبعد رحيله باتت القرية شبه جحيم بالنسبة اليها , لم يعد لها أي صديق , وفقدت مودة وأحترام الجميع حتى السيد غودفري الذي عهدته صديقا دائما يكن لها المودة.
لن تنسى الذي حصل مهما طال الزمن , فالحقد والضغينة اللذان تحملهما أتجاه ذلك الرجل الظالم الذي دمغ علامة العار على وجنتها البريئة , لن يمحوها شيء , لا الأيام , ولا السنون , ولا حتى الأبدية.

🌿اعدني الي احلامي🌿ان هامبسون 🌿 روايات عبير القديمه 🥀 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن