4- العطلة البريئة

2K 34 3
                                    

ما هذا الشك الذي يعتريها, ذلك الأضطراب المعذب في تفكيرها ؟ لم تعد ترغب في شيء سوى التحرر من أندرياس . بالـتأكيد أرادت أن تتحرر منه!.
مر أسبوع على زيارتها الأخيرة لمنزل زوجها . ناضلت خلاله لتستعيد وضوح الرؤية , وكان براين مسافراً يقوم بمهمة لمدة شهر في أنكلترا , مما أثار ضيقه أما شاني فشعرت بموجة راحة تجتاحها لغيابه, فعندما يحين وقت عودته لا بد أن تكون خرجت من سحابة الشك المحيرة التي تحيط بها. ومع ذلك كان كل يوم يمر يزيد من اضطرابها , وفي النهاية اضطرت الى الأعتراف بأن السبب يرجع الى أن أندرياس يقتحم أفكارها الى مدى أبعد مما يريح ذهنها , وكان الشيء الغريب هو أنه مع هذا الأقتحام يأتي الأعتراف التدريجي بنفسها كأمرأة متزوجة , اذ منذ بضعة أشهر كان زواجها يعتبر حالة زائفة سيتولى الوقت مهمة حلها, لكن الآن بدأت تتقبل هذه الحالة , والواقع أنها في احدى المناسبات أخرجت خاتم زواجها من علبته ونظرت اليه مفتونة , وخافت من وضعه في أصبعها ... السيدة مانو...
ولم يفعل المحامي شيئاً أكثر, وعندما اتصلت به هاتفياً آخر مرة قال لها أن هذه الأمور تستغرق بعض الوقت, لكنه مضى يؤكد لها أن الدعوى القضائية سائرة في طريقها , ولا ينبغي أن تقلق مطلقاً.
وعندما سمع براين بتفاؤل المحامي أصر على احتفال سابق لأوانه وصحب شاني الى فندق هيلتون , وأثناء العشاء بذلت محاولات عديدة لأخباره بنبأ استدعائها الى منزل زوجها , لكنها لم تستطع , وهكذا سافر براين الى أنكلتراوهو يجهل تماماً تأكيد أندرياس بأنه هو وحده الذي يملك السلطة لألغاء الزواج.
-" أعتقد أنه بات الآن مستسلماً الى حد ما".
قال براين ذلك بارتياح ينم عن الفوز وهو يجلس مع شاني في السيارة لحظة قبل أن يلقي عليها تحية المساء , وأضاف:
-" لا يمكن أن يحدث شيء آخر على ضوء تفاؤل المحامي الى هذا الحد".
وقالت شاني وهي تتجنب الرد المباشر:
-" قد يكون مخطئاً ... أقصد المحامي, ربما يعتقد أنه من السهل أن يتم هذا كما يجري هنا , فالطلاق في قبرص أمر سهل".
-" للأسف أن هذا لا يحدث في أنكلترا".
رد براين بذلك وقد أخطأ فهم ما تقصده, مما أدى الى تقطيبة حادة على جبينها , اذن فهو يرى أن الطلاق ينبغي أن يكون سهلاً ... وعندما لم تتحدث كرر براين سؤاله:
-" يبدو أنه مستسلم قليلاً ومع ذلك...".
وقال براين بحدة:
-" قليلاً ؟ ماذا تقصدين؟".
-" يجب أن أكون صريحة : أندرياس لا يريد أن يطلقني".
وتجهم براين فجأة وهو يقول:
-" يا له من غبي ! لكنك تصرفت كما لو كان سلم بالأمر".
وبقي ترددها في مناقشة أمر أندرياس, وكادت شاني تطلب من براين أن يعنى بشؤونه الخاصة, لكنها سرعان ما أدركت أن هذا غير منطقي الى حد كبير من جانبها , ومضت تشرح له أن أندرياس يبدو من ناحية مسلما بالأمر الواقع ومن ناحية أخرى , أصبح يبدو كثيراً مستغرقاً في التفكير ومن يدري لعله يدبر خطة ما.
وقال براين:
-" أنك خيالية جداً ... ما الذي يعد له؟".
-" لا شيء ... انني خيالية كما تقول".
-" حسناً ... سواء كان مستسلماً أم لا فأنه سيضطر لأطلاقك , فالمسألة خرجت من بين يديه تماماً".
وفكرت شاني , كم هو قليل المعرفة! وتمنت لو كانت لديها الشجاعة لأخباره بالحقيقة, اخباره بتأكيد أندرياس الحاسم أنها لا تملك أسساً تستند عليها في الحصول على الغاء الزواج.
وبعد رحيل براين بأسبوع أقامت هيئة المستشفى حفل وداع لممرضة يونانية كانت ستتزوج يوم الأحد التالي , حضر جميع الأطباء كذلك الممرضات اللواتي ليست لديهن نوبات عمل, ومن بينهن شاني وجيني, كانت شاني تحظى بشعبية لدى الجميع, ليس فقط بسبب جمالها الفاتن ولكن أيضا لأحساسها العميق بالأمانة والتعاطف , وحظيت بقدر كبير من اهتمام الأطباء , وفي المرات العديدة التي لاحظت فيها نظرة زوجها اليها رأت ومضة التصلب في عينيه , وأخذت ليديا تحوم حوله في ثقة, ومن حين لآخر كانت الهمسات تتردد حولهما.
وأكد دكتور شارالا مبيدز وفمه قريب من أذن شاني :
-" انهما صديقان فقط... لن يتزوجها اذا كان هذا ما تتوقعه ".
ودفع هذا شاني الى الأستغراق في التفكير وضحكت ضحكة رنانة أثارت اهتمام أندرياس بها مرة أخرى. واعترفت بأنه وسيم والتقت عيناها بعينيه وأصبح الأحساس بالقلق قوياً في أعماقها الى درجة أنها تحركت مبتعدة عن المجموعة الصغيرة التي أحاطت بها ووقفت وحدها تنظر من الفناء نحو البحر ثم الى جبال تركيا التي تكتنفها الحرارة ومع ذلك ما زالت مغطاة بالثلوج.
كان ذهنها مضطرباً , لماذا تستاء فجأة من موقف ليديا الذي ينم عن الرغبة في امتلاك أندرياس ؟ أنها تستاء منه رغم أنها ضحكت من ملاحظة دكتور شارالا مبيدز, وفكرت في براين , الذي رحل منذ أسبوع , ولم تفتقده اطلاقاً, وساور شاني احساس بالذنب ازاء ذلك خاصة أنها الآن أصبحت عاجزة عن تصور مستقبلها كزوجة له.
-" ألا تشربين؟".
كان الصوت خفيضاً مهتزاً ومع ذلك كان رقيقاً بشكل ما, واستدارت شاني وقد تسللت الى وجنتيها حمرة الخجل الناعمة:
-" تركت كأسي فوق المنضدة".
وحملها أندرياس اليها وأخذتها منه, يسيطر عليها شعور بالخجل وهي تتطلع الى وجهه , شكرته واحتست الشراب بطريقة آلية وهي واعية لعيني ليديا الداكنتين تنظران اليها.
-" سنفتقد أندرولا".
كانت كلماتها عادية مضطربة :
-" الواقع أنها ... ممتازة".
وتوقف أندرياس عن الكلام وكان فاتراً هادئاً ثم أضاف:
-" ألا نجلس؟".
وجلست شاني على المقعد الذي قدمه اليها , ثم قالت متلعثمة:
-" ستأخذ اجازتك قريباً, هل ستقضيها في بيتك؟".
-" ليس لي بيت يا شاني". كانت العبارة هادئة تماماً ولكنها تحوي لمحة لوم ولا تخلو من الحنين, وشعرت بالذنب, وفكرت بتجهم سريع, لماذا يثير الرجلان اللذان دخلا حياتها هذا الشعور بالذنب؟".
-" انني ذاهب الى جزيرة كوز أتعرفينها؟".
وفقدت لامبالاتها , وبرق في عينيها وميض الشغف وقالت:
-"الجزيرة اليونانية؟ بالطبع أعرفها, كوز , مسقط رأس أبو قراط , أبو الطب".
-" هل زرت الجزيرة؟".
وهزت رأسها وهي تقول:
-" آمل أن أزورها في وقت ما , ينبغي في الواقع أن أذهب الى هناك".
وسأل بابتسامة قاتمة:
-" لأي سبب؟".
وابتسمت رداً على ابتسامته ثم قالت:
-" لمشاهدة الأسكلبيون (1) هذا طبيعي , أعتقد أن كل من يعمل في الطب لديه رغبة في الذهاب الى هناك".
-"الأسكلبيون مستشفى أبو قراط , أتعرفين أنه يجري بناء مركز هناك حيث يمكن للأطباء , من جميع أنحاء العالم أن يلتقوا ويتناقشوا؟".
ولمعت عيناها:
-" مدهش! لا يمكن أن يكون هناك مكان أكثر ملائمة من ذلك في العالم كله لأقامة مثل هذا المركز".
-" بالتأكيد لا يمكن".
وأعقب ذلك فترة صمت طويلة , وشعرت شاني ان احساساً بالتوتر بدأ يتسلل اليها , لكنها لم تكن مستعدة على الأطلاق لسماع كلمات زوجها التالية:
-" لماذا لا تأتين معي يا شاني؟".
وتنفست بسرعة وقفزت الى ذهنها صورة مفاجئة جزيرة كوور الصغيرة وأندرياس يرافقها.
-" هذا مستحيل , وأنت تعرف ذلك".
-" أيمكنك أن تعطيني سبباً واحداً وجيهاً، لماذا تجدينه مستحيلاً؟".
ونظر أندرياس اليها نظرة ثابتة , وازدادت حمرة الخجل في وجنتيها , وطغى عليها اضطراب وتراجع عندما أدركت أن فكرة الذهاب مع زوجها لم تستبعد على الفور من ذهنها , وهمست:
-"لن يكون هذا تصرفا سليماً يا أندرياس".
-" أنك زوجتي يا شاني".
وغمغم بذلك وهزت رأسها مؤكدة رأيها فأضاف عندما لاحظ ترددها:
-" سنذهب كصديقين فقط".
-" صديقين؟".
وتذكرت وحشيته ورغبته الجامحة , ثم تمعنت في وجهه بدقة... أن ما رأته في ملامحه لا يمكن اساءة فهمه . كلمته هي شرفه , ولن ينقضها.
-" انني ... انني...".
واستمرت عيناها الجميلتان تنظران اليه يحولهما الشك الى لون داكن.
-" اجازتي لا تتفق . لا تتفق مع اجازتك".
كلمات ضعيفة وغير مقنعة على الأطلاق, ما الذي انتابها؟
-" أعتقد أن أجازتك تبدأ بعد اجازتي بثلاثة أيام , يمكنني أن أنتظرك".
أيمكن أن تكون تحت تأثير الخيال أم أن هناك لمحة توسل في صوته حقيقة, واستعادت ذكرى اعترافه بأنه بحث عنها, وتعجبت من شخصية هذا اليوناني الأسمر الذي بدأ يقتحم أفكارها رغم جهودها لأبعاد صورته عنها , لكن هذا أصبح مستحيلا, فالواقع أنه كثيراً ما يحتل ذهنها مستبعدا كل شيء آخر , حتى براين, الذ ي كانت جميع أحلام مستقبلها تتركز حوله الى عهد قريب.
-" لا يمكننا بسبب القيل والقال".
-" ليس من الضروري أن يعرف أحد".
قال هذه الكلمات في تردد, وتعجبت شاني لماذا يقيم علاقة مع ليديا اذا كان لا يزال يريد زوجته؟ لكن هل كانت هناك علاقة؟ ان العاملين في هيئة المستشفى يعتقدون ذلك. ولكن شاني لم تقتنع تماماً بذلك.
-" سيعرف الناس, لأننا لا نستطيع أن نجعل هذا سراً مكتوماً , سيرغب كلانا في التحدث عنه عند عودتنا".
ماذا بها؟ سألت نفسها مرة أخرى , أن فكرة قضاء اجازة مع أندرياس لا محل لها.
-" من جانبي لن أهتم , لكنك أنت؟".
وللحظة لمحت حقد الغيرة الأسود في عينيه قبل أن يواصل كلامه:
-"لديك هذا الشاب , هذا (البراين) الذي تعتقدين أن بأمكانك الزواج منه, رغم تأكيدي الحاسم بأنك لن تحصلي على حريتك".
أكمل حديثه بسرعة وكأنه يخشى أن تخونه كلماته:
-" ينبغي لنا أن نحافظ على سرنا".
وفي صمت احتست كأسها يسيطر عليها الشك والحيرة, هل تقضي اجازة مع رجل آخر بينما براين بعيد في الخارج؟".
وهمست بقوة:
-" لا , لا أستطيع الذهاب معك, أرجوك أن تنبذ الفكرة كلها!".
وكان التوتر يملك نفسه , لكنه استرخى الآن واتكأ الى الخلف في مقعده, أشبه برجل غامر وخسر , وتسلل لون رمادي تحت بشرته مختلطاً باللون البرونزي الداكن العميق الذي ورث جزءاً منه واكتسب الجزء الآخر من تعرضه للشمس , وتنهد وهو ينهل من كأسه بعمق:
-" كما ترغبين يا شاني".
-" أنني آسفة".
الشعور بالذنب مرة أخرى , كم تتمنى لو استطاعت أن تطير الى مكان ما بعيداً عن هذين الرجلين اللذين يمزقان روحها ارباً, وفجأة تجهمت , هل كان براين عنصراً هاماً حقيقة في هذه الرواية؟ تضاءل دوره تدريجياً في الوقت الذي أخذ الضوء يتركز على أندرياس بطريقة بطيئة, ولكن مؤكدة, وفي غمرة الصراع العنيف لعجزها عن اتخاذ قرار دفعت يداً مرتعشة بين طيات شعرها , وقالت مرة أخرى وهي تناضل بيأس من أجل اتخاذ ما تراه موقفا مشرفاً:
-" أنني آسفة , انها فكرة مستبعدة أن نسافر معا الى الخارج".
-" أوضحت ذلك بالفعل".
قال ذلك بصوت كان يفتقر لدهشتها الى الخشونة التي توقعتها , واستدار مبتسماً بينما كانت ليديا تقترب منهما.
-" هل أستطيع الأنضمام اليكما؟".
كانت نظرتها الى شاني متكلفة لأن عينيها تركزتا على أندرياس وحده, لكنه نهض وهو يقول أنه ينبغي أن يتحدث مع رئيسة الممرضات , وترك شاني وحدها مع الفتاة, كان واضحاً أن الأمل يراودها في أن تصبح زوجة أندرياس , وساد بينهما الصمت حتى قالت ليديا أخيراً بطريقة مفاجئة:
-" كنت أنت والسيد مانو مستغرقين في الحديث, هل كنتما تناقشان مسائل تتعلق بالعمل؟".
كم هي حركة شفافة ! فكرت شاني في ذلك بقسوة غريبة عن طبيعتها الى حد ما , وردت بلا تحديد لمعاني كلماتها:
-" لم يكن عملاً".
وانتصبت ليديا وابتعدت وعبرت الغرفة للأنضمام الى أندرياس والرئيسة , وبقيت شاني حيثما كانت , لا تريد أن تكون في صحبة أحد وهي في مثل هذه الحالة من الأضطراب, ومع ذلك ابتسمت عندما جاءت اليها جيني بعد ذلك ببضع دقائق:
-" لا تستطيع أن تتركه وحده!".
قالت جيني ذلك وهي ترتمي فوق المقعد الذي خلا بذهاب أندرياس وتركزت عيناها على ليديا التي أصبحت الآن وحدها مع أندرياس.
-" لا أحد يعتقد أنها تستطيع الفوز به, لكنني لست متأكدة الى هذا الحد".
وغص حلق شاني بشيء غريب وهي تقول:
-" لست متأكدة؟ ألديك سبب خاص لهذا القول؟".
-" انها دائماً تحوم حوله, وعلاوة على ذلك اقترحت فعلاً الذهاب في اجازة معه, ما رأيك في هذه الوقاحة؟".
وارتعشت رموش شاني , وقالت بهدوء:
-" كيف عرفت أنها اقترحت الذهاب معه؟".
-" سمعتها للتو".
-" ماذا قالت؟".
-" لكي أنقل كلماتها بالضبط قالت:" أندرياس كنت أفكر أنني أتوق الى زيارة كوز اذن لماذا لا نذهب معا؟".
-" والسيد مانو ماذا قال عن ذلك؟".
خرجت الكلمات بصعوبة نتيجة لجفاف في حلق شاني.
-" لا أدري , لم أستطع الوقوف هناك لمجرد الأنصات الى حديثهما , لقد سمعت ما أخبرتك به وأنا مارة بهما".
وأخذت شاني تفكر ! هل سيوافق أندرياس على اقتراح ليديا؟ ربما... فالذهاب بمفرده لن يسعده كثيراً, لكن لماذا تهتم اذا ذهبا معا؟
مضت أسابيع قليلة فقط منذ كانت تأمل أن يقع أندرياس في حبها ويوافق على الغاء الزواج. أسابيع قليلة, نعم, لكن يبدو أن أشياء قليلة حدثت لها في بحر تلك الفترة, وشعرت شاني بوخز غير واضح في قلبها , اذ ألقت نظرة الى حيث كان الأثنان واقفين, وهما مستغرقان في الحديث , ترى هل يخططان لأجازتهما؟
لماذا لا ينبغي لها الذهاب مع زوجها؟ خطر لها هذا السؤال مرة ومرات في اليوم التالي للحفل , واكتشفت تدريجياً , أنه لا يوجد له رد واحد فقط, لكن شاني ما زالت مترددة , وربما كانت تستطيع مقاومة رغبتها المتزايدة لولا أن ليديا جاءتها في مقهى القرية تلك الليلة , عندما ذهبت شاني لأحضار زجاجة شراب طلبتها جيني , ودعاها صاحب المقهى بالطبع الى فنجان قهوة.
-" أيتها الأخت ريفز".
بادرت ليديا بالكلام بدون مقدمات وهي تجلس على مقعد في مواجهة شاني , وأضافت:
-" بشأن ليلة أمس, كان أسلوبك معي جافاً الى حد الوقاحة وأود أن تذكري أن لي قدراً معيناً من السلطة في المستشفى, ولذلك يجب أن تحترميني".
وردت شاني في الحال, وقد بدأت تتوتر:
-" والدك له سلطة , نعم, أما أنت...".
وتوقفت عن الكلام وهزت كتفيها بلا مبالاة , وهي تنقل يدها من فوق المنضدة عندما وضعت القهوة أمامها.
وقالت ليديا يلهجة لاذعة:
-" أخشى أن تكوني أصبت بالغرور نتيجة الأهتمام الذي يبديه رئيسك نحوك, لكن لمصلحتك أنصحك بألا تنظري الى هذا الأهتمام بجدية, فهو أمر تقتضيه أصول المهنة فقط".
وومضت عينا شاني وشعرت بدافع لا يقاوم في أن تكشف الحقيقة كلها, لمجرد الأستمتاع بمشاهدة دهشة ليديا وذعرها, لكنها بدلاً من ذلك قالت بطريقة عفوية:
-" يبدو أن لديك أسساً لهذا التأكيد؟".
وقالت ليديا في اندفاع:
-" نعم لدي... السيد مانو وأنا مخطوبان".
وأسبلت رموشها لأخفاء تعبيرها ثم أضافت:
-" الواقع أننا سنعلن خطبتنا فور عودته من كوز".
وفكرت شاني في احتقار الفتاة الغبية, كل هذا كان مجرد آمال تراودها , ربما يكون أندرياس مهتماً بليديا, لكنه ما زال مصمماً على التمسك بزواجه, ومرة أخرى شعرت شاني برغبة قوية لكشف الحقيقة لهذه الفتاة لكن, بدلاً من ذلك كان كل ما قلته:
-" من هذا أستنتج أنكما ستسافران معاً؟".
لأول مرة في حياتها كانت شاني تتصرف مثل قطة حاقدة تتوق للأغاظة , هكذا حدثت نفسها , لكن هذه المرأة أثارت بالفعل أسوأ ما فيها .
وجاء الرد السريع من ليديا:
-" من المحتمل أن نذهب معاً".
لكن شاني كانت تعلم أنها قالت هذه الكلمات بلا تفكير , وأن ليديا ندمت عليها بالفعل, ومع ذلك فبينما يبدو , من ناحية, أن أندرياس لم يوافق بعد على اصطحاب ليديا فأن تلك الفتاة من ناحية أخرى, ما زالت تأمل أن يفعل ذلك.
ليديا وأندرياس معا مدة أسبوعين.
لا مجال لتفكير أو تردد بعد ذلك, وبدافع قوي أقوى من الحذر أو التعقل قامت شاني بزيارة زوجها وأخبرته بأنها غيرت رأيها, وأنها على استعداد لمرافقته وكان يجلس وحده, لكن هناك ما يدل على أنه كان يقرأ كتابا أو صحيفة, وعرفت شاني غريزياً أنه كان يفكر تفكيراً عميقاً, الا أنه عندما سمع كلماتها اللهثة وحتى قبل أن يدعوها للجلوس , أضاء وجهه بأعجوبة, واختفت الغضون المرهقة وأصبح وسيماً مرة أخرى.
وسأل بعد ذلك ببضع دقائق وهو يقدم لها شراباً:
-" ما الذي جعلك تغيرين رأيك؟".
وكان طبيعياً أنها لم تستطع أن تخبره, ولكن شاني حتى وهي تفكر في ليديا بدأت تتعجب مما اذا كانت تأثرت تماماً بالحديث الذي جرى بينهما في المقهى, لعلها كانت ستذعن في النهاية لرغبتها الشديدة التي لا تنكر , ويسمح لضميرها أن يموت, وغمغمت وقد بدأت دماء الخجل تزحف عليها:
-" أعجبتني فكرة زيارة كوز".
وارتفع حاجباه دهشة:
-" أهذا السبب الوحيد؟".
وهمست:
-" أندرياس ؟ أنك تعني ما قلته بأننا سنكون صديقين فقط؟".
وضغطت على كأسها فأراحها منها , وبعدها وضعها فوق المنضدة, احتوى كلتي يديها بين يديه ونظر بثبات في عينيها وهو يقول:
-" نعم يا عزيزتي... سوف أسعد برفقتك لمدة أسبوعين كاملين , وينبغي ألا أطلب المزيد".
وعضت شفتيها , وهي مندهشة عندما اكتشفت انها تقاوم دموعها ... هل يمكن أن يكون قد أحبها؟ من الغريب أن تلك الفكرة لم تطرأ لها من قبل, فكرت في ذلك بامعان عندما ومضت ذكرى كلمات أبيها وهو يقول بعد أن وصف لها كيف وقع في حب والدتها من النظرة الأولى. وسيحدث الشيء نفسه لك يا شاني , فسيأتي رجل ذات يوم رائع ويراك ويعرف أنك له.
ونظرت الى يديها وتلك الأصابع القوية السمراء تحتضنها بخفة, وأخذ قلبها يخفق بسرعة بالغة وهي تقاوم هذه الفكرة وتبعدها عنها, وترفض أن تتقبلها كرؤية جديدة , لم يكن حباً ذلك الذي حفزه الى توجيه ذلك الأنذار للأمتلاك؟ لو كان أحبها حينئذ لأخبرها بذلك, وتودد اليها بالطريقة العادية, ولم تكن هناك ضرورة الى ذلك الأكراه الخسيس, ولو كان يحبها الآن فيمكنها أن يخبرها أيضاً , لكن لا , لا يستطيع لأنه يعتقد أنها ترغب فقط استرداد حريتها لتتزوج بشخص آخر, اذن لماذا كل هذا التفكير؟ ومع ذلك كان واضحاً أن رغبته فترت , وعندما ردت مرة أخرى على نظرته بنظرة مماثلة كان الصراع الذي شب بداخلها قد انتهى وابتسمت له ابتسامة صافية وهي تقول:
-" أنني أتطلع حقيقة الى ذلك, الآن بعدما اتخذت قراري".
وقبل يديها ثم أطلقها وهو يقول:
-" سنقضي وقتاً رائعاً نتذكره دائماً".
كان الفندق يطل على البحر, يرتفع عالياً فوق شاطىء ذهبي مهجور, اذ كان الوقت متأخراً نسبة الى الموسم ولا يجذب السياح بأعداد كبيرة, وكانت حجرة شاني المجاورة لغرفة زوجها تواجه البحر, واجتاحتها موجة اثارة وهي تحدق عبر النافذة, هناك يرقد بحر ايجه الأزرق هادئاً جذاباً, بينما تلوح عن بعد جبال تركيا , يكاد يخفيها ضباب أرجواني , وتلمع هنا وهناك بيوت القرية الناصعة البياض وسط الجبال التي تغطيها الأشجار.
وصلا هذا الصباح , ورغم أن الوقت أوائل أوكتوبر( تشرين أول) , كان البحر دافئاً ومغرياً, وأيدت شاني في لهفة اقتراح زوجها بأن يباشرا اجازتهما بقضاء اليوم الأول على الشاطىء , حتى تجد الفرصة للأسترخاء على حد قوله, جلس فوق الرمال على المسافة الممتدة من الفندق الى البحر, وعندما انضمت اليه قالت:
-" لا يمكن أن تكون أفرغت حقائبك, فلم يكن لديك متسع من الوقت".
-" تركت عامل الفندق يفعل ذلك, ألم تطلبي من الخادمة أن تفرغ حقائبك؟".
كان يرقد على جانبه وهو يتطلع اليها , من خلف نظارة سوداء.
-" كان رجلاً , ولم استطع أن أطلب منه افراغ حقائبي".
- " بطبع لم تستطعي.
ونهض... طويلاً ورشيقاً وداكن السمرة. والجراح لا بد أن يكون في كل صحته, ولا شك أن أندرياس يعطيها هذا الأنطباع, سألها:
-" هل أنت مستعدة للسباحة؟".
وأومأت بالأيجاب , وتركت روبها ينزلق على المنشفة الكبيرة التي بسطها أندرياس فوق الرمال, وبعد ذلك بثوان كانا في الماء.
-" انه رائع".
كانت تحلم, تعيش في عالم بعيد تماماً عن الواقع, لكن ألم تقرأ في مكان ما أن كوز قطعة صغيرة من الجنة ذاتها؟ سوف نقيم أسبوعين كاملين في هذه الجنة, وعقدت العزم على أن تستمتع بهما, أن تضحك وأن تسعد مع زوجها... الزوج الذي لم تعد تخشاه.
وبعد الغداء عادا الى الشاطىء , وفي المساء تناولا العشاء ورقصا في الفندق, وكانت جميع النوافذ مفتوحة, ومن خلالها هبت نسمات كانت تكسب الدفء بمرورها فوق البحر, وتعبق برائحة ذكية من نباتات الدفلى والياسمين التي تنمو في حدائق الفندق.
وكانت الساعة تجاوزت الثانية صباحاً عندما اعترفت شاني أخيراً , وفي تردد , بأنها متعبة.
http://www.liilas.com
-" طابت ليلتك ... يا زوجتي الفاتنة".
وقبلها أندرياس بخفة على جبينها, بدون أن ينبس بكلمة أخرى وتركها الى غرفته وأغلق الباب خلفه, وكانت شاني لا تزال عند باب غرفتها عندما أحكم الرتاج في مكانه.
وفي اليوم التالي ذهبا الى الأسكلبيون بسيارة أجرة, لكن الزوار القلائل الذين حضروا هناك كما يبدو على دراجات , وعندما علقت شاني على ذلك أخبرها أندرياس بأن ركوب الدراجات شيء مألوف دائما لدى زوار الجزيرة وقال:
-" الطرق جميعها ممهدة, كما ترين , تحف بها الأشجار المزهرة والشجيرات الجميلة مما يناسب ركوب الدراجات كما أتصور".
وسألت:
-" هل يستأجرونها؟".
وأومأ بالأيجاب وبرقت عيناه بالسرور وهو ينتظر النتيجة وأردفت:
-" هل يمكننا...".
لكنها هزت رأسها ... أندرياس فوق دراجة! وأكملت:
-" لن يعجبك هذا بالطبع".
-" على العكس , سأستمتع به كثيراً, فالمرء لا تتاح له الفرصة كثيراً لمثل هذه الرياضة الصحية".
وعندما وصلا الى المكان الأثري سأل سائق سيارة الأجرة:
-" هل أنتظر؟".
رد أندرياس:
-" لا أعتقد ذلك , فسنبقى هنا فترة طويلة".
ثم استدار الى شاني وهو يقول:
-" هل أطلب منه أن يعود الينا أم سنعود سيراً على الأقدام؟ هذا أمر متروك لك".
-" ليست المسافة بعيدة, كما أن الطريق منحدرة نحو سفخ التل , دعنا نسير؟".
كم كان الأمر كله طبيعياً , أندرياس يشاورها , عفواً, وهي تعرب عما تفضله, مثل أي زوجين عاديين , فكرت في ذلك وبينما هي تبتسم لنفسها تصادف أن أندرياس لمحها فسأل :
-" لماذا كانت هذه الأبتسامة؟".
-" ماذا؟".
-" الأبتسامة , تعرفين ما أتحدث عنه".
وخفضت عينيها فجأة مراوغة , لكن يده الرقيقة تحت ذقنها رفعت رأسها ثانية , فقالت متلعثمة:
-" كنت , كنت أفكر".
-" في أي شيء؟".
وضحكت ضحكة قصيرة تنم عن الخجل , ثم هزت كتفيها هزة الأستسلام وقالت:
-" كنت أفكر في أننا نبدو وكأننا متزوجين حقيقة".
واتسعت حدقتاه وهو يقول في رقة ولكن بحزم:
-" اننا متزوجين حقيقة يا عزيزتي, قلت أن هذه الأجازة ستكون وقتاً سنذكره دائماً , وأنوي أن أجعلها كذلك تماماً, لكنها هدنة فقط, واذا كنت , بعد أن تنتهي , لا تزالين تريدين حريتك فسنعود من حيث بدأنا".
وأطلق ذقنها , لكنها استمرت تنظر اليه, بعينين واسعتين مستديرتين , وقد انفرجت شفتاها وأخذتا ترتعشان بخفة, وأضاف:
-" أنك زوجتي يا شاني , ولن أدعك تفلتين مني أبدا".
اذن كانت النعومة ولمحات التدليل اللأهية التي لقيتها منذ غادرا قبرص مجرد جزء صغير من قناعه الخارجي , فهو أساساً , صلب وعنيد , رجل لن يمكن اطلاقاً اقناعه بالتنازل عن سيطرته , ويجب ألا تنسى ذلك اطلاقاً , كما أخبرها.
وأخذ يدها في يده وضغط عليها بخفة وهو يقول:
-" أي شيء يواجهنا في المستقبل يمكن معالجته في حينه , أما في الوقت الحاضر فينبغي ألا تعكر أية لمحة من الخلاف صفو لحظة واحدة من هذه الأجازة".
أي شيء يواجهنا في المستقبل... أسرعت دقات قلب شاني لأنها أحست تحذيراً ماكراً في تلك الكلمات التي قيلت بسرعة:
-" أندرياس ؟".
-" عزيزتي؟".
كانت أصابعه تلتف قوية حول أصابعها وهو يقودها بتؤدة نحو مستشفى أبو قراط, حيث أعيد بناء معظمه كما أعيدت اقامة بعض الأعمدة بعدما انهارت بسبب الهزات الطبيعية . ثم أردف:
-" ماذا هناك؟".
وابتسمت قائلة:
-" لا شيء , لا شيء على الأطلاق".
وبعد ذلك بفترة وجيزة وما يتجولان نحو حرم اسكابيوس, انه العلاج والطب اليوناني, سألت شاني بفضول فاتر اذا كن أندرياس ملماً بتاريخ المكان, فلم يكن هناك فيما يبدو , أي مرشد وأضافت:
-" أنني أعرف القليل, لكنه لا يكفي لشرح كل شيء".
-" أعتقد أنني أعرف معظم التاريخ, فيما بيننا يمكننا أن نلم بما حولنا, لأنني أرغب في أن أتجنب المرشدين لو أمكن فالمرء حيثم يجد المرشدين , آليا يجد السياح".
وكما هو الحال بالنسبة الى جميع الأماكن المقدسة اليونانية كان هذا المكان مهيباً , بني في غابة أبوللو(2) المقدسة, قبل ميلاد المسيح بأربعة قرون, وتحف بلمكان كل أشجار السرو والنخيل وأدغال نباتات الدفلى وشجيرات الخبازي القرمزية, بينما على مسافة بعيدة يوجد السهل الذي تنتشر فيه الأشجار , يمتد نحو مضيق هاليكا رناسوس , وخلف ذلك يمكن رؤية سواحل آسيا الأرجوانية.
وكان لا يزال ممسكاً بيدها, وبدا كأنه يساعدها برقة, برغم أن شاني لم تكن بحاجة الى المساعدة, وأدت درجات أعرض من الحجارة الى معبد اسكلبيروس سليل أبو قراط, الذي ينحدر هو نفسه من أبوللو , اله الشمس.
قال أندرياس عندما أخذا يرتقيان درجات السلم:
-"هناك ثلاثة مسطحات, الأعلى بني أولاً , ولذلك سنبدأ من هناك".
وعلقت شاني:
-" لا يمكنني أن أفرق بين الخيال والواقع , لو أن أسكليبوس كان اله وأبو قراط رجلاً، اذن كيف يمكن أن تكون بينهما صلة؟".
وضحك أندرياس وهو يقول:
-" لم تكن هناك صلة بينهما, لكن اليونانيين القدامى كانوا يحبون أن يعتقدوا أنهما كذلك, ووبما أن أحداً لم يجادل في هذا المجال فقد أصبح مقبولاً, بصفة عامة, أن أبو قراط ينحدر من سلالة العلاج, وتذكري أن أساليب أبو قراط كانت جديدة وثورية الى حد أن اليونانيين القدامى اعتقدوا آلياً, بوجود قوى خارقة للطبيعة فيه".
-" أجل أظن ذلك, وما لا يمكن تصديقه تماماً لأن أفكاره التي ابتدعها منذ أكثر من ألفي عام لا تزال مقبولة اليوم".
وهز رأسه وهو يقول:
-" الهواء النقي والطعام البسيط , التمرينات الصحية والتمتع بقدر كاف من الراحة, أنت محقة تماماً، فأن أساليبه تتفق وما نسمعه في القرن العشرين".
وسادهما الصمت وكل منهما يفكر في حياة الرجل الموقر الذي منح الطب المثالي للعالم, بذكائه ومهارته البديهية , أحد مكتشفي الحقيقة الأساسية, أكثر المبادىء الذي يقول أن في داخل الجسم الآدمي يوجد طبيب طبيعي منهمك في مهمة الوقاية , كان أبو قراط دائماً واعياً لحقيقة أن نجاح الطبيب يعتمد على مساعدة هذه الوقاية التي ترجع للطبيعة.
-" كان أول رجل يتغلب على أعمال السحر والشعوذة".
غمغمت شاني بأفكارها بصوت عال, لكن أندرياس بدا كأنه لم يسمعها والتزم الصمت ثانية, وهو يفكر في توسع المستشفى , وكيف سافر المرضى من جميع أنحاء العالم القديم للعلاج في هذه البقعة المنعزلة التي يسودها السلام, وقد درس أبو قراط نفسه في معبد أسكاليبوس وأصبح فيما بعد طبيباً متجولاً, وزاد من معلوماته ومهارته العلمية قبل أن يعود الى مسقط رأسه في جزيرة كوز.
وهناك بنى معبداً هائلاً للطب, وسرعان ما عرف مستشفاه بوصف أول كلية طبية حيث يمكن للطلبة دراسة الطب بطريقة عملية, وتحت اشرافه أصبح معبد أسكاليبوس معبدا للفن, بالأضافة الى كونه مكاناً للعلاج والعبادة, وكانت نظرية الطبيب العظيم أن توازن العالم الداخلي للأنسان شيء أساسي لصحته .
وهكذا بتوجيهات أبو قراط ابتكرت فنون خلاقة زادت الجمال الطبيعي للمكان , وصارت منسجمة معه تماماً , فانتثرت على الأرش تماثيل البرونز والمرمر, أجملها وأعظمها تمثالا أسكاليبوس وأبوللو ثم أفروديت (2) الجميلة ومن خلال تعاليمه ونظرياته الثورية وضع أبو قراط أسس التفكير العلمي الذي أثر على رجال الطب في جميع أنحاء العالم طوال ألفين وخمسمائة عام.
وأخيراً جاء رد أندرياس على ملحوظة زوجته:
-" كان رجلاً رائعاً بالتأكيد , حتى يمينه بقي , وأصبح كل خريج طب يقسم به".
يمين أبو قراط... رددت شاني , بعض عباراته: النظام الذي سأتبعه سيكون لصالح مرضاي طبقاً لقدراتي وأحكامي , وليس لأذاهم أو الأضرار بهم , ولن ألحق اطلاقاً الأذى بأي شخص و ولن أصف أي دواء ضار ربما يتسبب في الوفاة حتى لو طلب مني ذلك, وسأحافظ على نقاء حياتي وفني , وألقت شاني نظرة على زوجها الذي ضاقت عيناه في مواجهة وهج الضوء وهو يلتقط ما تبقى من معبد أسكاليبوس الشهير, كم هو طويل ومستقيم , نظيف وتبدو عليه بوادر الصحة ذهنياً وجسدياً.
أيمكن لرجل مثله أن ينغمس في علاقة حب؟ هل كانت ليديا حقاً من أولئك الأصدقاء الذين يمكن أن يرتبط بهم كما يعتقد بعض أفراد هيئة المستشفى في لوتراس؟ ساور شاني الشك في هذا , الآن... سأحافظ على نقاء حياتي ! قد يكون يونانياً ومفطورا على حب الطبيعة, لكن شاني . اذ كانت تراقبه وهو مستغرق ذهنياً في استعادة المنظر القديم , لم تستطع أن تصدق أنه من الممكن أن ينسى اليمين لحظة واحدة على الأطلاق.
وأفلت يدها وهو يومىء قائلاً:
-" أنظري فقط الى هذه الدرجات ... أنها من المرمر الأسود".
-" أنها جميلة , لا بد أنهم نقلوا المرمر من مسافة بعيدة".
هز أندرياس رأسه , وأخبرها بأن صخور سلسلة الجبال في الجزيرة تحوي كميات من هذا المرمر الجذاب ثم أضاف:
-"كان حظهم سعيداً لأن المرمر كان هاماً للغاية في أيام أقامة هذا النوع من البناء المعماري".
والى جانب هذه الدرجات كانت هناك آثار رواق أمامي وعدة أعمدة, ولم يبق شيء من معبد أسكاليبوس الدوري (4) العجيب, وتحدث أندرياس في أسى عن الهزات الأرضية العديدة التي تتعرض لها الجزيرة.
وتجولا بين الأطلال ... كانت مجرد بقايا عظمة زالت منذ أمد طويل , وشاهدا أساسات لما يمكن أن يكون بيوت الأطباء وشقق الممرضات , وسألت شاني عندما أتتها الفكرة:
-" هل كان المرضى يضطرون لدفع نفقات علاجهم؟".
-" لا, لكن في معبد أسكاليبوس كان هناك مذبح للشكر, وكان الناس يضعون النقود في الصندوق المخصص لذلك, وكانت الأموال موهوبة, لكنها بالطبع أنفقت في صيانة المستشفى".
وعلى المسطح التالي معبد صغير أيوني الطراز, وآثار فيللا رومانية قديمة , وجزء من معبد كبير آخر , وتوقفت شاني لتحدق في المنظر الأخاذ المحيط بها, وسبقها أندرياس , وعندما استدار وجدها تقف هناك , تبدو صغيرة وفاتنة حيال الأعمدة المرمرية الكورنتية (5) البيضاء الشاهقة, ستة أعمدة أخرى تقف شامخة واضحة تحت سماء اليونان الصافية , بينما تبدو من بينها عن قرب أشجار السرو الرشيقة الساكنة وسط هدوء الجو المعطر بأريج الأزهار.
-" قفي دون حرك".
قال أندرياس ذلك وهو يمسك بآلة التصوير ويلتقط لها صورة, ثم أذن لها بانتسامة , بأن تتحرك وتتقدم نحوه , وأغلق علبة آلة التصوير بعناية بدت غير ضرورية , ولسبب غامض غص حلق شاني , وحاولت قراءة أفكاره لكن وجهه كان يعلوه الجمود المعتاد اياه, واختفت عيناه تحت نظارتين سوداوين.
وعلى المسطح المنخفض , حيث وصلا بعد نزول السلم الواسع , كانت نافورة الشفاء... لا تزال تندفع مياهها كما كانت أيام أبو قراط, وبما أن كليهما شعر بالعطش والحر في ذلك الوقت أخذا يشربان مياهها المتلألئة , وجفف أندرياس يديها ثم يديه , وفجأة شعرت بأنها قريبة منه الى درجة لم تكن تصدق اطلاقاً أنها ستحدث وقال:
-" أخبريني عندما تشعرين بالتعب يا شاني, هلا فعلت؟".
وكانا يقفان عند قاعدة بعض الدرجات القديمة الضعيفة , حيث توقفا غير متأكدين اذا كان ارتقاؤهما مسموحاً أم لا , كانت على مقربة من المباني الرئيسية , ويبدو أنها تؤدي فقط الى مكان مغلق, وأضاف:
-" يمكنني أن أمضي لكن أنت, لا أريدك أن تتعبي".
لمحة اهتمام في صوته لا يمكن أن يخطئها أحد, ورقة في عينيه وهو ينظر اليها في قلق, وهزت رأسها وقد فاضت نفسها بالسعادة... سعادة جعلتها تتساءل عما سيكون عليه نتيجة هذه الأجازة, وردت بضحكة صغيرة مرحة.
-" فضول الأنثى يجتاحني , وينبغي أن أرى ماذا هناك في قمة هذه الدرجات".
واستجاب أندرياس لحالتها المعنوية وقال موافقاً:
-" أذن هيا بنا, ولو تجاوزنا الحدود وأمسكوا بنا فعلينا فقط أن نعترف بالجهل ونعتذر بتهذيب".
وعندما وصلا الى قمة الدرجات قابلت نظرهما أرض خلاء تكثر فيها الشجرت, وخزنت فيها أكوام المباني المهدومة التي أخرجت من جميع أنحاء المناطق المحيطة بهذا المكان الأثري الرائع, السكون مطبق على المكان , وبينما كانا يخطوان بين قواعد الأعمدة والتماثيل المهدمة شعرت شاني بأنها أصبحت جزءاً من ذلك الفقر الكئيب الغريب , وهمست وهي تقترب بلا وعي الى جانبه:
-" أنه ... مكان مروع... هل تشعر بهذا؟".
وقال موافقاً وهو يلف ذراعه حول كتفيها:
-" انه مكان موحش فعلاً, لكن ليس هناك ما يدعو الى الخوف, ان النباتات التي تنمو أعلاه تحجب الضوء وهذا هو كل ما في الأمر".
وقالت وهي تتلفت حولها:
-"قد يكون مقبرة؟ أعتقد أن بعض المرضى دفنوا هنا".
-" ليس في المناطق المقدسة , لم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه هنا".
وحملقت مذهولة وهي تقول:
-" لا بد أن تكون حدثت وفيات , حتى أبو قراط العظيم لم يكن في وسعه أن يشفي جميع الحالات".
-" عندما كان يكتشف أن مريضاً مصاباً بمرض لا شفاء منه, كان أقاربه أو أقاربها يستدعون ويطلبون منهم أخذ المريض ".
-" كانت هذه قسوة, أليس كذلك؟".
-" حسب طريقة تفكيرنا نعم, لكن تذكري أن الأسكالبيون كان مكاناً مقدساً , ولم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه داخل نطاق أي مكان مقدس".
وظهر مبنى حديث الى حد ما من خلال أغصان الشجر, واتجها بخطواتهما نحوه, وكان الباب مفتوحاً على مصراعيه, ولهثت شاني قليلاً وهي تلقي نظرة حولها وقالت:
-"ما هذه؟ انظر لوحات عجيبة, وجميعها مغطاة بالكتابة, لا بد أن عددها يتجاوز المئات".
وكان هذا صحيحاً تماماً , فكانت جميع الجدران مغطاة بهذه اللوحات الى جانب أعداد أخرى مكدسة على الأرض , وكان معظمها من المرمر الأبيض, والكتابة واضحة عليها مثل ضوء النهار, حفرت في الحجر.
وردد أندرياس:
-" مدهشة! , لا بد أنها دفنت أثناء احدى الزلازل المبكرة, لأنها لم تتعرض للتآكل من أثر العوامل الجوية".
-" ماذا تقول الكتابات؟".
وبينما كان أندرياس يقرأ الكتابة اليونانية القديمة, كان يهز رأسه بين الحين والآخر ثم قال بايماءة أندهاش وهو يدق على احدى اللوحات:
-" هذه رسائل شكر الى الأطباء والممرضات".
وحدقت غير مصدقة:
-"تماماً كما يحدث الآن, كثيراً ما أتلقى خطابات شكر, وأعتقد أنك تتلقى أيضاً"
وأومأ بالأيجاب ثم قال:
-" أن صنعها جميل للغاية, انظري الى هذه, وكيف نقشت الكتابة على أطرافها".
-" ماذا تقول؟".
-" أنها موجهة الى طبيب لشكره على العلاج الناجح وتقول(لأنك خففت عني المرض الذي عانيت منه سنوات)".يمضي الكاتب ليخبر الطبيب بأن قرباناً وضع على المذبح في عصر أسكاليبوس.
وتفحص عدداً من اللوحات الأخرى وهي مندهشة قبل أن تقول في صوت ضعيف تشوبه الرهبة.
-" تصور أننا نقرأ هذه الرسالة بعد ألفين وخمسمائة عام...".
وتوقفت عن الكلام متجهمة ثم قالت:
-" هذا يجعلك تدرك يا أندرياس , الى أي مدى حياة الأنسان قصيرة".
وكان عند الطرف الآخر من القاعة , يطوف بعينيه حول لوحة نفذت بشكل جميل بصفة خاصة, لكن عند سماعه كلماتها استدار وعاد اليها, ووضع يدين رقيقتين على كتفيها ونظر بعمق في عينيها ثم قال:
-" الحياة قصير يا عزيزتي, ولذلك فهي ثمينة للغاية , ويجب علينا ألا نضيع لحظة منها".
كلمات وقورة قالها برقة بالغة, ولمسة رقيقة على ذراعيها , أثارت داخلها عاطفة لم تعرفها من قبل على الأطلاق, وفي ومضة ذكرى مرت أمام عينيها تلك السنوات الخمس, التي مرت منذ زواجها, خمس سنوات كان من الممكن أن تقضيها كزوجة لهذا الرجل الذي أثرت فيها حكمته ورقته بقوة الى حد أن القسوة التي أبداها نحوها بدأت تخبو , ولم يعد لها أهمية , وابتسم وهو يربت على خدها بمرح ويقول بخفة:
-" كم نحن جادان , دعينا نوجه اهتمامنا الى الأشياء الطيبة في الحياة , هل أنت جائعة؟".
-" أكاد أموت جوعاً".
قالت ذلك وهي تضحك, وبحركة لا واعية تماماً دفعت ذراعها في ذراعه وهبطا معا درجات السلم واتجها نحو البوابة المؤدية الى الطريق عائدين الى المدينة.

الأمواج تحترقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن