الفصل الرابع و العشرون

5.3K 161 0
                                    

معضلة
أن تود شيء وترفضه في ذات الحين!!
أم ربما تلك هي الحقيقة المجردة..
مثل حقيقة ظهوره بأحلامها كل ليلة.. وتلك معضلة أخرى تحدث رغماً عنها!
وتلك هي المرة الأولى التي يحادثها فيها من منزله..
غرفته.. شراشف معطرة بحب أمه وصورة جيتار!
حمزه الآخر..
ابتسم لصمتها..
مجرد وجودها يعطيه اختلاف..
يحتاجه!
ألا يحق لنا أن نستبدل تلك العبارة المستهلكة
"أحبك"!!
لما لا تكون "أحتاجك"؟!
أو ربما "أتنفسك"!!
أو ربما فقط نختزلها لصمت..
وفي حالته تلك يختصر الصمت أشياءً كثيرة ربما لا يجب أن تُقال!!
وعندما غاب حضرت هي, بهمس مشوش:
حمزه؟...
وكأنها أجفلته..
ربما قطعت صمتاً ممتعاً, أردف ببطء ماكر بعد وهلة:
عيون حمزه..
يكاد يجزم أنه يرى توتر مقلتيها, ولم تجبه فتابع بمشاكسة:
مش عاجباكِ "عيون حمزه"!.. طيب نقول "قلب حمزه"؟!
ولم تعلق أيضاً ويُجزم كانت مُغتاظة, فزاد بنبرة مبحوحة:
روح حمزه!!
لتزعق:
حمزه كفاية!
ارتشف البعض من مشروبه الدافيء وكتم ضحكته متابعاً:
خلاص فهمت.. ما بتحبيش كلام الحب والجو ده..
وردّت بجدية:
أيوة.
رفع حاجبيه مستسلماً:
أمرك
ثم اجتاحت شفتيه ابتسامة ماكرة من الجيد أنها لم ترها:
افتكري بس إن أنتِ اللي قررتِ!!
وزمت هي شفتيها ولم تجبه.. وكأنها هي من ستتوسل لكلمات العشق مثلاً!!
ارتشف البعض من مشروبه مرة أخرى ليتابع بجدية:
أنا هحدد ميعاد مع عيلتي وأبلغك.
وفجأة دون مقدمات جاء منها استفسار وربما اتهام:
وعيلتك هتوافق على الجواز بالسرعة دي؟
صمت تلك المرة ولكن ليس استمتاعاً بل غضباً..
والنبرة بعد الغضب تختلف, وهي اختبرت غضبه من قبل ولم يكن جيداً على
الإطلاق..
أنا ما حدش بيراجعني في قرارتي يا ليلى.
ما هذا؟!..
هل عشق دور الدكتاتور فقرر تطبيقه!!
قاطعته بغضب:
يعني إيه؟
أجاب بجمود:
زي ما سمعتِ!
سألته بنفس الجمود:
ووالدتك؟
شرد لوهلة ليتحدث دون تعبير واضح:
والدتي بتثق في حكمي.
وصمتت فتابع بنفس النبرة:
عقبالك!
لترفع عينيها في تمرد لم يلمحه..
أيهما يودّ..
ليلى الخاضعة أم المثابرة؟!!
وأردف هو بجملة أخيرة:
يومين وهابلغك بالميعاد.. بس هاتفق مع نبيلة.
ولم يدرك أن نبرة صوته تغيرت لبهجة خاصة..
فمهما مر الوقت ستظل هي حبيبته الأولى
وبهجته الخاصة
"نبيلة"
**************
عوينات كبيرة لحد ما وبشرة بيضاء شاحبة وشفتين رفيعتين فوق ذقن حاد
ووجنتين حمراوتين على الدوام..
صيف.. شتاء..
مر بجانبها وكانت ما زالت بالمطبخ ترص فوق إناء ما مكعبات منظمة من
الملبن وتحادث جارتها عن وصفة جديدة لعجينة بسكويت بالزبد..
مد يده فجأة ليقرص إحدى وجنتيها وهو يغمز لها في مزاح:
أكلك منين يا بطة!
تركت الهاتف لتزجره هامسة:
اختشي يا واد!!..
وضحك بشدة حتى كاد كوب الشاي الثالث هذا المساء أن يحرق يده, تركت
الهاتف وجارتها وتوجهت نحوه تحمل منشفة مبللة وتملس فوق يديه موبخة:
ما فيش فايدة فيك أبداً..
ثم سحبت الكوب من يديه لتسكب فوقه بعض الحليب متابعة بجدية:
ما فيش شاي سادة بالليل..
ولم تنظر نحوه, فهي غاضبة وبشدة..
يظهر دون مقدمات ليخبرها أنه سيتزوج, واختار العروس
وخلال شهر!
أي ابن مجنون أنجبت..
تركته وعادت لقطع الملبن خاصتها فجاورها ليمد يده نحو واحدة ثم أخرى وهو
يسألها:
إيه ده؟
ضربت يده قبل أن يأخذ الثالثة:
ملبن الكحك..
علت ملامحه دهشة:
كحك!.. هو العيد جه؟
نظرت نحوه بغيظ:
كحك نشوى بنت طنط هناء هتتجوز كمان أسبوع!
غافلها ليأخذ أخرى:
حلو ملبن كحك نشوى بنت طنط هناء اللي هتتجوز الأسبوع الجاي
رمقته بجانب عينيها ثم تجاهلته من جديد..
وعندها دخلت الصغيرة حبيبة..
وحبيبة هي ابنة أخته الكبرى حنان ومنذ توفى والده وسافر زوج حنان لإحدى
الدول, وهي تمكث وأولادها مع والدته..
إزعاج محبب بأربع شياطين أثاروا جنونه..
يصرخ ممازحاً:
هو أنا طفشت من شوية!
ثم رفع الصغيرة ذات الثلاث أعوام فوق كتفه وناولها قطعة من الملبن:
صاحية لغاية دلوقتِ ليه يا بيبة؟
ضحكت الصغيرة:
صاحية مع توتا!
وحينها ضحكت نبيلة لحفيدتها لتأخذ قطعة أخرى من الملبن وتضعها بفمها:
كلي يا حبيبة توتا..
جلس ووضع حبيبة فوق قدميه ليميل جانبها هامساً:
وحبيب توتا ما ياكولش!
تنهدت بضيق ثم استدارت له جاحظة:
تبقى العروسة تأكلك!
كتم ابتسامته:
أنت اللي في القلب يا جميل..
استدارت وأخذت الصغيرة منه لتناولها في يدها قطعة أخرى من الملبن ثم
أخرجت أخيراً كل الغضب:
اسكت خالص.. واخدنا ديكور وقررت وفكرت وجاي تقول قلب.. قلب إيه بقى!
ثم لوت شفتيها مُكملة:
بس هقول ايه!.. طول عمرك رأيك من دماغك..
كان يرتدي تي شيرت قطني قديم برسمة جيتار فوق سروال قصير بلون غامق
وخصلاته مشعثة بعض الشيء..
فرك رأسه بيأس ثم ابتسم قبل أن يأكل قطعتبن متتاليتين من الملبن ويجيبها
بخبث:
طالع لك!
التفتت نحوه رافضة:
نعم!
أومأ هو بثقة:
مين اللي اتحدت الكل واتجوزت زميلها في الجامعة قبل ما يخلصوا وقدرت
تقنع باباها؟!
فركت جبهتها غير مصدقة:
أنا ما اتجوزتش في شهر..
أجابها ببديهية:
المبدأ واحد!
أجابته هي باعتراض:
أنا ما اتجوزتش في شهر..
وردّ هو تلك المرة بجدية ودون قطع ملبن:
بحبها..
وكادت أن تضعف.. حمزه يحب..
وأخيراً ولكن.. لا..
هي ليست راضية..
تذمرت:
الحب مش كفاية..
وأدار وجهه..
ليشرد قليلاً ثم يعود بجواب آخر.. وأغرب:
عارف!
ونظرت نحوه لا تفهم..
ابنها لم يبتعد فقط في ليلة الحريق المشؤومة..
وكأن كل ليلة له في هذا الميناء البعيد بدلته أكثر..
ابتسم لحبيبة ليقرب أنفه من أنفها الصغير ويضربه بحركة ممازحة اعتادها
معها ثم قال بمزاح ودّ أن يهرب به من النقاش:
ايه رأيك تتجوزيني أنتِ كمان يا بيبة؟
لتنطق الصغيرة من بين مكعبات الملبن في كلتا يديها:
أناااا اتجوز حمزه..
فتهكمت الأم بغيظ امرأة:
كلهم عايزين يتجوزوا حمزه!
وحينها ضحك هو:
يا ريت.. حد يرفض النعمة!
رمقته باغتياظ مجدداً فهمس دون ترتيب:
بس ليلى مش موافقة.
استدارت وعلى وجهها دهشة:
إيه؟!
نظر نحوها مؤكداً:
ا رفضة الجواز السريع زيك بالضبط.
ثم ضيق عينيه في إصرار:
بس ده قراري أنا..
وهذا هو ابنها الذي كانت تقرا دواخله في لحظة الآن لا تتبين من ملامحه
شيئاً..
حتى تلك الملامح لانت من جديد على الفور بابتسامة للصغيرة وحملها فوق
كتفيه من جديد ليرحل وهو يرمق الطبق الفارغ ويغمز مجدداً بضحكة هادئة:
على فكرة إحنا خلصنا ملبن كحك نشوى بنت طنط هناء اللي هتتجوز الأسبوع
الجاي
وتركها وآخر ما تفكر به الكعك وحشوه..
فهناك الأهم
حمزه..
**************
"أنا لا أحبك لما أنت عليه, وانما لما أنا عليه عندما أكون معك.. أنا لا أحبك
فقط لما صرتِ إليه, ولكن لما صيرتيني إليه.. أنا أحبك بسبب هذا الذي كان
في أعماقي ثم أخرجته أنتِ إلى السطح"
"أنيس منصور"
هناك تفاصيل كثيرة تمر أمامها وهي صوت خافت, تشاهد من بعيد وعقلها بعالم
آخر له ومعه..
تميمة مبتهجة ورقية مشغولة بألف أمر..
وأتتها حين صباح...
بوجه أحمر ومستدير وطبق ساخن من كيك البرتقال
"حمزه حيتجوز"
"مبروك"
ولا تعلم لمَ خرجت منها فاترة ولكنها حقاً لا تهتم كما لم تهتم بسماع تفاصيل
مبهمة عن العروس وأمه التي استنفذ منها كل طاقة حبه كالعادة وأقنعها أنه
سيتزوج بشهر!
رقية كانت في عالم آخر..
منشغلة بكل شيء سوى نفسها..
كعادتها!
زواج حمزه..
وحفلة عيد مولد خالد التي ترتب لها من الآن رغم أنه بعد شهر ونصف..
و..
نطقت فجأة وقد دمعت عيناها دون سبب واضح تفهمه رقية:
بس خالد هيكون مسافر!..
لم تستوعب رقية, فخالد لا يحبذ الحفلات والضوضاء بالفعل ولو حضر فسينفرد
بحسن في الشرفة أو يغادر مبكراً..
وبعيداً عن أفكارها كررت إيناس ببكاء أقوى وهي تحرك رأسها رافضة!
خالد هيكون مسافر..
............
وفي المساء كان الصداع ما زال متمسكاً بها كلهفة عاشق على معشوقته..
حتى مع ابتلاعها لحبوب قوية من المسكن لا شيء..
ببساطة قاتل..
جاورها ليطفأ المصباح الجانبي ويكتفي بالضوء الخافت من النافذة:
تميمة نامت؟
أومأت مجيبة بصمت ثم أغمضت عينيها ولكن دون أن تضع رأسها فوق
الوسادة, فقط رأسها مستندة على حافة الف ا رش وملامحها متعبة بشكل واضح,
تأملها بابتسامة:
لسه الصداع؟
أومأت بإيجاب مرة أخرى دون أن تحرك لسانها, نقر بسبابته فوق وجنتها:
مخاصماني!!
ضمت حاجبيها ثم استادرت نحوه متذمرة:
هتسافر وتسيبني وأنا تعبانة!
اقترب منها وقد ضم جسدها نحوه وأسند هو أيضاً رأسه على حافة الفراش:
هتفضلي تعبانة لغاية ما أسافر
اومأت بإيجاب مجدداً وكان طفولياً.. للغاية
تنهد بتعب:
إحنا مش اتكلمنا في الموضوع ده قبل كده؟
رفرفت أهدابها بلهفة:
نتكلم تاني!
وحينها شرد..
شرود واكب تحرك عيناه ببطء على تفاصيلها..
عيناها.. شفتيها.. شعرها.. جيدها
رونق العسل الذي أيقظ قلبه..
تذوقه لشفتيها أول مرة..
تذوق أربكه ثم صدمه بالحقيقة التي ظل يحاربها لوقت ليس بهين
أنه عاشق.
شعرها..
ألا تتذكر هي؟..
أول مرة, حينما جذبها من أمام رعد ليغوص بأنفاسه داخل تلك الخصلات
عبق البندق..
وأخيراً جيدها, وتلك البؤرة الساحرة التي تحمل كل جنونه..
رفع بصره نحوها بابتسامة غامضة:
يا ريتك ظهرتِ من زمان..
ثم تابع بصوت خافت:
قبليهم كلهم.
ولم يعطها فرصة لترد..
كان يود أن يقبلها في تلك اللحظة, قبلة لا منتهية..
لا تحمل فقط نكهتها..
امرأته
بل تحمل كل ذكرى وكل تفصيلة صغيرة معها..
تحمل عاطفة لرجل كان لها هي فقط وبها..
تحمل غضب وشوق وتملك وتشبث وامتزاج!
النصف والنصف الآخر..
قلب وعقل..
لهفة وارتياح..
ثورة وسلام..
خشونة ولين..
قسوة واحتواء!
"ليست متعة وانما اكتمال"
***************
ثلاثة لا يفهمون المرأة..
الشباب والشيوخ والكهول!
"أنيس منصور"
لم يكن يوماً من المهتمين بتفاصيل امرأة, الأنثى هي الأنثى..
صوت وجسد ونهد وأشياء أخرى..
متعة مطلوبة..
زوجته الأولى.. الأم
حورية.. الشهوة.. ولاء.. الثأر..
وليلى.. الذل!..
كل غرض يوازيه بوتقة..
ليس أكثر..
والآن تلك..
والعجيب أنه ليس لها مسمى واضح بعالمه..
مجرد شيء مجاني وقع في طريق وحدته
ربما هي كل شيء الآن وربما لا شيء..
ولم يكن هناك زفافاً بالمعنى المتعارف عليه, جاء المأذون وكتبوا العقد.. كانت
ترتدي ثوب زفاف رخيصاً استعاروه من جارة لهم..
واسمها كان بسمة ولم يلمح على وجهها أي ابتسامة..
وعمرها لم يعرفه سوى ليلتها..
تسعة عشر عاماً
وهو اقترب من الخامسة والثلاثون..
فرق ممتع لكل رجل..
ربما هناك ميزة بها الآن..
هي أصغرهن جميعاً..
كان شعرها حالك السواد يناسب سمرتها الصافية..
وضعت حمرة شفاه باهتة ووردت وجنتاها بمستحضر رخيص..
سلمتها له أمها باكية فهي غير راضية عن الزيجة..
باعوا ابنتها لرجل مشوه!
وصرخت وولولت وتعاركت مع عتمان الزوج والنخاس..
وما لم يعرفه صبري أن العراك انتهى بكلمة
"موافقة"
مِن الفتاة.
وما لا يعرفه أيضاً
أنها لم تكن فتاة
أنها فشلت
أنها لم تجد من يدافع عنها مثل ليلى
وأنها هربت عن قصد لجحيمه, فهناك جحيماً أكثر ظلمة عانته على مدى
سنوات
ولم تستطع لا النطق ولا الدفاع
جحيم عتمان نفسه!!
وربما لهذا كانت مستسلمة..
هادئة تماماً ومستعدة.
ربما حل زر.. اثنين..
كان هو سريعاً والأغرب متوتراً
لا خوف ولا حياء!
مجرد تمثال حجري باهت..
والصدمة اكتملت..
ليست عذراء..
وابتعد عنها منتفضاً والأدهى مشمئزاً!!
ونظرته تلتها صفعة فأخرى وأخرى..
ووصم بأبشع الألفاظ عن البيعة الخاسرة..
وضحكت.. بشدة وبانتصار..
هل يلومها هي فليسأل صاحب البيعة, العجوز بنصف ساق, وصوتها كان يردد:
أعرج آه.. بس أقوى مني
وتلت عزيمتها بكاء.. وتوضيح.. وسرد!
فزوجته الأخيرة كانت مُغتصبَة.. بشكل مكرر..
وكان عتمان بمنزله يحصد غنائم النصر حتى لو استغنى عن متعة مجانية
وحفنة أموال من أجل ترقيع عذرية تكفلت هي به كما اخبرته..
حتى أجفلته طرقات باب..
لمجنون.. ومخدوع!
وقبضة تلو صفعة وزجاجة تتناثر فوق فروة رأس..
وغضب عارم بنكهة مخيفة..
مشوهة..
هو.. صبري يحدُث معه هذا!
بضاعة معطوبة..
مُستهلَكة وهو أحمق يبتاع بفخر
وهذا الحقير المنتَهِك..
الخاسر لكل صلاحية, يغتصب ابنة زوجته
يال العار!!!
******************
وكان صباحاً عادياً..
وهي
هي ما زالت مرتبكة.. شاحبة..
ترفض سفره في صخب وصمت وكل تعبير ممكن...
بندقيته الحائرة معه وبفضله على الدوام.
شاردة!
خصلاتها مسدلة فوق وجهها ومتعرقة بعض الشيء..
ترتدي قميص نوم قصير بصبغة لبنية وخفاً وردياً يشبه ذاك خاصة تميمة..
تتحرك في الغرفة بعشوائية وتنظر نحوه بتردد..
وقبل أن يفكر وجدها تتوجه نحوه وبين أناملها شريط بلاستيكي صغير وهي
تهمس:
أزرق!
وضم حاجبيه لا يفهم لتعض هي فوق شفتيها ثم اقتربت أكثر وخفضت رأسها
بخبر مؤكد:
خالد.. أنا حامل.
***************


صمت الجياد بقلم /مروه جمالWhere stories live. Discover now