الفصل الثالث

9.1K 204 1
                                    

إلى صامتة..
تكلمي.. تكلمي
أيتها الجميلة الخرساء

فالحب.. مثل الزهرة البيضاء
تكون أحلى.. عندما
توضع في إناء
"نزار قباني"
بسبعة وريقات يطلقون عليها عمرًا..
أتتشكل ذكريات؟!..
صور وحروف من ماضي لا يصح أن نُطلق عليه بعيد..
كم عمر ذكرياتك يا صغير؟!
أهناك قه ا رً أشَّد من ابتسامة ساخرة فوق وجه طفل!.

محمود.. محمود
نبرة أبيه أقحمت نفسها بعالمه بحقيبة ذكريات فتحها دون وعي وقتما استقر
بجواره بالسيارة..
نحو المنزل..
نحو.. قيد آخر لعائلة أُجبرت على أن تكون أسرته..
حينها تذكر العجوز, الجدّة التي ابتهجت مع زيارة حسن الأخيرة وكأنها
الخلاص..
"أخي ا رً"
تلك كانت عبارتها المقتضبة رغم العَبرة التي ذرفتها في نهاية الأمر.. اعتدل
ب أ رسه الصغير فوق المقعد ونظر نحو أبيه الذي انشغل بمحادثة عمل غير عابئ بالردّ..
ذلك الرجل الذي لا يحمل من ملامحه شيء ولولا إصرار أمه وحروف اسمه لما
اعتبره والده..
هو لا يمتلك وسامته وسهام تقول أنه يحمل ملامح أبيها وجدَّته طالما قهقهت
بوجهه:
بتفكرني بالغالي..

مِزاج هادئ لا يتكرر معها كثيرًا خاصة أنه اعتاد تذمرها من صبيحة اليوم حتى
سكون الظلام..
تشكو من وجع ظهرها وضربات قلبها وشيخوختها والطعام الذي ستعده من
أجله وهناك الملابس وكيِّها وطيِّها..
مجهود شاق لم تعد تتحمله ام أ رة في عمرها, وينتهي اليوم بتهاويها على
الف ا رش:
أنا ما عدتش أد الهم ده.. أنا حكلم أُمه.
وينام هو بذاك الشعور المكرر, تملك قاسي لطفل أدرك المعنى مبك ا رً للغاية...
أنه... عالة
دي يا محمود المدرسة اللي نقلتك فيها.. حتكون مع حسن وتميمة بس إنت
بقى سابقهم..
بملامح صلبة رمق المبنى واستدار دون أي ردة فعل..
تماماً مثلما استقبل خبر انتقاله للمزرعة..
استدار تاركاً أبيه وجدته وتوجه لغرفته ليلملم الحقيبة, حياة أخرى بجانب
المدلل الصغير وهزيلة الجسد صديقته, وكالعادة سيبدأ الأمر باللعب وينتهي
بسخرية أو ص ا رخ, يليه عقاب من الأب مصطنع الحنان وربما... المسؤولية.
******************

بابا جه.. بابا جه
أجفلتها صرخة حسن فأوقعت الكأس السادس من الطقم الكريستالي الذي كانت
تنوي أن تستخدمه بعشاء الليلة..
جذبت إيناس يدها قبل أن تجرحها واصطنعت ضحكة ربما تلطف الأجواء:
كده الطقم باي باي.. يلا علشان برده ما نفرقش بينهم!
كانت رقية شاردة عن الحديث ومتحفزة بكل حواسها نحو النافذة ت ا رقب قدوم
محمود.. همست بضيق بعد وهلة:
هو فين؟.. أنا مش شايفاه..
كان ذلك قبل أن يظهر محمود مباشرة من السيارة..
يا إلهي!!!..
لقد ا زد هذا الولد طولاً فتلك بنية صبي بالتاسعة وليس السابعة من العمر, وها
هو يرمق خالد بعدائية..
ابتلعت ريقها وأفكارها تنتفض بشأن صغيرها قصير القامة بجانب الخشن على
الجانب الآخر.
كانت إيناس ما ا زلت تتحدث ولكنها أيقنت أنها تحدث نفسها عندما تجاوزتها
رقية مسرعة نحو الخارج في خطوات نحو استقبال وحماية..
تبعتها لتصل على قهقهة حسن وهو يجذب خالد برقة مردفاً:

تعال سلم على أخوك يا خالد
لم يكن خالد يدرك بدوره هذا اللفظ الذي يكرره أبيه بشأن محمود
"أخوك"
ربما مثل تميمة..
فكلما غضب من تميمة تزجره رقية باللفظ المعتاد..
"أختك"
اقترب بحذر فهذا الولد ازداد طولاً وتلك المرة سيوجعه ضرباً لا محالة.. توقف
مستدي ا رً نحو أمه علها تصرفه ويرتاح, ولكن انتهى كل شيء مع جملة أبيه
التالية:
يلا.. خد أخوك على أوضتكم..
وقبل أن يستوعب كانت قبضة محمود القاسية تطحن أصابعه في شبه سلام..
أغمض عينيه من الألم متحدياً وجع طفولته تلك المرة ومحدقاً في سجال
مُعانداً أنه من الآن لن يصرخ.
***********************
كان الصوان ممتلئاً عن آخره مما دعا بعض أهالي الحي الفقير بإخ ا رج مقاعد
بيوتهم من أجل جموع المُعَزِّين..

تلك هي المرة الأولى التي يز ور فيها مسكن الريس منصور ويشاء القدر أن
تكون من أجل واجب ع ا زءه..
الوجوه أمامه ذكرته بملامح الرجل التي تمكن منها شقاء الحياة وعود ظهره
الذي انحنى تحت وطأة قسوة العيش..
قوته كان هذا القارب الذي على ما يبدو أمَّن حياته وأسرته لسنوات..
ورغم تهالكه عاماً تلو الآخر إلا أن منتجعات كثيرة كانت تفضل أن تتعاقد على
رحلاتها معه, خاصة أنه عجوز يفهم أس ا رر البحر ومداخله وله من السمعة
الطيبة ما يجذب نحوه الجميع..
فالرحلات على متن "ليلى" طالما كانت الأفضل وأصبحت أيقونة يفضلها
السائحون من مُرتادي المنطقة.
ملامح مزعجة أثارت انتباه حم زه ليميل على أمين في همس غاضب:
ايه اللي جاب ده هنا؟؟!
نظر أمين لإشارة صديقه ليلمح صبري بملامحه المختالة يسير وسط عنتريان
من أتباعه..
بضيق عيناه الثعلبيتين مسح المكان ليستقر بدوره على ملامح أمين وحمزه
فحياهما بابتسامة باردة..

لا يفهم أحد كيف استطاع صبري الذي جاءهم فقط قبل بضعة سنوات يزحف
على ركبيته طالباً الرزق أن يسيطر على نصف م ا ركب المرسى!!.. تخلى معظم
أصحاب الم ا ركب مثل الريس منصور عن رفيقاتهم كما اعتادوا التندر وأصبح
صبري يمتلك أسطولاً صغي ا رً من اليخوت والم ا ركب يصرفها لحسابه كيفما شاء..
ولكنه دائماً ما كان يود السيطرة على..
"ليلى"
فالمركب له تاريخ قوي مع المرسى ويفضلها الكثير من الزوار وقد تبرع أحد
مرتاديها بمبلغ قيم العام الماضي من أجل إصلاحها, فجعلها الريس منصور
عروس متألقة في نكهة بدوية وسط صح ا رء زرقاء..
تلك البدوية الشاردة هي آخر جد ا رن الحصن وعند امتلاكها سيكون المرسى
كله تحت إمرته.
والآن العجوز المتعنت برفضه رحل رغماً عنه وعاجلاً وليس آجلاً سيحقق حلمه
الذي خطط له طوال سنوات.
تنحنح صبري بابتسامة لا تليق ثم جهر بصوت عال:
الموت علينا حق..
قبل أن يستدير فوجئ بأمين يهذر خلفه في غضب بين:
ايه اللي جابك؟

بإستهانة نظر نحو الصعيدي الهزيل ليزيح أصابعه السم ا رء من فوق كتفه
ويتابع بتبجح:
الواجب فيه سؤال يا ولد عمي!
زمجر أمين في غيظ من تبجحه على لكنته, ليزيحه حمزه ويتصدر المشهد
بصدره العريض مواجهاً صبري في ص ا رمة:
امشي من هنا..
ضحك صبري فضحك على صوته م ا رفقيه دون اعتبار لم ا رسم الع ا زء حولهم ثم
رمق حمزه بش ا رسة قبل أن يتابع متهكماً:
ده الكابتن كمان بيخوفني!!
اقترب منه حمزه حتى كادت أن تتعارك جبهتهما..
صبري كان قوي البنية بدوره..
فبدايته في المرسى كانت مع أشد الأعمال مجهوداً وقسوة ولو لما تحت الصفر
توصيف واضح فسيكون حتماً ما بدأ منه.
الآن يتحداه رجل الورود الذي وجد في مياه البحر ضالته..
سخر بنظره قبل أن يرفع يديه في إشارة بذيئة نحو حمزة ثم رحل متوجهاً نحو
شقة الريس منصور فلديه ما هو أهم من تلك المهاترات.
**********************

كانت تجلس في ركن ت ا رقب من بعيد نساء يتوشحن بسواد..
يقتربن..
يُقبلن وجنتها..
جبهتها..
يهمسن بدورها..
مسؤوليتها.. أمها..
أخويها..
"مات منصور"
وكأنها باتت الآن فقط تدرك الرحيل!..
رحل منصور دون عودة..
ألم تكن دوماً تناديه منصور!..
يضحك ويصطنع الغضب ويتساءل عن لفظ أبي..
فتقبل وجهه بشدة تؤلمه وتكررها..
منصور..
وهي..
هي..

ليلاه
حتى بعد قدوم التوأمين وحُلم الصبي الذي مَنّ الله عليه به بعد وقت طويل إلا
أنها تظل أميرته وتضحك الأم:
هتحتاج مركبين على اسم عصام وحسام..
فيبتسم برضى محتضنها:
ليلى بس
استفاقت وجلة من لعنة الذكريات..
هي صامدة حتى الآن ولا سبيل لانهيار خاصة مع أمها الممددة بالداخل على
الف ا رش من الصدمة..
لفظ..
"البركة فيكي يا بنتي"
يتكرر منذ الصباح منذ تقدمت الجنازة وشهدت دفنه حيث لم تتحمل أمها
الموقف..
نهروها وطلبوا منها المكوث بالبيت..
وكأنها ستتركه وحده!
لا أخ..

ولا أخت..
هل سيرحل نحو قبره وحده؟!!..
استقامت عندما لمحت رجلين اخترقا صفوف النساء الباكيات..
والآن عليها أن تتقبل ع ا زء الرجال أيضاً!!..
ظنت أنها تركت تلك المهمة لخطيبها بالأسفل وبعض الجي ا رن..
اقتربت منهم بملامح صامدة قطعها صبري بع ا زء بارد اللهجة:
البقية في حياتك يا ست البنات.
أومأت دون حديث فتابع هو متعجلاً:
معاكِ صبري.. الريس منصور ده أبويا.. والله أبويا.. أي حاجة أنا سداد وما
تقلقيش على المحروسة ليلى دي في عينيا..
شك ا رً يا ريس صبري..
قالتها بصوت مبحوح تجاهد منذ الصباح على كتمه كي لا ينفجر ببكاء.. ولكن
جاء الآن هذا الرجل ليعزف دون قصد على آخر أوتار تحملها.. يهذي الآن
لأكثر من عشر دقائق عن الريس منصور والعلاقة الحميمة بينهما, رغم أنها
لم تسمع عنه قبل ذلك..
يخبرها أن المركب أمانة معه حتى تقرر هي والوالدة بشأنها..
و... و... و...
رفعت كفها فجأة في إشارة لعدم الاحتمال لتهمس بنبرة متقطعة:
شك ا رً يا ريس..
ابتسم بغيظ متذك ا رً جفاء الريس منصور بشأنه وكأنها عادة عائلية!!.. استدار
ا رحلاً وهو يستمع لهمس أحد م ا رفقيه:
تفتكر هتبيع؟
سحب لفافة تبغ ثم نفث دخانها متملكاً الهواء بعد أن ا رقب بانحلال مؤخرة سيدة
متوجهة نحو الع ا زء..
ضحك بخبث ثم أردف بثقة:
هتعمل الكتكوتة اللي جوة دي إيه لوحدها؟!.. هتبيع وبسرعة قوي كمان.
دهس سيجارته ثم هبط الدرج ليواجه كلاً من حمزه وأمين اللذان اتبعاه بعد
تفكير طويل..
رمقهما باستخفاف ثم هم مغاد ا رً ليزمجر أمين:
طبعاً عايز يشتري المركب..
صمت حمزه لوهلة قبل أن يتابع:
تفتكر مرات الريس منصور هتبيع؟

شرد أمين قليلاً ثم ابتسم ب ا رحة مردفاً:
ما اعرفش عن مرته.. بس ليلى لو بنت أبوها زي ما بيقول مش هتبيع.
بدهشة نظر نحوه حمزه:
ليلى مين؟!
بنت الريس منصور.. وعلى اسمها بتكون "ليلى"
*************************
قدمان حافيتان تتأرجحان بمرح لا يصل لمستوى الأرض تحيط بهما ساقان
صلبتان وقد اضجع صاحبهما ب ا رحة فوق مقعد متأرجح وهي بين ذ ا رعيه تق أ ر له
حكاية ما قبل النوم..
مرت على شفتيه ابتسامة وهو يلفف جدائل البندق حول خنصره ويستمع لتلعثم
تميمة عن أمي رتها وثعلب وبطة..
وطائرة نفاثة!..
ليدرك أنها كعادتها قد قررت تعديل الحكاية كيفما يروق لها!.
كانت البرودة قد بدأت تتسلل لصومعته المنعزلة..
تلك الحجرة التي بناها على مقربة من الفيلا خاصته لينفرد بنفسه بعيداً كلما
شاء حتى وان من أجل النوم.

بابا.. بابا..
ابتسم لصغيرته ليهديها قبلة فوق شعرها ويجيب:
نعم يا روح بابا..
هناك.. ماما!
لمحها تقف من بعيد..
ترتدي ثوباً فضفاضاً وتداري كتفيها بشال أنيق وت ا رقبهما من بعيد..
تُقَدِم خطوة..
وتُؤَخِر خطوة..
كي تأخذ تميمة لغرفتها, ولكن كبرياءها يمنعها من الذهاب إليه..
الوقت يمر وهي تُشَيِّد دون شعور حاجز من الكبرياء بينهما حتى خُيِّل إليه أن
كلاهما لن يستطع هدمه..
طبع قبلة أخرى فوق وجنة تميمة قبل أن يحتضنها بشدة ويستقيم وهي بين
ذ ا رعيه, همس لها:
بردانة؟
أومأت الصغيرة في صمت وعندها رمق خيال زوجته لوهلة قبل أن يتوجه لزر
الإضاءة ويغلق النور في إشارة لمبيته في الغرفة خاصته الليلة ومعه تميمة..

دون وعي لمست ارتعاش شفتها السفلى وهي تلمح اختفاؤه بتميمة بين
الظلام..
الآن ستعرف تميمة أيضاً طريق المبيت خارج المنزل..
أغمضت عينيها بألم لتتذكر ثورته بعد ما حدث..
بل ثو ا رته!
البهجة التي انتهت بق ا ررها العنتري بإستضافة أمه بالمنزل..
زيارة امتدت للأبد دون تخطيط منها, فالأم الوحيدة وجدت بها القشة التي
ستعيد لها رؤية ابنها ولو على مضض..
لم تتصور أن الأمر سيغضبه لتلك الدرجة التي عندها قرر بناء تلك العزلة
المجاورة والتي تبدو كأنها زوجة أخرى تستأثر بزوجها وقتما شاءت!!..
وهي لا تستطيع الإقت ا رب..
صبرت.. وجادلت.. وثابرت..
وكان هو بارًا بأمه..
رغم رفضه الشديد لتلك المجاورة والتدخل في تربية ابنته..
ولكن معها هي..
تبدل..

تغير..
لم يعد هذا الشغوف الذي كان يحملها بشوق مفاجيء في وسط النهار..
أو كالذي فاجآها بليلة زفاف وسط الصح ا رء حيث فقط كان..
هو..
وهي...
ورعد..
"رعد"
القشة التي قتلت البعير..
الجواد الذي لم يستطع جسده مقاومة الظلام أكثر من ذلك..
ا زد عمره و ا زد تخبطه..
وخالد كان يعلم أن النهاية وشيكة, ولكنها معاندة الغريق..
لم تشعر أن عب ا رتها كانت تنهمر تلقائياً على وجهها وهي تتذكر ليلة رحيل
رعد..
واتهامه لها أنها لم تقم باللازم ولم تستطع انقاذه..
بركان هائج انفجر في وجهها..
فهي هناك متواجدة مع أقصى لحظاته ظُلمة..

وهي وحدها اتخذت الق ا رر العنتري بإحضار أمه التي ا رقب موتها أيضاً أمام
عينيه.
تلك الطاقة الهائلة من الغضب لم يكن لها القدرة على احتوائها.. ترويضها..
احتمالها..
لينتهي الأمر بهذرها عن أنانيتة وعقوقه الذي أنقذته منه باقتناص آخر أيام
أمه بين جد ا رن بيته..
أنانيته التي تمثلت في محاولة الإبقاء على رعد حتى آخر لحظة رغم آلامه...
وبدو رها قتلت البعير بقشة غضب أخرى تندم عليها حتى الآن..
"أنانيتك.. إنك تكون معايا وقت ما تحب, وتهجرني وقت ما تحب, بغض النظر
عن مشاعري أنا"
الجملة ما ا زلت تضيء بظلام ليله حتى الآن..
كلما انفرد بنفسه يتذكر ملامح آخر ع ا رك ليتبدل بعدها كل شيء..
لا هي واسته ولا هو توجه نحوها.
آثر كلاهما الصمت في انتظار الآخر..
*************************
بطرف عينيه ألقى على حنقها الصباحي نظرة أخرى..

تجول وتصول بالمطبخ ربما من قبل شروق الشمس..
أعدت عشرة أصناف من المعجنات, وحضرت زجاجات العصير الطبيعي ولم
تنسَ أن تضيف للسلة بعض الفاكهة..
من داخله يشفق عليها ويعلم مدى قلقها على حسن, ولكنه يخشى من تحول
هذا القلق لما ما يشبه الهوس..
هذا إن لم يكن تم بالفعل.
تنهد ببطء قبل أن يقتحم خلوتها ليحييها بابتسامة واسعة مازحاً:
الولاد هيتنفخوا من كتر الأكل..
بديناميكية جافة أجابته دون أن تحيد النظر عن ما تفعله:
مش الولاد بس.. كمان أنت وخالد..
استمر على نفس المنوال بنبرته المازحة علها تبتسم على الأقل قبل رحيلهم:
احنا ا ريحين حديقة حيوانات مفتوحة.. يعني ببساطة الموز الجميل ده حيغري
القرود وينطوا فوق خالد وهو في العربية!
أجفلها لترتعش يديها وتتحول ببصرها نحوه ولكنه لم يصمت أردف مكملاً ولكن
بنبرة أكثر وضوحاً:
أو محمود يزقه من العربية مثلاً..

حينها ارتعشت ككل وجحظت عيناها لوهلة بتحفز لتغيب ابتسامته ويتابع بجدية
صارمة:
يا ريت يا رقية تقدري تفرقي بين مناغشة الولاد لبعض وبين الرغبة في
الأذى..
صمتت وعادت لتفحص طعامها بغضب دون أن تجيبه..
حاول أن يقترب منها ملطفاً الأجواء ولكنه لم يستطع..
وجد نفسه يخطو نحو الباب وهو يضيف بتوكيد:
ولادي مش هيأذوا بعض يا رقية.. الإخوات مش هتكره بعض يا رقية..
قالها ورحل..
لا يعلم هل هو بصدد قسوة نحوها في الأيام الأخي رة؟..
هل نسي بشأن رقية الأم ويفكر فقط برقية زوجة الأب؟!
هل سيكره أبناه بعضهما يوماً؟...
طَلَّتهما أخرجته من أفكاره..
خالد بسروال قصير وقميص مقلم مكوي بعناية, ومحمود ببنطال من خامة
الجينز وقميص أزرق آثر تركه مهلهلاً بدلاً من تسويته مثل أخيه..
الفرق في الإهتمام بيّن!!

هكذا كان يهذي لحاله قبل أن تظهر رقية من العدم وتضع حقيبة الطعام في
السيارة..
ناولت خالد علبتين من العصير واحدة له وآخرى لتميمة, وعندها استيقظت
شياطينه وأوحت له بتجاهلها لمحمود حتى بشأن الطعام..
ولكن قبل أن يزيد الطين بلة وجدها تتجه نحو محم ود وتناوله علبة أخرى من
العصير بدوره ولفافة بها شطيرة ساخنة وهي تتمتم بهدوء:
أ دي علشان ما فطرتش زي أخوك.. كُل في العربية.
ثم استدارت نحو خالد لتتابع:
في ساندويتشات في الشنطة يا خالد..
لم تزد..
فقط ربتت بهدوء فوق أ رس محمود وقبلت خالد على وجنته وتوجهت للداخل
وحيدة دون أن ت ا رفقهم بالرحلة بأمر حسن.
الحُجَّة التي أ ا ردها كي ينسجم الولدان دون قيود قلقها التي لا تنتهي.. تركتهم
وكان هو متصلباً بجانب السيارة يفكر بأمرٍ واحد
"هي لم تكن عادلة في القُبلات!!"
*********************
كانت تميمة متحمسة جداً بشأن الرحلة..

إيناس بدورها كانت تشعر بالضيق, فرقية لن تكون موجودة إذاً هي لن ت ا رفقهم
بدورها..
زفرت بضيق ربما للمرة المائة وهي تكمل تحضير تميمة التي صرخت بوجه أمها
بعفوية مضحكة:
شعري بيطير يا مامي من النفخ!
لم تملك إيناس سوى أن تضحك بدورها وتهدي تلك الثمرة الشهية قبلة قوية
وهي تردد:
وحشتيني طول الليل وهتوحشيني النهاردة طول يوم.
قطبت تميمة جبينها لتتابع بتذمر:
تعالي معانا يا مامي.
احتضنتها إيناس بحنان ثم قرصت وجنتها بخفة لتكمل:
ما ينفعش أسيب طنط رقية لوحدها, وكمان أنتِ هتتشغلي باللعب طول اليوم..
هتكوني فاضية لي بقى؟!!
ابتسمت الصغيرة لتردف بشقاوة:
لأ..
بمقلتين شبيهتين بصغيرتها توهج شعاع العسل بعينيها لتتوعد تميمتها بمرح:

كده.. طيب ما فيش خروج.. تعالي هنا أنا هأحبسك في الأوضة وأقعد أبوس
فيكي لغاية ما أزهقك!..
كانت تميمة تركض بكل قوتها ضاحكة بشدة وايناس خلفها حافية بسروال بيتي
قصير وبلوزة قطنية واسعة..
خصلاتها مبعثرة بشكل فوضوي لم يعتده عليها حيث نصفها مرفوع بدبوس
شعر لامع والباقي وجد للهروب من قيده طريقاً...
"هل تكون بتلك العفوية المبهجة فقط في غيابه؟!!"
كانت تلك هي تمتمته لحالة وهو ي ا رقبها على درجات السلم تحمل تميمة بعض
أن أمسكتها وتداعبها بمرح منقضة فوق وجنتها تارة وبطنها تارة أخرى..
كانت قد وصلت لموقعه عندما صرخت تميمة باستنجاد من وسط ضحكاتها
بابا..
لم تلحظه من قبل..
كانت تظن أنه توجه للسيارة خاصة أنه ارتدى ملابسه في تلك الغرفة التي
يهرب إليها بسبب أو بدون..
اعتادت أن تجده فجأة بجانبها على الف ا رش أو لا تجده..
يظهر ويختفي كما يحلو له, ولكن الأكيد أنه منذ عام ومنذ صرختها بوجهه
بتلك الليلة لم يقربها..

زفرت بإرتباك عندما لاحظت هيئتها المزرية وتفحصه الغريب لها..
فعدلت من هندامها وجذبت خصلات شعرها لتقيدها مرة أخرى كما قيدت البهجة
فوق وجهها..
ضحك باسته ا زء ثم حادث تميمة بنبرة هادئة:
عمو حسن مستني في العربية برة يلا اطلعيلهم يا حبيبتي..
ضحكت تميمة بشدة لتتوجه نحو أمها بوداع ضاحك ظانة أن اللعبة ما ا زلت
مستمرة وأنها ستلحق بها للخارج..
ولكن إيناس ابتسمت بارتجاف وودعتها بالفعل متمنية لها وقتاً ممتعاً قبل أن
تستدير فجأة هاربة من البقاء معه.
تملك غليظ حول معصمها شل تحركها لتدرك أن تميمة غادرت بالفعل ولكن هو
ما ا زل موجوداً ويوقفها بقبضة يد..
استدارت نحوه متسائلة بجفاء بين:
في حاجة؟
لم يترك معصمها..
نظر بحدة نحو ساقيها ليتابع بنبرة محذرة:
هو ما ينفعش تنزلي من أوضة النوم بشورت قصير كده ممكن قوي حسن كان
يكون معايا.
استدارت نحوه بغضب لتوازي نبرته صوتاً وغضباً:
أنا أصلاً ما كونتش أعرف أنك أنت موجود!
ترك معصمها ولكنه لم يرحل اقترب منها متأملاً هذا الشعاع الغاضب الذي ربما
هو نفسه كف عن تأمله في الآونة الأخيرة..
ظلت ملامحه صلبة ولم تمر عليها ولو شبه ابتسامة ولكن نبرته كانت ماكرة
وهو يتابع:
واذا كنتِ تعرفي كنتِ هتلبسي ايه؟
كانت غاضبة..
منفعلة..
هو يتركها..
هو يقرر انه لا يريدها..
يعاقبها..
والآن يمرح..
يمزح بشأن ذلك..
وينتظر منها أن ترتدي له خصيصاً ما يعجبه!
انفعالها بدا جلياً بالجملة الحمقاء:

أكيد يعني مش هالبس حاجة!!
مر كثير من الوقت قبل أن تهاجم شفتيه ابتسامة كتلك..
في ثورة غضبها تخطئ وتتفوه بحماقات قد لا تستطيع تحمل عواقبها..
لم تدرك معنى جملتها إلا عندما همس فوق شفتيها:
عارفة لو تفكري قبل ما تتكلمي كانت هتفرق معاكِ كتير!
أغمضت عينيها في ارتجاف وضيق بنفس الوقت..
خاصة مع رحيله رغم محاولة شبه الإغواء التي رددتها دون وعي.. ارتجاف
وضيق يوازي رفضها الإعت ا رف بأنها تشتاق إليه..
******************
في قلب الليل..
باريس..
بدلاً من أن يستقلا سيارته حشر نفسه بجوارها داخل سيارة أجرة!!..
السائق على ما يبدو من أصول شرقية وعلى ما يبدو أيضاً أنه يعرفه حق
المعرفة..
زفرت بضيق وأسندت جبهتها فوق زجاج السيارة تسترجع أحداث الصباح..
متى قالت نعم؟!

ولمَ؟!!
هذا المتأنق يكرر عرضه منذ أشهر وهي ا رفضة غير مبالية حتى بالتفكير فيما
و ا رءه..
والآن..
اختلف شيء لا تدرك ماهيته..
تجربة لن تتكرر...
أنا من يؤمن بكِ شهر ا زد..
ليلة حقيقية وليست مزيفة كتلك التي توهمين نفسكِ بها فوق مسرح!!
اتركي مسرحكِ ال ا زئف واقتحمي مسرح الحياة!.
كلماته ما ا زلت تتردد..
تدق فوق ناقوس أذنيها لتجبرها على الإستم ا رر..
لماذا قالت نعم؟!
ربما لأنها ملّت تك ا رر..
"لا"
وصلنا..
برزانة دافئة أخرجها من شرودها..
يمتلك هو صوتاً مصقولاً ربما كهيئته..
فالخصلات مشذبة.. والحلة منمقة.. والحذاء.. والساعة..
و.. و..
دون ترتيب همست:
أنت عكسه!
ابتسم ولم يعقب..
بديهي أن حالها نتاج رجل..
كل صدمة أنثى سببها رجل, وكل جنون رجل سببه أنثى.
ترجل من السيارة لينحني بأناقة ساخرة قبل أن يردد:
تفضلي سيدتي..
حديقة ولكنها ليست بحديقة قصره..
أين هي؟..
وأين هذا المكان الذي أخبرها أنه هناك سيقيم عرضه؟.
نعم منذ وافقت أصبحت شهر ا زد عرضه الخاص يفعل بها كيف يشاء.. شهريار
آخر مكرر..
وان لم يبحث عن مجد ف ا رش سيتوج انتصاره بلوحة يزين بها جد ا رنه..

دون اكتراث ابتسمت بثقة سرعان ما فقدتها عندما أيقنت أنها بغابات بولونيا
برقت نحوه فأومأ بمكر: - Bois de Boulogne
وصمت لتنطق عيناه بالأكثر تشويقا "حديقة المسرات الدنيوية"

صمت الجياد بقلم /مروه جمالWhere stories live. Discover now