الفصل الثاني و العشرون

5.5K 148 2
                                    

الحب..
الحب هو الألفة ورفع الكلفة..
هو أن تجد نفسك في غير حاجة للكذب..
أن تكون أنت دون استحداث آخر ليثير الإعجاب..
أن تصمتا أنتما الاثنان فيحلو الصمت أو أن يتكلم أحدكما فيحلو الإصغاء..
"أناشيد الإثم والبراءة"
"مصطفى محمود"
****
كان ما زال ممسكاً بالبرقية حينما تركت هي القهوة واقتربت منه لتحتضنه من
الخلف..
تملُّك!.. أم بالأحرى خوف..
كلما تذكرت كارمن مرت برؤياها رصاصة غادرة تتجه نحو قلبه..
أغمضت عينيها لتطبع قبلة دافئة فوق كتفه وتحدق في الحروف بصمت..
كارمن..
عرض!..
ومسرح ونهاية..
رحيل شهرزاد!
درامية كما اعتادتها..
نظرت نحوه لا تفهم..
وحينها تأمل هو البطاقة من جديد..
تأمل سنوات مضت وزيجة تلو أخرى..
رقصة, وشغف, ولقاء, وخديعة..
حق.. ومستحق.. وحقير.. ومُستغِلة!!
حتى وان كان طلباً لحبه..
همست هي لتقطع السكون أخيراً:
ما تروحش..
استدار نحوها وقد لمح بعينيها خوف..
لن تنسى ولن ينسى وحتماً تتذكر كارمن..
حريق وهروب وانهيار وموت..
موت كان سيصيب أي منهما في مقتل لو فقد الآخر..
استدار نحوها ليجذب أ رسها فوق صدره ويملس فوق بندقها وقد تبدلت نظرته
بين حنو وتوحش..
وكأن تركة مختار تأبى أن تتركه..
وكأن السلام أكذوبة..
خاضع تُدهَس.. وقوي تُعاقَب!!
هل عادت كارمن لتثأر؟!
خيط الإنتقام الرفيع الذي أرخته إيناس من طوق قلبه ما زال مشدوداً بطرف
آخر..
طرفاً لن يغفر..
ضرب الطاولة بغضب وأنفاسه تهيج بأحقية لا تمتلكها الحمراء في الغفران..
شعرت بغضبه..
بالوحش الساكن يعود بل يستعر
رفعت أ رسها لتحتضنه هي وتجذب رأسه ليميل نحو صدرها..
أنفاسه الحارة كانت تضرب رقبتها كأعاصير وحركة يده امتدت نحو أزرار
قميصها ليفككها ثم مر بأنامله على موضع الجرح..
الرصاصة التي طلبته فاستقرت في صدرها.
شهقت تنظر نحوه لتلمح قسوة غابت منذ سنوات قبل أن تتحرك شفتيه بتوعد:
أنتِ خط أحمر.. تميمة خط أحمر..
وجِلت وقد وعت لما ينوي:
أنت خط أحمر!.
وكانت تجهش بها باكية, تخاف..
البندقية تخاف وهو رجلها!
لا يجوز..
نظر نحو البرقية العائدة من ني ا رن الماضي مجدداً ثم طبع فوق رأسها قبلة
قاسية مع همس أخير لا تراجع بعده:
الموضوع ده لازم يخلص.. أنا هسافر..
*****************
ليس لأنها أجمل النساء..
ولا أذكى النساء..
ولا أوفى النساء..
ولا لأنها بالحب أولى النساء..
لأنها هى..
هي فقط وحدها دون جميع النساء
فهذا هو الحب..
"سارة"
"عباس محمود العقاد"
أن تغمض عينيك كي تقابلها..
فيها اختزل كل الأحلام فغابت كل أمنية وبقيت هي ترقص فوق صفحة مياه
ترتدي ثوباً رمادياً فضفاضاً وخصلاتها القصيرة منثورة وتخطو بحذر بين أمواج
البحر خشية أن تقع..
وحينما سقطت كانت بين ضلوعه
وهذا غرقٌ دون نجاة!
"كوني أنتِ الحب يا ليلى"
كان يوم جمعة والساعة تعدت الثامنة وهو يجلس بغرفة استقبالهم بأريحية
تامة! يرتدي قميصاً سماوياً وسروالاً من خامة الجينز ويرتشف الشاي مع
أمها..
التوأمان في غرفتهما بأمر صارم, والحديث الجاد لا تسمع منه همسة..
كانت تراقبهما من خلف الستار..
أمها منفعلة وهو هادئ دون تعبير واضح ولكن بشكل ما هي تُقدِّره
بل شكرته!
شددت فوق قبضته وابتسمت له وكأنه منقذ..
منقذ سيتزوج بفتاة لا تملك اختيار..
فهي كانت في شُ بهة انتهاك..
بعالمها الانتهاك شبهة, بل بوطنها ككل..
ألم تصرح بها أمها بالأمس؟..
ألم تسرد كلمات مؤلمة حال..
"خلي الطابق مستور"
"بلاش فضايح"
"الستر يا رب"
والستر زوج.. والزوج حمزه..
انقبضت ملامح وجهها لتتنهد بيأس اصطدم بعينيه..
رفعهما فجأة نحوها وكأنه يدرك موقعها منذ البداية..
داخله صراخ هي لا تسمعه وربما لا تفهمه..
"أخرجي يا ليلى.. مش بنت منصور اللي تستخبى!!"
ولم يزح عينيه, بل أهداها ابتسامة مقصودة.. معانداً!
ها هو أمامها بعد مرور خمسة أيام على الحادثة..
خمسة أيام حملوا الكثير وآخرهم اختفاء صبري
بل بالأحرى هروب لم يتوقعه ولم ينتظره ففي النهاية غلبت النخوة قلوب الرجال
واجتمعوا رافضين خائن..
ولا يعلم كيف ولكن فجأة تبخر!!
تبخر قبل أن يتمكن منه..
وانقبضت يداه غضباً ووازى هذا خروجها من مخبئها..
شامخة ترفع ذقنها مرحبة به مع لفظ رسمي يحمل كلمة
"بشمهندس حمزه"
وكأن والدتها تود أن تنتهي من كل توابع الأمر فأردفت مسرعة:
البشمهندس حمزه طلب إيدك يا ليلى.. وأنا وافقت.
هكذا.. تم الأمر..
وشكراً منقذي العزيز!!
رفعت عينيها نحوهما وبتوحش:
شكراً.. بس طلبك مرفوض يا بشمهندس
ورغماً عنها نصف كلمة بشمهندس ابتلعتها حشرجة..
يا الله ستبكي وسيفقد سيطرته أمام "الحاجة"
استني..
قالها بنبرة آمرة وعالية!..
ثم توجه ببصره نحو أمها ليبتسم ويطلب منها بأدب:
ممكن حضرتك تعمليلي شاي تاني.. على بال ما أتكلم مع ليلى شوية!
تنهدت المرأة بعد أن نظرت نحو ابنتها بغضب وتركتهما لتغيب مع كوب شاي
وقته سيطول..
زفر هو بضيق ثم أضاف:
ممكن تقعدي نتكلم؟
قاطعته بتعجل:
ما فيش كلام!
قاطعها بغضب ونبرة ستتطور لزعيق:
اقعدي يا ليلى..
استدارت لترمقه بحنق ثم جلست تواجهه فترك الأريكة واستقر بمقعد يجاورها..
يلمح جانب وجهها الحزين وهو ينظر نحو لاشيء..
عبرات مكتومة.. وشفتين مرتجفتين.. وتعب
ليلى متعبة..
منهكة..
وتظن أنها قوية.
استدرك ضعفه وتحدث بصوت أجش:
ده مش طلب..
استدارت مستنكرة فتابع:
ده واقع..
ضيقت عينيها مكملة له:
ليه؟.. قول تضحية وشهامة وقارب إنقاذ لغريقة مكانها ما كانش البحر
وتكتم البكاء بمجاهدة خيالية..
اقترب منها يهمس بضعف:
مكانها هنا..
وأشار نحو قلبه
وحينها.. بكت
أمواج البحر وجدت طريقها نحو عينيها, بل هي تشهق بألم وتكتم كل شهقة
بكفها الصغير فوق فمها..
وكل هذا لا يُحتمل
سيقتله..
همس بغضب مكتوم:
هاقتله!!
رفعت عينيها تحرك رأسها برفض ولكنه تابع:
ما فيش غير دمه يشفي غليلي..
وكانت كل ملامحه منقبضة.. مخيفة.. حمزه الذي لا تعرفه وبشكل ما تخافه!
خرجت نبرتها مبحوحة:
أنت حرقته..
طحن هو فوق أسنانه بغيظ:
الكلب عايش وهرب
بدا وكأنها غير مستمعة له, كررت:
ولعت فيه.. نار..
كانت شاردة وكأنها تهمس للفراغ, تأملها بعينيه ليردف:
يستاهل أكثر من كده..
استدارت تواجهه أخيراً بضعف وصدق:
بس أنت مش كده..
ثم استقامت وكأنها استفاقت:
وهي مش غلطة أنت بتكفرها بجواز..
استقام هو ليواجهها وبدا قاسياً:
غلطتك يا هانم.. كان لازم تقوليلي!
انفجرت متحدية:
بصفتك إيه؟
وصرخ هو تلك المرة:
من غير صفة.. كان لازم تبلغينا بالحقارة دي.
وانكمشت مرة أخرى مع صراخه فجذبها من ذراعها نحوه غير مبالي:
أنتِ مش ملك نفسك بس.. إنت هتوجعيني أنا.
حررت نفسها منه لتزمجر رافضة:
أنا مش هاتجوز.. وشكراً على عرضك الكريم أنا مش محتاجاه!
صمت ليتنفس ببطء وكان يتأملها..
أضعف ما تكون وتسبح بتيار لا تقدر على مواجهته
حبه..
تقدم ليواجه جسدها المبتعد عنه ثم أخفض وجهه نحو وجهها وهمسه كان
هادئ تلك المرة:
ده مش عرض.. دي رغبة!
رفعت عينيها بتوتر مقلتيها المعتاد.. القاتل..
فأردف متابعاً:
أنا عايزك يا ليلى وأنتِ عارفة..
تكلمت بعد تردد واصطنعت قوة:
الوضع اختلف وأنا مش عايزة أتجوزك.
لم يحد بعينيه عنها وكانت ملامحه جامدة رغم حرارة أنفاسه:
كدابة!!
بصرها بدا أكثر حدة وحركت رأسها في شموخ رافض:
أنا مش محتاجة أتجوزك..
ابتسم هو وقد انفجر قلبه بشوق لا يحمد عقباه:
بس أنا محتاج!
تسارعت أنفاسها وأ ا ردت أن تتخطاه وتهرب من تلك المواجهة الغير محتملة:
لو سمحت عديني يا حمزه؟
ابتسم بشقاوة وقد تذكر موقف مشابه ليغيظها ب
"لا"
زفرت غير مصدقة وكررت بحدة لم تتخطَ الهمس كي لا تسمعها أمها:
عديني يا حمزه!
المشاكسة تلك المرة بنظرته التي اقتربت منها وهو يردد بجملة يحفظها عن
ظهر قلب:
لو قربت هتندم يا حمزه..
رفعت عينيها نحوه غير مستوعبة وحينها أكمل وقد بدت ملامحه يائسة كمن
غرق ودون نجاة:
غرق حمزه.. وضاع حمزه.. ومنك لله يا أمين!
تلك المرة لا سبيل.. يجب أن تخرج من هذا الحصار الغير عادل..
فالعاطفة أمامه مباراة غير منصفة..
وهي غارقة ربما أكثر منه..
رفعت يدها لتزيحه ولكنه لم يتزحزح..
وجهت بصرها نحو باب المطبخ وعادت تلومه بنبرة خفيضة:
حمزه!!
تحبه!!..
هي غارقة حتى النخاع وتعاند..
عيناها وملامحها وحتى شفتيها المعاندة كلهم تآمروا عليها بفضيحة..
ابتسم هو بثقة وأردف مجدداً:
كلامي واضح.. هترجعي وأنتِ مراتي..
عادت لرفضها:
ما ينفعش.. أنا مش ذنب ولا عار ولا..
قاطعها وقد غضب:
يا غبية.. أنا خايف عليكِ.. أنا مش هآمن لحظة تكوني لوحدك هناك حتى
بعد ما الكلب هرب..
رفعت بصرها وهذرت محتجة:
أنا مش غبية وأقدر أدافع عن نفسي كويس و..
قاطعها مجدداً وتلك المرة باقتراب أكثر وغير مشروع وستتم أمها الزيجة الآن
بفضله!!
ما تتعبيش قلبي بقى..
وكانت جملة تخرج متقطعة من بين أنفاسه التي وصلتها جيداً..
رفعت يدها ودفعته أكثر دون جدوى:
عديني يا حمزه..
ابتسم هو من جديد وبشقاوة:
تؤ!!
تنهدت بقلة حيلة:
أنا مش هتجوز كده يا حمزه..
وحينها همس هو بنبرة أخيرة وجادة لا تحتمل جدال:
وأنا مش هجازف بيكي تاني يا ليلى..
وحينها فقط تركها تمر..
*****************
الخطايا تحرق صاحبها
تجبر وطمع وانتقام وشهوة.
مر بسبابته فوق ثنايا على جانب وجهه شكَّلها حريق, تعرجات غير قابلة
للترميم. وان كان..
فهو سيتركها هكذا!!
لن يداويها إلا عندما يأخذ بثأره.
كان قد ترك البحر الهادئ ليقذف بنفسه نحو آخر أكثر ثورة..
المتوسط أمواجه طوفان تقودها أو تغرقك.
رفع نحو فمه سيجا ا رً وقد لمح ثلاثة أولاد يركضون جواره ويلعبون بكرة بالية
وأخت أحدهم تصرخ منادية بوقت الطعام.
سمراء وحافية تركت قدميها لتملك رمال وترفع ثوبها حتى منتصف ركبتها كي لا
تضربه الأمواج وحينما لمحت نظرته نحوها هلعت وغادرت المكان على الفور.
ابتسم ساخراً..
الأمر جيد الآن أصبح مخيفاً بحق!
سيجارة محروقة تلو أخرى وتتشكل داخل خياله تفاصيل..
مباغتة من الرقيق الذي رسم رجولته فوق وجهه بلكمة تلو أخرى
سقط بغتة ولكن تلك جولة..
كان يرددها وقد جز فوق أسنانه مع ذكرى آخر لحظاته بالمشفى وزيارة من
يظنوا أنفسهم أصحاب حق..
لقد تجاوز تلك المرة بما لا يقبل المفاوضة..
انتهك المال والعرض وأصبح حق العرب موته أو رحيله..
وكحال كل خادم خلف مخدوم تخلى عنه مخدومه فنبذه خادميه..
والرجل الذي كان يستند على سطوته نبذه كحال الكبار..
وقتما تجب التضحيات نبدأ بالبيادق..
آخر سيجارة تركها لأمواج البحر قبل أن يُكملها..
فالتتمة ستكون بيده هو والقسم هنا لا رجعة فيه..
سيعود.. **************
وحين افترقنا...
أصبحت أحمل كل الصفات..
شباب وحزن.. رماد ونار..
وطير يغني بلا أغنيات..
أدواي الجراح بقلبٍ جريح..
أمني القلوب بلا أمنيات..
"فاروق جويدة"
باريس..
السابعة صباحاً..
هو يتجول بمنزله حافي.. غاضب!
صراخ بالخادمة وبحث عن شهرزاد التي اختفت.
بعد مرور ربع ساعة كان قد ارتدى ملابسه على عجالة قللت من تأنقه بشكل
ملحوظ,
قميص لم يكترث بإقفال جميع أزراره وسترة بنية فوق سروال فاتح من خامة
الجينز القاسي وسيارة عالقة في تكدس مروري عقيم..
بعد عشرة دقائق أخرى كانت خطواته متسارعة على درج محطة مترو جورج
الخامس ليحشر جسده داخل قطار سيهبه سرعة!!
بنايتها بسيطة ولكنها راقية..
شقة تحتوي على غرفة نوم واحدة وغرفة معيشة لا يوجد بها سوى أريكة
حمراء ول وح رسم فارغ..
وهي..
ترتدي سروالاً كريمي اللون له سحر طبقات هادئة من الشيفون وينساب
بسلاسة فوق أردافها المثالية القياس.. بلوزتها لها نفس اللون بأزرار ذهبية
تبدأ من تجويف وسحر كل امرأة..
هذا المفترق الناعم بين كل نهدين!
وخصلاتها الحمراء مرفوعة بفرشة رسم, توقف صامتاً في محرابها المظلم!
نعم هو الصباح ولكنها أسدلت ستائرها رافضة واكتفت بضوء خافت ينبعث من
مصباح جانبي..
توليه ظهرها وتعد قهوة منكهة بالحليب.
جاء صوته غاضباً وبخشونة:
مش ده اتفاقنا يا شهرزاد..
لم تجبه ظلت تقلب قهوتها ولا يعرف هو أن فوق شفتيها ابتسامة..
حُمرة قانية وعطر صارخ لم تستخدمه منذ زمن..
هدر بصوت أقوى:
سيبتِ القصر ليه يا كارمن؟
بعد صمت طويل مقصود جاء ردها خافتاً بثقة تناقض كل صوتٍ عالٍ:
بيتهيألي إنك معاك مفتاح شقتي!
صمت يراقب استدارتها وطلتها!..
صحن مسطح تبسطه بأناقة فوق كفها الأيمن واقتراب مرسوم كلوحة ألوانها
ليست بيده..
وبحمرتها القانية فوق صف أسنان بيضاء حد الكمال تابعت:
تفطر معايا!
وخطوتان اثنان وأضافت:
ده وافل!
وبعد ثلاث خطوات كانت تواجهه وتسكب فوق فطائرها غلظة شهية وتكرر
بهمس:
أكيد بتحب الصوص زيي!
لتزيد بنبرة هامسة أخيرة وابتسامة لم تعرف لشفتيها طريقاً منذ ست سنوات:
ده توت!
وكانت همسة الهاء تلتصق بهمس التاء في لحن طويل
لا تتقنه سوى ام أ رة واحدة.. الحمراء.. كارمن
الحمراء..
كارمن..
***************


صمت الجياد بقلم /مروه جمالWo Geschichten leben. Entdecke jetzt