الجزء الثالث

278 11 0
                                    

بعد حوالى ساعة منذ انطلاقي من ساكرامنتو بدأت اسمع صوت اتي من الخلف صوت بعيد منخفض جدا لدرجة أنني لم أعرف ما هو ، مع مرور الدقائق يصبح اقرب و اوضح أكثر فأكثر الى ان استطعت تمييزه انه صوت سيارة إسعاف !!! خلال دقيقتين تجاوزتنا سيارتي إسعاف مسرعتين على الطريق الفرعي الضيق في ذات الاتجاه ، لم يكن في هذا الاتجاه الا بضع إحياء سكنية صغيرة و التي من ضمنها الحي الذي به منزلي عرفت أن هناك شيء ما طلبت من السائق الإسراع قدر الإمكان أصابني ذلك الشعور الغريب من التوتر في المعدة يشبه توتر الطالب قبل الامتحان ، و ما أن كدت أصل رأيت سحابة رمادية من الدخان تحوم فوق الغابة و تمتد الى ما فوق الحي كان التوتر في آخر الصف بعيدا عن المشاعر الواضحة التي اشعر بها لكن ما ان رأيت تلك السحابة حتى تقدم التوتر و أصبح في المقدمة يليه الخوف مباشرة .

على بعد شارعين من المنزل استوقفني شرطي منعني من المرور  و قال المنطقة مغلقة هناك حريق في الغابة و استمر حتى وصل الى المنازل غير مسموح لأحد بالدخول و طلب مني العودة كان يقولها بملامح جامدة و كأنها الجملة الوحيدة التي يمكنه قولها بدى ذلك مثيرا للأعصاب
- قلت له ذاك المنزل هناك هو منزلي علي الذهاب ، عائلتي في المنزل ، كنت اتكلم و انا في غاية التوتر كدت افقد السيطرة على تصرفاتي كدت الكمه على وجهه و هو أصر على عدم مروري
- قال أهدأ يا سيدي سيهتم رجال الاطفاء و المسعفون
  بالأمر
أظهرت له شارتي و قلت أنا شرطي أيضا أنا محقق في شرطة نيويورك
- شارتك تعمل فقط في نيويورك انت لست عميلا فدراليا ، أنا آسف لدي أوامر
- أنا أيضا لدي أوامر
- من من ؟
من دماغي اللعين و فاجأته بضربة مألمة بركبتي بين ساقيه  فوقع ارضا و لم يحاول النهوض ، قلت أنا آسف و بدأت أركض و أركض بأسرع ما يمكن بينما كنت أركض كنت أردد جملة واحدة :  أرجوك يا الله خسرت والدتي منذ سنة ، خسرت أبي و أصدقائي في الحرب لا يمكنني تحمل خسارة المزيد ارجوك يا الله ارجوك زوجتي و ابني آخر ما تبقى لي ، أرى الجيران يراقبون ما يحدث من عتبة منازلهم و من النوافذ ينظرون الي بطريقة كأنهم يقولون من هذا المجنون الذي يركض صوب شارع يشتعل ، كانت تلك ثواني بطيئة جدا و مخيفة و مدمرة الأعصاب بشكل فظيع حتى وصلت إلى الشارع رأيت المنزل عن بعد وهو يحترق زدت من سرعتي حتى تعثرت و وقعت على وجهي و خدشته حتى أدمي كنت انزف لكني لم أشعر بذلك نهضت و تابعت الركض لم أكن أشعر انني أركض لم أشعر بالتعب ، حتى عندما تعثرت و وقعت لا اذكر انني أردت النهوض و الاستمرار في الركض فقدت السيطرة كانت تلك حركات لا إرادية ، كانت الشمس تغرب لكن الليل لم يحن بعد ، رأيت سيارات الإسعاف و الإطفاء ، كان الشارع في حالة فوضى نيران ملتهبة أصوات صياح نساء و بكاء أطفال سيارات الإطفاء و الشرطة و الاسعاف تملأ الشارع بأصوات صافراتها التي لا تبشر بالخير ، أناس اصابهم الهلع يركضون في الأرجاء يطلبون النجدة بإستثناء رجل واحد يصارع رجال الاطفاء بكل ما أوتيا من قوة و بدون اي تردد او استسلام غير مبال بألسنة اللهب و الدخان و يصرخ دعوني ادخل دعوني ادخل أبني في الداخل زوجتي في الداخل علي انقذهما ارجوكم دعوني ادخل أرجوكم سيموتان بالداخل أرجوكم و رجال الاطفاء يمنعونه الدخول  ، دعوني ادخل ، دعوني اموت معهم ارجوكم........
كنت أنا ذاك الرجل....

بعد دقائق من الصراع و الصراخ و الفوضى تم إخماد النيران و بدأ البحث عن اي جثث او مصابين كنت أدور في مكاني من شدة التوتر، أنظر الى السماء و أدعو الله أن يكونا بخير و خلال أقل من دقيقتين أرى المنقذين يخرجون من جانب المنزل خارجين من الباب الخلفي بنقالتين واحدة عليها امرأة و الاخرى عليها فتى صغير انهم بن و تاتيانا بداية لم أستوعب الأمر كنت أقول في نفسي انهم بخير يحتاجون الى عناية طبية في سيارة الإسعاف فحسب انهم بخير ، هدأت و خارت قواي أصبحت ضعيفا و مصدوما و كأنني لست ذات الرجل الذي كان يصارع رجال الاطفاء منذ قليل اقتربت لأتأكد أنهم هم مع أنني كنت موقنا أنهم بن و تاتيانا عندما إقتربت نظرت اليهما ثم نظرت الى المسعف كنت أنظر اليه في عينيه و كأنني أقول لماذا لا يتحركان لماذا !! أفعل شيئا أفعل شيئا !!! ، فأشاح المسعف بنظره ، حينها عرفت انه لا يوجد شيء ليفعله لم أرد تصديق هذا ، لم تكن أجسادهم محترقة ابدا لم تكن هناك اي إصابات لقد أختنقو بالدخان ، كنت جاثيا على ركبتي أنظر اليهم بنظرة لا يمكن تفسيرها كانت خليطا بين الألم و الصدمة و الخوف و التحسر كان بن قد فارق الحياة لكن تاتيانا كانت تلفظ آخر أنفاسها لم يعلموا بذلك ظنوا أنها ميتة و انا كذلك عندما رأتني ابتسمت بصعوبة لا أعرف ان كانت إبتسامة بالفعل أم انها مجرد حركة لا إرادية قبل أن تلفظ نفسها الأخير لكنني أريد القول أنها أبتسامة ، كانت ابتسامة أليمة الى حد لا يمكن وصفه اجمل و أصعب أبتسامة أراها أنها ابتسامة الوداع الوداع الذي لا رجعة بعده لا اعرف ان كانت هذه ابتسامة بقصد الابتسام ام انها لحظة خروج روح طيبة من جسدها ، بدأت أصرخ انها حية !!! انها حية !!! ضعوها في سيارة الاسعاف بسرعة هيا ، كان لدي ذلك النوع من الأمل الأمل الواهم او بعيد المنال لكنه يستوجب المحاولة  ، كانت المسافة بين المنزل و سيارة الاسعاف عدة أمتار فحسب لكن ذلك كان أكثر من كافي حتى تخرج روحها من جسدها ما إن وضعت في سيارة الإسعاف لم يكن هناك نبض او تنفس.........
ظللت أعانق الجثث و أنظر اليها لا أصدق ما أرى مع ان طبيعة عملي تجعل هذه المناظر شيء معتادا لكن هاتين الجثتين ليست اي جثث انهما جثتين لآخر شخصين أكترث لأمرهما في حياتي لم يبقى لي أحد لا يمكنني وصف ما شعور ان تعانق شخصا ميتا و تقبله ، بكيت كما يبكي الأطفال في أحضان أمهاتهم لكن لم تكن هناك لا أحضان ولا أمهات كنت وحيدا تماما لم استطع مقاومة البكاء لا أعتقد ان كلمة بكاء تصف تلك اللحظات ، كنت ...... لا أعرف ، شيء اعمق و أكثر إيلاما من البكاء كنت أصدر أصوات غريبة و الملامح على وجهي أغرب لدرجة انني لم استطع التنفس بكيت بحرقة و ألم شديدين جالسا في سيارة الاسعاف واضعا يدي على ركبتي أرى زوجتي و أبني امامي و دموعي تجري على وجهي و تقطر من ذقني .
مسحت دموعي بكمي و خرجت من سيارة الاسعاف لا أعرف لأين سأذهب او ماذا سأفعل لم أفكر حتى لأين اتجه مشيت فحسب ثقيل الخطوات كأنني ثمل أترنح يمينا و يسارا أكاد اتقيأ مع ذلك العرق البارد على جسدي فجأة شعرت ببرودة في اطرافي ، ساقاي لم تعد قادرتين على حملي كان هناك عمود إنارة قريب على بعد حوالي 4 امتار حاولت الوصول اليه لأتشبث به لكني انهرت قبل بلوغه كانت الرؤية تصبح مظلمة و مشوشة أكثر فأكثر و الاصوات بعيدة و غير واضحة سقطت و ضربت رأسي بالعمود لم أشعر بتلك الضربة وقعت على الارض كجثة هامدة لم اتحرك لم أطلب المساعدة و لم أحاول النهوض استسلمت لم يكن لدي مانع لمفارقة الحياة في تلك اللحظة لم يبقى هناك شيء أعيش لأجله ، أحسست بالدماء الدافئة النازفة من رأسي تسيل على وجهي لكني لست بميت فقلبي لايزال ينبض و عينان تريان ما يحدث حولي كنت أنظر الى السماء بأعين جاحظة و أقول في نفسي فقدت أبني لقد مات أبني دون أن أودعه لقد مات ! مات ! ، لقد ماتت و هي غاضبة مني ، كنت اصدر صوتا غريبا و كأنني احتضر و انفاسي متقطعة لم أستطع حتى البكاء .

تسارع المسعفون تجاهي وضعت على النقالة شبه غائب عن الوعي أرى كل شيء بضبابية لم أكن أرى غير وجوه المسعفين المتعرقة السوداء بسبب الدخان و سحابة بيضاء صغيرة يتخللها ضوء الشمس البرتقالي اثناء غروبها . بن نائم و تاتيانا تتحدث على الهاتف كانت هذه آخر صورتين في ذهني قبل ان أفقد الوعي أثناء نقلي إلى المشفى .

استيقظ فجأة في غرفة نظيفة جدا بل معقمة كل شيء فيها بالون الأبيض ما عدا الجدران و الستائر فقد كانت سماوية خصوصا و ضوء الشمس آت من خلفها ينير الغرفة بضوء أزرق خافت مريح للعين ، بجانب السرير يوجد طاولة قصيرة  عليها مزهرية فيها باقة ورد غير حقيقي و بجانبها حقيبة ، لدي حقنة تغذية في ذراعي و لكن لماذا أنا هنا منذ متى و أنا هنا ؟ ، أشعر بالخذر في اطرافي و ببعض الدوار و بالعطش الشديد رأسي يؤلمني تفكيري مشوش و لا يمكنني التركيز و لدي قناع من الضمادات على وجهي شعور غريب بعدم الراحة أعرف أن لوجودي هنا سبب لكني لم استطع التذكر.
راودتني احلام كثيرة أثناء النوم او بالأحرى كوابيس اغلبها احداث عشتها لكنها لم تكن اي ذكريات بل كانت مميزة إما الاسوأ او الأفضل احداها كانت ايام طفولتي في منزل العائلة الخشبي الصغير في الريف امامه مباشرة كانت هناك شجرة كبيرة تغطى كامل المنزل بظلها اثناء الغروب اعتدت الجلوس على طاولة المطبخ الخشبية البيضاء القديمة و أضع رجلاي على حافة حوض غسيل الاطباق أراقب ضوء الشمس المتخلل من بين أوراقها وهو يسقط على وجهي و ملابسي بتلك الاشكال غير المنتظمة مارا خلال نافذة المطبخ كان ضوء الشمس يألم عيني لكني لا ازيح بنظري حتى تختفي الشمس خلف الأفق عندها آخذ نفسا عميقا و ازفره ثم أنزل رجلي عن الحوض و انزل عن الطاولة و أذهب كأن حدثا عظيما قد انتهى للتو كان هذا تصرف غريبا بالنسبة لطفل في الثامنة ، لكنني كنت أستمتع بفعل هذا ، عشت أجمل ايام طفولتي تحت ظل هذه الشجرة ، الذكرى التي تلتها كانت من الأسوأ بالنسبة لي كطفل كان يوم قطع تلك الشجرة بسبب حاجتنا للحطب و المال شاهدت والدي يضربها بالفأس كل ضربة بذلك الفأس على جذع الشجرة كانت تتجسد في موجة من الألم تنتشر في جمجمتي المهشمة أثناء نومي لكن هذه لم تكن الذكرى الأسوأ الحرب هي الأسوأ ، دائما ما كنت احاول الابتعاد و عدم التفكير في الماضي و خصوصا ذكريات الحرب لكنها تعود رغما عني حتى اعتدت الأمر ، شاركت و ابي و اغلب اصدقائي في الحرب العالمية الثانية شاركت كجندي و ابي كان عسكريا سابقا و شارك في الحرب الاولى و نجى منها دون إصابات جسدية لكن الاصابات النفسية كانت بليغة .


لست فخورا بمشاركتي في الحرب حتى انني تخلصت من مدالية " الشرف " التي منحت لي رغم انني فررت من أرض المعركة في فترة ما ، لم أكن لأطلق عليها هذا الاسم لولا انه منقوش عليها ، لم أقابل أحدا ممن عادو من الحرب قال انه يفتخر بذلك او ان الامر أثار إعجابه انها كارثة لا أحد يعجب بكارثة ، المفتخرون بالحرب هم ألائك الاغنياء أصحاب المناصب و النفوذ أصحاب البذل النظيفة و المكاتب الفخمة أما نحن الذين سحقنا في أرض المعركة و عذبنا في المعتقلات فليس لدينا ما نفتخر به يكفينا الألم و الندم الذي يرافقنا في حياتنا يوما بعد يوم كرفيق تكرهه في رحلة طويلة بسبب ما فعلنا هناك بأوامر من " المفتخرين " أنا متأكد مهما عشت من تجارب سيئة و مألمة في الحياة ستظل الحرب هي الأسوأ ، إذا دخلت الحرب ستهون عليك كل المصائب بل ستتمنى المزيد منها على ان تنتهي الحرب ، لا يمكن الدخول و الخروج من الحرب دون تذكار فهي تعطي تذكارا لكل من يدخلها سوف تترك عليك بصمتها نفسيا أو جسديا ، بالنسبة لي فقد حصلت على البصمتين .
اي شخص هو في نعمة لا يعرف قيمتها بما أنه قادر على النوم بدون تناول أقراص منومة او المضي قدما في حياته بدون المهدئات او مضادات الاكتئاب لا يمكنك تخيل المناظر و الأفعال الشنيعة التي ستضطر لفعلها هناك لن تعرف شعور شخص يجر أعز اصدقائه بيد و يحمل ساق صديقه باليد الاخرى او رؤية والدك يسقط ميتا برصاصة اخترقت رأسه او احراق كومة من جثث الاطفال و النساء و الجنود لكنني أعرف هذا الشعور لأنني جررت صديقي مبتور الساق و رأيت أبي يموت أمامي و أحرقت الجثث اللعينة و إضافة إلى ذلك خسرت أحد أصابعي" الخنصر"  لكي يتم إعفائي من القتال ، مشاهدة إنسان يتم سحقه بالدبابة حتى ينفجر رأسه و تتناثر قطع من دماغه على وجهك لن تمر بسلام على وضعك النفسي او رؤية جثث تحولت إلى جيف يمكنك شم رائحتها عن بعد ميل لأناس تم شنقهم في عواميد الإنارة و علق في أعناقهم لوحات كتب عليها "خائن" ، في الحرب ستتمنى شيئين فقط أما ان تنتهي الحرب أو ان تموت برصاصة رحيمة في الرأس دون عذاب ، نعم و بكل تأكيد الحرب هي الأسوأ على الإطلاق .
لا أعرف لما أتذكر هذه الأشياء الآن بالذات و بشكل اوضح و بدأت تصيبني بالتوتر و عدم الارتياح .
احاول تذكر آخر شيء قمت به قبل وصولي الى هنا ثم سمعت صوت طرق على باب غرفتي.... لم أجب ثم دخلت ممرضة بشوشة صغيرة في السن الغرفة و قالت انت مستيقظ!! ببعض من التفاجئ ، لا تخف انت بخير وجهك ليس مشوها انفك مكسور و لديك بعض الرضوض و الجروح ستكون بخير ، كيف تشعر اليوم ؟
- قلت في نفسي "اليوم" !! تتحدث و كأنني هنا منذ أيام قالتها بطريقة كأنها معتادة على رؤيتي لم تكن تنظري لي حتى عندما قالتها ، كمحقق يمكنني قراءة تصرفات الشخص و معرفة حالته و نواياه لدرجة قد ترعبك أنها من النوعية المجتهدة تحب ما تعمل و تجيده

كذبة باندورا Pandora's LieWhere stories live. Discover now