الفصل الحادي والاربعون (جودي)

ابدأ من البداية
                                    

عندما غادرت أماني وهشام الغرفة بعد فترة .. كان تمام في الانتظار خارجا .. اعتدل على الفور سائلا بلهفة .:- كيف هي الآن ؟
:- لقد استيقظت ..ولكنها مازالت ضعيفة ..
نظرت إليه قائلة :- هل ستكون رقيقا معها ؟
قال غير مصدق :- هل قبلت بأن تراني ؟
هزت رأسها قائلة :- مارست عليها بعض الضغط .. وما كنت لأفعل لولا يقيني بحاجتها لسماع ما ستقول
نظر إليها وتقدير كبير يطل من عينيه وهو يقول :- أعدك بأنني لن أزعجها
أما هشام .. فقد اكتفى بأن يقول لتمام بحزم :- اهتم بها جيدا
اومأ تمام برأسه وهو يقترب من الباب .. يطرقه برفق .. ثم يدخل
نظر هشام في إثره قائلا :- اتظنينها فكرة صائبة ؟ لربما احتاجت إلى مزيد من الوقت لتتحسن على الأقل
تمتمت :- لن يشفى جسدها من جراحه ما لم تعالج قلبها أولا
نظر إليها معجبا برجاحة عقلها .. وطريقة استيعابها لحاجات شقيقتها ... ولكن ماذا عن حاجاتها هي ؟
تحت هذا التماسك .. لم تكن أماني قد صحت من صدمتها بعد .. عرف هذا وهو يقترب منها .. ويحيط وجنتها بكف يده سائلا بحنان :- وماذا عن أماني ؟
هل ستكون بخير ؟
أرادت من كل قلبها أن تجيبه بانزعاج .. بالتأكيد .. ما الذي تظنه بي ؟
ولكنها تحت تأثير عينيه الحانيتين .. وصوته الدافئ .. وإغراء صدره على بعد بوصات عنها .. لم تستطع التظاهر بالقوة لفترة أطول .. تدفقت الدموع من عينيها بدون إنذار وهي تقول :- لقد كدت أفقدها يا هشام .. هل تعرف ما الذي يعنيه هذا ؟ لقد كدت أفقدها بحق الله
سحبها |إلى صدره وضمها بقوة سامحا لها بالنشيج بين طيات قميصه ربت على ظهرها مستمتعا باستسلامها أخيرا .. والسماح له بالغوص بين مخاوفها الكثيرة ..همس لها برقة |:-
:- ولكنك لم تفقديها .. أليس كذلك ؟ إنها بخير .. تتحدث في الداخل إلى حب حياتها .. وسرعان ما ستجد سعادتها المفقودة ولن تقلقي عليها أبدا بعد ذلك
فكرت أماني وهي تتمسك به .. وماذا عن سعادتي أنا .. هل سأجدها معك يا هشام .. أم أنها ستهرب مني ما أن بدأت أعرف مذاقها ؟

فتح تمام الباب وخطا إلى الداخل بتردد .. هبط قلبه بين قدميه بين قدميه عندما رأى حبيبته الصغيرة والرقيقة ممددة فوق السرير الضيق .. والضمادات تحيط بها في كل مكان .. وجهها كان شاحبا .. وقد ساهم مع الرباط المحيط برأسها لمنحها مظهرا هشا وضعيفا .. لم تكن تنظر إليه .. بل كانت تركز بصرها نحو نقطة بعيدة في زاوية الغرفة .. .. تطبق شفتيها بقوة وكأنها تمنعهما من الارتعاش .. وقد توردت وجنتيها وكأنها لم تستطع منع حواسها من الاحساس بقربه
ناداها بصوت خافت :- جودي
ازداد فمها قسوة .. وظهرت الدموع في العينين الزيتونيتين .. عاد يقول متوسلا :- جودي .. انظري إلي .. هلا استمعت فقط إلى ما سأقوله
نطقت أخيرا قائلة ببرود :- لقد سبق وقلت ما لديك يا تمام
اقترب وجلس على المقعد المجاور للسرير قائلا بحدة :- لا .. لم أقل كل ما لدي يا جودي .. أنا أحبك .. ولا أستطيع الحياة من دونك .. لو لم أكن قد قابلتك في الحفلة .. لكنت سعيت إليك بنفسي وبكل طريقة ممكنة فور أن أعرف بفسخك لخطوبتك
هزت رأسها قائلة :- لا أريد أن أسمع أعذارك الواهية يا تمام .. لم تقنعني في المرة السابقة ولن تفعل الآن
ظهر عليها الإرهاق وهي تقول :- فقط اذهب واتركني وحدي .. أرجوك
صمت تمام لفترة طويلة وهو يحدق إلى حذائه اللامع .. ولكنه لم يخرج .. وهي كانت تشعر به قريبا منها إلى حد الألم .. تسمع صوت أنفاسه وتستنشق رائحته .. وتمنع نفسها بصعوبة من النظر إليه ..
إذا نظرت إليه ستراه .. وتؤخذ بجاذبيته وسحره كالعادة .. وتضعف مجددا .. وهي قد سئمت بكل بساطة من الارهاق العاطفي الذ يسببه لها .. كل ما أرادته هو ان تشعر بالهدوء والاستقرار كما كانت قبل وفاة والدها .. عندما كانت حياتها هادئة وروتينية .. وعندما كان التفكير في المستقبل لا يسبب لها أي مشكلة على الإطلاق
قال أخيرا بهدوء :- عندما كنت طالبا في الجامعة .. ظننت بأنني قد وقعت في الحب
توترت .. لم تكن تتوقع منه أن يخبرها بهذا .. :- كان اسمها كريستينا .. وكانت فتاة رائعة الجمال .. شعر بلون الذهب .. وعينان بلون الزمرد .. مجرد سماع ضحكتها كان يذهب بعقلي ويشوش تفكيري .. كنت غارقا في حبها حتى أذني .. وكنت أعرف يقينا بأنني سأطلب يدها للزواج فور تخرجنا من الجامعة .. ومتأكد أيضا من قبولها لطلبي
قبضت أصابع جودي على الملاءة القطنية التي تغطي ساقيها .. وقلبها يحترق غيرة من تلك المرأة التي أحبها تمام وأراد الزواج منها ....ولكن ما الذي حدث ؟ لماذا لم يتزوجها ؟ أم تراه فعل
قال ببرود :- سمعتها صدفة تتحدث مع إحدى صديقاتها دون أن تفطنا إلى وجودي .. سألتها صديقتها مستنكرة إن كانت حقا ستستمر في علاقتها مع العربي الحقير الذي ترافقه .. فأجابتها بأن والد هذا العربي الحقير ثري جدا وأن الزواج منه والبقاء معه لسنوات قليلة .. ثمن رخيص للفائدة التي ستجنيها عندما تقرر إنهاء الزواج
شهقت جودي وهي تنظر إليه هاتفة بعنف :- السافلة الحقيرة
ما فاجأها أكثر .. هو ما رأته عندما نظرت إليه أخيرا .. فهذا الشاب البائس لا يمكن ان يكون تمام .. كان مايزال يرتدي ملابس السهرة بدون ربطة عنق .. وقد تجعدت حتى بدت كالأسمال .. بينما تشعث شعره .. ونمت لحيته لتساهم مع الهالات السوداء المحيطة بعينيه المرهقتين في منحها فكرة عن الوقت الذي قضاه خارجا في انتظارها .. وعن قلقه عليها
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لقد أثرت انتباهك أخيرا يا عزيزتي .. اطمئني .. لم أتزوج بها .. بل أنا لم أواجهها بما سمعت .. لقد سافرت فور تخرجي وعدت إلى الوطن .. وقد اعتراني القرف من المادية والأنانية والعنصرية التي وجدتها هناك .. حتى من ظننتهم يكنون لي المشاعر .. لم أظن أبدا بأنني سأسلم قلبي مرة أخرى لامرأة تحطمه بقدميها .. عشت السنوات السابقة أبني نفسي وأعيش حياتي ببساطة وخلو بال ... مستمتعا بقربي من عائلتي وأصدقاء يفكرون كما أفكر .. ويحلمون كما أحلم .. حتى وقعت عيناي ذات مساء على أجمل عينين رأيتهما في حياتي .. عينان عذبتان وبريئتان .. نظرتا إلي بذعر وكأنهما خافتا أن أقرأ ما فيهما من إعجاب
احمرت وجنتاها وقد تذكرت لقائهما الأول .. وضمت يديها إلى بعضهما تفركهما بارتباك .. فأكمل :- عندما أخبرتني شبه صارخة بأنك مخطوبة .. أحسست كمن تلقى صفعة قاسية على وجهه .. أردتك .. ولم أنكر مشاعري حتى لنفسي .. فكرت.. ما الذي سأخسره إن قابلتك لمرة أو مرتين ؟ فقط لأعرف إن كنت بالبراءة والأنوثة الظاهرتين عليك .. لم أرغب بأن أحبك .. ولكنني وجدت نفسي أقع في هواك بقسوة دون أن أدري .. عندما قبلتك أول مرة .. بعد أن شعرت بخطر فقدانك .. عرفت بأنني أحببتك كما لم أفعل من قبل .. وأن ما أحسسته يوما اتجاه كريستي لم يكن أكثر من انجذاب جسدي .. وانه كان ليزول فور أن أعرف أي إنسانة مادية وأنانية هي
تجرأ أخيرا .. وتناول كفها الرقيقة .. فأحس ببرودتها ورقتها .. وتمنى لو يقبلها ويحتضنها إلى قلبه كي يؤثر بصاحبتها ويستعيد حبها مجددا
قال :- تمسكك بخطيبك لم يزدني إلا إصرارا .. عرفت بأنني إن لعبت أوراقي بشكل صحيح .. إن أخبرتك بثرائي وجديتي .. لن يكون الأمر صعبا عليك .. ستتركينه بكل بساطة وتأتين إلي .. لو تعلمين كم كان الأغراء كبيرا .. ولكنني في النهاية لم أستطع أن أفعل .. أردتك أن تأتي إلي لسبب واحد فقط .. لأنك تحبينني أنا .. الشخص البسيط الذي عرفته أول مرة يعزف الجيتار أمام الناس غير عابئ إن كانت ألحانه قد نالت رضاهم .. أعرف بأن طريقتي كانت خاطئة .. وأنني لم أثق بحكمك على الأمور .. وبحبك لي .. ولكنني كنت خائفا ... جزء مني خشي أن يرى فيك شيئا من كريستي وأنت لم تساعديني في التخلص من مخاوفي .. لقد بقيت على تمسكك بخطيبك حتى بعد علمك بعدم حبك له
حرك أنامله فوق بشرتها الناعمة .. مثيرا داخلها إحساسا لذيذا بالإثارة .. قال بصوت أجش :- عندما رأيت سيارتك تصطدم بعمود النور .. ياإلهي جودي .. لقد حسبت بأنني قد فقتك إلى الأبد .. بالكاد تمكنت من إخراجك من السيارة قبل أن تشتعل .. رؤيتي لجسدك المخضب بالدماء كادت تقتلني .. رؤيتهم وهم يحملونك إلى سيارة الإسعاف .. انتظاري لوقت بدا لا نهائيا في انتظار سماع خبر عن حالك .. جودي .. هل لديك فكرة عما كان من الممكن أن يحصل لي لو أن مكروها أصابك ؟ كنت فقدت رشدي .. وكرهت حياتي بل وأنهيتها يأسا .. أنا لا شيء بدونك يا جودي .. أحبك ولن أقوى على فراقك لحظة واحدة .. فقط أخبريني بأنك قد سامحتني .. وأنك ستكونين من الآن فصاعدا جزءا ثابتا من حياتي .. بل كل حياتي
تدفقت دموعها لمرأى اليأس الكامل الذي فاضت به عيناه وهو يجثو على الأرض إلى جانب السرير .. ويدفن وجهه في راحة يدها كي تحس بدموعه
يا إلهي .. كيف تستطيع أن تبعد عن حياتها الهواء الذي تتنفسه .. الشمس التي تستمد منها الدفء .. الماء والغذاء
هل ظنت حقا بأنها ستتمكن من الحياة بدون تمام ..الرجل الذي تعشقه إلى حد الألم
بيدها الأخرى .. ربتت على رأسه .. و داعبت شعره الفوضوي وهي تقول بين دموعها .. :- أظنك ستنتظر حتى أشفى تماما قبل إعلان الخطوبة
رفع رأسه بحدة .. وقفز يجلس إلى جانبها على طرف السرير برفق حريصا على ألا يسبب لها الألم وهو يقول بلهفة :- لا حفلة خطوبة حتى الشفاء .. ولكن العالم بأسره سيعرف بحبي لك .. وأنك ستكونين زوجتي
نظرت إليه بحب وهو ينحني ليقبل جبينها .. إنها لا تصدق
أتراها تحلم .. أم أنها قد عثرت على سعادتها أخيرا مع الرجل الذي تحب ؟


سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن