الفصل الرابع والعشرون (الحقيقة المرة)

7.5K 260 5
                                    

أوقف تمام شاحنته الصغيرة والتفت إلى جودي ملقيا نحوها نظرة طويلة لاحظ خلالها مدى ضيقها وتوترها وهي تنظر عبر النافذة إلى مدخل المطعم .. قال بهدوء :- لقد وصلنا
أدركت هذا .. ولكنها لم تتوقع عندما وعدها بأن يأخذها إلى مكان مميز أن يعيدها إلى حيث التقيا أول مرة .. إلى مكان يرتاده طارق ومعارفه بانتظام .. سمعته يقول بحزم لطيف :- جودي .. انظري إلي
التفتت إليه على مضض .. فآخر ما أرادت إظهاره له هو خوفها وجبنها من مرافقته علانية .. ولكنها وجدت التفهم في عينيه وه يقول :- ما من مبرر لقلقك .. أعدك بهذا
صدمتها ثقتها الكبيرة به .. فقد أومأت برأسها مصدقة إياه بكل بساطة .. وترجلت معه من السيارة .. لاحظت بأنه لم يدخل من البوابة الرئيسية .. بل دار بها حول المبنى وأدخلها من باب جانبي صغير .. توقفت عندما صعد إلى درج ضيق وقالت بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
استدار إليها قائلا بنفاذ صبر :- هلا توقفت عن الشك بكل ما أقوم به .. فقط جارني قليلا ولن تندمي .. وأعدك بأنني سأوصلك إلى منزلك فور أن تطلبي مني هذا
ترددت للحظات ثم حسمت رأيها .. منذ أيام وهي تخرج مع تمام بانتظام وفي كل مرة كان يفاجئها بأخذها إلى مكان مميز أو القيام بعمل مجنون لم يخطر لها أبدا .. باختصار كانت تستمتع بوقتها دون أن يفرض عليها شيئا .. لا لمسات .. لا تلميحات مثيرة .. ولا حتى قبلات
لم يقترب منها بشكل حميم ولو مرة منذ قبلها ذلك اليوم فوق الجبل .. وذلك لكسب ثقتها وعدم ترك حجة لها تمنعها من رؤيته.. ولكن السؤال الذي كانت تطرحه على نفسها باستمرار هو كيف ستكون ردة فعلها إن حاول تقبيلها مجددا ؟
صعدت معه حتى وصلا إلى السطح .. وقفت في وسط المكان الفسيح والهواء البارد يلفحها بقوة فضمت معطفها إليها وجالت ببصرها حولها .. فلم تجد شيئا سوى غرفة صغيرة في نهاية السطح .. تسرب الضوء من أسفل الباب الخشبي المغلق فعرفت بأنها مقصدهما
شعرت بيده على ظهرها تحثها على السير .. فأخفت جاهدة الخوف والريبة اللذين تسللا إلى نفسها .. وسارت معه نحو باب الغرفة .. فتحه وأفسح لها الطريق لتدخل أمامه ..
تسمرت مكانها بعد خطوة واحدة من دخولها .. وأطلقت شهقة قصيرة .. فما رأته داخل الغرفة لم يكن متوقعا على الإطلاق .. همست بدون وعي :- يا إلهي
لم تكن الغرفة صغيرة كما ظنت .. بل فسيحة ورحبة .. بهرت نظرها بديكورها البديع الذي تجلى بالنوافذ المقنطرة الكبيرة المطلة على مشهد رائع للمدينة .. الجدران ذات اللون القوي التي توزعت عليها لوحات فنية بديعة .. ميزت من بينها اللوحة التي اشترياها معا منذ أسابيع .. وبعض الرفوف الخشبية التي تراصت عليها الكتب .. أما أثاث الغرفة فقد كان عبارة عن طنافس وثيرة على الأرض .. وسجادة شرقية متعددة الألوان مما جعل المكان يبدو كمشهد خارج من كتاب ألف ليلة وليلة .. أما إضاءة المكان .. فقد كانت معتمدة على مصابيح تقليدية قديمة الطراز .. منح نورها الأصفر الشاحب بالإضافة إلى النيران المشتعلة داخل موقد قرميدي جميل الشكل المكان طابعا خياليا
همست مجددا :- تمام .. ما هذا المكان بالضبط ؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة رضا للتأثر الواضح عليها وقال :- مكان صمم ليثير ردة فعلك هذه بالضبط
التفتت إليه قائلة بتأنيب :- تمام محفوظ .. هذا مكان صمم خصيصا للتأثير على النساء وإفقادهن عقولهن .. ومن الأفضل أن تكون نواياك سليمة
أطلق ضحكته الرجولية الجذابة وهو يداعب شعرها الناعم الذي جمعته على شكل ذيلي حصان وقال :- ما أنويه حاليا هو منحك وجبة عشاء شهية ووقتا ممتعا لن تنسيه أبدا
نظرت إلى المائدة المنخفضة التي توسطت الغرفة والتي امتلأت بما لذ وطاب من الأطعمة الساخنة .. وزينتها باقة أزهار ناعمة في المنتصف .. فابتسمت قائلة :-من الواضح بان زملائك في المطعم مشتركون معك في إعداد هذه المؤامرة .. منذ متى وأنت تحضر لهذه الأمسية ؟..أم أنك معتاد على القيام بهذه الترتيبات مع كل صديقاتك ؟
أدارها إليه ونظر إلى عينيها قائلا بحزم :- ليس هناك صديقات يا جودي .. أنت أول امرأة أدعوها إلى هنا
ارتبكت جودي وضاعت بين الصدق في عينيه وقناعتها بأن شابا بوسامته وجاذبيته لا يمكن ان تخلو حياته من النساء .. فأسلوبه العفوي في إفقادها عقلها ينم عن خبرة واسعة في معاملة الجنس الآخر
قادها إلى المائدة وساعدها على الجلوس فوق الوسائد الوثيرة فيما قالت :- قد تكون صادقا .. ولكنني لن أصدق بأن نوايا صاحب المطعم كانت سليمة عندما صمم المكان .. بالمناسبة .. هل يعلم بأنك تستعمل عش الغرام الخاص به لأغراضك الشخصية ؟
جلس إلى جانبها والتسلية تطل من عينيه وكانه يستمتع بسماع رأيها السلبي في مديره . ومع هذا قال :-أنت تظلمين الرجل يا جودي .. قهو ليس سيئا إلى هذا الحد .. لماذا لا تصدقين بان رجلا قد يصمم مكانا جميلا كهذا لأجل الهروب إليه من مشاكل الواقع والانفراد بنفسه قليلا .. أو الاجتماع بأصدقائه المقربين بعيدا عن ضجيج المطعم وازدحامه ؟
هزت رأسها بعدم اقتناع قائلة :- حبيبي تمام .. إما انك بريء للغاية أ, انك تكن ولاءا غير عادي لرئيسك
وعندما لم يمنحها ردا نظرت إليه لتجد انفعالا في عينيه فسألته بقلق :- ما الامر ؟ هل قلت ما أغضبك ؟
ابتسم بدفء قائلا :- لا .. ولكنك ناديتني بحبيبي دون أن تشعري
احمر وجهها عندما أدركت ما قالته .. فأشاحت بوجهها منشغلة بتناول ما امامها من طعام متجاهلة التوتر الذي أخذ يتصاعد بينهما .. ثم قالت مغيرة الموضوع :- من الواضح ان رئيسك يكن لك مودة خاصة إذ سمح لك باستخدام مكان خاص كهذا
هز كتفيه قائلا :- إنه معجب بمواهبي .. وبما انني من قام بتصميم المكان .. منحت امتيازا عن باقي زملائي
عادت تتأمل المكان بطريقة مختلفة وهي تقول باستغراب :- أنت موهوب بشكل ملحوظ .. أما فكرت يوما بامتهان هذا العمل ؟
:- تقصدين كمصمم للديكور ؟
:- نعم
هز رأسه ماطا شفتيه بلا اقتناع :- ما قمت به هنا كان للمتعة فقط .. ولكنني لا اجد نفسي أقوم بهذا العمل لكسب الرزق
كان الطعام شهيا بالفعل .. ولكن عقلها كان مشغولا بكلامه .. لم تعرف إن كان سيتقبل منها ما ستقوله أم لا .. ولكن على احد ان يفتح عينيه ليرى الواقع .. قالت :- ألا ترى بانك تهدر طاقاتك بما تقوم به حاليا ؟
عقد حاجبيه قائلا :- ماذا تقصدين ؟
:- أقصد كعازف غيتار
ضاقت عيناه الداكنتان وهما تنظران إليها بتعبير غير مفهوم وقال :- أهذا رأيك ؟
:- انت تملك الكثير من المواهب والطاقات .. والشهادات العليا .. بالإضافة إلى شخصية مثيرة للاهتمام .. تستطيع كسب ثروة إن استثمرت ما لديك جيدا
برقت عيناه بغضب واضح .. ولكن صوته حافظ على بروده وهو يقول :- أعرف بانني لا أقارن بخطيبك الثري يا جودي .. ولكنني لم أخجل يوما من عمل قمت به ما دام شريفا .. أم انك تجدين عملي حقيرا إلى هذا الحد؟
أسرعت تقول بذعر :- لا .. أنا لم أقصد هذا
لم ينتظر منها تفسيرا .. بل قفز واقفا وابتعد عنها .. فعرفت بانها قد لمست وترا حساسا بإشارتها غير المتعمدة غلى الفروقات بينهما
لحقت به إلى حيث وقف ينظر عبر النافذة بنظرات واجمة .. وقالت :- لو لم أكن لك ما يكفي من الاحترام لما كنت هنا معك يا تمام
وضعت يدها فوق ذراعه وقالت بتوسل طفولي :- لا تغضب مني ... أرجوك
وعندما لم يتحرك أكملت بتردد :- أنت تعرف بانني أهتم لأمرك مهما كانت طبيعة عملك
استدار إليها ورمقها بنظرات غامضة وهو يقول :- أثبتي هذا إذن
اتسعت عيناها بريبة .. وقبل ان تفهم قصده أحاط خصرها بذراعيه وشدها إليه بقوة ... كتم شهقتها المذعورة بفم جائع ومتلهف .. فحاولت ان تبعده عنها مقاومة قبلته الشرسة فلم تستطع .. ولكن ما ان مرت ثوان قليلة حتى تبخرت مقاومتها ووجدت نفسها تقترب منه أكثر لتبادله قبلاته بنفس الحرارة واللهفة .. دارت الغرفة من حولها واختفت معالمها .. وسرى في جسدها إحساس لذيذ ومخيف من الإثارة .. شعرت بكل جزء منها يتوق إليه بجنون .. أحاطت عنقه بذراعيها واستسلمت تماما لشفتيه اللتين امتلكتا شفتيها ولم تبتعدا حتى قدرتا حاجتها إلى التقاط أنفاسها .. نظر إلى عينيها التائهتين وشفتيها المرتعشتين .. واهتز جسده بعاطفة جياشة وهو يهمس من بين أنفاسه اللاهثة :- لو تعلمين كم أحبك .. لو تعلمين كم أريدك
كلماته جعلتها تهبط إلى أرض الواقع شيئا فشيئا .. حتى تمكنت من انتزاع نفسها من قلب الغيبوبة التي سيطرت عليها بدفعه بعيدا عنها وهي تصيح بعنف :- توقف
نظر كل منهما إلى الآخر لاهثا .. هو برغبة وحشية كادت تضعفها مجددا .. وهي بذهول مما حصل
تمكن أخيرا من أن تهمس :- كيف تجرؤ على إهانتي بهذا الشكل ؟
رمشت عيناه وكأن ردة فعلها قد فاجأته .. قال بتوتر :- آخر ما قصدت فعله هو إهانتك أو إيذائك يا جودي
ولكنها لم تستمع إليه .. بدت وكأنها تتحدث إلى نفسها وهي تقول باضطراب :- أهذا هو ردك على إشارتي السابقة حول عملك .. أم أنه ما خططت له منذ البداية بإحضاري إلى هذا المكان الشاعري والمنعزل ؟
صاح بحدة ليوقف سيل الأفكار والوساوس من التدفق إلى رأسها :- جودي
نظرت إليه بذهول وهي تردد :- هذا صحيح أليس كذلك ؟ لقد أحضرتني إلى هنا لتنهي ما بدأته قبل أسابيع .. إنه الفصل الأخير من المسرحية الشاعرية الحمقاء التي ضممتني إليها بإلحاحك المستمر .. فكرت بأنني ما دمت سأرفض الارتباط بك .. فلم لا تستغل افتتاني الأحمق بك لتقضي وقتا ممتعا معي
تصلب جسده الطويل .. وارتسم غضب شديد في عينيه .. لم يسمح لها انفعالها بأن تدرك مدى قسوة كلماتها .. ولكنها لاحظت تغير ملامحه فتراجعت بقلق بينما قال هو بجفاف :- أتنعتينني بالانتهازي يا جودي ؟ وماذا عنك أنت ؟ .. من منا يستغل الآخر برأيك .. أنا أم أنت ؟ أنت هي الفتاة الثرية المدللة المخطوبة لرجل آخر ومع هذا لا تجد ضررا في قضاء الوقت مع عازف حقير مثلي
اقترب منها وقد قست ملامحه بشكل لم تعهده جودي منه أبدا .. مما زرع الخوف في أعماقها ودفعها للتلفت حولها بحثا عن مهرب .. قال بقسوة :- تحتقرين كوني فقيرا .. ولن تفكري أبدا بالارتباط بي ... ولكنك لم تترددي في مرافقتي عدة مرات .. ومبادلتي القبلات
صاحت بيأس :- هذا غير صحيح
لوى فمه بابتسامة ساخرة وقال :- حقا ؟ إن لم تخني ذاكرتي فقد كنت منذ لحظات قليلة بين ذراعي .. تبادلينني القبلات بحرارة ورغبة .. إن لم يكن هذا استغلال لي .. وخيانة لخطيبك .. فأنا لا أعرف له تسمية أخرى
تجمعت الدموع في عينيها وقد جرحتها الحقيقة المرة في كلماته .. هزت رأسها محاولة الدفاع عن نفسها وهي تصيح بألم :- لا تجعل من نفسك الضحية هنا .. فأنا ما كنت بالنسبة إليك أكثر من تحدي كدت تنجح في تحقيقه .. لم تكن تفكر بالزواج مني حتى لو اختلفت الظروف
صاح بعنف :- أنت محقة .. لن أتزوج أبدا بفتاة لا تستطيع معرفة ما تريده حقا .. ولا تجد الشجاعة الكافية حتى لتفسخ خطوبتها برجل لا تحبه
انكمشت وقد أخافها عنفه فخفت الحدة في لهجته وهو يقول :- لا تتوقعي مني أن أطلب منك تركه إن لم تفعلي من تلقاء نفسك .. ولا تلوميني على استغلالي لك في الوقت الذي لا تقلين فيه سوءا عني
اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدون أي كلمة .. اندفعت عبر باب الغرفة مسرعة .. فلحق بها قبل أن تصل إلى الدرج وأمسك بذراعها .. وأدارها إليه لتنظر إلى عينيه .. وقال ضاغطا على حروفه :- لن تستفيدي شيئا من هروبك هذا يا جودي .. إنما أنت تهربين من نفسك .ومشاعرك .. ومن الحقيقة التي تحاولين إنكارها .. ستدركين في النهاية أننا قد خلقنا من طينة واحدة .. وأنك لن تجدي أنسب لك مني
انتزعت نفسها من بين يديه وقد علت وجهها نظرة اشمئزاز ... ثم تابعت طريقها خارجة من المكان دون أن يعترض طريقها هذه المرة .. وبينما هي تقطع طريقها شبه راكضة فوق الرصيف .. انهمرت دموعها بغزارة مترافقة مع نشيج مكتوم لم تستطع السيطرة عليه .. لم تكن تبكي بسبب إهانة تمام لها .. ولا بسبب الحقيقة التي ألقاها في وجهها .. بل كانت تبكي بسبب اكتشافها بأنها رغم اتضاح سوء نية تمام ونذالته .. فهي تحبه بجنون
تحبه بلا أمل

سيدة الشتاء Wo Geschichten leben. Entdecke jetzt