الفصل السابع والثلاثون (تمام)

7.7K 277 0
                                    

وقفت جودي على الرصيف تنظر نحو المبنى القديم الذي توسط الحي المعروف .. والذي يمثل قلب المدينة .. بالكاد كانت واعية لأجساد المارة التي أخذت تصطدم بجسدها الجامد في إحدى ساعات الذروة حيث احتشد الناس فوق الأرصفة يتصارعون بين المتاجر الصغيرة .. كل يمضي في حاله يسعى لكسب رزق أو قضاء حاجة
بينما كان عقلها مركز تماما نحو المبنى القديم الذي علا متجر الأحذية البسيط .. ونحو الطابق الرابع بالذات
ما الذي جاء بها إلى هنا ؟ هل حقا قادت سيارتها من منزلها إلى هنا بهدف لقاء تمام ؟
منذ انفصالها عن طارق وهي عاجزة عن نزعه من عقلها وتفكيرها .. شوقها إليه يكاد يخنقها إلى حد عدم قدرتها على التماسك أكثر
كانت قد قررت إخراجه من حياتها كما فعلت مع طارق بالضبط .. ولكنها بعد مرور أسابيع .. تتساءل عما سيفعله لو عرف بانها قد تركت طارق أخيرا
هل سيفرح لخلو الطريق امامه لبناء مستقبل معها ؟ .. ام انه سيستغل الامر هذه المرة حتى النهاية منتهزا فرصة خلو حياتها من القيود ؟
أيهما تمام الحقيقي ؟ الرجل الرومانسي الرقيق الفائض بالعاطفة .. المتفهم و المستمع الجيد ؟ أم الشاب المستهتر الذي لم يحاول حتى إخفاء عبثه عنها ؟
مهما كان قرار عقلها فإن قلبها لم ينصع إليه .. لقد وجدت نفسها مرارا تذهب إلى المطعم حيث يعمل ..تارة وحيدة وتارة برفقة اصدقائها .. دون ان تراه او تعرف عنه شيئا .. وعندما كانت تسال أحد العاملين في المطعم عنه .. كان يقول ببساطة :- إنه لا يأتي إلى هنا هذه الأيام .. قد تجدينه في أحد الفروع الاخرى للمطعم ..
لم تعرف بانه يوزع عمله بين الفروع الكثيرة للمطعم و المتناثرة في انحاء البلاد .. ولكنها عوضا عن ملاحقته بين المطاعم .. وجدت نفسها تختصر الطريق .. وتقف هنا على بعد أربع أدوار عنه
جزء منها احتاج إلى رؤيته .. إلى النظر في عينيه لمرة أخيرة .. لتعرف بشكل مؤكد هذه المرة حقيقة مشاعره نحوها .. وإن كان لايزال يهتم لأمرها .. ام أنه قد نزعها من قلبه إلى الأبد
خطت إلى مدخل المبنى الباهت الإنارة .. واعتلت الدرج القديم متحاشية الأطفال المتراكضين صعودا ونزولا غير عابئين بخطورة لعبهم .. الجارات التقليديات توقفن عن تبادل الأحاديث السريعة عبر الأبواب المتقابلة .. وهن ترمقنها بفضول وريبة .. لم يكن مظهرها شبيها بمظهر ساكنات هذه المنطقة .. لقد بدت في غير مكانها بملابسها العصرية ورأسها العاري ..ولكنها لم تبالي .. تابعت الصعود وقلبها يخفق بعنف ترقبا للقاء تمام .. وقفت عند باب شقة بني اللون .. قرات على بطاقة صغيرة كتب عليه اسم ( ماجد محفوظ ) ..أهو اسم والده ..؟ ما أقل ما تعرفه عن الرجل الذي تحب .. أجفلها صوت صراخ رجل قادم من الطابق العلوي .. وبكاء طفل قريب .. فترددت للحظات قبل أن تستجمع شجاعتها وتقرع الجرس أخيرا ..
خمس عشرة ثانية مرت بالضبط قبل أن يفتح الباب ويطل تمام من خلفه .. أهذا تمام حقا ؟ الرجل الذي سكن خيالها لأشهر عديدة كان يبدو مختلفا بهيئته المشعثة .. شعره الناعم كان يتدلى بلا ترتيب فوق جبهته ..ذقنه داكنة اللون بسبب لحية لم تحلق منذ يومين على الأقل .. هالات سوداء أحاطت بعينيه البندقيتين الجميلتين .. ثم لاحظت نحول بنيته القوية الظاهرة من قميصه الأبض المجعد والمفتوح الأزرار .. وسرواله الجينز القديم الحائل اللون
والغريب أنه لم يكن يوما اكثر جاذبية لعينيها
بدت الصدمة جلية على وجهه وهو يراها واقفة أمام باب شقته .. التهمها بعينيه للحظات سريعة .. قبل أن يرمش عدة مرات ليتخلص من صدمته قائلا بغلظة :- ما الذي تفعلينه هنا ؟
قالت بشجاعة :- جئت لأراك بما انك ترفض الإجابة عن اتصالاتي .. كما انك لم تذهب إلى المطعم منذ فترة .. قدومي إلى هنا كان الحل الوحيد
شحب وجهه وهو يترك الباب .. ويلوح بإصبعه في وجهها وقد أطلت من ملامحه علامات الغضب الشديد :-
:- كيف تجرؤين .. يا إلهي بل كيف تستطيعين أن ......
بتر ما كان سيقوله عندما ألقى احد جيرانه عليه السلام وهو يمر إلى جانبهما نزولا على الدرج .. ما إن اختفى الرجل حتى أمسك تمام بمعصمها وبغتة وسحبها إلى داخل شقته مغلقا الباب خلفه .. استدار نحوها صارخا بغضب :-
:- هل جننت كي تأتي إلى هنا غير عابئة بما سيقوله سكان المبنى ؟
نظرت حولها في أرجاء الشقة البسيطة
كانت قليلة الأثاث .. إلا أنها تمتاز بالأناقة والعملية .. تناثرت بعض أغراض تمام هنا وهناك .. سترة جلدية .. كتب مبعثرة فوق طاولة القهوة .. صور عائلية مؤطرة موزعة بين الجدران بذوق ..عادت تركز انتباهها عليه قائلة بوقاحة :- ومنذ متى تهتم بما يقوله الآخرون
قال من بين أسنانه :- عليك اللعنة .. سمعتك هي ما كنت افكر به .. ما الذي سيقوله الجيران عند رؤيتهم لك تزورين شقة رجل غريب في وقت .
.....قطع كلامه وقد غلبه الانفعال .. ثم هتف بها :- تبا لك .. ما الذي جاء بك إلى هنا ؟
قالت بتوتر :- جئت لأراك .. أنت لم تترك لي خيارا آخر .. فانا أتصل بك منذ أيام أملا في أن تجيب ولو لمرة عن اتصالاتي .. كان علي ان أراك .. أن أتحدث إليك
شد على قبضتيه وكانه يمنع نفسه من ضربها بصعوبة .. ولكنها و يا للعجب .. لم تكن خائفة .. هناك جزء داخلها كان على استعداد لتحمل أي رد فعل منه مهما كان عنيفا أو متطرفا .. مقابل فقط ان تحس ببعض التواصل معه
قال بغضب شديد :- ولماذا بالله عليك قد أجيب عن اتصالاتك .. لماذا قد أرغب بسماع أي شيء عنك بعد ما فعلته بي ... أنا لا أستمتع بتعذيب نفسي يا جودي وقد أوضحت بنفسك قبل الآن رفضك التام لي
هتفت بعجز :- تمام .. أنا أعرف بأنني قد جرحتك ولكن ...
هتف باستنكار :- جرحتني .. جرحتني يا جودي .. لقد انتزعت قلبي من صدري ورميته للكلاب .. لقد لحقت بك مرة بعد مرة .. وبذلت الجهد الكبير في محاولتي اليائسة لإقناعك بحبي لك .. ولكنك أثبتت لي مرارا بأنك الفتاة السطحية والمدللة التي لم أصدق بأنك هي .. لقد ظننت حقا بأنك أحببتني ولو قليلا ولكنني كنت مخطئا
كل ذلك الوقت الذي قضيناه معا كان مجرد وقت مستقطع في حياة الأميرة الصغيرة المدللة .. ليس من حقي صب اللوم عليك لأنني أنا من كان أحمقا ومغفلا وأعمى في حبه لك
طعنتها كلماته في الصميم .. أحست بأنها تتمزق من الداخل لما سببته له من ألم بأنانيتها وترددها .. اعترافه العاصف بحبها .. وبخذلانها له جعلا الدموع تتدفق من عينيها وهي تهز رأسها قائلة :- أنت تعرف جيدا بأنني احببتك يا تمام .. أحببت كل لحظة قضيناها معا .. ومازلت أحبك رغم كل شيء
أخذ يتحرك في أنحاء الشقة الصغيرة كالنمر الحبيس وهو يقول :- وما الذي تريدينه الآن .. هه .. أن نستمر في اللقاء من خلف ظهر خطيبك المحترم .. أن أقوم بدور العاشق الولهان لأعوضك عما يحرمك منه ببروده وجفافه
نظر إليها فجأة بشراسة .. وعيناه تلمعان وهو يقول :- أهذا ما جاء بك إلى هنا .. الإحباط بسبب تجاهل زوج المستقبل لك .؟ هل تحتاجين خدماتي العاطفية لأعيد إليك ثقتك بنفسك وأشعرك بأنك محبوبة ومرغوبة ؟ إن كان هذا ما جاء بك فلا تعتمدي على نبل اخلاقي .. لأنني لست شريفا بما يكفي لأرفض عرضا مغريا كهذا .. الآنسة تريد الحب .. وستحصل عليه
لم تستوعب معنى كلماته حتى امسك بها فجأة وجذبها إليه .... ارتعشت في البداية شوقا لإحساسها بقوة ذراعيه ودفء صدره .. وعندما غمرتها رائحته الرجولية .. ولكنها صحت من غفوتها فور أن جذبت اصابعه شعرها الناعم بقسوة .. وأحنى رأسه نحوها ليقبلها بوحشية .. قاومته بعنف ويأس وهي تصرخ بذعر :- لا يا تمام .. لا تفعل هذا ارجوك
وفي خضم صراعها المستميت معه .. ومقاومتها الضارية .. تركها فجأة فاندفع جسدها إلى الوراء بقوة مما أسقطها على الأرض
نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مذعورة منه كالفأر حين يحاصر في الزاوية .. وهو مذهول من بشاعة تصرفه .. نظرت إلى عينيه الناريتين .. وصدره الذي تسارعت انفاسه .. لا .. هذا ليس حبيبها تمام .. فهو ليس بهذه القسوة والوحشية .. حبيبها الذي تذكر كان ساحرا ورقيقا .. ورومانسيا .. هل دمرت هي بجبنها وترددها كل ما تبقى داخله من حب لها ؟
دون إنذار تفجرت الدموع في عينيها .. تبعها نشيج باكي .. اضطرب تمام .. واهتز كيانه لمرأى دموعها .. وعندما ارتفعت وتيرة بكائها .. انتفض واقترب منها قائلا باضطراب :- أنا آسف .. أنا آسف يا حبيبتي
جثا إلى جانبها .. فابتعدت عنه بخوف غريزي .. ولكنه امسكها هذه المرة بحزم لطيف وسحبها نحو صدره .. بحنان هذه المرة .. فلم تملك إلا ان تدفن وجهها بين طيات قميصه وتتشبث به باكية .. وهي تسمع صوته الأجش يقول بانفعال :-
:- سامحيني أرجوك .. يا إلهي .. لم أرغب قط بان أؤذيك .. ولا أستطيع احتمال رؤيتك تبكين
نعم .. هذا هو حبيبها القديم يعود مجددا .. ضمت نفسها إليه كالطفلة المشتاقة إلى حضن والدها .. بينما اخذ هو يمسد شعرها وظهرها برفق ليشعرها بحنانه ودفئه .. أبعدها عنه أخيرا .. ونظر إلى وجهها الناعم المغطى بالدموع .. فرات بدورها الدموع الحبيسة في عينيه وهو يهمس :- لو تعلمين كم اشتقت إليك .. لم اتوقف عن التفكير بك لحظة واحدة .. بل انا لم أنم ليلة كاملة منذ تركتني
هزت رأسها هاتفة بصوت طفولي :- لن أفعل مجددا .. أعدك
قبل وجنتيها وعينيها .. بشكل مختلف هذه المرة .. بحب وحنان وكأنها فعلا المرأة الوحيدة التي يحب ويرغب
وكانه يهتم لها فعلا ولا يستغلها كما ظنت دائما .. نظرت إلى عينيه هامسة :- تمام
كان عليها ان تستجمع كل قواها كي تتذكر ما جاءت لأجله .. كررت عندما لاحظت بانه لم يسمعها :- تمام .. انظر إلي
نظر إلى وجهها القلق قائلا :- ما الأمر يا حبيبتي ؟
ترددت لثواني قليلة قبل ان تقول :- إن فسخت خطوبتي من طارق .. فهل تتقدم لخطبتي ؟
تصلب جسده بين يديها .. وخلال لحظة كان قد انسحب بعيدا عنها .. وقف إلى جوار النافذة مديرا لها ظهره .. بينما اعتدلت هي واقفة وقلبها يخفق بقوة قلقا واضطرابا ..
أتاها صوته بعيدا وجافا وهو يقول :- لقد سبق وأخبرتك يا جودي بانني لن اكون أبدا بديلا لرجل آخر .. وقطعا لن أكون بديلا لخطيبك
أحست بالألم هذه المرة شديدا بحيث كادت تفقد القدرة على التنفس .. ما الذي توقعته ؟.. منذ عرفته وهو يتبجح بحبه لها دون أن يشير ولو لمرة إلى المستقبل .. ألم تكن محقة في إخفاء خبر فسخ خطوبتها عنه ؟ لقد كان ليأخذها بين ذراعيه ويغمرها بعاطفته وهي ما كانت لتتمكن من مقاومته .. وماذا بعد ؟ كيف كان سينتهي حبهما ؟
كان لايزال واقفا مكانه .. رافضا النظر إليها .. فبذلت جهدا عظيما لتكبت ما تشعر به من انهيار وهي تقول بجمود :- ليس هناك ما يقال بيننا أكثر يا تمام .. آسفة على إزعاجك بزيارتي .. وأعدك بأنك لن تراني مجددا
لم تعرف كيف تحركت نحو الباب .. فتحته وخرجت .. وأغلقته خلفها بهدوء شديد .. لم تبالي بما يظنه الناس وهو يرونها تغادر شقة رجل عازب والشحوب يعلو وجهها والدموع تغشي عينيها .. لم ترهم حقا وهي تنزل الدرج دون أن تتعثر أو تسقط بمعجزة
وعندما وصلت إلى سيارتها .. واحتمت داخلها من عيون الآخرين .. أجهشت بالبكاء

سيدة الشتاء Where stories live. Discover now