الفصل الثلاثون (دفتري الصغير)

7.3K 268 1
                                    

نظرت جودي إلى اماني متسائلة :- ما الذي قصده يا اماني ؟ إلى أين سيأخذ أغراضك ؟
ثم لاحظت شحوب وجه أختها فقالت بقلق :- أماني .. ما الذي حدث ؟ الأمر أكبر من مجرد حبسك لنفسك في الحمام ..صحيح؟
فهي لم تغفل عن النظرة الهائمة في عيني أماني التي نظرت إلى جودي بجمود للحظات بدت خلالها كمن أصيب بصدمة أخرسته .. ثم همست أخيرا :- لقد قبلني
رددت جودي بارتباك :- ماذا ؟ من ؟ .. هشام ؟
جلستا في غرفة النوم فوق السري الواسع .. وحكت أماني لجودي ما حصل بالتفصيل .. فقالت جودي بحذر :-
:- وهل هذه مشكلة بالنسبة إليك ؟ أعني أنه خطيبك .. وستتزوجان
تمتمت أماني بخفوت :- المشكلة هي أنني اكتشفت اليوم بأنني أحب هشام عطار
ساد صمت طويل بين الأختين ولسان جودي يكاد يهتف باستنكار .. ما الأمر ؟ لماذا لا يسعدك هذا يا اماني ؟ ستتزوجين اخيرا بالرجل الذي تحبين .. أليس هذا ما رغبت به وحلمت به طويلا ؟
ولكنها لم تجرؤ على البوح بأفكارها .. فهي تعلم بان أماني مختلفة عن غيرها من الفتيات .. بل هي مختلفة عن أماني التي وضعت لنفسها هذا الحلم قبل سنوات .. وإن كانت أماني قد وقعت في حب هشام .. فهذا يعني انها قد التقت أخيرا بند لها .. الرجل الذي يستحق حبها حقا .. ويعني أيضا بان اماني تعاني من ارتباك كبير .. وخوف عميق سببته لها صدمتها القديمة فيمن تحب
تمتمت جودي مترددة :- أماني .. هل أنت بخير ؟
رفعت أماني عينين مريرتين إلى أختها .. كيف ستقول لها انها ليست بخير لانها عندما احبت اخيرا من جديد .. أحبت رجلا لا يبادلها المشاعر .. بل يشفق عليها ويشعر بالمسؤولية اتجاهها ؟
لا .. لا تحتاج جودي إلى ان تزيد من همومها الأن .. لذا قالت بابتسامة شاحبة :- طبعا بخير بعكسك انت التي تبدين كمن لم تنم منذ أسبوع
ارتبكت جودي قائلة :- أجهد نفسي هذه الأيام في الدراسة على امل أن أتخرج هذه السنة
عرفت بأن أماني لم تصدقها .. فتنهدت بعمق وهي تنظر بعيدا إلى أنحاء الغرفة الصغيرة .. لماذا لا تنام في الليل ؟ لأنها تبقى مستيقظة تفكر بزفافها القادم الذي تجري الاعدادات له على قدم وساق منذ أيام .. تفكر بعلاقتها بطارق التي تسوء باستمرار في كل مرة يلتقيان فيها او يتحدثان
تفكر بتمام الذي تحبه اكثر من حياتها .. ومع ذلك أخرجته منها بكل قسوة ..دون أن تتوقف عن الاشتياق إليه في كل لحظة
أو محاربة رغبتها العميقة في اللجوء إليه .. والبكاء على صدره طالبة السماح
وفي الوقت نفسه تفكر بمصيبة ريما الجديدة التي لم تكن لتخطر على بال احد
تمتمت :- لقد هربت ريما مع بشار وتزوجا سرا
ظهر الاهتمام على اماني التي قالت :- ولماذا فعلا هذا ؟ ألم يكونا خطيبين ؟
هزت جودي كتفيها قائلة بحزن :- لقد قرر والدها فجأة بان بشار ليس الصهر الذي أراده لابنته .. فهو ما يزال طالبا ويحتاج إلى وقت كثير كي يكون مستعدا لتوفير حياة كريمة لريما .. خاصة وأن هناك الكثير من معارفه الأثرياء المتلهفين لمصاهرته .. وعندما يئست ريما من إقناع والدها .. لم تجد حلا أمامها إلا الهرب مع بشار
صمتت اماني للحظات مفكرة .. لم تكن يوما مقربة من ريما .. ولكن لطالما احترمت شجاعتها وقوة إرادتها .. وما فعلته قد لا ينال التقدير من المجتمع المعقد الذي يعيشون فيه .. ولكنها سعت اولا واخيرا خلف سعادتها هي .. لا سعادة الآخرين
وبما انها تعرف أختها جيدا .. وتخمن الصراعات التي تدور منذ فترة داخل رأسها .. أدركت بانها تعاني في هذا الوقت من اضطراب كبير سألتها بهدوء :- وما رأيك انت بما فعلته ؟
عرفت جودي بان سؤال اماني هو اعمق بكثير مما يبدو .. نظرت إليها بتردد وحيرة قبل ان تقول :-
:- أنا أكثر من يعرف مدى حب كل من بشار وريما لبعضهما البعض .. لم يكن من حق والدها ان يفصل بينهما بهذه القسوة بعد قبوله السابق لخطبتهما .. وبشار شاب جيد .. مازال في بداية الطريق .. ولكن النجاح سيكون حليفه فور تخرجه وحصوله على عمل مناسب .. ولكن ..
شعرت جودي بصعوبة كبيرة في البوح بأفكارها .. فشجعتها أماني قائلة :- ولكن ....
هتفت جودي :- انا لا أفهم .. كيف استطاعت تحدي الجميع بفعل ما يمليه عليها قلبها رغم استنكار عائلتها والناس ؟ هل ستكون سعيدة الآن وهي معرضة لنبذ المجتمع لها ؟ للحياة الصعبة مع بشار في غرفة صغيرة مع والديه بعيدا عن دعم والدها وأصدقائها ؟ هل يستحق بشار ان تقدم على كل هذه التضحيات من أجله ؟
سألتها أماني بهدوء :- هل تظنينها ستكون أكثر سعادة بزواج مرتب من عريس لا تعرف عنه شيئا أو حتى تميل إليه .. هل ستتمكن من إدارة ظهرها للرجل الذي تحب وتتظاهر بانها لم تعرفه يوما أو تعشقه بكل جوارحها لأجل حياة مرفهة خالية من المعنى قد تزول في اي لحظة بقدرة قادر ؟
نظرت إليها جودي بعجز غير قادرة على التعليق .. هنا نظرت اماني إلى عينيها وقالت :- الزواج المرتب ليس خاطئا يا جودي .. أحيانا يجمع بين قلبين غريبين بحب يستمر إلى الأبد .. وقد ينجح حتى بدون الحب الكبير والعاصف إذا كان مبنيا على الاحترام والتقدير .. ولكن المصيبة الكبرى إذا كان أحد الطرفين واقعا رأسا على عقب في حب شخص آخر
انتفضت جودي بعنف على إثر صفعة اماني المباشرة .. نهضت وهي ترتجف .. وابتعدت عن اختها قائلة باضطراب :- أنت لا تتحدثين عن ريما .. أليس كذلك ؟
قالت اماني بدون ان تحاول المراوغة :- أنا أتحدث عنك انت يا جودي .. لا تحسبي أنني في خضم انشغالي بمشاكلي غافلة عما يحدث معك .. إلى متى ستمضين قدما في مهزلة زفافك القادم ؟ متى ستعترفين بأنك لا تحبين طارق .. وأنك لن تجدي السعادة معه
الأيام التي قضتها جودي تتعذب في التفكير في الموضوع والليالي التي جافاها فيها النوم وهي تقلب الأمر داخل عقلها .. ومحاولاتها اليائسة لنسيان تمام .. ثم اكتشافها بان أماني كالعادة على اضطلاع بكل صراعاتها جعلها تنفجر بمقاومة غاضبة :- طارق هو الرجل المناسب لي .. لماذا لا تملين من تكرار الموضوع كلما التقينا .. ما كان والدي ليبارك زواجنا لو لم يكن واثقا من هذا
وقفت أماني قائلة بازدراء :- ما الذي عرفه والدك بالضبط عن السعادة ؟ لا شيء على الإطلاق .. حياته كانت كئيبة ومظلمة مثل قلبه .. لا يحق له أن يدير لك حياتك وقد عجز عن التحكم بحياته كما يريد
هزت جودي رأسها باستنكار :- كيف تقولين هذا ؟ أبي كان سعيدا مع امي .. حياتهما كانت كاملة ومثالية .. وقد أراد لي ما حصل عليه بالضبط
ساد الصمت طويلا عندما لم تعلق اماني .. النظرة التي ارتسمت في عينيها جعلت قلب جودي يرتجف من الخوف ..
همست بتردد :- أليس ما أقوله صحيحا ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- كنت أنتظر الوقت لاطلاعك على الحقيقة يا جودي .. وأظنك بالشكوك التي تراودك والصراع الذي تعانين منه بحاجة إلى معرفتها
كادت جودي تفقد أعصابها وهي تقول :- أي حقيقة يا اماني .. ما الذي تخفينه عني ؟
اتجهت اماني إلى خزانتها وأخرجت منها ذلك الدفتر القديم الذي كاد يهترئ من كثر ما قرأته .. ومدت يدها به إلى جودي التي أخذته منها مترددة .. فتحته بحذر لترتسم الدهشة على وجهها وهي تقول :- هذا خط أمي .. هل كتبت أمي هذه الأشياء ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- بدأت تكتب فيه بعد زواجها بسنوات قليلة .. بعد ولادتك بالضبط .. شعورها بالكبت والضغط
.. والفراغ الهائل الذي عانت منه دفعها لإفراغ مشاعرها في هذا الدفتر خفية عن والدنا .. عثرت عليه بعد وفاتها بأيام
تصفحته جودي سريعا وهي تقول باضطراب :- لماذا اخفيته عني طوال هذه السنوات ؟
:- خشيت ان تصدمك كلمات امي يا جودي .. لقد كنت صغيرة .. ومؤمنة تماما بمثالية والدنا .. كانت علاقتكما وطيدة فلم أرغب بأن تفقدي هذه الميزة كما حدث معي .. لم أرغب بتحطيم أحلامك و ثوابتك في تلك السن المبكرة .. انتظرت حتى يحين الوقت المناسب .. وأظنه قد حان
نظرت جودي إلى شقيقتها الهادئة وأحست بان كل عالمها سيتغير ابتداءا من هذه اللحظة .. سالت بخوف :- ما الذي كتبته امي بالضبط ؟
اقتربت منها أماني وأحاطت كتفيها بذراعها وقالت برفق :- اذهبي إلى البيت الآن واقرأيه على مهل .. وأنا سأكون هنا في انتظار أي استفسار منك .. اتصلي بي في أي وقت
وبينما أماني تقود جودي إلى الباب .. تذكرت جودي بدون تركيز:- وماذا عن توضيب أغراضك ؟ يجب ان اساعدك إن أردت الانتقال إلى شقة سمر في صباح الغد
قالت أماني ساخرة :- لن يأخذ توضيب أغراضي وقتا طويلا .. فقد سبق وأرسلت جميع المشتريات التي أصر خطيبي المستبد على شرائها لي كجهاز إلى شقة الزوجية
تذكرت جودي فجأة ما كانت اختها تعانيه من اضطراب فأحست فورا بمدى أنانيتها .. سالتها بقلق :- هل ستكونين بخير ؟
قالت أماني بحزم :- لا تقلقي .. لطالما تمكنت من الاعتناء بنفسي
عندما انفردت أماني بنفسها .. وجدت المجال أخيرا لتفكر بمشكلتها .. تكومت حول نفسها فوق السرير .. وسمحت لذاكرتها بالعودة إلى اللحظة التي قبلها فيها هشام .. لقد قبلها حقا .. وهي سمحت له باختراق دفاعاتها وقد سبق وأقسمت يوما بألا تسمح لرجل بتجاوزها .
. لقد قبلها .. بكل الحرارة واللهفة التي قد يشعر بهما رجل اتجاه امرأة .. وتأثير قبلته عليها كان ساحقا .. مدمرا .. خدر عقلها وأيقظ داخلها وحشا ضاريا لم تعرف بوجوده من قبل
متى وقعت بالضبط في حب مديرها ؟ هل حصل هذا ببطء مع تطور معرفتها به عن قرب كرجل حقيقي رائع كامل لا مثيل له .. بحزمه وصرامته .. وإحساسه الكبير بالمسؤولية اتجاه أحباءه بشكل خاص .. ومن هم أضعف منه بشكل عام .. لطفه وتفهمه الكبيرين .. أم أن انجذابها نحوه كان موجودا منذ البداية وقد أعماها عنه موقفها العدائي والغاضب اتجاه كل ما هو مذكر ؟
إنها تحب هشام .. تحبه بكل مشاعرها التي ظنت بأنها قد ماتت قبل سنوات .. بينما يتزوج هو بها ليحميها من صلاح
لم يخف عنها إعجابه بها .. وقد أظهر لها بوضوح رغبته فيها .. إنه يريدها بنفس القوة التي تريده بها
سيتزوجان لأشهر قليلو ومن السهل عليها أن تستسلم لمشاعرها وتعيش معه حلما جميلا لفترة .. سرعان ما ينتهي عندما يحين الوقت وتنتفي حاجتها إلى حماية هشام .. سيتركها ويبحث عن فتاة يحبها ويفخر بها كزوجة ورفيقة .. وأم لأبناءه
أما هي .. فستنهار وحيدة بعيدة عن العيان .. بعد أن تجذر حبه عميقا داخلها .. وحفر جرحا عميقا لا شفاء له داخل روحها
لقد كان واضحا معها .. لن يلمسها حتى تلمح له برضاها .. إن حافظت فقط على برودها وتظاهرت بعدم الاهتمام سيتركها في حالها .. وفي النهاية ستحتفظ بكرامتها وكبريائها على الأقل عندما يحين وقت الفراق
قامت بتثاقل لتبدأ بتوضيب أغراضها داخل الحقيبة الكبيرة والمفتوحة
تنتظرها معركة طاحنة بين إرادتها ومشاعرها .. ورغما عنها .. لم تعرف لماذا أحست بأن إرادتها ستكون الطرف الخاسر حتما

سيدة الشتاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن