الفصل السادس(الخيار الاخير)

Start from the beginning
                                    

دخلت أماني إلى البيت بهدوء شديد .. لم يكن لديها ما يكفي من الطاقة كي تتشاجر مع صلاح أو والدها هذه المرة .. فقد كانت مرهقة تماما .. ومصابة بحالة ثقيلة من الاكتئاب .. كل هذا بسبب مديرها المتغطرس .. لقد حطم شيئا مهما داخلها بكلماته الجارحة .. وذكرها بما تحاول جاهدة كل يوم ألا تتذكره
لحسن حظها لم تصادف أحدا في طريقها إلى غرفتها .. ولكن ما إن فتحت الباب حتى سمعت صوت جودي يقول :- أنا سعيدة لأنك قد وصلت أخيرا .. حاولت الاتصال بك مرارا ولكن هاتفك كان مقفلا
لاحظت أماني وجه جودي الحزين وهي تغادر غرفتها وتقترب منها .. قالت أماني بقلق :- ما الأمر؟هل تشاجرت مع طارق ؟
:- لا .. إنه أبي .. لقد سقط مريضا صباح اليوم
نزلتا إلى المطبخ وجلستا حول الطاولة الصغيرة الخشبية .. لم تعرف أماني كيف تفسر مشاعرها بعد سماع ماحدث من جودي .. شعرت بألم حاد في صدرها لتخيل ذلك الرجل القوي طريح الفراش
قالت جودي :- ألن تذهبي لرؤيته ؟
أخافتها الفكرة فتمتمت :- لماذا أفعل ؟ لقد أخبرتني بنفسك بأنه قد تحسن الآن
:- لأنه طلب رؤيتك فور وصولك
اضطربت أماني .. فأمسكت جودي بيدها تتوسلها :- إذهبي إليه يا أماني .. إنه مجرد رجل عجوز مريض الآن .. أظنه يرغب بإصلاح الأمور بينكما قبل فوات الأوان ..
لم تستطع أماني تقبل الفكرة .. والدها ليس من ذلك النوع المستسلم .. إنه يجلس على عرشه منذ سنوات في انتظار استسلامها وزحفها نحوه متوسلة إليه أن يسامحها ويعيدها تحت جناحه .. ولكن جزءا منها تاق فعلا إلى إصلاح الأمور.. أهذا ممكن ؟ أن تعود الأمور بينهما كما كانت قبل وفاة والدتها ؟
لمحت جودي الضعف في عيني أماني فكبر الأمل داخلها .. ربما حان الوقت لتنتهي تلك الحرب الطاحنة التي استمرت لسنوات بين والدها وأماني
سحبت أماني يدها قائلة بجفاف :- سأرى ما الذي يريده مني هذه المرة
صعدت الى الطابق العلوي .. ووقفت أمام الباب العريض الذي تصدر الرواق .. استجمعت كل ما لديها من شجاعة .. وطرقت الباب .. أتاها صوت والدها الصارم يقول :- ادخل
فتحت باب الغرفة الفسيحة التي لم تدخلها منذ فترة طويلة .. ونظرت إلى السرير العريض حيث تمدد والدها مسندا ظهره إلى مجموعة من الوسائد .. وعلى مقعد قريب كان يجلس صلاح إلى جانبه .. وعندما رآها برقت عيناه وهما تجريان فوقها بتلك الطريقة التي اعتاد إهانتها بها
احمر وجهها وأشاحت بنظرها عنه قائلة لوالدها بصلابة :- أخبرتني جودي بأنك ترغب في رؤيتي
.. رغم شحوبه وآثار المرض عليه قال بغطرسة :- نعم وقد تأخرت في الحضور .. أين كنت حتى الآن ؟
تذكرت شجارها مع مديرها ظهر هذا اليوم والذي بدأ بنفس الطريقة ولم ترغب أن ينتهي هذا اللقاء أيضا بخسارتها .. فقالت بفتور :- لقد حضرت في النهاية .. فما اللذي تريده مني ؟
التقت عيناهما للحظة عرفت خلالها مدى غضبه .. وأدركت من نظرة صلاح التحذيرية بأن تعريضه للإنفعالات قد يكون خطرا عليه
قال والدها بصوته الخشن :- اتركنا وحدنا يا صلاح
بكل هدوء أطاعه صلاح .. ولكنه لم ينسى أن يحذرها مجددا بعينيه أثناء مروره إلى جانبها في طريقه إلى الخروج .. وعندما أقفل الباب وراءه .. عادت تركز اهتمامها نحو الرجل العجوز.. ولأول مرة تلاحظ مدى شحوب وجهه وضعفه .. فتحرك العطف داخلها للحظات حتى أدركت بان عينيه تحملان كل شيء إلا الضعف
قال بهدوء :- أظن الوقت قد حان لنتكلم بجدية .. اجلسي
قالت بتوتر :- أنا مرتاحة كما أنا
هدر صوته بعنف :- قلت اجلسي
تحركت بانزعاج لتطيع أمره فتجاهلت المقعد القريب الذي كان صلاح يحتله .. وجلست بعيدا عن السرير .. قال بعد أن جلست :- كيف حال عملك ؟
قالت بحذر إذ لم يكن من عادته سؤالها عن عملها :- بخير
:- لقد سبق وأخبرتك بأنك لست مضطرة للكدح بين الوظائف
قالت بفتور :- سبق وأخبرتك بأنني أحب عملي ولا أشتكي منه
ضيق عينيه قائلا :- أنت تعرفين قصدي جيدا
التزمت الصمت رافضة التعليق خشية أن تفقد أعصابها .. فقال :- سأوجه عرضي هذا إليك للمرة الأخيرة .. أنا مستعد لمسامحتك على أخطائك .. وتحمل مصاريفك مجددا .. سأمنحك كل ما ترغبين به .. مقابل زواجك من ابن عمك صلاح
شعرت برغبة عارمة في مغادرة الغرفة فورا .. وسجن نفسها في غرفتها لساعات طويلة وهي تبكي .. لقد كانت جودي مخطئة .. فآخر ما يريده والدها هو إصلاح الأمور بينهما
قالت بحدة :- لماذا تصر على هذه الفكرة؟ أنا لن أتزوج بصلاح ولو كان آخر رجل على وجه الأرض
قال بصرامة :- وأين ستجدين خيرا منه ؟ هل كنت تفضلين متبطلا حقيرا .. لا يمانع في بيعك مقابل قروش قليلة كذلك الفتى الذي تعلقت به منذ سنوات ؟
هبت واقفة بحركة عنيفة أدت إلى سقوط الكرسي على الأرض .. وصاحت بثورة :- كن مطمئنا .. أنا لن أتزوج صلاح أو غيره أبدا .. أما أموالك .. فاحتفظ بها لأنني لا أحتاج إليها
وأثناء اتجاهها نحو الباب هتف خلفها بعنف :- إنني أحذرك يا أماني .. إن لم تعودي إلى رشدك وتفكري بالأمر جديا هذه المرة .. سأستخدم كل وسيلة أمتلكها لإجبارك
نظرت إليه بازدراء قائلة :- افعل ما شئت
وغادرت الغرفة مغلقة الباب ورائها بهدوء شديد . إلا أن جسدها كان يرتعش من شدة الغضب .. ككل مرة تواجه فيها والدها .. وهذه المرة ذكرها بخزي حياتها .. بالمرة الأولى التي تشاجرت فيها مع والدها عندما ظنت بأنها قد حققت الأحلام التي عجزت والدتها عن تحقيقها .. وأنها قد جدت أخيرا الحب الحقيقي .. لقد أقسمت بعدها بألا تمنح قلبها لرجل أبدا .. وفي الوقت ذاته .. لن تقع في خطأ أمها وتتزوج برجل لا تحبه
يمكنها أن تحل هذه المعادلة الصعبة بطريقة واحدة .. وهي أن تمتنع عن الزواج نهائيا .. لم يكن هذا الخيار صعبا مادام صلاح يحوم حولها دون توقف .. وطالما أفقدها فراس سابقا الثقة في جميع الرجال
في شرفة الطابق الثاني من الفيللا .. والمطلة على الحديقة الجميلة .. وقفت أماني تستنشق بعمق هواء أكتوبر المنعش .. لقد كان أملها الوحيد هو أن تجد جودي يوما تلك السعادة التي لن تعرفها أبدا .. الحمقاء .. ستتزوج من طارق مع تخرجها في نهاية العام الدراسي .. مهما كان طارق شابا جيدا فإن جودي لا تحبه .. مهما حاولت فهي لن تنجح في إقناع أماني بالعكس
أتاها صوت صلاح من الخلف ليجفلها :- هل تفكرين بكلمات والدك ؟
استدارت إليه قائلة ببرود :- كلامه لم يستحق أي جزء من تفكيري
تنهد بأسف واقترب ليقف إلى جانبها ويتأمل السماء المرصعة بالنجوم وقال :- دائما تضطرينه لاتباع الطريق الأصعب
ثم التفت إليها فجأة ليقول بخشونة :- لماذا تفعلين هذا ؟ كلانا يعرف بأنك في النهاية ستكونين لي
قالت ببرود :- سأكون لك جثة هامدة فقط يا صلاح
شهقت عندما اقترب منها وحاصرها بينه وبين سياج الشرفة .. لأول مرة تجده أماني فاقدا لأعصابه مما أخافها :- أهناك رجل آخر ؟
صاحت بعنف محاولة التخلص من حصاره دون جدوى :- ابتعد عني ياصلاح وإلا صرخت
ولكنه أمسك كتفيها وهزها بقسوة :- أهناك رجل آخر في حياتك ؟
جن جنونها لملمس يديه على كتفيها فصرخت به :- إن لم تتركني رميت نفسي من هذه الشرفة .. أقسم على هذا
الهستيريا في صوتها جعلته يصدقها .. فرفع يديه عنها ونظر إليها مطولا قبل أن يقول بهدوء :- لا .. كنت لأعرف إن دخل إلى حياتك أي رجل
قالت من بين أنفاسها المضطربة :- ما الذي ستفعله إن حدث هذا ؟
ابتسم بثقة قائلا:- لن يحدث .. لأنك ذكية بما يكفي لتبعدي أي رجل عنك قبل زواجنا
لمس وجنتها برقة .. فابتعدت عنه مشمئزة .. ضحك باستهزاء وهو يقول :- تصبحين على خير يا حبيبتي
تركها وحدها في الشرفة .. فأخذت تشتمه سرا بكل ما تعرفه من كلمات بذيئة .. لا .. لن تبكي .. إن صلاح لا يعرف بأن محاصرته لها كانت تزيدها إصرارا وعنادا .. عادت قناعتها بأن مرض والدها قد يكون مجرد محاولة رخيصة تهدف إلى إقناعها بالزواج من صلاح .. وقد كانت محاولة فاشلة كالعادة .. ثم تذكرت جودي التي تنتظرها في غرفتها على أمل سماع أخبار جيدة .. فتنهدت محاولة إيجاد ما تبرر لها به ما حدث .. ثم عادت أدراجها إلى الداخل .

طرق صلاح باب غرفة عمه ودخل عندما سمع صوته يدعوه للدخول .. نظر إليه عمه بهدوء قائلا :- هل تحدثت معها ؟
جلس صلاح قائلا باقتضاب :- لا فائدة .. إنها لا تزداد إلا عنادا
لم يكن صلاح يتوهم عندما لمح شبح ابتسامة إعجاب تفتر عن شفتي عمه الذي قال بعد لحظات بحزم :- أظنني استنفذت كل وسائلي السلمية في الإقناع .. ألا ترى هذا يا صلاح ؟
أومأ صلاح برأسه موافقا .. شاعرا بالقلق على عمه الذي رفض نصائح الأطباء في تجنيب نفسه التوتر والغضب .. وكل ما يؤدي إليهما
بدا التفكير العميق على الوجه المسن قبل أن يقول :- أظن الوقت قد حان لتنفيذ ما تحدثنا عنه يا صلاح
أسرع صلاح يقول بانزعاج :- الأمر سابق لأوانه .. لقد أكد الطبيب بأنك .....
قاطعه عمه بصرامة :- هل تناقشني يا فتى ؟
أسرع صلاح يقول :- بالتأكيد لا
:- إذن ابدأ بتجهيز الأوراق
أومأ صلاح برأسه مذعنا .. وبالرغم من اعتراضه على المعنى المتشاءم لقرار عمه .. إلا أن شعورا عارما بالانتصار اجتاحه .. فأماني ستكون له في النهاية .. ومهما طال يه الانتظار

سيدة الشتاء Where stories live. Discover now