***********************************

بدون نقاش .. تبعت "قوت القلوب" ذلك الشاب إلي حيث "إياد" و الخوف يغتالها ..
و ما أن وطأت قدماها طابق معمل التشريح و حفظ الجثث ، شعرت بالنظرات الحزينة المنكسرة إلي الأرض .. و الجفون المرتعشة في عصبية ..
النحيب الممزق للقلوب ، الأصوات الممزوجة بالبكاء من بعض الكبار و الأطفال الملتصقون بهم ..
كلها مناظر تحتاج عدسة غير عادية ، و آلات تسجل و تصور أكبر لوحة للحزن علي المفقودين ، و تحصر أنفاس و شهقات الآلم العميق و الخسارة التي لا يعوضها شيء ..
وصلت "قوت القلوب" عند غرفة خزانة الجثث .. و وجدت "إياد" يقف بجانب الباب مستندا بظهره إلي الجدار ، و منكس الرأس ، تواسيه دموعه و تغلفه أحزانه ، و تحيط به العديد من علامات الإستفهام بعد أن فشل في معرفة سبب ما حدث لها ..
فهي أطيب المخلوقات و أنقاهم علي الأرض ..
إنتبه لصوت زميله "وليد" .. فرفع وجهه الغارق بالدموع ..
صدمت "قوت القلوب" للحالة التي بدا عليها ، و إجتاحتها موجات الذعر ، فسارعت بسؤالها:
-بنتي فين يا اياد بيه ؟ .. هنا فين ؟؟
ضغط "إياد" شفتيه ببعضهما بقوة في محاولة لكبت و منع دموعه من الفرار من عينيه دون فائدة ..
تئز أسنانه ، و يئن قلبه .. فيخفض رأسه مرة أخري و يجهش ببكاء حار صامت ..
إرتجف قلبها ، و شحبت كليا بصورة سريعة ، فصرخت فيه:
-بنتـي فين يا إياد بيـه .. هنــا بنتي فيــن ؟؟؟
-البقاء لله !
قالها "وليد" بآسف شديد .. ليتردد صداها في آذني "قوت القلوب" ..
و لتصرخ "هويدا" في نفس اللحظة بأعلي صوتها و هي تلطم وجهها بكفيها ، و تنوح و تصيح قائلة:
-يـا حســرة قلبـي عليكـي يا بنتــي .. يا حسرة قلبــي .. يا حرقتـي علي شبـابك يـا هنــاااا .. آاااااه يـا بنـت اخويـاااا .. العوض عندك انت يا رب ، العوض عندك انت يا رب.
و إنكبت فوق رخام الجناح تتابع عويلها و نواحها لعظمة فجيعتها بالخبر الصادم ..
ما زالت "قوت القلوب" متسمرة مكانها ، لا تبدي حركة و لا إشارة ..
فقد تصلب جسدها ، و تحجرت الدموع في عينيها .. و لدقائق عدة ، حتي إستوعبت ما سمعته ..
صدحت بعنف:
-ايه اللي بتقولوه ده ؟ .. انتوا هتهزروا معانا و لا ايه ؟ .. مرة
تقولولي كويسة و مرة تقولولي ماتت !!
انا عايزة بنتي .. فين بنتي ؟؟؟
لم يرد "إياد" .. فقط إرتفع صوت نشيجه المكتوم بحرارة ..
و هنا .. تكلم "وليد" فقال بلطف هادئ:
-البقية في حياتك .. حضرتك هي بين ايدين ربنا دلوقتي ، مافيش في ايدينا غير الدعا.
إستدارت و صرخت بوجهه:
-لأااا .. بنتي مامتتش لأ .. ما ماتتش ، ازاي تموت ؟ .. مستحيل تموت ، انتوا بتهرجوا ؟؟
قال "وليد" بتظرة إشفاق:
-طب معلش .. تعالي معايا حضرتك عشان تتعرفي عليها بس !
و أخذ بيدها للداخل برفق دون أن تمانع هي ، و كأنها مسيرة لا مخيرة ..
داخل خزانة الموتي .. سكنت الأبدان ..
جميع الأجساد المستلقية تحت الأغطية البيضاء ، هامدة ..
فلا حركة ، و لا ضجيج ، و لا أنفاس ..
جالت "قوت القلوب" في صمت مع "وليد" أحتراما لقدسية الموت و حرمة الموتي ..
كانت أنفاسها الباردة تفوق البرودة المقيتة التي تحف في كل المشرحة ..
و فجأة .. توقف "وليد" أمام درج معين من الأدراج المعدنية ..
فمد يده إلي المقبض المرفق به ، و سحبه ببطء ..
رأت "قوت القلوب" هيئة جثة تحت ذلك الغطاء الأبيض ، فإنقبض قلبها ..
في الوقت ذاته .. أزاح "وليد" الغطاء عن وجه الجثة ، فظهر وجه "هنا" الشاحب حتي البياض ..
تلاحقت أنفاسها الفزعة مع إتساع بؤبؤي عينيها ، و بدلا من أن تنوح و تبكي مثل "هويدا" في الخارج .. هزت رأسها بقوة و هي تقول:
-لأ .. لأ دي مش بنتي ، دي واحدة شبهها .. دي مش بنتي .. بنتي مش موجودة هنا ، "هنا" مستنياني في البيت اه .. او يمكن لسا في الجامعة .. لازم اروح دلوقتي حالا عشان لما ترجع تلاقيني ، و كمان عشان الحق اعملها لقمة تاكلها ، بترجع من برا وشها اصفر و جعانة ، و بتزعل لما بأخر عليها الاكل.
ثم إستدارت علي عقبيها و ركضت إلي الخارج و هي تهتف بهسترية:
-دي مش بنتي .. مش بنتي .. دي واحدة شبهها .. هنا مامتش !
و ظلت تهتف بذلك حتي خرجت من المشفي .. بينما لا يزال "إياد" علي حاله هو و "هويدا" ..

***********************************

يتبــع ...

المظفار والشرسهWhere stories live. Discover now