أسيرة الظل Salwa M 13

ابدأ من البداية
                                    

لم تكن لُجين لتقبل بهذه الهدية القيمة سوى لتثير غيظ فيليبو و حنقه، فهي لم تنسى ما فعله بها و لم تسامحه، بعد عدة أيام قضاها معهم، غادر مع قراصنته ليعود لسفينته، واعداً جوليا بأنها آخر مرة يسافر في البحر كقرصان، و برغم عدم تصديق المرأتين لوعده، إلا أنه أوفى بما قاله، ففي عيد ميلاد لُجين الخامس عشر، عاد فيليبو مرة أخرى لمنزل جوليا، و لكن هيئته هذه المرة إختلفت.. إختلفت كثيراً.

فقد كان يرتدي شعراً مستعاراً فضي اللون، و ملابساً فاخرة لا تخلوا من الذوق، و حذاءاً جلدياً فخماً مطعماً بحلقاتٍ ذهبية.. ببساطة كان يبدو كأحد نبلاء البلاط الفرنسي.. تشع كافة تفاصيله بالثراء الفاحش، مما دفع جوليا بأن تصيح به:

"ماذا فعلت هذه المرة، يا فيليبو؟"

"عزيزتي.. رجاءاً من الآن فلاحقاً خاطبيني باسم مسيو فيليب لا سال، و..."

"هل جننت، يا رجل؟! ما الذي حدث لك؟ هل إصطدمت رأسك بصاري السفينة؟! يا إلهي!يبدو أن ضربة مقلاتي الأخيرة قد أثرت على عقلك.. همممم.. ربما عليّ أن أعاود ضربك بها عدة مرات كي يرجع لرشدك صوابه."

"أوه! لااااا لللااا داعي للمقلاة! فقط إستمعي لما سأقوله لك، يا حبيبة القلب.. حسناً.. إحممم.. لقد وعدتك في الزيارة الأخيرة أنها ستكون آخر مرة تقع عيناك الجميلتين عليّ كقرصان، و ها أنا ذا وفيت بالوعد، فقد أعدت طلاء سفينتي و غيرت قليلاًمنها، لتصبح سفينة تجارية، و أستعنت بمن عملوا معي كطاقم للبحارة عليها لمن أراد منهم أن يكمل حياته بعمل شريف بدلاً من القرصنة، فقمت بتقسيم أرباح السنوات الماضية بالعدل ، و حصل كل منهم على نصيبه، فمنهم من غادر لبلاده، و منهم من أراد الاستمرار في أعمال القرصنة، و الباقون ظلوا معي للعمل على سفينتي، و هكذا قضيت المدة التي إبتعدت فيها عنك بنقل التوابل و الأقمشة، و كانت الأرباح ممتازة، لذا قمت بشراء سفينة أخرى فتضاعفت المكاسب و أُوشك على شراء سفينة أخرى في غضون* عدة أشهر.. عزيزتي.. سيصبح لدي أسطول من السفن التجارية، و سنصير أغنياء حقاً. إسمعي علينا الآن الذهاب إلى الكنيسة كي نتزوج ثم إجلبي العزيز عليكفقط من أغراضك، فسوف أشتري لك الكثير.. الكثير من كل شيء تشتاق إليه نفسك، يا حبيبتي. إنظري! هيا فلنسرع!"

"إنتظر قليلاً.. فيليبو! أشعر بالدوار من كل هذه المفاجآت.. مهلاً.. دعني أفكر و لو للحظة..."

"لقد أهدرنا الكثير من السنوات، يا جوليا. لابد أن أجعل منك امرأة شريفة. أريد أن أعوضك عن كل الحرمان و التعاسة التي عشنا فيها لسنوات طويلة. لقد أشتريت بيتاً جميلاً في فرنسا بجوار البحر في نفس المدينة التي إلتقينا فيها أول مرة.. أتذكرين؟"

"و هل كانت تلك ذكريات تُنسى؟ سخر مني الجميع لإن ملابسي تبدو قديمة العهد، و عاملتني صديقتي و أسرتها بإزدراء*، و كادت الشرطة أن تقبض علي لتستري* على مجرم مطلوب للعدالة مثلك، و..."

"كفى جوليا.. لم أعن هذا النوع من الذكريات، و لكن لا يهم. ها قد حانت فرصتك للإنتقام منهم. أنت الأن سيدة ثرية، و قريباً جداً سنشتري بيتاً في باريس، و نقيم حفلات راقصة كل ليلة. سأتبنى هذه الفتاة لأجل خاطرك أنت، و سنقدمها للمجتمع الباريسي. أعلم أنها ستحدث ضجة كبيرة، و ربما تلفت أنظار أحد النبلاء لها، و ..."

"توقف أيها الماكر.. من قال أنني سأقبل أن أكون ابنة تحمل اسمك. إنني حقاً أحب جوليا، لكن لي والد أتشرف بحمل اسمه..."

"لما لا تتوقفان عن الصراخ!"

نهضت جوليا باكية و أغلقت باب غرفتها، معلنة أنها تريد الإختلاء بنفسها. تبادل كل من فيليبو و لُجين نظرات التحدي و الغضب دون أن يتفوها بكلمة.

لماذا تبكي؟ لماذا تختنق بمشاعرها لهذه الدرجة؟ هل أصبح كل حلم تمنته يوما قاب قوسين أو أدنى من منالها؟ ستتزوج من مٓن تحب.. سيكون لها ابنة..سترتدي ما تريد.. و تسكن القصور، و لكن لما هذا الخوف بداخلها؟ لماذا تشعر و كأن حادثاً بالإنتظار، و أن هذه السعادة لن تكتمل؟ هل إعتادت اليأس لهذه الدرجة؟ أم أنها قد ألفت الشرنقة التي عاشت بداخلها طيلة السنوات الماضية، فصارت تخشى المجهول. ماذا عن لُجين؟ كم تود لو توافق الفتاة على إقتراح فيليبو، لكن ذلك سيكون إجحافاً* بحق الفتاة و والدها الذي يظنها لهذه اللحظة قد فارقت الحياة. تنهدت حزناً، و قررت أن ترفض عرض فيليبو، فلتظل الأمور على ما هي عليه. كادت تخرج لهم بعد أن عقدت عزمها بشأن قرارها، و مسحت العبرات من على وجنتيها، لتتوقف في منتصف الغرفة و هي تسمع صوت لُجين تخاطبها من وراء باب الحجرة:

"جوليا الحبيبة، تزوجي من فيليبو، لتعودي سيدة للمجتمع الراقي بفرنسا.. أما بشأني، فسآتي معك لفرنسا لأجل خاطرك، لكننا سندعي أنني ابنتك من زواج سابق.. من أبي، فلا أستطيع أن أحمل اسم أحد أخر سواه."

أسرعت جوليا بفتح باب غرفتها، و إحتضنت الفتاة بشدة مقبلة جبينها.. حتي فيليبو نفسه كاد يحتضن لُجين، لولا نظرتها الشرسة التي حذرته من الإقتراب.

و هكذا تم زواج جوليا و فيليبو، الذي صار اسمه فيليب لا سال، كي لا يقع تحت طائلة الشرطة التي كانت تبحث عنه لسنوات طويلة. أُعدت الحقائب للسفر، و كان بإنتظارهم عربتان تجرهما خيول قوية، فكانت الرحلة لفرنسا أقل مشقة بكثير من آخر مرة سافرت فيها جوليا لهناك.

ألقت لوجين نظرة أخيرة علي المنزل الذي عاشت فيه سنوات عمرها الأخيرة،و هو يلوح من بعيد كنقطة صغيرة بين جبال البرانس الشامخة* التي تفصل أسبانيا عن فرنسا.. بسفوحها و سهولها و منحدراتها التي تجمع ألوان شتى تعبر عن يد المبدع في شأن خلقه.. إستنشقت الهواء العليل الذي يحمل القليل من نسمات البرودة، متسآئلة عن الصفحة التالية في كتاب حياتها.. ترى كيف تبدو فرنسا؟هل هي كما وصفتها جوليا لها، أم إختلفت كثيرا؟ و كيف ستكون حياتهاهناك؟ هل سيتقبلها الناس، أم ستكون مسخاً يخاف الجميع الإقتراب منه؟ تنهدت حائرة، ناظرة للطبيعة الآسرة من حولها حتى غلبها السهاد، فأغلقت عينيها، لتحلم بوجه أبيها علها تراه باسماً مرة أخرى.

*الأمازيغية: لغة البربر 
*طائل: فائدة

*يؤنب: يوبخ

*إزدراء: إحتقار

* يتستر: يخبئ و يخفي و يتكتم

* إجحاف: ظلم و جحود
* الشامخة: العالية المرتفعة




























أسيرة الظلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن