١١؛ عَودةُ ورِيثة العَرش.

4.3K 463 322
                                    


أنا أنتِ، ولا مجال للواو بيننا. قرأها كثيرًا حتى حَفِظها و سكنت فيه، وتردد صداها وعلت نغماتها حتى تمنى هذا اليوم الذي سيركن فيه برأسه فوق كتفها ويتلوها عليها. ثم جاءت به الدنيا وأتت بها ووضعت بينهما كل أحرف الأبجدية وليست مجرد واو!

وراقبها من بعيد ينظر لها ويطمح لأن يمتلكها، وكان وصوله لنجوم السماء بأهون من مطلب نيلها. وتساقطت دموعه، وتحشرجت أنّاته في حلقه وسقط على عقبيه واقتصت منه الحياة كأنما تخلص منه وحدهُ ذنوب العالم أجمع. ورغم أنه نهض ولم ينتظر حتى يندمل جرحه، إلا أنه تفتت في رحاتها واستحالت قوته لضعف واستحال هو للاشيء.

أراد أن يقرأها في الظلام، وأن يحبها في العتمة وأن يكتب عنها في غياهب الروح؛ لأنها امرأة أتت ومعها كل الظلام الذي هبط عليه، وغرق فيه. وتسللت لدهاليز الذاكرة وسكنت الخط الفاصل بينه وبينها. وكان الأمَرُ من كونه بلا قلب أن يحصل على نصف قلب يتيم.

أراد أن يرتشفها جرعات مكثفة، فانسكبت من إناءه قبل الرشفة الأولى على الأقل. واقتطفتها الحياة له من عنقود غدرها لتعلق بحلقه وتقتله.

ركض وخلفه ركضت وكل ما يتعلق بها حتى أتوا عليه جميعًا وهدوا صموده الأخير. وكم يتمنى حقًا لو يبكي، لو أن يصرخ ولو أن يسند رأسه لحضنها ويشتكي لها مرارة حبها وشدة لذعته. وأنه خُدع بلون العسل وارتشف منه ظنًا أن اللذعة في النهاية وحسب فكان عسل الحب لاذعًا في أوله ووسطه وآخره.

ثم لم تفرغ منه الحياة، وكان في جعبتها المزيد لهُ. فغرفت له من سُمها أكثر وكانت حقًا كريمة. وحطمت دعامات حياته كلها، فانتشلت حبهُ وعمره وصحتهُ، وسلبت منه الحبيبة والصديق.

الغابة الضخمة في مدينتها التي لم تحتضنها يومًا ولم تحنو عليها ذات صباح، كانت مقصدهُ الآن وهو يقفز من سطح مبنى لآخر قبل أن يتلاشى تاركًا خلفه ذرات غبار رمادية سرعان ما تلاشت معبرة عن ابتعاده عن المكان كله وظهرت في قلب الغابة، تحيط به وتعلن على النقيض وجوده.

عدستا عيناه كانتا مصبوغتان باللون الأحمر الدامي. كفاهُ مشدودان وعروق ذراعه بارزة للخارج.

بأقصى سرعته كان يركض فوق العشب الميت وبين الأشجار المنتصبة مرفوعة الرأس بعزة، وقرر أنه لن يكون بأقل من شجرة فانتصب بقامته المتوسطة الطول ورفع رأسه يدفع بنظرهِ لأعلى. يحدق في الشجرة العملاقة التي تكاد تتخطى السحاب وتصارعه على عرش السماء بثقة.

وشعر بكم ضئالته، ومدى ضعفه على أن يكون كشجرة!

ضيّق فتحتا عينيه وقفز بكل ما بقي فيه من طاقة تجددت بضعف في داخله ليثبُت فوق الغصن بقدميه، وظل يقفز من واحد لآخر حتى تقعد الأعلى بينهم وأسند ظهرهُ مبتسمًا بجانبية. كان عليه ليصل حدود السماء أن يجد معوّلًا.

بِيكَاسّو || A war of bloodحيث تعيش القصص. اكتشف الآن