مهمة يورك 2

35 1 0
                                    

تقدمت نحو الباب وفتحته ببطء...كان الحضور يهتفون ويزايدون على قرص مدمج ما، فهمت لاحقاً أنه حامل لفايروس الكتروني شديد الفتك، لم أكترث وواصلت التسلل بين الجماهير المتدافعة، كانت القاعة كأي قاعة أخرى مخصصة لهكذا مناسبات، لا تتناسق فخامتها ورفاهيتها أبداً مع الأجواء الخارجية الاختلاف الوحيد هو استخدام المصابيح الزيتية للإضاءة مما جعل المكان مظلماً قليلاً.
لم يرني أحد، كذلك أنا لم أرى هدفي المزعوم فأيقنت أنه وكما قالت أماني لن يخرج إلى الأنظار إلا في اليوم الثالث وتحديداً في نهايته، هل هذا يعني أن عملي اليوم قد انتهى؟...قطعاً لا! لدينا معلومات تؤكد تواجده في المنطقة المحيطة طوال فترة المزاد،لذا، فلننطلق إلى الإجراء الثاني، تفتيش الغرف الداخلية، ثمة باب حديدي موصد بإحكام على أقصى اليمين، يعسكر أمامه رجلان ضخما الجثة، لن يكون فتح باب بلا مفتاح صعباً، كما أن وزنه كالريشة بالنسبة إلي، كل ماعلي فعله هو زحزحة الحارسان المتحجران بذلك الشكل.
بعد بضع دقائق من التفكير غير العميق، خطرت لي فكرة بسيطة تنص عل نشر فوضى صغيرة.
انتشلت بطاقات أرقام المزايدة من بعض الحاضرين المتفرقين خلسة، كذلك استعرت ساعة ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة من شخص آخر، وحرصت على أن تبدو رخيصة بالمقارنة مع حلي باقي الحاضرين، ثم ذهبتُ في زيارة إلى الجزء الخلفي من منصة العرض وسحبت زجاجة طويلة العنق ملفوفة بقماش أسود علقت عليه بطاقة كتب عليها" سارين"
أعتقد أنه سم ما، يبدو بلا طعم أو رائحة، ودور عرضه بعد منتجين، إنه موضوع في منطقة البضاعة الهامة! على أية حال، وضعته في حقيبة أحدهم وأبقيت طرفها مفتوحاً، رميت الساعة مكان الزجاجة، أما البطاقات فبعثرتها في مواقع متناثرة ومتباعدة، وانتظرت بهدوء مجيء دور الزجاجة.
وعندما لم يعثروا عليها وعوضاً عنها وجدوا الساعة، ثارت ثائرة الحاضرين، لم يكن أحد من الحاضرين قادماً لشراء ساعة! خصوصاً إن كانت بهذا الرخص، باشروا الصراخ على المسؤولين و أسمعوهم من الكلمات هذا وذاك، إنهم مجرمون في النهاية، ليس لديهم مايعرف ب"خطأ غير مقصود" لقد دفعوا الملايين للحضور إلى هذا المكان ومن الأفضل أن يجدوا ما يستحق العناء.
بعد ذلك صاح أحدهم قائلاً بأن بطاقة ما واقعة على الأرض قريباً من المنصة، لا أقول أني قصدت رميها هناك، تم الأمر بشكل عشوائي، تعالت همهمات الجالسين واستحالت إلى ضوضاء مجلجة تقضي بأن هناك لصاً في القاعة،توتر المسؤولون قليلاً ووجد الإرتباك موضعه على وجهوهم، وبدأت عمليات البحث والتفتيش عن صاحب البطاقة والساعة وسارق الزجاجة، أشفق على صاحب الساعة، شحب لونه وتهاوت أوصاله بعد رؤيته لساعته،يال المسكين!
المهم، استدعى البحث ترك أحد الحارسين لموقعه للمشاركة أثر العدد الهائل، بينما ظل الآخر منتصباً لا يبرح محله بعد أن أوصاه زميله بالبقاء يقظاً، لكن من ذا الذي بوسعه تشغيل عقله على أكمل وجه وتفعيل حواسه كما يجب وسط غرفة مغلقة بلا نوافذ مكتظة بالحشود ومع الإضاءة الخافتة المائلة إلى العتمة فضلاً عن الضجيج والصخب لأصوات متداخلة وهمهمات في كل مكان، والناقص هو عملية البحث عن لص محدد بين مئات اللصوص، كان الحارس مرتبكاً وإن لم يبدو عليه ذلك وتقدم بضع خطوات وعيناه ملتصقتان بمن في القاعة،تسللت خلفه بشكل يسير حيث فككت قفل الباب، ولم يكد أي صوت يسمع بسبب كل هذه الجلبة.
دلفت إلى الداخل مع ابتسامة نصر بادية بوضوح... مرّةً أخرى؟! سألت في نفسي بعدما وجدت المكان مضاء بالشموع ولا وجود لآلات مراقبة أو أي أثر للكهربائيات، ظننت ذلك مريباً حتى بدأت أستوعب، إن استعملوا الكهرباء ولو من محول خاص لأتاح ذلك فرصة وافية لتحديد موقعهم عن طريق استشعار الطاقة المنبعثة من الالكترونيات وهم لن يجازفوا مجازفة كهذه قد تودي بهم إلى التهلكة، يعد استخدام الأساليب القديمة التقليدية أكثر أماناً.
تقدمت بين الممرات الطويلة بهدوء، كان المكان أشبه بالمتاهة بالفعل، إلا أن ذلك لا يشكل معضلة لعبقري مثلي، أنا دائماً أعرف موقعي، لا يمكن أن أضيع.
.
.
.
بحثت في نصف الغرف دون جدوى لم أعثر على أثر ولو ضئيل للهدف، تابعت البحث لعلي أفاد من الغرف المتبقية، كان لبعضها حراس شتتهم بسهولة وبعضها الآخر مقفل وقد فتحته، لم أجد شيئاً...بعد انتهائي من كل باب وجدته أمامي، الغرف جميعها متشابهة، لا يمكن أن تكون واحدة منهم للزعيم، تعبت حقاً لكن عزيمتي لم تنطفئ وكررت الجولة مرة ثانية وثالثة، وفي المرة الرابعة لم أبحث عن غرفة مزركشة ومرفهة قد تكون للرئيس بحثت عن مواصفات أخرى، وبالفعل وجدت ضالتي عندما لاحظت باب مظلم فتشته من قبل دون أن ألمح وجود قفل معدني ضخم على جزءه الداخلي، فقد كان الباب مفتوحاً، لقد كان السرداب، حيث التخزين، ثمة باب ثاني داخل هذا المخزن وضع عليه خمسة اقفال، ظننتُ سابقاً أنه لتخزين سلع هامة فحسب، لكن خمسة أقفال؟! الآن الشك بدأ ينمو اكثر خصوصاً مع عدم توافر حلول أخرى، لا ضير من التجربة... انتظرت أمام عتبته متوارياً في الظل لساعة تقريباً مع بعض الشك يشوبني، وقد قطع الشك اليقين عندما وأخيراً حضر رجل مفتول العضلات يطرق الباب.
"تاكيشي ساما..هل..هل يمكنني الدخول"
"ادخل"
جاء الرد من الداخل بنبرة تقشعر لها الأبدان، ليفتح الأقفال الخمسة دفعة واحداً تلو الآخر ويدفع ذلك الباب ببطء
"سيدي سيغادر الحضور بعد أقل من ساعة، أ..ألا تود مقابلتهم؟"
أردف وهو لايزال على الحافة، يبدو أنه لا يجرؤ على التوغل أكثر
"ألهذا السؤال السخيف أزعجتني؟"
قال ببرود مرعب
"منذ متى تسألني عن هكذا أمور وكأنني لا أعرف ما علي فعله؟"
"س..سيدي أرجوك لقد أسأت الفهم...حدث أمر ما اليوم ربما تغير رأيك لو سمعته"
"ماهو هذا الأمر؟"
"حدثت ضجة كبيرة اليوم نتيجة سرقة إحدى أهم القطع وأشدها ندراً.
"وهل وجدتم السارق؟"
"أ..أجل، كانت في حقيبته وقد اصطحبناه إلى إحدى الزنزانات و..."
"سورا يا سورا...هذا عملك أنت وبافي الحرس وليس عملي، لا أملك وقتاً لمثل هذه التراهات ولهذا وظفتكم، أم أنك نسيت؟"
"لا سيدي محال أن أنسى"
"جيد، الآن انصرف...وأبلغ الحضور تحياتي"
أردف مع قهقهة مستفزة، لينحني الآخر ويغلق الباب وينصرف، كانت ضحكته مغيظة حقاً، شخص مثله يستحق الموت، أجل...قلت محاولاً اقناع نفسي بأن ما أفعله ليس بذلك السوء، حتى وإن كنت أعلم في أعماقي أن القتل يبقى قتلاً مهما كانت الحجج أو الأهداف.
لقد أنهيت جزءاً جيداً هذا اليوم كما كان مخططا له، سأغادر الآن وأكمل بالغد.
.
.
.
غادرتُ من باب خارجي عثرت عليه أثناء بحثي حيث لم يكن علي العودة من نفس الباب الذي دخلتُ منه، ولازالت أماني تنتظر في السيارة المركونة بعيداً وفور أن أبصرتني شغلت المحرك لأفتح باب السيارة الخلفي وأرتمي بداخلها.
"هل واجهتك أي مشاكل؟"
"لااا....ضيوف المزاد حمقى والحراس أشد حماقة دخلت وخرجت بسهولة تامة"
"إذن كل شيء يسير وفق الخطة!"
"صحيح، اليوم أجد مكانه، غداً آخذ الأوراق من مكتبه، بعد غد أشق رأسه نصفين، كل شيء يسير بسلاسة"
"سننطلق غداً في مثل ميعاد اليوم"
"أجل"
وبعد هذا الحوار القصير فرض الصمت نفسه على الجو لباقي الطريق ولم نكسر ذاك السكون إلا عند وصولنا.
.
.
"إنها التاسعة تماماً، لايزال الوقت مبكراً"
"إذن لدينا وقت للتنزه، رائع!"
"لدينا؟!"
"أجل، ألن ترافقيني؟"
"ب..بلا سيدي"
"ممتاز، هيا! ولتكن وجهتنا أقرب مطعم، إني أتضور جوعاً!"
ذهبنا إلى مطعم ما، لا أذكر اسمه، وأكلت حتى مابعد الشبع، أما أماني فقالت أنها ليست جائعة، كنت مصراً على أن تأكل لكنا كانت أكثر إصراراً على العكس فرضخت لها في النهاية وتركتها على راحتها، واصلنا السير في الشوارع المزدحمة لفترة ثم....ظهرت أمامنا فجأة تلك الفتاة التي ظهرت بالأمس في محل الحلوى وعندما رأتني ابتسمت بشكل عريض وحدقت بي قليلاً ثم غادرت،  كنت على وشك المواصلة لكن أماني كانت متحصلبة في مكانها التفت إليها فوجدتها مرتبكة للغاية وصارت تتمتم بكلمات لم أفهمها.
"رأيت تلك الفتاة من قبل"
وعندما لاحظتني تصنعت الابتسام محاولة إخفاء قلقهة وهمت باستئناف المسير  فقلت لها أني لا أريد ذلك وطلبت منها العودة إلى الفندق.
عدنا وخلدنا إلى النوم ولا داعي لذكر الأحلام، وفي اليوم التالي كرر اليوم الأول نفسه، عدنا إلى المزاد، دخلتُ من الباب الذي خرجت منه أمس، تسللت إلى المكتب الذي عثرت عليه أثناء تجوالي، أخذت الأوراق وخرجت، تم الأمر بشكل أسرع كثيراً هذه المرة، كوني قد حفظت المكان، عدنا هذه المرة في الساعة السادسة والنصف تقريباً ولكني لم أجد رغبة لي في الخروج وآثرت المكوث في الفندق، ليلتها حظيت بجرعة مضاعفة من الكوابيس ونمت بصعوبة.
أقبل نهار الغد...مما يعني أنه آخر يوم لي وآخر يوم لعدفي في هذا العالم، مضيت بنفس المنوال لليومين السابقين، لكن هذه المرة كنت أشعر بضيق شديد على خلاف العادة، وجدت عدداً هائلاً من الحرس، هل هذا لأنه آخر يوم أم لأنهم علموا عن الأوراق؟، لايهم، أنا لن أتفاداهم أكثر...سقط كل منهم صريعاً بصمت تام.
كان هناك حرس آخرون أمام غرفة هدفي المغلقة...فكسوتهم بحلة جديدة، سائلة ولونها أحمر، لم أرد فعل هذا ولكن أنا لم أعد أحتمل، إنهم مجرمون في النهاية يستحقون ما حدث لهم، أنا لم أفعل شيئاً سيئاً!...كنت أحادث نفسي وأبرر لضميري بعد أن أرديت كل من وقعت عليه عيني قتيلاً، جثة لديها ثغرة كبيرة في  صدرها  وتتدفق منها الدماء بغزارة، ياله من مشهد!
أما الآن فحان وقت المتعة الحقيقية، حطمت الباب الحديدي بيداي لأجد المعني مشدوهاً يحملق بعينين متسعتين وقد تلاشت ابتسامته المستفزة، بدا مثيراً   للشفقة إلى حد مضحك بوجهه الشاحب ونظرته المرتعبة...ربما علي الاستمتاع قليلاً قبل قتله
"أيها...أيها الصغير ماالذي جاء بك إلى هنا؟...عد إلى أنك قبل أن أريك مالا يرضيك، لدي مئات الحراس ينتظرون إشارتي و....{توقف عندما لاحظ الدماء السيالة من وراء عتبة الباب}"
ح"حراس؟! أنا أسميهم جرذان!"
"يا...فتى..سأكون رحيماً بك هذه المرة لأنك صغير وغير واعي...."
وفي لحظة واحدة طار رأسه بالهواء، ثم هوى إلى الأرض لتكون آخر مرة يتحرك فيها.

الضحية القاتلةDonde viven las historias. Descúbrelo ahora