الفصل الثامن عشر

Start from the beginning
                                    

وفي المدينة وبعد ان ترجلت من سيارة الأجرة الخاصة ببلدتهم ،  انفصلت عن مرافقتها من احدى فتيات البلدة مخالفة السير معها في الطريق المعتاد ، بحجة التقائها الضروري لإحدى صديقاتها من اهل المدينة لأمر مهم يخص الدراسة ، وسارت في الطريق الذي وصفه لها ، تقطعه على تخوف وتردد، مع رغبة قوية في المغامرة، كان الطريق في بداية الصباح تقريبًا خاليًا من السكان، وهي تسير بحرص حتى تفاجأت به يخرج لها من آحدى البنايات ،
- ندى .
هتف بها مقتضبه بابتسامة انارت وجهه الوسيم ، يتقدم نحوها بقميص اسود على بنطاله من الجينز ، والذي لائم جسده النحيف بخطوات مسرعة نحوها وكأنه لا يصدق رؤيتها ، اومأ لها لتتحرك بخطواتها فسارت هي للجهة التي يشير اليها حتى وقفت معه في ركن قريب بعيد نسبيًا عن الأعين المتلصصة وحركة المشاة في الشارع، تحدث قائلًا بلهفة :
- دا انا مكنتش مصدق انك هاتيجي .
ردت قائلة بهدوء :
- ما انا كنت فعلًا مش هاجي ، بس بصراحة خوفت لا تزعل وتفتكرني خايفة منك زي كل مرة ، وكمان عشان الطريق سهل وهايوصلني لمدرستي ، مش انت قولت كدة .
اومأ لها بلهفة مشيرًا لها بيده قائلًا :
- ايوة امال ايه ؟ شايفة الشارع الصغير اللي قدامك هناك ده ، هاتدخلي تمشي فيه وفي ظرف عشر دقايق هتلاقي المدرسة في وشك على طول.
اومأت برأسها صامتة فتابع بنظراته المتفحصة وكأنه يلتهم تفاصيل وجهها :
- ماتعرفيش انا فرحان ازاي دلوقت، انا حاسس قلبي هاوقف مني من ضربه السريع جوا صدري ، دا انا بحبك قوي ياندى .
قال فجاة مقبضًا على كفها ، جعلها ترتد للخلف مجفلة  من فغلته ، رفع كفيه امامها بتراجع :
- اسف ، سامحيني والنبي انا مش عايزك تخافي مني تاني. .
ردت وهي تنظر نحو كفه قاطبة بدهشة :
- انت ايدك بتتنفض .
قال مقررًا :
- انا جسمي كله بيتنفض ، مش بقولك حاسس قلبي هايوقف من الفرحة . 
- لدرجادي ؟
سألت غير مصدقة ، اردف هو :
- واكتر من الدرجادي كمان، بكرة لما يوصلك الحب اللي في قلبي هاتبقي زيي واكتر كمان .
صمتت وهي لا تستوعب كلماته فتابع، هو
- شوفي كدة انا عملتلك ايه ياندى .
قال وهو يخرج لها خلف ظهره ورقة كبيرة تحمل صورتها .
هتفت بسعادة وهي تتفحص الصورة :
- دي الصورة اللي انت بعتهالي امبارح على الوتس ،
- عجبتك الصورة ياندى ؟
اومأت برأسها ، فاأخرج لها علبة مخملية من جيب بنطاله قائلًا :
- طيب وايه رأيك في الهدية دي ؟
التمعت عيناها بشعاع الفرح لرؤية السلسال الذهبي الذي اخرجه لها والذي تدلي منه قلب ومعه حرف الكاف باللغة الأجنبية ، قالت متصنعة عدم الفهم :
- سلسلة مين دي ؟
- دي سلسلة فيها حرفي ياندى والقلب اللي فيها دا يبقى قلبي انا ، عايزك تلبسها وماتتقلعش من رقبتك نهائي .
لمسته بيدها بانبهار ولكنها تداركت نفسها ونزعته سريعًا :
- ايوة بس انا قولتلك ماينفعش اخد حاجة من حد غريب .
- ايوة ماانا قولتلك كمان كلمي اهلك عشان تبقى رسمي .
استفاق يدرك حدته في الحديث فخخف من لهجته قائلًا :.
- انا قصدي يعني ، عشان اعرف اكلمك براحتي وكمان اقدر البسك سلسلتي دي واجيبلك كل اللي بتحلمي بيه ، من دهب ولبس وجزم ، كل انت عايزاه ياندى .
ابتعلت ريقها وقد راقها الحديث وانعش داخلها الاحلام التي لطالما راودتها في مواكبة فتيات المدينة هنا ، تابع يسألها:
- ها هاتكلمي ابوكي عشان يوافق بالخطوبة .
اومأت برأسها صامتة لتجده امسك بكفها يضع بها السلسال:
- خليه في ايدك دلوقت عشان قريب قوي هالبسهولك هالبسهولك بإيدي ، والصورة بقى سيبهالي انا وخليها معايا تصبرني .
....................................
 
- ايه ياعم ؟ هو احنا مقومينك من سريرك عشان تيجي تنام هنا،
اردف بها سالم ساخرًا نحو صالح والذي كان جالسًا بجذعه مستندًا بظهره على جزع الشجرة مغمض العينان مستمتعًا بملمس الهواء لبشرته ، ورائحة الخضرة المتنوعة وهي تخترق انفه ، فتح اجفانه اليه مرددًا باسترخاء:
- ماتلومش عليا ياعم سالم ، دي اول مرة من سنين طويلة اقعد قعدة زي دي، ولا احس فيها بهوا يسكر كدة.
- وه .
اردف بها سالم وقد ادرك مقصد الاَخر ، ربت بكفه على ركبة صالح مهونُا :
- معلش ياولدي ، انا كنت ناسي ومخدتش بالي ، لكن اطمن بكرة ربنا هايفك كربك وماهترجعش للمدوعق السجن دا تاني أبدًا .
تبسم صالح بزاوية فمه ساخرًا فجاء الرد من يونس في الجهة الأخرى :
- ادعي ياعم الحج وقول امين ، ماحدش عارف يمكن يحصل .
رد صالح على كلمات يونس :
- رغم احساسي انك بتستهزأ ، بس انا هاقول امين عشان فعلا ماحدش عارف ، ويمكن يحصل .
تدخلت نجية والتي كانت اَتية بصنية كبيرة ممتلئة بالطعام :
- مافيش حاجة بعيدة عن ربنا ، اقرب ياصالح عشان تاكل معانا ، وانت يايونس سيب العزيق وتعالى افطر .
رد صالح بإحراج :
- نفطر فين ياجماعة ؟ لهو انتوا مصحيني عشان كدة؟
- ايوة ياسيدي مصاحينك عشان تفطر معانا هنا في الهوا ، ااقرب ياللا بسم الله .
- ياجماعة ماينفغش ، هافطر كيف بس ؟
هدر عليه يونس الذي ترك فأسه ليغسل يداه تحت صنبور المياه الكبير،.
- ماتقوم ياعم انت محتاج عزومة ، ولا يكونش كمان مش عاجبك الوكل في الخلا وعلى الارض تحت الشجرة .
تبسم صالح له وهو يحاول الوقوف مستندًا على فرع الشجرة :
- مش عاجبني ازاي بس ؟ وانا نفسي فيها القعدة دي وبحلم بيها من زمان، بس على الأقل اكل وانا نضيف او مغسولة يدي حتى، ثواني هادخل اغسل وشي وراجع تاني .
اوقفه سالم يجذبه من كفه :
- رايح فين ياصالح ؟ ماهي الحنفية اهي ادخل تحتيها واغسل وشك زي يونس ولا هاتتكبر ؟
انشقت ابتسامة مرحة على وجه صالح وهو يردف :
- والله مامتكبر ، بس انا هاعملها ازاي دي وانزل بدماغي زي يونس ، مخي المتعور دا يتحمل ازاي بس ؟
- احلهالك انا ياسيدي .
اردف لها يونس وهو يقترب بخرطوم المياه السائلة من الصنبور  :
- اغسل من المية دي ، ساهلة اهي
ضحك صالح من قلبه وهو يتناول خرطوم المياه ويمرر بها يغسل وجهه ويديه في تجربة لم يخوضها من قبل.
.............................

وفي المدرسة وبعد ان وصلت الى فصلها لتجلس سريعًا على تختها ، التفت يمينًا ويسارًا لاهثة بأنفاسها قبل ان تضع يدها بداخل حقيبتها المدرسية مخرجة تلك العلبة المخملية ، وتتناول السلسال الذهبي، فشهقت بإعجاب شهقة منعتها في حضوره أمامها ،  لا تصدق ان هذا السلسال الجميل أصبح هديتها من عاشق لها كما يقول ويؤكد لها دائمًا هو، من رجل يتمنى قربها ويكاد ان يقتل نفسه للارتباط بها .
- ايه الحلاوة دي ؟
اننتفضت مفزوعة وهي تجد سلسالها اختطف من يدها واصبح في كف زميلتها علية؛، تلتف به امامها بإعجاب:
- يخرب عقلك يا ندى ،  سلسلة دهب وفيها قلب وحرف الكاف كمان ، مين دا يابت اللي بحرف الكاف وبيجبلك هدايا دهب ؟
ارتعبت ندى وذهبت مهرولة لتغلق باب الفصل ، قائلة برجاء :
- ابوس ايدك ياعلية وطي صوتك هاتفضحينا ، دا هدية من خطيبي .
- ولما هو هدية من خطيبك ، بتخبي ليه انك مخطوبة اساسًا ؟
سألتها بتشكك وهي تبتعد بالسلسال عنها وتلاعبها ، ردت ندى بارتباك :
- ماهو هايبقى خطيبي والله واتقدملي كمان بس ابويا هو اللي رفض .
شهقت الفتاة مرددة بعدم تصديق :
- ابوكي رفضه ومع ذلك هو بيجبلك هدايا بالدهب كمان ، دا مين دا يابت ؟
نظرت لها بتخوف وتردد في ذكر الأسم فعلية هذه لطالما اشتهرت  بعلاقاتها مع الشباب .
- ماهو انتِ لازم تقوليلي الأسم ياندى، عشان ياحبيبتي انا مش هاسكت النهادة غير لما اعرف .
قالت الفتاة بمحايلة وتابعت وهي تغمز بعيناها :
- قولي يا حبيبتي عشان ادلك ليكون حد بيضحك عليكِ، قولي يابت .
تعرقت ندى وزاد توترها حتى زاغت عيناها لخارج النافذة الخشبية للفصل نحو الشرفة المعروفة ، شهقت الفتاة ضاحكة حينما التفتت للناحية التي تنظر لها ندى قائلة:
- لا ماتقوليش، معقولة يكون العاشق المتيم ؟
حينما صمتت ندى فهمت الفتاة فزادت من ضحكاتها المجنونة  وهي تدور حول ندى مرددة:
- اه ياكهينة يا لئيمة انتِ ، بقى معلقة الواد ومقشطاه ومعانا احنا بتضحكي معانا وتتمسخري عليه ؟
هتفت عليها ندى غاضبة :
- بلاش كلامك المستفز دا يا علية، كرم عايزني في حلال ربنا بدليل انه اتقدملي زي ماقولتلك .
تخضرت الفتاة وهي تحدق بندى من رأسها لأخمص قدمها ، فقالت بميوعة :
- طب انا مش هاقولك كلام مستفز ولا اضايقك حتى ، بس بشرط تحكيلي الحكاية من طق طق لسلام عليكم .
زفرت ندى من انفها تشيح بعيناها عن الفتاة لبعض اللحظات تفكر  قبل ان تعود اليها حاسمة امرها :
- انا هاتكلم واحكيلك ، بس وديني ياعلية لو طلع الكلام دا للبنات المايصين اصحابك لاكون مبلغة عنك مديرة المدرسة بأي بمصيبة من اللي بتعمليها مع البنات .
اومأت الفتاة برأسها على مضض قائلة :
- ماشي ياندى .

......يتبع

المطارد Where stories live. Discover now