الفصل الأول

8.9K 263 29
                                    


الفصل الأول

في بلدة صغيرة في أقصى الصعيد وقريبة من الجبل، و ليلة شتاء باردة لدرجة الصقيع، ملبدة بالغيوم الكثيفة، وموحشة بهذه الأصوات الصادرة من الذئاب الجائعة والباحثة عن طعامها، فتجعل من سكان القرية بعد صلاة العشاء مباشرةً أسرى منازلهم؛ كما تخلو شوارع القرية تقريبًا من المشاه إلا ممن خرج مضطرًا.. ملتزمين بحصن منازلهم مهما كانت ضعيفة متهالكة وقديمة، أو مصنوعة من الطوب الأخضر ولكن يكفي الدفء الأسري فيها، والأمان؛ رغم انه هو الاَخر اصبح مهددًا بفعل مجموعات من البشر استحلت الحرام وهددت أمن الأمنين!

وهنا في منزل سالم أبو محمد الطيني والمكون من طابقين، مثل بقية المنازل في القرية، وبداخل غرفتها كانت جالسة على طاولة قديمة صغيرة أعدتها كمكتب لإستذكار دروسها فتاة نحيفة.. عاقدة شعرها الحريري الأسود فوق رأسها وناظرة بعيونها التي تشبه القهوة في اللون إلى الفراغ, شاردة فيما شغل عقلها وحيره هذه الأيام، يدها تمسك بالقلم تتحرك وترسم دون إرادتها هذه الأعين المجهولة التي تطاردها في صحوها ومنامِها بشكل متكرر بدرجة ارعبتها.
لاتدري لماذا؟ وكيف؟ إضافة إلى أنها تجهل صاحبها، هي لم تكن أبدًا من الفتيات المرهفات الحس و المشاعر ممن يتمنين الدخول في علاقات غرأمية مع الشباب او ممن تتغزل في نجوم السينما و التلفاز الوسيمين فيعلقن صورهم على الحائط، ويهمن بهم وبأغانيهم واعمالهم، وبرغم طبيعة عملها كممرضة في الوحدة الصحية للقرية، رغم انها لم مازالت تدرس في شهادة التمريض، ولكن نظرا لجدارتها وتفوقها بالممارسة حصلت على فرصتها، بالإضافة  لضعف امكانيات القرية وقلة المتعلمين بها.

تختلط يمنى يوميًا بالعديد من الأشخاص الغرباء، ولكنها لا تسمح لعواطفها أبدًا بالتدخل في عملها رغم طيبتها المفرطة واخلاصها الامتناهي في علاجهم.. مما يجعل هذا السؤال المحير يدور برأسها بغير هوادة، كيف تحلم بشخص غريب يناجيها ويرجوها بعيناه وكأنه يعرفها وتعرفه وكأنه يعلمها وتعلمه ؟ كيف تشعر بألمه ؟ كيف تتعلق روحها بمن لم يسبق لها رؤيته اطلاقًا على الحقيقة؟ ام انها تهذي وقاربت على الجنون ؟

- يابت ابوكي بيندهلك من فوق، مابترديش ليه؟
أجفلت منتفضة من هذا الصوت الأنثوي الصارم لتكمل المرأة بصياح:
- ما تردى يازفته سرحانه فى ايه؟
وضعت يدها على قلبها المرتجف وهى تحدثها :
- فى ايه بس يا أمي خضتيني؟
هتفت والدتها بوجه عابس:
- سلامتك ياختي من الخضة ابوكي ليه مدة طويلة بينده عليكي ، وانتي ولا كانك في البيت اساسَا، دا انا الصوت وصلني  جوا في اؤضتي وانتي برضك ماسمعتيش، خبر ايه يابت؟ كنتى سرحانه فى ايه؟

قالتها نجية بتساؤل أربكها عند الرد، فلم تدري بماذا تجيبها مع هذ التخبط الذي ينتابها هذه الأيام وبكثرة؟ فخرج صوتها بتلعثم؟
- يعنى هاكون سرحانة في ايه بس ياما؟ عادي.
رددت نجيه خلفها بعدم تصديق:
- اممم عادى! طب أخلصىي قومي أعملي كوبايتين شاي وطلعيهم لعمك وأبوكي فوق على السطح.
أومأت برأسها تجيب بطاعة :
- حاضر.
صاحت عليها مرة أخرى بحزم:
- اخلصي يا يمنى! متتأخريش على ابوكي وعمك هو انتي لسة هاتفكري وتتمطعي مكانك؟ 
- قايمه اهو، على طول يا أمي والله .
قالتها وهي تنهض عن مقعدها بسرعة، مما جعل نجيه تتركها وتدلف إلى الداخل، تنفست يمنى صاعداً ثم همت لتذهب وتعد ما طُلب منها، ولكن قبل أن تتحرك وقعت عينيها على ماكانت ترسمه، لتجدها نفس العينان التي تراها في أحلامها منذ فترة .
فحدثتها يمنى وكأنها شئ ملموس وقالت:
- طب أقول لأمي أيه؟ أقولها إني بشوف واحد في منامي مش باين منه غير عنيه، وأنا اساساً معرفوش على الحقيقه؟ أكيد هتقول عليا مجنونة ! أكيد!
..................
صعدت يمنى إلى السطح بعدما أعدت الشاي كما طلبت منها والدتها لأبيها وعمها الساهران رغم البرودة في هذا الوقت المتأخر من الليل وقد قاربت الساعة على الواحدة صباحًا، رغم برودة الليل  والظلام المخيف في معظم الانحاء حولهم، أشفقت يمنى على اباها، حينما وجدته جالس أمام النار التي أشعلها مع أخيه يونس لتعطيهم بعض دفئها وحراراتها؛ ألا يكفى للرجل شقاء النهار في عمله وزراعة الأرض، ليُحرم من النوم ليلاً ويقضي معظمه في حراسة المنزل ايضًا!
- يمنى تعالى يا بابا.
قال سالم بعد أن أجفل لرؤيتها وهي تتقدم نحوهم، فخاطبها ايضًا عمها يونس وهو يفرك بيديه أمام النار:
- توك واصله! دا احنا بقالنا فترة مستنين يابنت أخويا.
- معلش ياعمي، بس والنعمة أنا قومت على طول أول أما قالتلى أمي.
قالتها وهي تناول الاثنان كاساتهم من الشاى
يونس وهو يرتشف من الكوب الزجاجي ويتلذذ بمذاق الشاي
- تسلم أيدك يابت يا يمنى، كوباية عنب، تعمر الدماغ بصحيح.
قال سالم هو الاخر:
- جات في وقتها، خليها تدفينا شوية في الليلة اللي ما راضية تعدي دي، صوت الديابة مع السقعة الشديدة، دا غير الغيام اللي مغطي  النجوم، وحاجب ضي القمر؛ حاجة تقبض القلب.
يونس وهو يتطلع برأسه حولهم في جميع الأنحاء:
- اهي الليالي دي بتبقى عيد للحرامية.
أومأ سالم برأسهِ يوافق أخيه الرأى بغصة مريرة في حلقهِ وقال:
- انت هتقولي ! يعنى مش كفاية التعالب اللى بتنزل ليلاتى تاكل الطيور من داخل بيوتنا كمان يطلعلنا أولاد الحرام دول ويسرقوا البهايم إللى ساترانا أحنا وعيالنا! منهم لله حرموا علينا النومة في قلب بيوتنا.
جلست يمنى بجوارهم أمام النار تستمع بتركيز، وأكمل يونس.
- امال لو تعرف أني سمعت من جماعة صحابى من يجى يومين كده أنهم شافوا ديب نازل من الجبل.
خرج صوت سالم بنبرة جزعة:
يانهار أسود، دا تلاقيه جاع وملاقاش أكل في منطقته، استرها علينا يارب استرها.
هم يونس بالرد، ولكن أوقفه هذا الصوت القوي والذى أجفل الثلاثة منتفضين .
تكلم سالم، وهو يتناول ببندقيته لينهض بسرعة ليتفقد الوضع من سور السطح:
- ياساتر يارب! ضرب النار دا جاي منين! :
- دا لازم الحرامية نزلوا البلد تاني، دي باينها ليلة مجندلة من اولها، الواحد كان قلبه حاسس:
قالها يونس وهو ينهض أيضاً مع أخيه، ليتفقدا الطريق المؤدي للجبل والمنازل والطرقات المتفرقة على مرأى أبصارهم.
أردفت يمنى بخوف وهي تقف على مسافة قريبة منهم:
- يابويا تعالى أنزل شوية، وأعملوها دوريات انت وعمى.
سالم وهو ممسك بسلاحه بحذر وعينيه تنظر بعيداً بترقب وتركيز:
- انزلي أنتي يا يمنى وأتأكدي من قفل الشبابيك والأبواب كويس.
همت لتجادل أباها ولكن مع انطلاق سيل الطلقات النارية مرة ثانية اللجمها الخوف عن الحديث، فصمتت تنظر بالقرب منهم بقلق:
- ياساتر يارب، صوت الضرب مش راضي يوقف هو أيه اللي حاصل بالظبط؟
قالها يونس وهو ينظر لأخيه الكبير سالم برعب جلي والذى بادله الاَخر نظرته بقلقٍ بالغ.
- ربنا يستر يايونس، دا انت بينك صدقت لما قولت عليها ليلة مجندلة من اولها.
يمنى وهي تنتفض من الخوف خرج صوتها بارتعاش:
- يا بويا أرجوك تنزل أنت وعمي دلوقتي، وبعدين اطلعوا على ما يسكت ضرب النار دا شوية، في الليلة اللي ما راضية تعدي دي !
نَهر سالم ابنته بعد أن أجفل لرؤيتها، ثانيةً يخاطبها بنبرة حانقة :
- أنتِ لسه جاعدة مكانك يا يمنى؟ أخلصي يابت انزلي وأعملي اللي جولتلك عليه.
- لكن يابويا..
- اخلصي يا يمنى وأكدي كويس على قفلهم.
قالها سالم بقوة وحسم، فأذعنت يمنى مضطرة ونزلت الدرج بخطواتٍ مثقلة وذهنهاً مشتت خوفاً وإشفاقاً على أبيها وعمها الشاب، وبداخلها تردد في الأدعية الحافظة حتى ينجي الله الاثنان:
.........................

تنفيذًا لقرار أبيها بدأت يمنى بغرفة أخواتها البنات سمر و ندى شقيقاتها الصغار، اقتربت من فراش كل واحدة منهن، تعيد عليها الغطاء وهي نائمة وبعدها توجهت للنافذة الخشب، وأغلقتها باٍحكام ثم خرجت لغرفة أخيها الصغير وجدته نائماً هو الاَخر، فعلت معه نفس الشيء وكررت كذلك بجميع نوافذ المنزل والابواب ولم يتبقى غير المطبخ والذي ما إن دخلته لتقفل نافذته الوحيدة، وهمت بأشعال الضوء وجدت كفاً غليظة  وكبيرة تطبق على انفاسها وذراعاً تشل حركتها، حاولت الصراخ والمقاومة لكنها لم تفلح، مع هذه القوة الجسمانية الضخمة لتفاجأ بصوته الخفيض الأجش يقول:
- أهدي ما اسمعش نفسك، انا مش قاصد أاذيكي، لكن لو جبرتيني هاعملها، إهدي كده واسمعي الكلام، لو هديتي هفكك بس لو صوتك طلع هخلص عليكى حالاً.
زامت بصوتها من تحت كفه وهي تحاول عبثًا الإفلات، مما أضطره للزمجرة وهو يضغط بذارعيه عليها ليسيطر على حركتها أكثر، مع مراعاته لضعف جسدها الهزيل، فقال بنبرة حانقة من تحت أسنانه :
- الله يخرب بيت ابوكي ياشيخة، انا مش عايز اللمسك غلط لتفكري بيا حاجة عفشة، اهدي شوية عشان يدي ماتخونيش وبعدها انتي اللي هاتندمي :
هدأت قليلًا وهي تستوعب معنى كلماته ومقصده، فاستغل هو سكون حركتها قليلًا ليقول بتهديد :
- شاطرة وجدعة انك فهمتي، ممكن بقى ياحلوة تستوعبي كمان بقية الكلام عشان افك يدي عنك، ولا ناوية لسة تتعبيني؟
أومأت له برأسها خوفاً مع ازدياد وتيرة أنفاسها المضطربة برعب، بعد لحظات قليلة من شعوره بسكون حركتها واطمئنانه قليلًا بطاعته، رفع كفهِ عن فمِها وفك ذراعِه عنها بحذر وبطء، تسمرت محلها غير قادرة على الألتفاف وهي تجاهد لعدم إظهار رعبها وجسدها ينتفض من رأسها لأخمص قدميها، وجهها للحائط وصوت تنفسها يكاد أن يخرج للخارج المطبخ، سمعت صوته من الخلف يأمرها:
- لفي جسمك عشان تشوفيني .
كانت تشعر بتخشب جسدها وبالشلل اصاب رقبتها حتى للألتفاف، نحو رؤية هذا الرجل المجهول، الواقف خلفها وحرارة انفاسه تلفح عنقها من الخلف ، حاولت التحرك ولكنها فشلت، ويبدوا انه شعر بما أصابها، سقط قلبها من الرعب حينما فاجأها بوضع كفيه الكبيرتان فوق اكتافها وصوته الرخيم همس بأذنها :
- ياريت تكملي بهدوئك دا ورزانتك كدة على طول عشان لاتتعبيني ولا اتعبك يابت الناس ماشي .
انهى جملته الأخيرة ليدير جسدها بأكمله اليه، وهي كالمغيبة تتحرك معه، مستسلمة صامتة بخوف، تجهل ما ستراه وما سيفعله معها هذا الغريب والأفكار البشعة برأسها تصور لها أسوء السيناريوهات، فهي وحدها يقظة في البيت، والجميع نائمون، عدا عمها وابيها الجالسان فوق السطح، وهما لن يشعروا بها أو يأتوا لنجدتها سوى اذا صرخت، ولكن كيف تفعل وقد هددها؟
شهقت مصدومة وتوسعت عيناها بشكل مخيف حينما رأته أمامها، بطوله الفارع وملابسه السوداء، ملثم الوجه بشال من الصوف الذي يشبه شال عمها يونس، لا يظهر منه غير هاتان العينان العميقتان بلونهم البني ونظرتهم الحادة والقادرة على قتلها خوفًا، تحاوطها رموش سوداء طويلة للغاية، هذه العينان تعلمهم  جيدًا، رسمتهم قبل ذلك في اوراقها عدة مرات، لا تعلم عددهم، وذلك لأنها هي نفسها  ما تراودها هذه الأيام في  أحلامها هذه
الايام بشكل متكرر ومستمر!


....يتبع

لو لقيت تفاعل بنجوم كتير  وتعليقات اكتر هنزلها يومي ولو انشطرتوا اكتر هنزل اكتر من فصل يومي
مستنية رأيكم

المطارد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن