باب الموت

1 0 0
                                    

وربما تزايد الأمر ورقَّ الطبع وعظم الإشفاق فكان سببًا للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: من عشق فعفَّ فمات فهو شَهيد. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

فَإِنْ أَهْلِكْ هَوًى أَهْلِكْ شَهِيدًا
وَإِنْ تَمْنُنْ بَقِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
رَوَى هَذَا لَنَا قَوْمٌ ثِقَاتٌ
ثَوَوا بِالصِّدْقِ عَنْ جرحٍ وَمَيْن

ولقد حدَّثني أبو السريِّ عمار بن زياد صاحبُنا عمن يثق به، أن الكاتب ابن قزمان امتُحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز، أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكان أسلم غايةً في الجمال، حتى أضجره لما به، وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثيرَ الإلمام به، والزيارة له، ولا علم له بأنه أصل دائه، إلى أن تُوفِّي أسفًا ودنفًا.

قال المُخبر: فأخبرتُ أسلم بعد وفاته بسبب علَّته وموته فتأسَّف وقال: هلَّا أعلمتني؟ فقلت: ولم؟ قال: كنتُ والله أزيد في صلته وما أكاد أفارقه، فما عليَّ في ذلك ضرر. وكان أسلم هذا من أهل الأدب البارع والتفنُّن، مع حظٍّ من الفقه وافر، وذا بصارة في الشعر، وله شعر جيد، وله معرفة بالأغاني وتصرفها، وهو صاحب تآليف في طرائق غناء زِرياب وأخباره؛ وهو ديوان عجيب جدًّا. وكان أحسن الناس خَلقًا وخُلقًا، وهو والد أبي الجعد الذي كان ساكنًا بالجانب الغربي من قرطبة.

وأنا أعلم جاريةً كانت لبعض الرؤساء فعزف عنها لشيء بلغه في جِهتها لم يكن يوجب السخط، فباعها، فجزعت لذلك جزعًا شديدًا وما فارقها النُّحول والأسف، ولا بان عن عينها الدمع إلى أن سلت — وكان ذلك سبب موتها — ولم تَعِش بعد خروجها عنه إلا أشهرًا ليست بالكثيرة. ولقد أخبرتني عنها امرأة أثق بها أنها لقيتها وهي قد صارت كالخيال نُحولًا ورقَّةً، فقالت لها: أحسب هذا الذي بك من محبَّتك لفلان؟ فتنفَّست الصُّعَداء، وقالت: والله لا نسيتُه أبدًا وإن كان جفاني بلا سبب. وما عاشت بعد هذا القول إلا يسيرًا.

وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي — رحمه الله — وكان متزوجًا بعاتكة بنت قند، صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر محمد بن عامر، وكانت التي لا مرمَى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها، وكانا في حدِّ الصبا وتمكُّن سلطانه تُغضب كلَّ واحد منهما الكلمةُ التي لا قَدْرَ لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفَّها حُبُّه وأضناها الوَجد فيه وأنحلها شدةُ كلَفِها به حتى صارت كالخيال المتوسم دنفًا، لا يُلهيها من الدنيا شيء، ولا تُسَرُّ من أموالها على عَرْضها وتكاثرها بقليل ولا كثير إذا فاتها اتفاقُه معها وسلامتُه لها، إلى أن تُوفِّي أخي — رحمه الله — في الطاعون الواقع بقُرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فما انفكت منذ بانَ عنها من السقم الدَّخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل هو فيه تحت الأرض عامًا. ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يُقوِّي صبري ويُمسِك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سُروري وتيقُّني أنه لا يَضُمُّه وامرأةً مضجعٌ أبدًا، فقد أمنتُ هذا الذي ما كنت أتخوَّف غيره، وأعظم آمالي اليومَ اللحاق به.

طوق الحمامةWhere stories live. Discover now