باب الوصل

4 1 1
                                    

ومن وجوه العِشقِ الوصلُ، وهو حظ رفيع، ومرتبة سريَّة، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السنيُّ، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار مَمَرٍّ ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره؛ لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كَدر فيه، والفَرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي. ولقد جرَّبت اللذات على تصرُّفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنوِّ من السلطان، ولا المال المُستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغَيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروُّح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل؛ ولا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غِبِّ القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر؛ بأحسنَ من وصل حَبيب قد رُضيت أخلاقه، وحُمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه، وإنه لمُعجز ألسنة البلغاء، ومقصِّر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام. وفي ذلك أقول:

وَسَائِلٍ لِيَ عَمَّا لِي مِنَ العُمُر
وَقَدْ رَأَى الشَّيبَ فِي الفَوْدَيْنِ وَالعُذُر
أَجَبْتُهُ سَاعَةً لَا شَيْءَ أَحْسَبُه
عُمْرًا سِوَاهَا بِحُكْمِ العَقْلِ وَالنَّظَر
فَقَالَ لِي كَيْفَ ذَا بَيِّنْهُ لِي فَلَقَدْ
أَخْبَرْتَنِي أَشْنَعَ الأَنْبَاءِ وَالخَبَرِ
فَقُلْتُ إِنَّ الَّتِي قَلْبِي بِهَا عَلِقٌ
قَبَّلْتُهَا قُبْلَةً يَوْمًا عَلَى خَطَر
فَمَا أَعُدُّ وَلَوْ طَالَتْ سِنِيَّ سِوَى
تِلْكَ السُّوَيْعَةِ بِالتَّحْقِيقِ مِنْ عُمُرِي

ومن لذيذ معاني الوصلِ المواعيدُ، وإن للوعد المُنتظر مكانًا لطيفًا من شِغاف القلب، وهو ينقسم قسمين؛ أحدهما: الوعد بزيارة المحب لمحبوبه، وفيه أقول قطعةً، منها:

أُسَامِرُ البَدْرَ لَمَّا أَبْطَأْت وَأَرَى
فِي نُورِه مِنْ سَنَا إِشْرَاقِهَا عَرَضا
فَبِتُّ مُشْتَرِطًا وَالوُدُّ مُخْتَلِطًا
وَالوَصْلُ مُنْبَسِطًا وَالهَجْرُ مُنْقَبِضا

والثاني انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه. وإنَّ لمبادي الوصل وأوائل الإسعاف لتَوَلُّجًا على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان مُمتحنًا بهوًى في بعض المنازل المُصاقبة، فكان يصل متى شاء بلا مانع، ولا سبيل إلى غير النظر والمُحادثة زمانًا طويلًا، ليلًا متى أحب ونهارًا، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكَّنته بإسعادٍ بعد يأسه، لطول المدة. ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحًا، وما كاد يتلاحق كلامه سرورًا، فقلت في ذلك:

بِرَغْبَةٍ لَوْ إِلَى رَبِّي دَعَوْتُ بِهَا
لَكَانَ ذَنْبِيَ عِنْدَ اللهِ مَغْفُورا
وَلَوْ دَعَوْتُ بِهَا أُسْدَ الفَلَا لَغَدَا
إِضْرَارُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَقْصُورا
فَجَادَ بِاللَّثْمِ لِي مِنْ بَعْدِ مَنْعَتِهِ
فَاهْتَاجَ مِنْ لَوْعَتِي مَا كَانَ مَغْمُورا
كَشَارِبِ المَاءِ كَيْ يُطْفِي الغَلِيلَ بِهِ
فَغُصَّ فَانْصَاعَ فِي الأَجْدَاثِ مَقْبُورا

طوق الحمامةWhere stories live. Discover now