باب الطاعة

3 1 0
                                    

ومن عجيب ما يَقع في الحُب طاعةُ المحب لمحبوبه، وصرفُه طباعَه قسرًا إلى طباع من يُحبه، وربما يكون المرء شَرِسَ الخُلُق، صعب الشكيمة، جموح القياد، ماضي العزيمة، حميَّ الأنف، أبيَّ الخَسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيمَ الحب، ويتورَّط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لِيانًا، والصعوبة سهلةً، والمضاء كلالةً، والحمية استسلامًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

فَهَلْ لِلْوِصَالِ إِلَيْنَا مَعَاد
وَهَلْ لِتَصَارِيفِ ذَا الدَّهْرِ حَد

فَقَدْ أَصْبَحَ السَّيْفُ عَبْدَ القَضِيبِ
وَأَضْحَى الغَزَالُ الأَسِيرُ أَسَد

وأقول شعرًا، منه:

وَإِنِّي وَإِنْ تَعْتِبْ لَأَهْوَنُ هَالِكٍ
كَذَائِبِ نُقْرٍ زَلَّ مِنْ يَدِ جهبذِ

عَلَى أَنَّ قَتْلِي فِي هَوَاكَ لَذَاذَةٌ
فَيَا عَجَبًا مِنْ هَالِكٍ مُتَلَذِّذِ


ومنها:

ولَوْ أَبْصَرَتْ أَنْوارَ وجهك فَارِسٌ
لَأَغْنَاهُمُ عَنْ هرمزان ومَوبذ


وربما كان المحبوب كارهًا لإظهار الشكوى، متبرمًا بسماع الوَجد؛ فترى المُحب حينئذٍ يكتُم حزنه، ويكظِم أسفه، ويَنطوي على علَّته، وإن الحبيب مُتجنٍّ، فعندها يقع الاعتذار عن كل ذنب والإقرار بالجريمة والمرء منها بريء؛ تسليمًا لقوله، وتركًا لمخالفته. وإني لأعرف من دُهي بمثل هذا فما كان ينفكُّ من توجيه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهو نقي الجلد.

وأقول شعرًا إلى بعض إخواني ويقرب مما نحن فيه وإن لم يكن منه:

وَقَدْ كُنْتَ تَلْقَانِي بِوَجْهٍ لِقُرْبِه
تَدَانٍ، وَلِلْهُجْرَانِ عَنْ قُرْبِهِ سخطُ
وَمَا تَكْرَهُ العتبَ اليَسِيرَ سَجِيَّتِي
عَلَى أَنَّهُ قَدْ عِيبَ فِي الشَّعَرِ الوَخْطُ
فَقَدْ يُتْعِبُ الإِنْسَانُ فِي الفِكْرِ نَفْسَه
وَقَدْ يحسنُ الخِيلَانُ فِي الوَجْهِ وَالنَّقْطُ
تَزِينُ إِذَا قَلَّتْ ويَفحُشُ أَمْرُها
إِذَا أَفْرَطَتْ يَوْمًا وَهَلْ يُحْمَدُ الفَرْطُ

ومنه:

أَعِنْهُ فَقَدْ أَضْحَى لِفَرْطِ هُمُومِهِ
يُبَكَّى له القِرْطَاسُ وَالحِبْرُ وَالخَطُّ

ولا يقولنَّ قائل إن صبر المحب على ذلَّة المحبوب دَناءةٌ في النفس؛ فقد أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس كفوًا ولا نظيرًا فيُقارض بأذاه، وليس سبُّه وجفاه مما يُعيَّر به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء ولا في مقاعد الرؤساء فيكون الصبرُ جارًّا للمذلة، وضراعة قائدة للاستهانة؛ فقد ترى الإنسان لا يكلَف بأَمَته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها، فكيف الانتصارُ منها؟ وسبل الامتعاض من السبِّ غير هذه، إنما ذلك بين عِلْية الرجال الذين تحصل أنفاسهم وتتبع معاني كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يُوقعونها سدًى، ولا يُلقونها هملًا. وأما المحبوب فصمدة ثابتة، وقضيب مُنآد، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنًى. وفي ذلك أقول:

طوق الحمامةWhere stories live. Discover now