{ مقدمة }

306 17 0
                                    

بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم وبه نستعين

قال أبو محمد — عفا الله عنه: أفضل ما أبتدئ به حمد الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، ثم الصلاة على محمدٍ عبدِه ورسوله خاصةً، وعلى جميع أنبيائه عامةً، وبعد.

عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حمَّلنا ما لا طاقة لنا به، وقيَّض لنا من جميل عونه دليلًا هاديًا إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدبًا صارفًا عن معاصيه، ولا وَكَلنا إلى ضعف عزائمنا، وخَوَر قُوانا، ووهاء بِنْيَتنا، وتلدُّد آرابنا، وسوء اختيارنا، وقلَّة تمييزنا، وفساد أهوائنا؛ فإن كتابك وردني من مدينة المريَّة إلى مسكني بحضرة شاطِبةَ تَذكُر من حسن حالك ما يسرُّني، وحَمدتُ اللهَ عز وجل عليه، واستدمتُه لك، واستزدتُه فيك، ثم لم ألبثْ أن اطلع عليَّ شخصُك، وقصدتني بنفسك، على بُعد الشُّقة، وتنائي الديار، وشَحط المزار، وطول المسافة، وغَوْل الطريق. وفي دون هذا ما سلَّى المشتاق ونسَّى الذاكر إلا من تمسَّك بحبل الوفاء مثلك، ورعى سالف الأذمَّة، ووكيد المودات، وحق النَّشأة ومحبة الصبا، وكانت مودته لله تعالى.

ولقد أثبت الله بيننا من ذلك ما نحن عليه حامدون وشاكرون، وكانت معانيك في كتابك زائدة على ما عهدته من سائر كتبك، ثم كشفت إليَّ بإقبالك غرضك، وأطلعتني على مذهبك، سجيةً لم تزل علينا من مشاركتك لي في حلوك ومرك، وسرك وجهرك، يحدوك الودُّ الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي جزاءً غير مقابلته بمثله. وفي ذلك أقول مخاطبًا لعبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر — رحمه الله — في كلمة لي طويلة، وكان لي صديقًا :

أَوَدُّكَ وُدًّا لَيْسَ فِيهِ غَضَاضَةٌ
وَبَعْضُ مَوَدَّاتِ الرِّجَالِ سَرَابُ
وَأَمْحَضْتُكَ النُّصْحَ الصَّرِيحَ وَفِي الحَشَى
لِوُدِّكَ نَقْشٌ ظَاهِرٌ وَكِتَابُ
فَلَوْ كَانَ فِي رُوحِي هَوَاكَ اقْتَلَعْتُهُ
ومُزِّق بِالكَفَّيْنِ عَنْهُ إِهَابُ
وَمَا لِيَ غَيْرُ الوُدِّ مِنْكَ إِرَادَةٌ
وَلَا فِي سِوَاهُ لِي إِلَيْكَ خِطَابُ
إِذَا حُزْتهُ فَالأَرْضُ جَمْعَاءُ وَالوَرَى
هَبَاءٌ وَسُكَّانُ البِلَادِ ذُبَاب

وكلَّفتني — أعزَّك الله — أن أصنِّف لك رسالةً في صفة الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا مُتزيِّدًا ولا مفننًا، لكنْ مُوردًا لما يحضُرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسَعة باعي فيما أذكره، فبدرتُ إلى مرغوبك. ولولا الإيجاب لك لما تكلَّفته، فهذا من الفقر، والأَوْلى بنا مع قِصر أعمارنا ألَّا نَصرفها إلا فيما نرجو به رَحْب المُنقلب وحُسن المآب غدًا. وإن كان القاضي حمام بن أحمد حدَّثني عن يحيى بن مالك عن عائذ، بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: «أجمُّوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق.» ومن أقوال الصالحين من السلف المرضيِّ: «مَن لم يحسن يتفتَّى لم يحسن يتقوَّى.» وفي بعض الأثر: «أريحوا النفوس؛ فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.»

طوق الحمامةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن