باب القنوع

4 1 0
                                    

ولا بد للمُحب، إذا حُرم الوصل، من القنوع بما يجد، وإن في ذلك لمتعللًا للنفس، وشغلًا للرجَاء، وتجديدًا للمُنى، وبعضَ الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكُّن؛ فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومِن سريِّ ما يَسنح في الدهر مع ما تبدَّى من الخَفَر والحياء؛ لما يعلمه كل واحدٍ منهما مما في نفس صاحبه. وهي على وجهين؛ أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع، والوجه الثاني أن يزور المحبوبُ مُحبَّه، ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر. وفي ذلك أقول:

فَإِنْ تَنْأَ عنِّي بِالوِصَالِ فَإِنَّنِي
سَأَرْضَى بِلَحْظِ العَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلُ
فَحَسْبِيَ أَنْ أَلْقَاكَ فِي اليَوْمِ مَرَّةً
وَمَا كُنْتُ أَرْضَى ضِعْفَ ذَا مِنْكَ لِي قَبْلُ
كَذَا هِمَّةُ الوَالِي تَكُونُ رَفِيعَةً
وَيَرْضَى خَلَاصَ النَّفْسِ إِنْ وَقَعَ العَزْلُ

وأما رَجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال، وإن كنت أنا أقول في قصيدة لي:

فَهَا أَنَا ذَا أُخْفِي وَأَقْنَعُ رَاضِيًا
بِرَجْعِ سَلَامٍ إِنْ تَيَسَّرَ فِي الحِينِ

فإنما هذا لمن ينتقل من مَرتبة إلى ما هو أدنى منها، وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وأني لأعلم مَن كان يقول لمحبوبه: عِدني واكذب. قُنوعًا بأن يُسلِّيَ نفسه في وعده وإن كان غيرَ صادق، فقلتُ في ذلك:

إِنْ كَانَ وَصْلُكَ لَيْسَ فِيهِ مَطْمَعٌ
وَالقُرْبُ مَمْنُوعٌ فَعِدْنِي وَاكْذِبِ
فَعَسَى التَّعَلُّلُ بِالْتِقَائِكَ مُمْسِكٌ
لِحَيَاةِ قَلْبٍ بِالصُّدُودِ مُعَذَّبِ
فَلَقَدْ يُسَلِّي المُجْدَبِينَ إِذَا رَأَوْا
فِي الأُفْقِ يَلْمَعُ ضَوْءُ بَرْقٍ خُلَّبِ

ومما يدخل في هذا الباب شيءٌ رأيته ورآه غيري معي، أن رجلًا من إخواني جَرحه من كان يُحبه بمُدية، فلقد رأيته وهو يُقبِّل مكان الجُرح ويندُبه مرة بعد مرة، فقلت في ذلك:

يَقُولُونَ شَجَّكَ مَنْ هِمْتَ فِيهِ
فَقُلْتُ لَعَمْرِيَ مَا شَجَّنِي

وَلَكِنْ أَحسَّ دَمِي قُرْبَهُ
فَطَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَنْثَنِ

فَيَا قَاتِلِي ظَالِمًا مُحْسِنًا
فَدَيْتُكَ مِنْ ظَالِمٍ مُحْسِن

ومن القنوع أن يُسر الإنسان ويَرضى ببعض آلات محبوبه، وإنَّ له من النفس لموقعًا حَسنًا وإن لم يكن فيه إلا ما نَص الله تعالى علينا، من ارتداد يعقوب بصيرًا حين شَم قميص يوسف عليهما السلام. وفي ذلك أقول:

لَمَّا مُنِعْتُ القُرْبَ مِنْ سَيِّدِي
وَلَجَّ فِي هَجْرِي وَلَمْ يُنْصِفِ

طوق الحمامةWhere stories live. Discover now