مسرح الجريمة - منطقة القناطر.

49 18 0
                                    

بعد بضع دقائق.

عمارة الحاج بشندي، تلڪ التي كانت تقطن عائلة السمسار فادي عزام وأسرته البسيطة المتكونة من زوجته، فريدة مختار، التي تعمل سجانة بسجن القناطر الخيرية، وأبناءه الثلاثة، وبشهادة الشهود من جيرانهم والتي أُدليت كُلها بالملف المُسلَّم لي منذ ما يقل عن الساعة، نجد أنهم كانوا نِعم الجيران، والمثال الجيد علىٰ الأسرة المُترابطة.

وصلنا للمكان وسط حالة من الهرج والمرج، بالرغم من أن الجريمة قد أُرتكبت منذ أكثر من ست ساعات، إلّا أنها حالتنا التي لن تتغير أبدًا، أُناسٌ يسعدون بالمصائب، ويهوّلونها وإن كانت بسيطة!

ارتديتُ نظاراتي كعادتي ما إذ وجب عليَّ المرور وسط هالة من المُتابعين، للإحراص علىٰ عدم تعرف أحدهم عليّ، والأهم، لتجنب الصور التغفيلية للصحفيين.

سبقني الملازم أول هيثم المصري، متوجهًا لبوابة العمارة، وهوَ يُفسد كُل ما أُحاول أنا فعله بإرتدائي النظارات...

- ... إتفضل يا باشا، وسَّع يا إبني للباشا، اتفضل يا نزية بيه!

يا له من غبي!

* * *

«شقة السمسار فادي عزام - مسرح الجريمة».

الساعة 08:00 مساءً.

بعد تفحصي لمسرح الجريمة فيما يزيد عن أربعة مرات، وبالطبع كان هيثم المصري يجاورني السير دون مُبرر واضح، ودون أن أطلب منه، التفتُّ له مُتسائلًا:

- ... عمار عُرابي من ضمن فريق الطب الشرعي؟

صمت ليُفكر:

- لأ يا باشا، مفيش حد من فريق الدكاترة بإسم عمار.

أشرتُ نحوه مُربكًا إياه بإصبعي المُشهر نحوه دون مُبرر وأنا أردد ما قاله بنبرة مُقلِقة: «مفيش حد بإسم عمار!.. إمم»، قبل أن التفت عنه باحثًا بالمسرح مرة أخرىٰ.

- ... طيب، إطلبلنا اتنين قهوة.

- أوامر سعادتڪ.

قالها قبل أن يُنادي أحد العساكر.

- خُد يا إبني...

- لأ، معلش! هاتها إنتَ، عشان أضمن إنها تيجي سُخنة.

نعم بالطبع، لقد كُنت أحاول التخلص من هذا العنكبوت اللاصق، وقد كان هذا ما نجحتُ به بعد أن تفوه بـ: «تمام، حاضر!»، وما إن ترڪ الشقة حتىٰ أخرجت من جيبي هاتفه للإتصال بـعمار.

- ... صديقي العزيز!

- نزية، أنا وآخد أجازة!

- ومين مش وآخد، محتاجڪ.

كعادته، يشتكي ويُثرثر، وكعادتي، لا أبالي..

- ... يا نزية نفسي أقعد شوية مع مراتي براحتنا من غير ما تكلمني، هوَ إنتَ اشتريتني إنتَ و الوزارة بتاعتڪ ديه؟!

تنهدتُ مُرددًا:

- إطلع علىٰ المشرحة، هتلاقي أربع جُثث طازة لسه واصلين، تشرف عليهم بنفسڪ يا عمار!

- ... إنتَ بتديني الأوامر وكإني هنفذ!

- هتنفذ يا عمار، ترد عليَّ بتقرير مُفصل بُكرة؛ بالأربع جُثث!

فقال:

- ... والله لأقدم فيڪ شكوىٰ يا نزية!

فأنهيتُ أنا المُكالمة مُبتسمًا من آخر ما قاله، بعدها أخرجتُ نفسًا باردًا من فمي لأباشر عملي. أخرجتُ من جيب سترتي صورًا للضحايا، وكيفية قتلهم، لقد طُعنوا بسكين أُخفي تمامًا عن مسرح الجريمة.

كان السؤال المُهم: «ماذا لو كان السكين عينه الذي قُتل به الأربعة أفراد؟»، في تلڪ الحالة ستزيد احتمالية ما إذا كان القاتل واحد، وأنه كان هُنا للتفاوض أولًا، وأن الأمور قد آلت إلىٰ التقاط سكينًا من المطبخ لتنفيذ عملية القتل؛ ولكن يجب إثبات أنهم كانوا أكثر من جاني!

- خُد يا إبني!

قُلتها للعسكري الواقف أمامي، وكان الوحيد من الموجودين الذي لا سبب وجيه لوجوده، فسألته وأنا أقدح سيجارتي المستوردة، سوداء الورق.

- أؤمر يا بيه؟

- إنتَ جيت من بدري؟

- أيوة.

- حلو! شوفت إللي بلغ طبعًا.

كان خائفًا مني، كنتيجة مُعتادة لهيبتي.

- آء.. أيوة يا بيه.

- مكتوب في ملف القضية إن إللي بلغ جارهم، شوفته وهوَ بيتكلم؟

- أيوة، كان متوتر كدة وخايف.

إنها إحدىٰ النظريات التي اعتمد عليها في إنهاء قضايايَ، وهيَ أن المُبلغ غالبًا ما يكون المُنفذ، فإذا ما استطعتُ إثبات الجريمة عليه، قد أصل لحل.

- ... بقولڪ إوعىٰ، أنا هطلع يعني هطلع؛ حاسب بقولڪ!!

صدرت من القرب من الطابق الذي كانت به الشقة، والذي كان الأول بعد الأرضي، حيث كانت إحداهن تُحاول تجاوز العساكر المسئولين عن منع صعود العامة، لتصعد للشقة.

فتحركتُ نحو المكان وأنا لا أزال مُحافظًا علىٰ ثباتي الانفعالي، لحين رؤية ما يحدث، فكان مصدر كُل تلڪ الضوضاء أنسة في أوائل العشرينات من عُمرها؛ وكانت لحالها وسط كُل أولٰئِڪ العساكر!

وصلتُ للمكان، فصمت كُل العساكر مُلتفتين لي لاحترام وجودي، فالتفتت هيَ لي كذٰلك مُنتظرة أن أبرر لها سبب وجودنا بالمكان!

- في إيه؟!.. مين إنتي؟

قُلتها لها، فردت:

- أنا ساكنة هنا، إنتوا إللي مين؟

كانوا ثلاثة أبناء؛ نجيب وخلود وسمير، ونحن لم نتعرف سوىٰ علىٰ نجيب وسمير، فكان من البديهي أن يكون:

- ... إنتي خلود!

فلم ترد، أو تنفي سؤالي.

الملف الأسود | The Black Folderحيث تعيش القصص. اكتشف الآن