الفصل الثامن

64 4 1
                                    

الفصل الثامن

أستجاب السائق لطلب فاطمة واصطحبها لأحد الفنادق الصغيرة على أطراف المنطقة ، قضت ليلتها مرتعبة من المكان ولكنها استسلمت وخلدت للنوم حتى اشرقت شمس اليوم الجديد ، استيقظت وتحممت واقبلت تؤدي فرضها وتدعو ربها أن يرفع عنها هذه الغمه وأن تنقضي تلك الايام على خير ثم خرجت لشراء طعامها وقررت أن تشتري ملابس جديدة حتى لا يتعرف عليها أحد فتوجهت لإحدى المحال واشترت بنطال أسود وكنزه زرقاء داكنة اللون وحذاء مريح يعينها عن البحث عن عمل وبعد أن انتهت عادت إلى الفندق وبدلت ملابسها وطلبت مقص من عاملة الغرف وقامت بقص شعرها حتى لا يتعرف عليها أحد بسهولة ، نزلت متوجهه تبحث من جديد عن عمل ، دخلت لتسأل  في أكثر من مكان ولكن اذنيها أعادت على الجواب المعتاد لسؤاله " لم يتوفر لدينا عمل يصلح لكِ "
لكنها لم تيأس واستمرت في البحث لساعات طوال حتى شعرت بالجوع كاد يفتك بأمعائها ؛ فدخلت أحد المطاعم القريب منها ، طلبت وجبتها ثم تناولتها وبعدها سألت العامل بصوت منخفض قليلا :
- هو صاحب المحل موجود هنا من فضلك ؟
أجابها العامل وهو يشير عليه من بعيد قائلا : آه عم منصور قاعد هناك أهوه عند الخزنة جنب الكاشير ، الراجل الكبير اللي هناك ده، شوفتيه ؟
أجابته فاطمة قائله : اه شوفته ، كتر خيرك أنا متشكره أوي.
عاد يسألها العامل : العفو تحت أمرك مفيش حاجة ، بس هو انتي محتاجه حاجة أو أقدر اساعدك فيها قولي متتكسفيش ؟
نظرت له فاطمة للحظات وهي ملتزمة الصمت ولكنها عادت تردف قائله : بصراحه اه انا بدور على شغل من كذا يوم ومش لاقيه ، محتاجه اشتغل ضروري علشان اقدر اعيش وقولت احاول اقابل صاحب المطعم يمكن يرضى يشغلني معاه.

أجابها العامل قائلا : عموماً احنا معندناش هنا شغل زي ما انتي شايفه يعني رجاله بس ، لكن روحي اتكلمي معاه يمكن هو يدبرلك شغل ، عم منصور راجل طيب وكريم وعمره ما اتأخر عن مساعدة حد ابدا ولو ف ايده حاجة مش هيتأخر عليكي وأهو جربي مش هتخسري حاجه
فاطمة قائله : طيب ماشي هروح أكلمه وربنا يسهل ، معلش تعبتك معايا وعطلتلك عن شغلك ، استأذنك انا.
العامل قائلا : لا لا مفيش عطله ول تعب ولا أي حاجه ، اتفضلي تحت أمرك ، كلنا كنا بندور زيك على شغل بس ان شاء الله تلاقي طلبك عند عم منصور.
فاطمة التي تجدد داخلها الأمل أجابته قائله : يارب يسمع منك ربنا.
تركته وتوجهت مسرعة إلى منصور وألقت عليه السلام:
- السلام عليكم ، حضرتك عم منصور صاحب المطعم ؟
أجابها منصور مرددا : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ايوه انا يا بنتي ، خير إن شاء الله في حاجه ؟
أجابتها فاطمة قائله : أنا سألت كتير وتعبت من اللف والآخر قالولي أنك ممكن تساعدني ، أنا غريبة عن المنطقة ومحتاجه شغل ومعنديش حد هنا يصرف عليا وسمعت عنك كل خير يا عم منصور وعشمانه في وجه الله تعالى وفك إنك هتقدر ساعدني
منصور قائلا : بس يا بنتي مفيش هنا شغل ينفعك.
فاطمة باستماته قائله : اعمل معروف يا عم منصور ، انا ممكن اشتغل أي حاجة حتى لو أغسل الأطباق أو انضف الارض المهم اشتغل وأجيب قرش اقدر اعيش بيه

وأمام اصرارها سألها قائلا :
- طيب قوليلي هو انتي كنتي بتشتغلي فين قبل كده ، أو تعرفي تعمل أيه ؟
فاطمة قائله : انا بعرف اشتغل مشغولات يدوية وتطريز.
وبعرف اطبخ وانضف
منصور قائلا : طيب ماشي ، تعالي معايا.
فاطمه بتوتر سألته : هاه ، آجي معاك على فين؟
منصور وهو ينهض من مكانه قائلا : متخافيش يا بنتي ، انا هوديكي المكان اللي هتلاقي فيه شغل.
ابتسمت فاطمة بعدما اختفت ملامح الرعب من وجهها قائله : ربنا يخليك ويباركلك في صحتك ومالك يا عم منصور
رفع منصور صوته قائلا : يا محمود عينك على المكان شويه وراجع.
العامل محمود قائلا : حاضر يا عم منصور متقلقش ، اتوكل على الله.
اصطحب منصور فاطمة للسوق لمقابلة صديقه الحاج عبد الرحمن وزوجته السيدة راجيه ، ترجلوا دقائق حتى وصلوا للمكان ثم ألقي عليهم منصور التحية قائلا : السلام عليكم يا راجل يا طيب عامل أيه وصحتك عامله أيه دلوقت 
عبد الرحمن قائلا : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أهلاً منصور ، فينك من زمان مش بتسأل ، عاش من شافك أنا بخير الحمد لله واتحسنت كانوا شويه برد وراحوا لحالهم العضمه كبرت بقى انت عارف
(عبد الرحمن صديق قديم لمنصور تزوج ولم ينجب من راجيه ورفض الزواج من غيرها، يبلغ من العمر قرابة الستون عاماً، يتعاونوا معاً في العمل)
منصور قائلا : كبرت أيه بس يا راجل يا طيب شد حيلك انت سه شباب ، وأنا أهوه تحت النظر، بس انت عارف المحل والشغل مش بيرحم والله ، المهم انت نستني اسلم على الحاجه ازيك يا حاجة راجيه عامله أيه ؟
راجيه أجابته قائله : الحمد لله بخير وانت اخبارك أيه ؟
( راجيه زوجة عبد الرحمن ، حملت أكثر من مرة ولكن لم يكتمل حملها ولا مرة ، كانت دائماً تفقد الجنين في الشهور الاولي ، ألحت على عبد الرحمن كثيراً حتى يتزوج بغيرها لكي يرزقه الله بطفل ولكنه كان يرفض ودائما ما كان يقول لها أنا اكتفيت بكِ زوجة ولا أحتاج للأولاد يكفيني أنتِ ، راجيه تبلغ من العمر قرابة الخمسين عاماً ، تعمل بالتطريز منذ زمن طويل وتقوم ببيعه في مكان مخصص لهم في السوق بمعاونة عبد الرحمن )
منصور قائلا : الحمد لله يا حاجه انا بخير وجايبلك معايا هدية حلوة إن ساء الله هتدعيلي عليها
راجيه قائله : والله أدعيلك من غير هدايا ربنا يباركلك، تعيش وتجيب ، بس هدية أيه دي اللي عاوزه دعوة ؟
منصور أجابها قائلا : بنتنا بتعرف تشتغل تطريز وبتدور على شغل وانا ملقتش غيرك استأمنه عليها ، قولت هتساعدكم في التطريز والبيع والشراء كمان ، ده غير أن معندهاش حد وعايشة لوحدها ، يعني فاضية.
عبد الرحمن قائلا : والله انت عارف ان المعيشة صعبة يا منصور، بس هديتك مقبولة ومتترفضش ، أهي تساعد الحاجة في الشغل يمكن على قدومها يتفتح لنا باب الرزق.
فاطمة قائله : إن شاء الله يا عمي هتكون مبسوط من شغلي وربنا يفتح لكم أبواب الرزق انشاله ويجعل قدمي عليكم فال أخضر بإذن الله 
راجيه متسائله : اسمك أيه يا بنتي ؟
فاطمة أجابتها قائله : بنتك فاطمه يا حاجة.
راجيه ابتسمت وانشرح صدرها عندنا سمعت صوت فاطمة فقالت لها : ماشي يا بنتي تعالي جنبي وفرجيني على شغلك.
أسرعت فاطمة تلبي الامر قائله : حاضر يا حاجة.
ثم توجهت لمنصور قائله : انا والله يا عم منصور مش عارفه اشكرك ازاي ربنا يباركلك ويرزقك من واسع فضله ، ويكرمك زي ما اكرمتني. 
ربَّت منصور على كتفها قائلا:
منصور قائلا : متقوليش كده يا بنتي أنا معملتش حاجه ، اللي بيساعد العباد ربنا وأنا بس سبب علشان تعرفي الناس الطيبين دول ، عاوزك ترفعي رأسي وتبيضي وشي معاهم ، الحاج عبد الرحمن والحاجة راجيه دول من أعز الناس عندي ، أما اشوف هتعملي أيه معاهم ، أهم حاجه مش عاوزهم يشتكولي منك ابدا حافظي عليهم وعلى مكان شغلك
فاطمة قائله : كل خير بإذن الله يا عم منصور متقلقش ان شاء الله هبيض وشك وبكره تتأكد من كلامي بنفسك
استأذن منصور وانصرف متجهاً لمحل عمله بعد أن ترك فاطمة مع عبد الرحمن وراجيه
-------------
عامر توجَّه للمديرية ليسأل عن أخبار فاطمة ، طلب مقابلة الضابط النوبتچي فسمح له ليقف أمامه ويرفع يده ملاصقة لأذنه مقدما التحية قائلا :
- صباح الخير يا باشا ، هو انتوا لسه معرفتوش مكان فاطمة لحد دلوقت ؟
أجابه الضابط قائلا : البحث عنها مستمر ، هنلاقيها هتروح فين يعني ، بس الصبر طيب
عامر قائلا : آه الصبر طبعا يا باشا ، الصبر ، بعد اذن سيادتك انا.
استأذن عامر من الضابط وانصرف عائداً لبيته وما أن وصل إلا ووجد راضي ينتظره أمام المسكن ليبدأ بسؤاله قائلا :
- أيه اللي جايبك هنا ، انت ليك عين تدخل بيتي تاني بعد اللي عملته اختك ؟
راضي قائلا : اختي مسيرها هيتقبض عليها ، انما المشكلة دلوقت في اختك انت.

انقض عليه عامر يجذبه من ياقة قميصه بيديه بعصبيه وهو يردد قائلا : اختي مالها ، عملتلها أيه ، اتكلم بدل ما اخلص عليك؟

راضي قائلا : يا عم انت بالراحة ، هو في إيه ، هي ملهاش هيا كويسه وانا معملتش حاجة بس هي عوزاني أطلقها من وقت ما سمعت بموضوع فاطمة واللي عملته.
عامر قائلا بصوت مرتفع مهددا له : لولا إنك جوز اختي أنا كان زماني بتصرف معاك تصرف تاني واختي لو مش عاوزه تعيش معاك هيا حره ، واتفضل بقى من غير مطرود ، أنا مش عاوز اشوف وشك تاني لحد أما يقبضوا على اختك المحروسة ربة الصون والعفاف اللي هربانه ، انت السبب في الجوازه دي ومأخدتش من وراكم غير الفضايح.
__________

توجهت فاطمة للسوق لتعاون عبد الرحمن وراجيه في العمل ، شعرت راجيه بالراحة بعد ان تعرفت على فاطمة وأثناء متابعة عملهم تحدثوا معاً في أوقات الفراغ وعلمت راجيه من فاطمة أنها تعيش بمفردها في إحدى الفنادق لحين توفير مبلغ من المال يساعدها في استئجار غرفه في أي مسكن.
وفي المساء وبعد أن انتهي العمل، انصرفت فاطمة بعد أن اعطتها راجيه مبلغاً من المال مقابل عمل اليوم فتوجهت لشراء الطعام ثم عادت لغرفتها في الفندق لتتناوله وتنال قسطاً من الراحة.
__________
مازال هشام يبحث عن فاطمة دون أن يعرف حتى ما اسمها ، كان يوم بعد يوم على منصور ليطمئن عليه
اقترب هشام من عمه منصور ليطمئن عليه قائلا : ازيك يا راجل يا طيب، عامل أيه ؟

منصور فرح برؤية هشام وهب واقفا من مقعده يرد تحيته قائلا : اهلاً بالغالي ابن الغالي ، مع اني زعلان منك انت بتتأخر عليا في الزيارة وبقلق عليك بس مش مهم المهم انك كويس وبخير
( منصور صديق مقرب للمرحوم والد هشام ويحبه لدرجة كبيرة ويعتبره ابنه حيث انه لم ينجب ذكوراً وإنما رزقه الله بفتاتين )

أجابه هشام متسائلا : ليه كده بس يا عم منصور ؟
ده انت حبيبي وكفاية إنك من ريحة الحبايب

منصور أجابه قائلا : ولا بتسأل ولا بتقول اروح اشوف عم منصور عايش ولا مات يا واد ، جرالك أيه يا واد انت هيا هانت عليه العشرة ولا أيه ؟

هشام قائلا : بعد الشر عليك يا راجل يا طيب ، معلش يا عم منصور والله شوية مشاغل بس انت عارف الدنيا عامله ازاي.

منصور قائلا : انت شكلك مهموم كده ليه ، مالك احكيلي ، انت محتاج فلوس؟
قول متتكسفش انا زي ابوك الله يرحمه.

هشام قائلا : أكيد يا راجل يا طيب ، ده انت اللي مربيني ، ربنا يباركلك ويزيدك من فضله ، لا والله يا عمي مش موضوع فلوس.

منصور قائلا : طيب في أيه ، احكيلي انت شكلك مش مريحني

بدأ هشام ان يسرد لمنصور حكاية فاطمة منذ ان وقعت عينيه عليها إلي أن عاد ولم يجدها في البيت.
تنهد قليلا ثم عاد يردف قائلا :  وبس كده يا عم منصور ومن وقت ما رجعت البيت وملقتهاش معرفش عنها حاجه، حاسس اني هتجنن والله أو هيجرالي حاجه ، وكأن ربنا بعتلي رؤيه من تاني وفي لحظه اختفت حتى ملحقتش أسألها عن اسمها
تنبه منصور لحديث هشام فسألها قائلا : هي البنت دي شكلها أيه؟
قام هشام بوصف فاطمه لمنصور والذي أومأ برأسه وتحدث بعدما ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه قائلا :
- طيب الوقت اتأخر دلوقت ، بكره إن شاء الله تعالى بدري وأنا هعرفك مكانها.
جحظت عينا هشام وتحدث قائلاً : انت بتتكلم عن مين يا عم منصور ، هو انت عارف انا بتكلم عن مين ؟

منصور قائلا : بص يا ابني انا جاتلي بنت بنفس المواصفات اللي انت قولت عليها دي وطلبت شغل وانا وصلتها عند عمك عبد الرحمن والحاجة مراته وهي بتشتغل معاه.

هب هشام واقفا ً: طيب تعالي دلوقت نروح نشوفها يا عم منصور انا مش هقدر استني لحد بكره.
منصور قائلا : انت عارف ان عمك عبد الرحمن ومراته بيمشوا بدري ولو روحت مش هتلاقيهم، بكره ان شاء الله الصبح بدري هيكونوا موجودين وأكيد هتكون البنت معاهم.
- ماشي يا عم منصور، انا همشي دلوقت وهجيلك الصبح يارب تكون هيا اللي انا بتدور عليها.

استأذن هشام وانصرف عائداً لبيته يترقب شروق الشمس من نافذة غرفته حتى يري من سلبته عقله وقلبه واختفت.

الهاربةWhere stories live. Discover now