الخاتمة

3.9K 96 13
                                    

الخاتمة

:- قليل من الكرامة ما كانت لتضرك أبدا يا لندا
ابتسمت لندا وهي تنظر إلى جودي التي انحنت على بعد أمتار عنها متأملة الشيء الصغير الملفوف بالأقمشة الزرقاء .. المستغرق في النوم داخل السرير الصغير .. ثم رفعت رأسها قائلة بتذمر :- الطفل نسخة طبق الأصل عن صلاح ... ألا يحبك ذاك الرجل ولو قليلا ليسمح لشيء من جيناتك بلفح ملامح طفلك ..؟
ضحكت لندا بإرهاق قائلة :- صلاح لايشاركك الرأي .. يقول بأن محمود الصغير قد ورث عني رقة ملامحي
هزت جودي رأسها بقرف مصطنع ... وقالت :- حسنا ... لقد اقنعتني .. الرجل يحبك حقا .. وهو لا يترك فرصة تمر دون أن يظهر هذا مما يغضبني بشدة خاصة وأن تمام منشغل عني دائما بإغراق ( جنا ) بالدلال
قالت السيدة غيداء الجالسة إلى جوار لندا وهي تبتسم بهدوء :- محبة الرجل لأطفاله جزء من محبته لزوجته .. انتظري حتى تنجبي طفلا آخر .. سيسأم ضجيج الأطفال ويعود ليتصيد لحظة انفراد نادرة معك
تنهدت جودي بشكل مفتعل وهي تقول :- أعيش على هذا الأمل ..
تأوهت لندا عندما حاولت أن تتحرك .. فأسرعت والدتها لتعدل الوسائد خلف ظهرها .. لم تمر 24 ساعة على خروج لندا من غرفة العمليات بعد إجراءها لعملية قيصرية سريعة أنجبت بها ابنها الاول .. كانت تتألم رغم تناولها المسكنات التي وصفها لها الطبيب .. إلا أن ألمها ما كان ليقلل أبدا من مقدار سعادتها منذ فتحت عينيها مطالبة برؤية محمود
قالت لندا لجودي بشحوب :- هلا اعطيتني إياه ... أريد أن أراه
حملت جودي الطفل بحذر شديد .. وسارت به نحو لندا التي تلقته بين ذراعيها وهي تشعر بحب جارف نحو الطفل الصغير .. الذي ولد كبير الحجم بحيث أصر الطبيب على أنها برقة جسدها لن تحتمل إنجابه طبيعيا .. رغم اعتراضها .. كان قرار صلاح حاسما .. لن يسمح لأي أذى أن يصيب زوجته وطفله .. ليس وقد قضى أشهر حملها يعاني وهو يراقب تعبها وإرهاقها .. وما سببه حملها من متاعب صحية لها .. كان يلوم نفسه باستمرار فتضطر لتذكيره ضاحكة بأنها هي من طالبته بطفل فور أن شفي من جراح عمليته القديمة قبل سنتين .. وعادا معا إلى بيتهما الزوجي أخيرا ..
لقد كان هو أكثر شوقا منها لإنجاب طفل يعوضها به عن طفلهما المفقود .. ورغم تظاهره بالهدوء .. فهو لم يكن أقل منها قلقا عندما تأخر حملها كتأثير جانبي لإجهاضها السابق .. فرحته بحملها سرعان ماتعكرت عندما اضطر لمراقبتها تتألم خلال الأشهرالتسعة السابقة .. لقد كان يشعر نحوها بالكثير من المسؤولية .. وكأنها طفلته وليست زوجته .. وعندما طرح الطبيب الخيار الجراحي لتسهيل معاناتها .. لم يتردد على الإطلاق في اتخاذ القرار
تأملت لندا الوجه الجميل لابنها .. لقد كانت جودي محقة .. فمحمود الصغير كان يشبه صلاح تماما .. مهما كان إصرار صلاح على نفي ذلك .. لقد تساءلت لندا قبل سنوات إن كان بإمكانها أن تكون أكثر سعادة في يوم من الأيام .. وقد عرفت الإجابة في هذه اللحظة ... نعم
جلست جودي إلى جانبها على طرف السرير قائلة بحنان :- هل أسميتماه محمود حقا ؟؟
أومأت لندا برأسها قائلة :- لقد اتفقنا على هذا أنا وصلاح منذ أشهر .. لو أنجبنا صبيا .. فهو محمود الصغير على اسم عم صلاح المتوفي .. وإن كانت فتاة .. فهي غادة .. تيمنا باسم أمي ..
منحت أمها الدامعة العينين ابتسامة رقيقة .. لم يكن محمود هو حفيدها الأول .. فقد أنجبت منى توأما قبل أشهر قليلة .. فتاة وصبي رائعي اجمال .. اختلفت كثيرا مع عادل الذي أراد أن يسمي الصبي نواس .. حتى رضخ لها أخيرا وقبل بأن يكون أبا فراس .. في هوسه الغريب بالتيمن بأحد شعراءه المفضلين .. أما الفتاة .. فقد اتفقا معا على تسميتها بياسمن .. تعبيرا منهما عن مكانتة لندا في حياتهما
مدت يدها لتمسك بيد أمها .. التي تماثلت تماما للشفاء .. وعادت تعيش حياتها بشكل طبيعي ما زالت لندا غير مصدقة له .. تنظر إليها أحيانا وتتساءل كيف كانت حياتها لكون لولم يدخلها صلاح ... لو لم يعلمها معنى الحب السامي والخالص والغير مشروط .. لو لم يتبنى عائلتها .. فينتمي لها مقدما لعادل فرصة حياة جديدة في الخفاء .. ومنقذا حياة أمها من الموت .. لو أنه لم يحقق لها أغلى مطالبها .. ويمنحها محمود
قالت جودي متذمرة فجأة :- هذا ليس عدلا ... ماذا لو أنجبت صبيا في المستقبل .. فوجدت جميع الأسماء الجيدة وقد أخذت ؟
دوى صوت صلاح يقول من خلفها :- توقفي عن إزعاج زوجتي يا جودي .. تحتاج لندا إلى الراحة .. لا إلى الصداع الذي يسببه لها هذرك ...
سرى الدفء في اوصال لندا وهي ترفع رأسها نحو صلاح الواقف عند الباب .. تسارعت نبضات قلبها كما في كل مرة تراه فيها .. وكأنها أبدا لن تعتاد على حقيقة امتلاكها له .. ستبقى دائما عاجزة عن التصديق بان هذا الرجل الرائع .. الشديد الوسامة .. هو زوجها ..
نهضت جودي واقفة عندما أطل تمام إلى جانب صلاح حاملا ( جنا ) .. ملاكها الصغير ذو الشعر الكستنائي الأجعد .. والعينين الزيتونيتين كعينيها .. كالعادة .. كانت ( جنا ) ابنة العام الواحد .. تدفن وجهها في عنق والدها مستمتعة بدفئه .. تبدو وكأنها قد امتلكت العالم متسلحة بحبه .. تنهدت جودي متساءلة .. وأي أنثى لن تفعل .. أزاحت الطريق لصلاح كي يحتل مكانها إلى جوار زوجته .. وذهبت لتقف إلى جوار تمام الذي أحاطها بذراعه الحرة .. مقابلا نظرتها .. فاهما بالضبط ما تفكر به .. عندما عادت تنظر إلى صلاح وهو يقبل جبين زوجته .. ثم رأس ابنه .. ويعود ليهمس لزوجته :- كيف تشعرين الآن ؟
اغرورقت عينا جودي بالدموع .. لم تحسب يوما أنها ستعيش لترى صلاح سعيدا ... وهو الآن لم يكن يبدو سعيدا فقط ... لقد كان يبدو حيا .. وحرا من القيود .. وقد عاش حياته كلها دافنا نفسه في نعش من الذكريات .. مقيد بمسؤوليات كانت لتحني جبالا بثقلها .. لندا هي من حققت هذه المعجزة .. وجودي أبدا لن تنسى لها هذا الجميل
في وقت متأخر من ذلك اليوم .. عندما توقف سيل الزوار والمهنئين .. كانت لندا مرهقة للغاية بعد أن خلا جناحها إلا من صلاح الذي انهمك في التحدث هاتفيا كما اعتاد مؤخرا وقد بدأ برمي الكثير من مسؤولياته على كاهل رشاد وآية .. التي عادت تعمل لديه هذه المرة كمساعدة شخصية لرشاد .. بعلاقة مهنية ومهذبة تربطها بصلاح الذي عجز عن الحقد عليها بسبب صدقها معه في الماضي ... إلا أنه في كل مرة كان يقابلها فيها .. كان يرى صلاح القديم الذي كانه يوما مرتسما في عينيها .. كما كانت هي ترى فيه أشباحها الخاصة فكان النفور سمة علاقتهما ..
وهو ما لم يكن مهما في مقابل سعادة صديقه المفضل منذ زواجه بفتاة أحلامه ..
راقبته لندا وهو يدلك مؤخرة عنقه بإرهاق بينما كان واقفا عند النافذة .. يستمع إلى ما يقوله رشاد باهتمام .. ابتسمت مقدرة لإقفاله هاتفه طوال النهار إكراما لها .. ولضيوفهما الذين لم يتوقفوا منذ الأمس .. عادل ومنى كانا هنا .. بدون وحشيهما الصغيرين .. وقد تركاهما في رعاية السيدة هناء المجنونة بهما حبا .. وقد جاءا بباقة جميلة جدا بالأزهار .. كادت توازي جمالا تلك التي أرسلها هشام وأماني .. تلك الباقة الكبيرة المشرقة الألوان المنتصبة في الزاوية .. مع بطاقة إهداء صغيرة .. كتبت كلمات التهنئة فيها بخط أماني المميز .. ردا على تلك التي أرسلتها لندا بنفسها العام الماضي .. عندما أنجبت أماني ابنها الثاني ... قصي
كما توقعت .. لم تصبح وأماني صديقتين .. إلا أن علاقة مودة واحترام متبادل غلفت علاقتهما في كل لقاء لهما في منزل جودي أو صدفة في مناسبة اجتماعية .. ما زال التوتر يسم التعامل بين أماني وصلاح في لقاءاتهما النادرة .. بالعكس من الصداقة الرجولية العفوية التي جمعت بين صلاح وهشام وعززتها الأعمال الجديدة التي أسساها معا مؤخرا ..
كل شيء في حياتهما كان يسير إلى الأفضل .. في نظرها على الأقل .. أنهى المكالمة .. ونظر إلى لندا .. ثم بحث بعينيه في أنحاء الغرفة سائلا :- أين والدتك ؟
:- ذهبت لتلقي نظرة على محمود في غرفة الحضانة .. أظنها مجرد حجة .. كي تمنحنا بعض الخصوصية
بدون تردد .. أقفل صلاح هاتفه تماما بحركة مسرحية أثارت ضحكها .. واتجه إليها ليجلس في مكانه المعتاد على طرف السرير ... مسندا ظهره إلى الوسادة هو الآخر إلى جانبها .. محيطا كتفيها بذراعيه قائلا :- يزداد إعجابي و حبي لوالدتك يوما بعد يوم .
قالت باسمة وهي تسند رأسها إلى كتفه :- وهي تعشق الأرض التي تمشي عليها ..
أضافت داخلها ( كيف لا تفعل وجزء من جسدك يستقر بين أحشاءها ؟) .. كان صلاح يكره أن تذكره بمنته .. حساسا إلى فكرة عودة أي تقدير لحماته له إلى تضحيته .. سألها عابثا :- وماذا عن ابنتها ؟
تنهدت قائلة :- ابنتها تذوب فيك عشقا .. قادرة على منحك أي شيء مقابل هديتك المتمثلة في محمود .. وستحبك أكثر .. عندما تمنحها غادة
أحست بتصلب جسده .. وبصوته الجاف يقول :- لا مزيد من الأطفال .. لا قدرة لي على احتمال ضغط كالذي عانيت منه في الأشهر السابقة
ابتسمت .. وقالت برقة :- هل تظنني غافلة عن الطريقة التي كنت تنظر فيها إلى جنا كلما رأيتها خلال العام السابق ؟
أجفل صلاح ناظرا إلى وجهها الجميل الباسم .. هل كان واضحا إلى هذا الحد ؟؟؟ .. أم أن لندا هي من تفهمه أكثر من أي شخص آخر ؟
قالت بنعومة :- لقد تمنى جزء منك أن أنجب بنتا .. بقدر ما أحب محمود .. و أعرف بأنك لن تستبدله بأي شيء في الدنيا .. إلا أنني لن أهنأ بالا حتى أنجب غادة .. أنا أريدها كما تريدها أنت بالضبط .. لقد سألت الطبيب .. وقد طمأنني بأن المرة الأولى دائما ما تكون الأصعب ..
رقت نظراته .. رفع كفها إلى فمه يقبلها بحب .. ثم اعترف قائلا :- لا أنكر بأنني اريدها أيضا ..
قبل رأسها .. أخذ نفسا عميقا من عبير شعرها .. وابتسم مستنشقا رائحة الياسمين التي أوقعته في غرامها قبل سنوات .. وقال :- أريد طفلة تكون نسخة مصغرة عنك .. لها شعرك الأسود الناعم .. ولون عينيك الذهبيتين .. لها رقتك وحنانك .. ورائحة الياسمين في أنفاسك .. عل جودي تدرك أخيرا بأنني أحبك كما تحبينني بالضبط
أرجعت رأسها إلى الوراء قائلة باستنكار :- هل تصدق أنت أيضا هذه الخرافات ؟
كبت ضحكته وهو يقول :- ماذا تريديني أن أقول ؟ .. لي جذور تعود إلى الغجر .. من واجبي أن أؤمن بالخرافات .. المرة القادمة .. سنتفق على السمات مسبقا ..
استسلمت لقبلته الطويلة .. التي قطعتها نحنحة والدتها المحذرة قبل أن تدخل إلى الجناح .. تحرك صلاح مرغما وقد عرف بأن وقت ذهابه قد حان كي يتيح لها شيئا من الراحة .. بينما احتلت والدتها مكانه .. اتجه هو إلى الباب وفتحه .. نظر إليها مطولا .. وهي تبادله النظرات اللامعة محمرة الوجنتين .. يأرجح نسيم الليل القادم من النافذة المفتوحة شعرها الطويل .. ابتسم لها عارفا ومطمئا بأنه مهما صعب عليه الرحيل .. فإن طيفها لن يتركه وحيدا في أنحاء منزلهما الكبير ... وعندما يعود مع أول انبثاقة لنور صباح الغد ... سيجدها في انتظاره .. لتؤكد له بابتسامتها الرائعة .. بنظرة العشق في عينيها .. بأنه قد وجد طريقه أخيرا إلى نهاية متاهته .. إلى ما تاق إليه طوال حياته ووجده أخيرة ...
إلى السعادة

تمت بحمدلله

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىWhere stories live. Discover now