بِيكَاسّو || A war of blood

By SAYOPICA

221K 17.4K 24K

أخبرتني ذاتَ مساء: - كلماتُنا قضيّة تحتاجُ مرافعة ومحامٍ، الأشخاصُ لا يكفون عن تأويلها، وبطريقةٍ ما، نصبحُ مُ... More

٠؛ افتِتاحيّةْ.
الفِيلمُ التِّشويقي.
١؛ حَليبٌ وأعينٌ نَابِضةْ.
٢؛ لِقاءُ كَانونَ الأوّل.
٣؛ مَملكةُ المُحاربينَ السِتة.
٤؛ فِقدانُ الفَردوسْ.
٥؛ الرَّحيلُ الأخير.
٦؛ حَربٌ وطِفلةْ.
٧؛ صيّادٌ ورٍسالةْ.
٨؛ بِمكانٍ ما في عَينيكَ.
٩؛ التَّحرُش بِالحُبْ.
١٠؛ العِملاقُ ذو الغمّازة.
١١؛ عَودةُ ورِيثة العَرش.
١٢؛ عَليكِ اللّهفةْ.
١٣؛ صَديقينْ وخطُ دَماءْ.
١٤؛ مَثلُ النّار أنتِ.
١٥؛ مِن رَحِم الألمِ رسّام.
١٦؛ ثَأرُ أنوثةٍ متوّجِعةْ.
١٧؛ في غَيّاهِب السِجن.
١٨؛ لَيس حُلمًا شَارِدًا.
٢٠؛ اسطَبلُ الخِيول.
٢١؛ رَقصةٌ في جَوفِ اللّيل.
٢٢؛ أنتَ ليّ أو فلتَموتْ.
٢٣؛ مَلاكٌ بالأبيّضْ.
٢٤؛ لَيلةٌ مِنَ الحُب.
٢٥؛ سأجِدُكَ؛ لألعبَ لُعبَتي.
٢٦؛ رجلٌ يَضجُ بالصَمتْ.
٢٧؛ ثَوبُ زِفافٍ أحمَرْ.
المَوسِمُ الثَّاني.
سِيماؤهمْ، وأشيَّاءٌ أخرىٰ.
الذِّكرى السنويّة الثَّانيةْ.
٢٨؛ عِقدٌ وذاكِرةُ جَسَدْ.
٢٩؛ الأبيّضُ والأسوَّد بِداخلي.
٣٠؛ لها حُزنٌ يشبه كارمينا.

١٩؛ الحُب وَعكةٌ صِحيّةْ.

5.3K 442 626
By SAYOPICA

مرحبًا 🌞

رشّة رومانسيّة أخرى.

_

الحب، وعكة صحية أصابتها في أغلى ما تملك. في روحها الشريدة. وفي موعد مع الحب، وعدها - كذبًا - أن يمنحها جرعة الدواء الشافي فماتت!

هل لأنها زادت في جرعة الشفاء فزاد السقم لحد الموت؟

كيف تشفى منه؟ وهل تريد الشفاء أصلًا؟

بالنظر له، هو رجل يحتال على خفقاتها ويسلبها جميعًا دون عناء. هو رجل يجذبها تألقه شأن نجمة حينما نظرت له واختارته لنفسها.

في الحب يقولون: هناك طرف عاشق وآخر أقل عشقًا. فمن منهما الأقل عشق؟

من منهما القطب الأقوى والأضعف في ذات الوقت؟ قوي لتحمله كل هذا العشق والأضعف لقبوله بأقل مما يقدمه!

في أوقات الوهن، حينما انكسرت ألف مرة وانثنى جناحها، حطت على الأرض واحتضنت خيبتها بصوت يونجي وصورة تحتفظ بها له في حاسبها الآلي. وارتضت بحب بسيط يداعب قلبها أحيانًا
لكن!
هذا الرجل - العادي للغاية، غير المميز في أي شيء على الإطلاق سوى أنها أحبته - أطاح بقنوعها عرض الحائط!

فيما يخصّه هي متملكة. وتلخص جنونها به بحد فاصل وضعته كالسيف عند عنقه. هو لها أو .. فليموت!

الآخر، أحبته فقط حينما انكسرت. أمّا بيكاسو هذا فأحبته بكل حالاتها. في أحلامها حتى رأته رجلها الوحيد. الشخص الذي يمكنها الوقوف أمامه عارية المشاعر و .. الجسد!

لنتسخ قليلًا، ونلقي بطهارة روحنّا للجحيم، لنتخلص لوهلة من حبال الأخلاق ونعترف. رجلك عزيزتي هو شخص تريدينه لكِ في لحظة جنون تمارسان فيها كل ما يمكن أن يُمارس!

بروحها، عشقته. وليس عشق الروح بهيّن. وبين حنايا قلبها طوته حلمًا أخيرًا حصلت عليه. واليوم بغرور ملكة رفعت رأسها؛ فهي ربحت أمام الحياة، كأنثى!

واقتنصته لنفسها، بكل ما فيه. وأصبح لها، ملك يمينها. بنظرة، تخلع عنه روحه وتلبسه روحها!

اليوم حتى، لم تعد تعرف نفسها. فقدت شيئًا منها حينما فقدته أول مرة وحينما عاد أتى معه جزء لم يكن لها. ولم يكن بتلك الدناسة أبدًا. فهل حقًا انتصرت أم أن الحياة دست لها السم في العسل؟
دست لها الدنس في أحجيتها المفقودة والتي أرجعتها حينما قبضت عليه بين قبضتيها كلمعة نجم كاد يندثر، توًا!

هو سيفقدها الفردوس حقًا أم أنها لم تعد بحاجته لتُلقى في الجحيم وسيقودها جنونها به، إليه بلا عناء؟!

هذا الصباح، صباح حبهما الأول. كان خاصًا للغاية بالنسبة لها ولذلك نهضت لتصافح ضوء الشمس وتبدأ يومها منذ الطليعة الأولى لهُ!

في ثوبها الملكي، ذهبي اللون المطرز بخيوط الفضة وبعض الخرز الملون، يضيق عند الخصر ثم ينسدل منتفخًا وأكمامه تغطي وحسب ما يرتفع عن معصميها بضع إنشات. رتبت لها الوصيفة شعرها الأسود الغجري لينسدل عند عنقها البيضاء وتاجها الصغير يسكن بهدوء فوق رأسها.

أرادت أن تكون له أميرة، وعليه ملكة!

فسارت بجسدٍ ممشوق وقوام مشدود حتى غرفته، وولجت دون عناء الطرق حتى. على الأرجح مايزال نائمًا! تقدمت بهدوء لتخلق لنفسها مساحة في كل ما يخصه حتى غرفته. تلك متوسطة الحجم، حجرية الحوائط تغطيها ستائر حمراء كتانية وشموع تضيئها بخيوط الذهب تمزق الظلام. بها وحسب صندوق للملابس، وقائمة خشبية عُلِق على أحد أذرعها ملابسه الحربية السوداء، وعلى الذراع الآخر غمد سيفه الثقيل، وسريره في المنتصف، دائري بأغطية قطنية تحتوي جسده متوسط الطول.

أتت لهنا سابقًا، وتأملتها من قبل لكنها الآن أرادت تأملها مجددًا!

جرّت خطواتها وذيل ثوبها يحتك بالأرضية أسفلها حتى وصلت لفراشه. تقعدت حافته واتكأت لجانب وسادته بجزعها تلقي بثقل رأسها فوق راحتها المنبسطة. عن قربٍ تتأمل وجهه النائم. الصمتُ النائم!

هل الصمت طريقته الوحيدة لقول كل ما يعتمل بداخله؟ أصمته، وسيلته للكلام؟

أفرجت عن ابتسامة هادئة وهي تحدق في حدود وجهه المنحوت. إلهٌ يونانيٌ فريدٌ هو!

بشرته الشاحبة، أعينه المغلقة، وشفتيه الحمراوتين. رموشه الطويلة، خصلات شعره السوداء، الحمراء أحيانًا، تنسدل بجانب عنقه بطول متوسط وتلتصق بجلده المبتل بقطرات العرق تخفي جزءًا من وشمه الممتد من ظهره نحو رقبته ويشبه جسد العنكبوت. أخبرها المحاربون أنه حُرق وليس وشمًا، لكنها تريده وشمًا ولذلك فليكن!

وهو نائم، تنفصل شفتاه قليلًا بسبب نابيه الصغيران ثم يعود لضمهما كالطفل الضّجر لكن ما يلبثا حتى ينفصلا مرةً أخرى.
أصابعه الموضوعة فوق بطنه، تنزلق عن الغطاء لتسكن بجوار خصره فيعود لإرجاعها لحيزها السابق. وتعاود الكرّة بعد فترة ليست بكبيرة.

حركاته التلقائية تلك جعلتها تخوص في تأمله لدقائق امتدت ربما لساعة أو أكثر دون أن تشعر. لمرة أخرى كادت يده تنزل لولا أنها عانقت أصابعه الرفيعة بين أصابعها لتثبتها ولكن فوق صدره!

ففتح عينيه فجأة بشكل صادم جعلها ترتعد وترتد بضع إنشات للخلف!

- آه! قلبي. إلهي! يكاد قلبي يقف عن الخفق.

أفرجت عن أحرفها المرتعبة، الساقطة من فوق منحدر شفتيها برفقة أنفاس مرتعشة، فاستقبلتها حواسه السمعية خير استقبال واعتدل بجزءه العلوي ليتقعد السرير ثم لف عنقه نحوها :
- مولاتي!

غمغم أحرف كُنيتها حلوة، عذبة النغم. فاستقبلتها بقنوط وجعدت حاجبيها ثم اعترضت بشدة :
- إيرين. إنها إيرين وليست مولاتي!

عبأ رئتيه بالهواء رفع يده الحرّة فهي لم تفك أسر الأخرى حتى الآن ثم مسح على وجهه ليسترد وعيه كاملًا وهو يومئ :
- هل حدث أمرٌ ما؟

- لا! اشتقت إليك فقط فأتيت. يقولون من يشتاق أوًلا يطلب الوصال أولًا!

أحرفها تسللت عبر شوارع التاريخ الغابر في رأسه لتتفض الغبار عن الطريق. ولتسلك مسالكها نحو قلبه فتسببت - عن سبق إصرار وترصد - بابتسامة مجرمة فوق شفتيه. ابتسامته تلك حقًا إجرامية تهمتها الأولى والأخيرة أنها تقتل القلوب!

- إذن صباح الخير؟

- قُل صباح الحب! إنه يومنّا الأول.

- لا أحبذ أن يكون الصباح حبًا!

- ولكن لماذا؟ ومن الذي يكره أن يكون الصباحُ حبًا؟

تساءلت مشدوهة، فبتر ابتسامته ونهض عن السرير من الناحية الأخرى. انتصب واقفًا يحرك عنقه في حركات دائرية بنيّة فك التشنجات وهي تراقبه بأعينها تكاد تلتهمه. كانت ستعيد سؤالها لولا أنه تحرّك ليصبح في حيزها ويقف أمامها. مال بجزءه العلوي وحدّق في عينيها من هذا القرب متمتمًا :
- الحياة والحب شيئان لا أثق فيهما؛ فلقد دُعيت على الدوام على طاولتهما كطبق رئيسي التهماه سويّة.

دحرج عدستيه بخفة يحتضن كل ملامحها ليحتفظ بها في دهاليز روحه وأكمل.

- أنتِ حصلتِ على البقايا فهل تودين التفريط فيها للحب؟

- أنا حقًا لا أفهم ما تحاول قوله.

تلعثمت، وتعثرت الأحرف لتسقط من فوق عتبة شفتيها خافتة وواهنة للغاية. مدّ إصبعيه الوسط والسبابة ليقربهما من وجهها ثم ثناهما وتحسس أعلى وجنتها الوردية بظهرهما مُلحنًا بصوته المبحوح :
- صباح الخير. الخير وفقط!

رجل ككل الرجال لا يميزه أي شيء سوى أنها أحبته؟ واللعنة ما هذه السخافة؟!

هو رجل أبدًا لم يكن كباقي الرجال. هنئيًا لها به وعزاءً لنساء العالم كلهن؛ فهي من حصلت عليه. بيون بيكهيون!

بيكاسو.

اعتدل واقفًا مرة أخرى. التف بقامته المفرودة وتحرك مبتعدًا عن الفراش نحو ملابسه الساكنة بمكانها الدائم. فابتلعت غصتها بصعوبة ونهضت على قدميها هي الأخرى لتقف خلفه. مدّت كفها الصغير ومسحت على خصلات شعره لتقول :

- سأغادر أولًا؛ لتبدل ملابسك.

لم تنتظر رده. سحبت نفسها وغادرت الغرفة بالفعل. وحينما أقفلت الباب توقفت خلفه للحظات تغلق أعينها، وكذلك رفعت كفها واستنشقت الرائحة كأنها مخدرات رهيبة المفعول. أيعقل أن لشعره رائحة بتلات زهور الأقحوان؟

بعد دقائق ولمّا أحست أن وقفتها قد طالت فتحت أعينها أخيرًا وسرّعت خطواتها بعيدًا عن الغرفة. في حين التف هو بجسده كاملًا يحدق في الباب الذي خرجت منه توًا ومال بعنقه نحو اليمين وأعينه - شاردة وفارغة - تغطيها لمعة رمادية باهتة. ثم تمتم بخفة يقول :
- حُبكِ شرسٌ يا إيرين. فهل ستفرطين في البقايا لمؤامرات الحب عليكِ بحجة التملك؟ هذا الجزء منكِ لا أعرفه. وأخشى أنه لا يعود لكِ حتى فهل هذا عقابٌ آخرٌ ليّ؟

•••

حمّلها الحب فوق ذراعيه ولفّ بها دائرة نصف قطرها عدد دقات قلب بيكاسو المترقبة بتخوف في الثانية. ثم ختم التفافته بانحناءه مغتالة ليفلتها على الأرضية فتدحرجت عدة مرات حتى سكنت على ظهرها.

ثوبها الأبيض الحريري - الشفاف - لم يستر فتنتها أمام الحب. شعرها الليلي الطويل غطى الأرضية الزجاجية تحتها ورفعت هي أصابعها تمررهم من عند عنقها مرورًا بمنحنيات صدرها وبطنها. ثم اعتدلت فجأة ناهضة. وقفت على أطراف أصابعها وأصدر خلخالها الذهبي صوت رنين أتبعته هي بخطوات رقصها المدروسة.

وأمامها وقف الحب ينظر بصبر، منتظرًا انتهاء العرض. وحينها ختمته بالفعل بعدة التفافات ثم هبطت على ركبتيها وطأطأت رأسها للأسفل تثبت يديها فوق فخذيها قبل أن ترفع ذقنها ببطء. في عينيها لمع بريق أضاء السماء وتمتمت بصوتها الأنثوي الفاتن :
- لمَ تساعدني؟

فكّ الحب ذراعيه المعقودان واقترب منها بأنفة. مال بجسده ليصبح في مستواها وأمسك بذقنها بين أصابعه :
- ألم يخبركِ أحدهم أن الحب يغار؟ ذلك الفتى يزعجني.

برزت أنيابها، وكشفت عن وجهها القبيح، تلك الحياة كشفت عن حقيقتها أخيرًا لتقول :
- هذا الفتى أنا أريده ليّ، بين أحضان تربتي!

- عقدنا اتفاقًا منذ الأزل أفلا تذكرين؟ أم أصبتِ بالخرف أيتها الحياة؟

- علامَّ تنوي؟

- بيديها ستلقي به للهلاك. ليّ أنا الحب أوجه عديدة أيضًا ولقد منحتها أبشعهم. الشراسة، التملك، الأنانية. لا تقلقي فهي ستقضي عليه بنفسها وببطء!

أبعدت يده عن ذقنها ولحنت ضحكة صاخبة. ثم لمعت أعينها بجبروت وهتفت وهي تنهض بشموخ :
- أنت مجرمٌ أيها الحب!

تناول يديها بين أصابعه وأحاط خصرها وعلى شفتيه ابتسامة تخصه وحده، ثم قال :
- سيمفونية أنين هذا الفتى فريدة ولذلك لنرقص عليها يوم تأبينه الأخير!

- سنرقص، هذا وعد.

برزت أنيابها أكثر وهي تبتسم بجبروت.

يا لهول جبروت الحياة. فهذ تملك جنون أنثى وما أفظع أن يجتمع الجبروت والجنون في أنثى واحدة؛ عندها سيحترق العالم بين مقلتيها!

•••

على رصيف عينيه، سارت برفق تحدق في الأرضية الإسفلتية. أحيانًا يكون بريقه باهتًا كلون الإسمنت لكن السير فوقه آمن؛ فنظراته تحتضنها وبجواره وحده تشعر حقًا بالهدوء. ذلك النوع من الهدوء المليء بالضجة!

لو صح التعبير، هو رجل التناقضات وفي حيزه تتأصل العدوى بداخلها هي أيضًا. مهما اقتربت منه لا تشعر بالشبع. وكلما كانت أمامه رغبت لو تكون أقرب ثم أكثر قربًا. أكثر قربًا من أنفاسه حتى!

لا يمكنها التفكير في أي شيء عداه، سواء أكان أمامها أو لا.. لو بدأت في التفكير فيه لن تتوقف في أي وقت قريب!

عبأت رئتيها بالهواء وقلبت عينيها لوهلة تنفث بقوة. كانت تخطو بخفة في ممر القصر تحدق بما أمامها بشرود. منذ أتت لهنا لم تتجول في كامل القصر. ولم تذهب لأي قطر بالمملكة بعد حفلة الاستقبال التي أقامتها والدتها.

كل جولاتها كانت في مملكة البشر ولا تعرف أي شيء بخصوص مملكة مصاصي الدماء. لم تتقرب من المحاربين وفوق كل هذا أثارت غضبهم بفعلتها.

- اللعنة هذا سيء للغاية! أعتقد أنني بالفعل أميرة فاشلة.

- لماذا؟

تساءل لوهان بهدوء، فانتفض جسدها مسببًا ارتفاع كتفيها لأعلى بضع إنشات. التفت سريعًا ترمقه بأعين متسعة وكادت تسقط للوراء لولا أن أحاط خِصرها بذراعيه وأعاد موازنتها. ازدردت لعابها تبلل حلقها الجاف ثم تمتمت :
- من أين أتيت؟

اعتدل بقامته أولا قبل أن يثني ذراعه الأيسر عند بطنه وانحني مثبتًا جسده هكذا لأطول فترة ممكنة :
- أعتذر على إفزاعكِ، مولاتي!

مسحت على وجهها أولًا قبل أن تضرب فوق صدرها عدة مرات ثم تقدمت بخفة وربتت على كتفه كي يعتدل :

- لا بأس إنه خطأي؛ فأنا التي كنت أسير شاردة.

أومأ بتفهم بعدما اعتدل ثم ثبت أصابعه فوق غمد السيف يستند إليه. رمش بأهدابه الكثيفة يحدق فيها منتظرًا أن تجيب سؤاله، لكنها قضمت شفتها السفلية وضمت يديها الاثنتين تحتضن كفيها ببعضهما فوق معدتها ثم تقدمت بهدوء تقول بهمس :
- والدتي ماتزال غاضبة؟

طأطأت رأسها في انتظار جوابه. وهو كان يقف أمامها مرفوع الرأس بأنفة. بشرته حليبية ناصعة البياض، خصلات شعره السوداء الناعمة تغطي جبهته وعنقه، ناعمة يتكسر الضوء عليها مسببًا لمعة كرستالية فاتنة، وفي عينيه بريق من نوعٍ آخر.

أعينه هادئة، تشعر من ينظر لها بالهدوء والسكينة. ملامحه الطفولية لا تليق بكونه قائد المحاربين. لطول صمته عندما لم يجد ما يقوله إذ أنها فعلًا غاضبة رفعت وجهها تنظر له ولم تشعر بنفسها وهي تتفحصه بكل تلك الدقة. شفتاه افترقتا عن بعضهما بابتسامة صغيرة ومال برأسه قليلًا متسائلًا بمرح :
- وسيم؟

ارتعشت أهدابها وأجفلت للحظة تعض شفتها بقوة. احمرت وجنتيها وخبأت وجهها بين كفيها ثم التفت لتفر بخطواتٍ أشبه بالركض لذلك ضمّ لوهان شفتيه يمنع ضحكته بأكبر قدر ممكن.

في حين اصطدمت هي بجسدٍ جعلها ترتد بضع خطواتٍ للوراء قبل أن تسقط وعندما أفلتت آهة خافتة لترفع رأسها بسرعة.

حذاء جلدي أسود عنقه يصل لما أسفل الركبة ببضع إنشات. بنطاله جلدي هو الآخر ويحيط خصره عدة أحزمة مثبتة بأجساد معدنية يتدلى منها غمد السيف. سترة سوداء داكنة تكشف عن جزء من صدره العريض حيث يلمع الوشم منها ويمتد حتى عنقه.
وهناك عباءة حمراء مثبتة عند أكتافه بـ شارات ذهبية تنسدل فوق ظهره المشدود.

القناع يخفي وجهه كاملًا عدا عيناه فقط. لهما مظهرٌ حاد للغاية سبب لها القشعريرة وشعره الأحمر القاتم مرفوعٌ لأعلى بحرص!

ابتلعت لعابها عدة مرات بصعوبة في حين هبط هو فورًا ليساعدها على النهوض ممسكًا بكتفيها ولمّا استقامت تأسف برسميّة :
- أعتذر على اصطدامي بك، مولاتي!

أومأت ببطء ولاتزال مأخوذةً بمظهره المهيب فلم تستطع النبس ببنت شفة. تقدم لوهان عدة خطوات وعدل وضع التاج فوق رأسها ثم أسدل يده بجوار خصره ينظر بهدوء لسيهون متسائلًا :
- أين كنت؟

دحرج عدستيه بعيدًا عن الأميرة، ثم نزع القناع بخفة ليظهر جرحٌ غائر أسفل جفنه الأيمن وعلى الأرجح أنه جديد بسبب الدم المتجمد فوقه. فقطب لوهان حاجبيه بتعجب بينما رمشت إيرين عدة مرات بخوف مازال يتضخم بداخلها، ليعرب أخيرًا :
- خرجت صباحًا مع بعض رجالي للقضاء على حفنة من المتمردين.

صمت لحظة ليقول بعدها.
- الأوضاع ليست مستقرة. وهذا ليس بأمر نتناقش به ونحن واقفان!

أومأ لوهان متفهمًا قبل أن يعكس زاوية عنقه لإيرين التي خرج صوتها أخيرًا بعد طول صمت :
- هل أنت قائد الجيش؟

ارتفعت زاوية شفته العلوية بابتسامة بسيطة قبل أن يومئ. هزّت رأسها بتعجب ترمق لوهان بغرابة؛ بما أنه قائدهم أليس من الأولى أن يكون هو قائد الجيش؟ فهم سيهون ما تفكر فيه من نظراتها لهما فأجاب ببساطة :
- لكل منّا عملهُ هنا حسب قدراته!

- لهذا قُلت أنا أميرة فاشلة!

تمتمت تُخفِض رأسها وخبأت يديها خلف ظهرها لتقبض على أصابعها بقوة. هي هنا بالفعل منذ شهر كامل وكل ما فعلته، كل ما تعرفه.. لا شيء!

- مولاتي..

غزل لوهان أحرف كنيتها بلسانه ليخرج رائعًا فوق العادة جعلها ترتعش لوهلة قبل أن ترفع رأسها بحزن تنظر له فابتسم وتمتم بهدوء دائمًا ما يرافق نبرته الحنون :
- أتيتِ منذ شهر واحد ولم تعرفي أي شيء بخصوص هذه المملكة من قبل. كذلك لم تعتادي على هذا العالم لذلك من الإجحاف الحكم على نفسك بهذا الظلم. الملكة هي من قررت تركك لبعض الوقت وبعدها سنُهيئكِ لتكوني ملكة هذه الأمة.

- هل أنتم غاضبون مني؟

ألقت سؤالها فورًا دون أية مقدمات، جفونها ترتعش بقلق وهي تنقل ناظريها بين الشابين. صنعا تواصلًا بصريًا للحظة قبل أن يستلم سيهون دفة الحديث قائلًا :
- لقد أهنته بشدة يا مولاتي!

- أنا آسفة حقًا، أعرف أن هذا...

- هذا يكفي!

قطع الصوت المبحوح تلاحم أحرف إيرين، ليفرض نفسه بها وينسج أحرف أخرى آمرة. التفتوا جميعًا لمصدر الصوت فاصطدمت أعينهم بقامته المتوسطة الطول. تنهد سيهون بحيرة في حين اقترب هو أكثر وانحنى أمامها أولًا قبل أن يعتدل ويمرر ناظريه ما بين سيهون ولوهان مردفًا :
- أنا أخطأت وأستحق العقاب!

قطب لوهان حاجبيه بتعجب واعتدل بكامل جسده ليصبح في مقابله تمامًا ثم أردف بهدوء :
- في مملكتنا يا بيكهيون من الطبيعي أن تعتذر الأميرة لأنها أخطأت. الأمر ليس بعار وأنت تعرف.

- وأنا قُلت أنني أخطأت وأستحق العقاب!

- لقد قال لك ليس عارًا أن تتأسف الأميرة.
تركت طرف ثوبها لينسدل على الأرضية وضمت كفيها فوق معدتها بوقفة رسمية يتلامع تاج المملكة فوق شعرها الأصفر اللامع وهي تكمل بصرامة.
- على الأقل أمام الحراس الذين أهانتك أمامهم، ستعتذر لك!

هبط المحاربون الثلاثة على الأرضية بكل إجلال أمام الملكة التي أطلت فورًا لتقتحم حديثهم بينما ظلت إيرين تحدق في وجهها بوجنتين متوردتين بخجل. الآن فقط بدأت تشعر بعواقب فعلتها الغبية به. ازدردت لعابها بصعوبة ثم أومأت :
- نعم سأعتذر!

- ولكن..

رفع بيكهيون الجاثي أرضًا رأسه ينبس بتلك الأحرف لكنها قاطعته مجددًا بقولها الصارم :
- لأنها تحبك وأنت رفضت هذا الحب. هل هذه جريمة لتعاقبك عليها؟

راحت شفته السفلية ضحية صف أسنانه العلوي يضغط عليها بشدة تكاد تتمزق لفرط قوة الضغط. في حين طأطأت إيرين رأسها بخجل أكبر وتحمعت بلورات الدموع في عينيها سريعًا ولم تقوَ على قول أيه كلمة.

كادت تلتف لتغادر بعدما مررت نظرها عليهما منتظرة أي كلمة من أحدهما إلا أن صوت بيكهيون أوقفها :
- أنا أخطأت خطأً فادحًا وفي قانون مملكتنا ذلك الخطأ يستحق عقوبة القصاص!

اتسعت أعين سيهون حتى كادت أن تقفز للخارج ولوهلة شعر وأن الأكسجين تم تفريغه من الممر فكاد يختنق. مدّ يده وقبض على كف بيكاسو بقوة متمتمًا :
- هيونغ لا تفعل هذا بنفسك!

ابتسم بجانبية وتلك اللمعة الباهتة في أعينه عادت تسيطر عليها بكل عنفوان ثم تمتم وهو ينهض على قدميه :
- أوه سيهون، عندما عرفت بشأن الأمر كان عليك أن تأمر بعقابي لا أن تطلب مني ألا أفعل هذا بنفسي!

عض سيهون شفته بعنف أكبر. ما رأه من ذاكرة الأميرة المحذوفة ليس بهيّن لذلك شد على أصابعه بقوة في حين كانت إيرين تحدق في وجه بيكاسو بعدم فهم وكذلك لوهان والملكة التي قالت بتعجب :
- لا أفهم ما تقوله؟

- مولاتي ربما علينا التحدث، اثنتينا فقط!

بدأ القلق يفتك بأعصابها فأومأت سريعًا وأشارت له أن يتبعها لقاعة العرش. سبقته هي بعدة خطوات وتوقف قليلًا في ذات الحيز مع جزء روحه الآخر. دحرج عدستيه لها، لتلتقي نظراتهما لوهلة احتضنت فيها - دون أن تعرف - ألم من بين المليارات يضرب وتد صموده بفأس الوجع!

أفرجت عن شفتيها لتوجه أحرفها له، فبترها فورًا حينما وضع القناع على وجهه وغادر بخطوات سريعة. كانت يدها قد ارتفعت بضع إنشات لتمسك يده، فقبضت على الهواء لدى تحركه وعادت لتنسدل بجوار خصرها.

لِمَ تشعر وكأنها ستفقده؟

التفت تحدق في الشابين خلفها حينما نهض لوهان بتعجب هو الآخر في حين كان سيهون لايزال أرضًا يصك ضروسه ببعضها.

رفع رأسه بشكل مفاجئ ليرمق لوهان بقوة متسائلًا بنبرة أجشة :
- هيونغ! هل نخون الملك لو غلبت رغبتنا في حماية بعضنا البعض؟

ضيّق لوهان عينه اليسرى بشك ثم مال برأسه قليلا لوهلة والصمت عمّ أرجاء الممر. وكانت الأميرة تمرر بصرها بينهما وشيء من روحها ينبض بخوفٍ قطعه أخيرًا بقوله :
- حمايتنا لبعض جزء من وعدنا للملك! لكن السؤال الأهم هنا هو سنحمي بعضنا ضد من؟

دحرج سيهون عدسة عينه اليسرى لتستقر عند جسدها الضئيل قبل أن ينهض على قدميه وتمتم لنفسه بحرقة :
- هي بخير الآن هيونغ، فلمَ؟

•••

في النسيان لذة، لم يجربها أحد من قبل!

من يقول أن حرب الوقت كفيلة بقتل الذاكرة لم يجرب حتى الآن ربما لوعة الحنين. في الذاكرة كُفر، تجعلك تعتنق الملة وتتركها مليون مرة!

تلك الذاكرة وحش لا يشبع ونار لا تنطفأ. تزداد ويزداد جوعها والتهامها لنا.

بمرور السنين نحن لا ننسى! نحن نتناسى لبعض الوقت. ننشغل بأمور أخرى وربما نحيك ذكريات أخرى على أمل محو القديم منها لكنها فقط تتضخم ويصيبها العفن لطول المدة ثم تفوح رائحتها أكثر لتمسك سيفين كي تطعننا بأكثرهما رحمة وأفظعهما وجعًا.

ذكرياتنا الحزينة لا تؤلمنا بقدر السعيدة منها. صدقًا، نحن نعاني من الضحكة أكثر من أي دموع!

كلما طرقت الذاكرة بابنا كعابر سبيل، تمنحنا تفاحة سنووايت. جميلة الهيئة، مريعة النتيجة. والفرق هو أننا لا نفقد الوعي، نحن نكون في أوج إدراكنا!

نحن نكون واعين لكل ابتسامة صادقة أو ظنناها صادقة يومًا. نحن نعي كل وقت قضيناه بحب فعلي، كنّا نظنه هكذا!

أحيانًا نختلق لهم الأعذار بأعين باكية تحت رحمة الاشتياق، وأحيانًا أخرى نهددهم بالقتل بداخل روءسنا بابتسامةٍ تحت شرف الحنين!

الاشتياق فقط يغلب الغضب. هذا الغضب لن يستمر للأبد. سيكون فقط وقت الفراق أما اشتياقنا لهم هو حقًا ما يؤلمنا!

لن يتوقف العالم عند شخص واحد وسنكمل حياتنا بالتأكيد إلا أنه سيبقى شيء ما بداخلنا قد اختلف ولن يعود!

سنين طواها الزمن من عمره والآن يحقد على البشر؛ إنهم يشيخون بسرعة ثم يموتون أما فصيلته فهم يحظون بشباب طويل، طويل للغاية!

وفي كل يوم يمارس الاشتياق طقوسه السادية على روحه.

الفقد موجع!

فبين غدًا ولاحقًا نفقد فرصة اللقاء!

وبين ليت وسوف نفقد الثقة!

بين أحبك ولكن نفقد الحب!

وبين ربما فعل وكلا لم يفعل فقد بيكهيون!

وبين أنسجة قلبه مازال صديقه موجودًا.

زفر بقوة وهو يحدق في الرجلين الجاثيين أمامه. هذان الغبيان أيقظا بداخله الذاكرة مجددًا.

رجلان من البشر؛ بما أن مملكة البشر والصيادين الآن واحدة تحت حكم عم يونجي - حتى تسليم العرش - فقد قصدا القصر لفك النزاع بينهما.

يقول الأول ساردًا قصته :
- كنّا صديقين منذ عشرين عامًا. ضنى العمر منا ونحن سوية. نأكل سوية نشرب سوية ونضحك سوية.
اشتركنا في قطعة أرض نزرعها لنأكل منها ونُطعِم أولادنا.
ومنذ بضعة أشهر حدثت لنا ضائقة مالية واضطررت لبيع الأرض لكنه رفض بشكل قاطع لذلك تراجعت أنا الآخر حتى ظهر في طريقي رجل قام بخداعي وسرق الأرض مني بحيلة قانونية.
وبعدها اكتشفت أن جزء صديقي في الأرض كما هو لم يحدث له شيء وأخبرتني جماعة من الناس أنه اشترك مع الرجل المحتال في النصب عليّ!

رد الآخر بصوت مرتعش وقد بدا التأثر في نبرته :
- يا مولاي الأمير أقسم لك أنا لم أخدعه. وما الذي سأستفيده من خداعه وأخذ جزء أرضه بعد كل هذا العمر سويةً؟ لقد نصب عليّ هذا الرجل المحتال أيضًا لكنه أتى وأعاد لي جزئي متحججًا بأن ضميره استيقظ ولما سألته عن أرض صديقي أخبرني أنه أرجع أرضي لأنني أملك أولادًا أكثر منه وسيصعب عليّ توفير لقمة عيشهم.
حاولت إقناعه بإعادة أرض صديقي أيضًا لكنه رفض. وفي اليوم التالي قررت أن أشترك معه في قطعة أرضي فتفاجأت به صباحًا يقتحم منزلي ويضربني متهمًا إياي بما قاله لك!

عقد يونجي حاجبيه بحيرة يمرر ناظره بينهما. حك ذقنه بأصابعه وهو يقول بصوته الأجش المُزدان بتلك اللدغة :
- وهل تريد مني تصديق قصتك تلك؟ محتال يملك ضميرين فأشفق بالنظيف منهما عليك؟

عضّ الرجل شفته بأسى. كلاهما كان جاثٍ على الأرض في قاعة العرش أمام يونجي الجالس بهيبة. جمع كفيه وتوسل بنبرة على وشك البكاء :
- يا مولاي الأمير أقسم لك أنني أقول الحقيقة!

تنهد يونجي بقلة صبر ليقول بحسم :
- لو كنت تقول الحقيقة فأثبت حسن نيتك بمنحه قطعة أرضك!

- ومن أين يطعم أولاده، هيونغ؟

اخترق صوت تايهيونغ الرجولي القاعة حينما دلف توًا بملابسه الحربية وطلته المهيبة. على الأرجح كان يتدرب مع بعض الجنود.
حوّل يونجي زاوية بصره نحوه بهدوء فتقدم بخطوات ثابتة ليقف أمامه مباشرة وانحنى بخفة قبل أن يعتدل مجددًا ويده مثبتة عند غمد السيف.

التقط الرجل الأحرف من شفتي تايهيونغ وأفرج عن كلماته ودموعه على حدٍ سواء :
- أنا حقًا لا يمكنني منحه الأرض كاملة بسبب أولادي؛ من أين سأطعمهم؟ ولكنني عرضت عليه حقًا أن نتقاسمها! أنا لم أخنه أقسم!

ابتسم تايهيونغ بجانبية قبل أن تزداد حدة أعينه ثم استل سيفه وثبته عند عنق الرجل الأول ليقول بسخرية :
- عار عليك يا هذا ألا تصدق صديقك وتفعل مع الأغراب.

ارتعش جسد الرجل وهو يشعر ببرودة نصل السيف عند عنقه فحدق في أعين تايهيونج بفزع. شفتاه وفكيه ارتعشا حينما أكمل هو.

- صداقتكما التي دامت عشرين عامًا، لا تعني لك أي شيء؟
رفع صوته صائحًا.
- ادخل!

دخل إحدى الحرس وهو يدفع الرجل المحتال. حالته كانت مزرية فملابسه مهترئة وهناك كدمة بنفسجية في جانب وجهه الأيمن. وفور دخوله قطب يونجي حاجبيه بتعجب متسائلًا :
- ما هذا؟

تنهد تايهيونغ بخفة قبل أن يبتسم بمرح :
- وصلتني القصة منذ عدة أيام، وزاد فضولي لفك طلاسمها. ربما الأمر غير قانوني ولكنني اضطرت لاستعمال قبضتي لجعل ذلك الوغد يعترف!

رفع قبضته مهددًا بعدما أبعد السيف عن عنق البشري.

- قل للأمير ما قلته لي أيها الأحمق قبل أن أترك لك كدمة عند عينك الأخرى.

سقط المحتال أرضًا يبكي وكل عضلة في جسده ترتعش. ابتلع لعابه عدة عدة مرات وكشف عن صف أسنانه المتساقط جراء قبضة تايهيونغ ليقول بصوت غير مفهوم تمامًا :
- لقد كنت أغار من صداقتهما لذلك فكرت في الاستيلاء على جزء الأرض لأنتفع به وفي الوقت ذات لتدمير علاقتهما. لذلك أعدت له جزءه وطلبت من بعض الأشخاص ترويج هذه الإشاعات.

طأطأ رأسه وكل فرائصه لم تكف للحظة عن الارتعاش فتنهد الرجل المظلوم براحة وأخذ يجفف دموعه وهو يرمق صديقه بعتاب لعدم تصديقه في حين ابتلع هو لعابه بخجل.

لذلك مسح يونجي على وجهه بكفه الأيمن ثم أشار للحارس بأمر :
- خذه للسجن.
حوّل نظره للرجل الذي تم الاحتيال عليه يقول بهدوء.
- بما أنه اعترف سنعيد لك أرضك. اذهبا من هنا هيّا.

حال مغادرتهما أعاد تايهيونغ السيف لغمده وتقدم ليقف أمام الأمير تمامًا. نظف حلقه عدة مرات متسائلًا :
- ليست من عادتك ألا تقدر على حل مشكلة صغيرة كتلك! ما بك؟ منذ عدت من العالم الآخر وأنت لست على طبيعتك؟

وضع وجهه بين كفيه وهو يزفر بضيق ثم اعتدل واقفًا وأرجع شعره للخلف بأصابعه. خصلاته السوداء ليست طويلة تمامًا لكنها متموجة تغطي مساحة جبينه وتنسدل عدة شعرات على عينه. تحرك ببطء ليخرج من القاعة متمتمًا :
- لا تقلق ذهني مشوش قليلا وحسب!

كاد يغادر المكان لولا إمساك تايهيونغ بمعصمه فالتف ينظر له بتعجب. التقت أعينه بخاصة تاي في تواصل بصري صامت قطعه الأخير عندما حرر كلماته الرخيمة :
- ما حدث بين الرجلين، ألا يشعرك بشيء؟

نفض يونجي يده بقوة بعدما قطب حاجبيه ورمقه بنظرة حادة قبل أن ينسحب من الغرفة تمامًا تاركًا تايهيونغ خلفه يزفر بإرهاق. مجددًا شعوره بالعجز يخنقه!

•••

ذلك الشعور الذي دغدغ حواسها بنصول من قلق جعلها تركِن للحيز الواقع أمام الباب المقفول. لم تهتم على الإطلاق بالجندي الذي انحنى فور إتيانها واستمرت حيث هي. تهتز بجسدها تارة، وتارة أخرى تمسح المكان ذهابًا وإيابًا مسافة متر واحد تقريبًا!

تحركت مفاصل الباب الضخم واندفع من مقبضيه ليعلن خروج أحدهم من القاعة والذي لم يكن سوى بيكهيون فالتفت بجسدها كاملًا لتتلاقى أعينهما في ذات البؤرة ولم يقطع أيًا منهما هذا التواصل لبضع برهات.
أفرجت عن شفتيها، وكادت أن تخلع قيد الكلمات لولا أنه التفت قاطعًا التواصل ليغلق الباب ويندفع للخارج.

ابتلعت لعابها وأمسكت معصمه بكل قوة تسكن بداخل مفاصل أصابعها النحيلة ولذا التف ينظر لها مجددًا. ملامحه كاملة لم تظهر بسبب القناع الذي يرتديه فابتلعت لعابها بصعوبة عدة مرات قبل أن تتساءل :
- ماذا الذي حدث بالداخل؟ أنا أشعر بالقلق!

صمت لوهلة. عبأ رئتيه بالهواء عن آخرها وعلى الأرجح صمته هذه المرة كان لعجزه عن الكلام. فطنت لهذا عندما قال بنبرة يشوبها الارتعاش :
- لم يحدث شيء لا داعي للقلق.

قوّت قبضتها على معمصه أكثر ونظفت حلقها ببطء لتستطيع إنزال الغضة التي تكونت فيه وعلى غرارها تمنت لو أنزلت الغصة الأخرى التي لسعت فؤادها لشدة لذعتها. صوته آلمها بلا أسباب!

- صوتك لا يبدو بخيرٍ أبدًا. كما أنني لم أفهم ما قلته ونحن في الممر! عن أي خطأ تتحدث وما الذي تقصده بالقصاص؟

أغمض عينيه بتعب. حقًا هذه المرة هو لا يقوى على الكلام. نَسْجُ الأحرف لتكوين بضع كلمات تُطمأن جزعها كانت أصعب من أي شيء قد فعله سابقًا بشق الأنفس. حرّك يده الأخرى الحرّة وأبعد أصابعها عن مرفقه بلطف متمتمًا :
- أنا بخير لا داعٍ للقلق يا مولاتي..

لم تمهله الفرصة لإكمال أحرف كلمته. شدت قبضتها بكل قوة وهي تقطب حاجبيها بغضب وعدسة عينها اليسرى الحمراء القانية ازداد لمعانها ثم نزعت قناعه بعنف سبب احمرارًا في جانب وجهه وصاحت بانفعال :
- أخبرتك ألا ترتدي هذا القناع مجددًا أقلهُ أمامي!

اهتزت قبضتها تمسك به - القناع - بين أصابعها تكاد تمزقه لإربٍ صغيرة بأظافرها التي اخترقت لحم كفها. كذلك صكت ضروسها ببعضهم وأكملت وبلورات الدموع تتلامع في مقلتيها.

- صمتك يزعجني. ما الصعب في جملتي لتأخذ منك كل هذا الوقت لفهمها؟

صاحت بانفعال أكبر.
- أنا أكره صمتك!

رأسه المطأطئ كان مايزال على حالته. خصلات شعره السوداء تغطي وجهه وتحجب الرؤية وأعينه مغلقة بشدة ضاغطا أصابعه ببعضها. دهس شفته أسفل صف أسنانه ثم رفع رأسه ينظر لها بعمق، وتمتم :
- لا أقوى على الكلام. لم أعتد التحدث ولا يمكنني قول أي شيء!

ارتعش بؤبؤها الدموي تمامًا وكذلك اهتزت بنيتها الضئيلة أمامه. لم تعلم متى سلّمت بخنوع لتلك الدموع الغبية فتساقطت بكثرة فوق وجنتها. اقتربت بخفة ومدت أصابعها تتلمس أسفل جفنه الأيسر وتساءلت في نفسها بارتجاف هل كان يبكي أسفل القناع، لذلك ارتداه؟

خط الدماء ينسدل عند وجنته ملطخًا جزء وجهه الأيسر كاملًا وحدقته حمراء مصبوغة. يدها الأخرى قبضت على ملابسه بقوة ورفعت وجهها تنظر له وجسدها المهتز دليل آخر غير الدموع على بكاءها :
- لمَ هذه الدماء هاه؟

كوّرت يدها وضربت صدره بضعف.

- لمَ تبكي؟ لماذا أنت حزين بصدق لهذا الحد؟ أخبرني المحاربون حقيقة تلك الدماء. رؤيتها تفزعني لذا لا تفعل. لا تبكها مجددًا!

- ششش أنا بخير!

أمسك مرفقها بحنان فتوقفت عن ضربه. لم تحد عن عينيه لحظة وقضمت شفتها بقسوة. لكثرة الدموع كانت تراه مشوشًا لكنها استمرت تحملق فيه لتقول بكل انكساراتها الروحية بسببه :
- رؤيتك تتألم تؤلمني. لا تتألم أتوسل إليك!

رفعت يدها تمسح الدموع في أكمها بفوضوية وأكملت.

- أخبرني أرجوك. قل لي ما يؤلمك فربما أساعدك؟ على الأقل لأشعر بوجودي في حياتك!

ابتعد خطوتين للخلف، ولازال وجهه يحدق بها ولم يستدر بعد. مدّ كفه وأزال خيط الدماء عن عينه ثم تحامل على نفسه ودهس، للمرة التي عجز عن عدها، حقوق روحه المتهشمة وأخفى تصدعاته وكل انكساراته خلف عدسة تلك الابتسامة المزيفة فقط لأجلها وربت على كتفها بهدوء متمتمًا بما بقي في حنجرته من بقايا طاقة لها إمكانية نسج الكلام :
- أنا حقًا بخير. أحتاج فقط أن أكون بمفردي قليلا وسأكون على ما يرام تمامًا.

التف بزاويته الجانبية مكملًا.

- الملكة تريد تناول الغداء معكِ اليوم. طلبت مني إخبارك بهذا كي لا تتناوليه وحدك.

انتزع القناع من بين أصابعها والتف بكامل هيئته ليقطع طريقه بخطوات سريعة أحرقت الأرضية خلفه وتلك النيران قفزت منها نحو فؤاد إيرين لتضرم بها حريقًا مهولًا ورغم ذلك عوضًا عن الشعور بالحرارة كانت قادرة على سماع عصف الرياح بداخلها.

يكاد الصقيع يجمد أوصالها فرفعت وجهها بخيبة تضغط جفونها ببعضهم وتنفست بعمق قبل أن ترفر بكل قوة وهي تستدير مغادرةً الممر نحو غرفتها بخطوات واهنة.

أقفلت الباب وتقعدت الأرضية تحدق في أصابعها الملوثة بدماءه ثم قربتها لصدرها واحتضنتها بيدها الأخرى واجهشت في البكاء وهي تتمتم :
- رائع شعور أنني بلا فائدة بالنسبة له. كل تلك الحواجز ما تزال في محلها بيننا! كلما اعتقدت أنني أقترب منه يدفعني بكل قوة.

قطبت حاجبيها ولمع في عدستيها الغضب والقنوط معًا متحدين جنبًا إلي جنب وهي تقول بإصرار.

- أنت لي بيكاسو. أنت لي شئت أنت أم أبيت!

•••

- لقد أتيت، أمي!

قالت أحرف كلمتها بصوت أجش جراء بكاءها السابق وحاولت إخفاء كل ما يعتمل بداخلها والتصرف بطبيعية أثناء تناولها الطعام برفقة والدتها.

الغرفة كبيرة الحجم. وككل غرف القصر حوائطها حجرية تغطيها ستائر حمراء مرصعة بخيوط الذهب. في سقفها ثرية تضيء بالشموع ورائحة البخور تملأ الجو. انتشرت اادروع الحديدية كزينة برفقة بعض اللوحات وفي منتصف الغرفة طاولة كبيرة بها العديد من الكراسي التي شغلت والدتها إحداهم وأمامها رصت أطباق الطعام.

الخادمات وقفن خلفها بإجلال وفور ولوج إيرين انحنين ثم تحركت إحداهن لتسحب لها كرسيًا جلست فوقه وحوّلت بصرها ناحية والدتها التي كانت تجلس بصمت مطأطأة الرأس.
بللت شفتيها بطرف لسانها وكادت تتحدث مجددًا لولا أن سبقتها والدتها بصوت به بحة :
- سعيدة كوننا نتناول الطعام معًا.

- أمي هل أنتِ بخير؟

رفعت وجهها أخيرًا لتهديها ابتسامة باهتة وفي خزانات عينيها تجمعت الدموع بكثرة لكنها أبت أن تفك أسرهم. مدت يدها واحتضنت كف إيرين لتهمس بذات الابتسامة والصوت الواهن :
- لنتناول الطعام سوية، دومًا. لنخصص أيضًا وقتًا نقضيه برفقة بعضنا البعض! سوف أشرف بنفسي على تعليمك كل ما يخص المملكة لنقضي الكثير والكثير من الوقت سوية، حسنًا؟

رغم تعجب إيرين من حالة والدتها العجيبة إلا أنها أومأت بهدوء. دفء كف والدتها انتقل منه إلى كل إنش في جسدها وغمرتها راحة غير مفهومة أجبرتها على الابتسام لذلك شدت عليه بأصابعها وقبّلته بحب تهدي والدتها ابتسامة.

ظنتها ستوبخها ولم تتوقع أبدًا أنها ستطلب وصالها. بيدها الأخرى مسحت الملكة على شعر إيرين ثم أشارت لها لتبدأ بتناول طعامها وعاد الصمت ليفرد جناحه فوقهما. ولما انتهت الملكة تنهدت وهي تمسح شفتيها بالمنديل السكري المطرز بالفضة الذي كان بجوار صحنها وهي تقول :
- لقد باركت علاقتكما!

علّق الطعام في حلق إيرين فسعلت بقوة حتى احمر وجهها وأدمعت عيناها لذلك نهضت والدتها بسرعة وربتت على ظهرها ثم سكبت لها بعض الماء من القنينة الذهبية الساكن بجوارها كأس كرستالي مطعم بالجواهر الحمراء العتيقة.

ارتشفتها مرة واحدة حتى هدأت أخيرًا وحدقت في والدتها من الجانب ترمش بذهول :
- ماذا تعنين أمي؟

- بيكهيون أخبرني عن علاقتكما ولقد باركتها، أحسنتِ الاختيار!

قضمت شفتها السفلية وتوردت وجنتاها بخجل ثم قبضت على قماش الثوب بأصابعها وهي تقول بتلعثم :
- اممم!!

غصبًا، أفلتت الملكة ضحكة خافتة قبل أن تعتدل بقامتها ثم عبأت رئتيها بالهواء وزفرته دفعةً واحدة لتردف :
- غدًا سيكون يومًا صعبًا على كليكما.

- هاه! أنا وبيكهيون تعنين؟ ولكن لماذا؟

- سيُعاقب بيكهيون غدًا. عقابٌ قاسٍ!

اتسعت عيناها حتى كادتا أن تغادرا مقلتيها وانتفض جسدها لتنتصب واقفة ثم التفت تحدق في والدتها بقوة :
- أمي، ماذا الذي تعنينهُ؟

- إنها رغبته. ينظر للأمر بطريقة غير التي نراها جميعًا. عقابه يصب في مصلحة المملكة!

- ما الذي تعنيه يا أمي أنا لا أفهم أي شيء!

- إنها أمور خاصة بإدارة المملكة لن تفهميها أنتِ.

قالت جملتها بتوتر والدموع تصدم غشاء عينيها محاولة القفز للخارج. ابتلعت الغصة التي تكونت في حلقها بصعوبة ثم أكملت جملتها بسرعة وسط ذهول إيرين وخفقات قلبها المضطربة.

- يمكنكِ لاحقًا تعويضه. يمكنكِ..

قاطعتها إيرين حينما قبضت على ذراعيها بقوة وجسدها يهتز بكل عضلاته :
- أمي! لا تفعلي. لا تعاقبيه أرجوكِ! ماذا فعل ليعاقب؟ لم يفعل شيئًا! هو أعادني سليمة ويجب أن يكافأ. هل نسيتِ؟ أنت من قلتِ لي هذا!!

نجحت دموعها أخيرًا في أن تعبر قضبانها لتتساقط بغزارة على وجنتيها. كذلك جذبت إيرين من ذراعيها ودفعت بها لحضنها الدافيء تخفيها به من غدر العالم ومن مخالب الحياة التي نهشتها!

تود لو ترجعها مرة أخرى لرحمها. تود لو تعود مرة أخرى بضعة خلايا منها وداخلها. انفلتت شهقة من بين شفتيها وهي تمسح على شعرها تارة وتربت على ظهرها تارة أخرى وعندها تحررت إيرين لتقول بأحرف مرتعشة من الخوف :
- أمي!

عانقت الملكة أصابع ابنتها وشدت عليها بقوة تحدق في عينيها بخاصتها المملؤة بالدموع ثم ابتلعت لعابها وهي تقول بارتجاف :
- يمكنكِ تعويضه. يمكنكِ تعويض نفسك كذلك!
حرّكت عينيها بدائرية تحاول إعادة بقية الدموع لمحبسها.
- ارفعيه للعرش يا ابنتي!

لم تهملها لحظة أخرى بل ضمتها بقوة مرة أخيرة قبل أن تنسحب من الغرفة بسرعة؛ فلو بقيت لحظة واحدة أخرى ستخر باكية وربما ستخبرها بكل شيء.

وفي المقابل، تجمدت إيرين حيث هي واهتز ذراعها عدة مرات بجوار خِصرها ثم اتزن لتُتمتم :
- أرفعه للعرش؟

•••

لم تدرك قبل الآن أنها كانت غبية فوق العادة. يا لكثرة ما قرأت خلال سنوات عمرها المُطواة ويا لقلة ما فهمت للأسف. يمارس الأدب دوره الجليل في تحذيرنا بأقلام التي يسن بها الكُتاب سنة الحياة مناطحينها بكل فخر.

ثم تأتي هي وبصفعة تهد أنفتهم وتصفعهم بأيدينا وبغباءنا وبفقدان بصيرتنا. نحن لا نفهم ما كتبوه، ولا نعي تحذيراتهم إلا عندما نسير في مستنقع الألم الذي وصفوه يوم علّقوا حبل المشنقة لأحد أبطال رواياتهم.

إجحافًا اتهمناهم بالسادية تجاه أبطالهم، فكانوا - على صحفات الورق البيضاء - يقتلونهم حتى لا تُراق دماءنا نحن في أرض الواقع.

اليوم فقط فهمت ما عنته تلك الكاتبة حينما خطت بألم « ينتهي عامي مرتين، الثانية بعدم مجيئك. »

الآن فقط فهمت ما قصدته، وتلوع قلبها بعدم مجيئه. ليس عامها فقط الذي انتهى مرتين بكل هذا الألم بل خلال هذا اليوم المشؤوم انتهت كل ساعة وكل ثانية مرتين كشفرتي مقصلة حول عنقها لأنه لم يأتي.

في النهاية هو رجل الخطوة الثانية وكان لزامًا عليها عن البقاء حيث هي وتلقي ضربات القدر أن تأخذ طريقها إليه ملقيةً، مرة أخرى، بكبرياءها عرض الحائط!

خطواتها طوت الأرض تحتها تبحث عنه بعينيها المشتاقة فلم تجده بأي مكان قريب. تنهدت وهي تقترب من حيز وقوف تشانيول. أمام إحدى بوابات القصر كان يقف بهدوء كما العادة يحرس المكان فانحنى لها بخفة وأعاد نظره للزاوية التي كان بها ولذا عضّت جانب شفتها وتمتمت :
- تشانيول.

حوّل انتباهه مرة أخرى ليشمل مساحة وجهها الصغير حليبي البشرة ففركت أصابعها ببعضهم متسائلة.
- أين بيكاسو؟
قطب حاجبيه بتعجب، فضمت شفتيها لوهلة تضغطهم ببعض ثم وضحت.
- أعني بيكهيون!

انحلت عقدة جبينه ثم أشار بإصبعه نحو الباب الخارجي للقصر :
- إنه يحرس بوابة الحديقة.

أومأت بنظرة امتنان ثم رفعت ذيل ثوب نومها الخفيف الذي غطته بعباءتها الرمادية وقلبت قلنسوتها فوق رأسها وتقدمت. مرّ اليوم بسرعة على القصر وعلى شرف انتظاره كان بطيئًا بشكل خانق حتى حلّ الليل وحملتها نسمات أنفاسه حتى هنا.

حينما غادرت مبنى القصر للحديقة احتوى أخيرًا جسدها نفس الحيز معه حيث لمحت ظهره عن بُعد.
عبأت رئتيها بالهواء ورفعت رأسها للسماء الداكنة تحدق في القمر المضيء برفقة نجومه. لا يمكن لهذا القمر أن يضيء بدونهم. والآن فقط، بعد ذبول عينيها طوال، اليوم أدركت أنه مميز تمامًا كتلك النجوم حيث لن تضيء أبدًا بدونه!

النسيم كان قويًا للغاية. حرك أوراق الأشجار ومالت الزهور في مواجهته أما هو بكبرياء حزنه رفض الانحناء مغطيًا جرحه بصندوق زجاجي؛ لكي لا يرتعش وجعًا.

خصلات شعره السوداء كانت الشيء الوحيد الذي تحرك مواتيًا ضرب النسيم فابتسمت غصبًا وتقدمت كي تُشبع رغبتها بملامسة تلك الخصلات الناعمة. وعلى بعد خطوة، احتارت للحظة. أعليها أن تطوق خصره أم فقط تلاطف تلك الشعرات؟

رجحت التقدم بهدوء.

توازت معه لتقف بجواره دون النظر له. في حين تنهد هو بخفة قبل أن يدحرج عدسته بزاوية حتى شمل نظره مرأها.
شعرت بنظراته فحركت وجهها كاملًا لتواجهه. هذه المرة كان وجهه صافٍ تمامًا. بلا قناع، بلا كحل وبلا أي كذبات!

شتان بين كذبه وصدقه. هذا الوجه حينما يكون صادقًا ومترفعًا عن ثوب الزينة يكون أجمل. أكثر براءة. أكثر هدوءًا. أعينه طفولية بها لمعة اعتادت أن تغرق بها تارة وترسو عند شطآنها تارة أخرى. ملامحه صافية وبشرته نظيفة.

عينه الحمراء وشقيقتها السوداء جعلاها تشعر بالانتماء له. هو وهي يحملان نفس الصفة. هي وهو متشابهان!
صحيح أن بقية المحاربين أيضًا يحملون نفس الأعين لكنها همشتهم الآن.

استمرت تنظر له وارتدى لسانه الصمت كالعادة يحرّك عدستيه في شتى بقاع وجهها وحسب لذلك قضمت شفتها ودون أن تعرف السبب توردت وجنتيها، تمتمت :
- هل تحفظ ملامحي لرسم لوحة؟

ارتفع ركن شفته لأعلى بضع إنشات بابتسامة ساخرة ثم حطم سلاسل الصمت ومنح لأحرفه الحرية - لتلك الليلة - ليقول بهدوء يظهر بحتهُ بشكل أعمق :
- أنا لن أرسمكِ أبدًا!

- لماذا؟ ألستُ أستحق إضاعة وقتك الثمين؟
سألت بسخريّة متوّجعة.

تجهمت ملامحه والتفت يعيد نظره للأمام ثم ردّ بذات الهدوء :
- هناك ديانة لأهل الشرق تحرم تجسيد الإله وأنا أسير بمبدأهم. الجمال المطلق لا يُجسد!

ارتفع حاجباها عن مستواهما الطبيعي وعضت وجنتها من الداخل. احمرار الخجل يصبغ وجنتيها أكثر لذلك فورًا همّت تنظفت حلقها عدة مرات لتتساءل :
- لطالما تساءلتُ منذ معرفة الحقيقة، كيف لمحارب من جنس مصاصي الدماء أن يهوى الرسم؟

- في العالم الموازي أمضيت الكثير من السنوات بملل وكان عليّ إشغال حيز فراغي!

أطبق جفنيه بألم. بعض الحقائق تخرج ناقصة! ليس هذا كل شيء. تشجعت هي أكثر. ليس فضولًا للمعرفة بقدر رغبتها في سماع صوته وفي الحصول ولو لمرة على أطول فترة حديث معه. أكملت تساؤلاتها :
- كيف تعلّمت الرسم؟

- كانت والدتي تملك الموهبة. أي أنها وراثية.

- هل لديك أم؟

سألت بدهشة فالتف يرمقها بتعجب للحظة قبل أن يعود لذات الابتسامة الجانبية الساخرة :
- كيف أتيت للعالم إن لم يكن لي أم؟

هناك دراسة أجريت في العالم الموازي تثبت أن الشخص يفقد نصف ذكاءه حينما يكون لجوار من يحب والآن فقط تأكدت من صحة هذه الدراسة. قضمت شفتها مرة أخرى وابتسمت بتوتر لكنها ازدردت لعابها وقالت مجددًا :
- إذن أين هي والدتك؟ هل يمكنني أن أراها؟

- لا تتحدثي بشأنها أبدًا!
أكد بصرامة مخيفة نهاية جملته.

أعينه كانت حادة فوق العادة وهو يدحرجها على شتى بقاع وجهها. ارتعش صدغها ولم تكف عن الرمش بذهول لوهلة. ابتلعت غصتها بصعوبة وخسفت نظرها تحاول تجنب نظرته المرعبة تلك! عدستاه تحولتا كاملة إلى الأحمر القاني للحظة قبل أن تعود اليمنى سوداء قاتمة.

فركت أصابعها في بعضهم بقوة وتوقفت الدموع عند رصيف جفنيها لكنها أبت أن يتخطوا هذا الحد الفاصل على الأقل، أمامهُ!

التفت لتغادر بصمت فقبض على ذراعها فورًا وجذبها للخلف برفق لذلك رفعت رأسها ترمقه بغضب ودفعت يده :
- دعني!

أبعدت يده عنها وأكملت خطواتها المبتعدة عن مساحة تواجدهما سويةً.

يوم حبهما الأول؟

ابتسمت بسخرية والدموع الساخنة شأن حمم ملتهبة لسعت قرنيتها. منذ الصباح هو لم يمنحها غير الألم، غير الدموع، وكبرياء ينازع إراقته عن آخره. لقد داس كبرياءها كما تدوس هي عشب هذه الحديقة في طريق عودتها للقصر.

سرعته أفادته حقًا مرات كثيرة من قبل لكنه متأكد أن تلك المرة هي أفضلهم. حيث توقف أمامها وثبت كفه عند كتفها الأيسر ليعيق حركتها كذلك رفع أصابع يده الأخرى وشرع يمسح دموعها متمتمًا :
- أنا أعتذر. لم أقصد التحدث بتلك الفظاظة!

- أنت طوال الوقت لا تفعل أي شيء سوى هذا. أنت فقط تؤلمني، بيكهيون!

- أنا حقًا آسف.

- هل تعلم ما هو اليوم؟ بربك إنه يومنّا الأول.

انهمرت دموعها ساخنة فانسكبت فوق أصابعه تشتكي له جفاءه وأكملت.
- يا لها من ذكريات مميزة سأحتفظ بها للأبد.
دفعت يده.
- أرجوك ابتعد!

شدت حافة القلنسوة لتخفي وجهها بها؛ علّها تستر دموعها وكل انكساراتها أمامه فأعاد إمساك مرفقها يعيق تحركها وابتلع لعابه ليقول بهدوء :
- لنحظى بموعد أول مميز إذن؟

رفعت رأسها تحدق فيه برموش مبتلة فقضم شفته ومسح كل تلك الدموع بأكفه واستمرت هي تنظر له لكن اتساع أعينها أعاق إكمال تواصلهما حينما ثبت إحدى ذراعيه عند ظهرها والآخر أسفل فخذيها ليحملها قريبة منه، أقرب له من أي شيء!

تعلقت بعنقه وهي تحدق فيه من هذا القرب وأعينها المتسعة لم ترمش ولو لمرة. خفقاتها فقدت لحنها وانسكب مخدرٌ فوق كل جروحها. في تلك اللحظة ودت لو تقول ذات الجملة التي صرخ بها رجلٌ يومًا « قف أيها الزمن ما أجملك! »

ربما كان كاتب، ربما كان شاعر. لم تهتم! سحقًا لأي شيء الآن أمام هيبة قربه وجلال حضوره الطاغي. تلك الأعين. هاتان البلورتان نعيمها الأروع. على شرف بريقهما خلعت عنها العقل.

هو وبكل ما فيه التعريف الكامل لمفهوم الرعشة. رعشة الحب تأتيها دومًا في قربه بأي طريقة كانت. حتى لو مجرد التحام أنفاس. أنفاسٍ وحسب!

- لم أسألك بشأن أي شيء ولم أستفسر عن الذاكرة الممسوحة أو حديث والدتي الغريب.

نبرتها المخنوقة بالغنة لحنت سمفونية تلك الأحرف الحزينة.

- أردت أقله الاحتفاظ بحطام باقي اليوم سعيدًا كذكرى!

- الآن يبدأ يومنّا الأول. نحن فقط من نقرر مواعيد صبحاتنا وليست الشمس من تفعل!

تنهدت برعشة سكنت حتى أنفاسها. شددت ذراعيها حول عنقه ثم غمرت وجهها فيه لتستنشق عبقه ورائحته الرجولية تَشِم كل خلية فيها بختم ملكية صامت. لم يقل لها يومًا أنها ملكه لكن أنفاسه فعلت. رائحته فعلت. ولمساته ستفعل!

______

انتهى 👀

تقييمكم للشابتر من 10 ؟

أكتر جزء عجبكم في الشابتر ؟

تفتكروا ايه اللي بيكهيون هيقوله للملكة؟ المخرج السايكو ابن المجنونة ده هيجيب الكلام اللي هيقوله ولا هيكون مبهم؟

موقف الاتنين الصحاب كان نوعا ما بيرمز للي حصل لبيكهيون ويونجي؟ رأيكم؟ يونجي هيفكر تاني بسببه؟

ايرين كل شوية بتتحول للاسوأ، هتوصل لايه؟

بيكهيون هيستحمل تهديداتها لامتى؟

اخر مشهد، رأيكم فيه؟ تطلعوا للامجاد في الشابتر الجاي :v

متنسوش الفوت والكومنت ^^

Continue Reading

You'll Also Like

61K 4K 41
في عالم حيث كان يعيش البشر، انقسمت الاصناف لثلاث أنواع.. الألفا.. الأوميغا و البشر... هيمن صنف الألفا على باقي الأصناف وأصبح أندرهم، كانت الأوميغا ت...
27.4K 3.3K 6
لقد ظَنّ إنها النِهاية ..... ولكنها لم تكن سوى البِداية . رواية مثلية. تايكوك ..... Taekook جونغكوك توب ...... jk top حمل رجال ....... Mpreg فرق...
7K 1K 4
"مِن مَن تهرب القطة الصغيرة؟" توقفت لوڤينا عن السير لتنظر خلفها بحدة عندما تقابلت عينيها مع أعين إبن جيون و الذي يكون من العائلة المعادية لعائلتها عا...
58.4K 3.7K 13
أَنا مُجَرَّدُ فَتاَة وُلِدتُ بِجَماَلٍ كَجَماَلِ البَدْرِ حيِنَ يَكْتَمِل لِأَقَعَ فيِ جُحْرِ المَلِك جيُون جوُنْغْكوُك المَّلِك الذِي يُقَدِّسُ ا...