بِيكَاسّو || A war of blood

Af SAYOPICA

221K 17.4K 24K

أخبرتني ذاتَ مساء: - كلماتُنا قضيّة تحتاجُ مرافعة ومحامٍ، الأشخاصُ لا يكفون عن تأويلها، وبطريقةٍ ما، نصبحُ مُ... Mere

٠؛ افتِتاحيّةْ.
الفِيلمُ التِّشويقي.
١؛ حَليبٌ وأعينٌ نَابِضةْ.
٢؛ لِقاءُ كَانونَ الأوّل.
٣؛ مَملكةُ المُحاربينَ السِتة.
٤؛ فِقدانُ الفَردوسْ.
٥؛ الرَّحيلُ الأخير.
٦؛ حَربٌ وطِفلةْ.
٧؛ صيّادٌ ورٍسالةْ.
٨؛ بِمكانٍ ما في عَينيكَ.
٩؛ التَّحرُش بِالحُبْ.
١٠؛ العِملاقُ ذو الغمّازة.
١١؛ عَودةُ ورِيثة العَرش.
١٢؛ عَليكِ اللّهفةْ.
١٣؛ صَديقينْ وخطُ دَماءْ.
١٤؛ مَثلُ النّار أنتِ.
١٦؛ ثَأرُ أنوثةٍ متوّجِعةْ.
١٧؛ في غَيّاهِب السِجن.
١٨؛ لَيس حُلمًا شَارِدًا.
١٩؛ الحُب وَعكةٌ صِحيّةْ.
٢٠؛ اسطَبلُ الخِيول.
٢١؛ رَقصةٌ في جَوفِ اللّيل.
٢٢؛ أنتَ ليّ أو فلتَموتْ.
٢٣؛ مَلاكٌ بالأبيّضْ.
٢٤؛ لَيلةٌ مِنَ الحُب.
٢٥؛ سأجِدُكَ؛ لألعبَ لُعبَتي.
٢٦؛ رجلٌ يَضجُ بالصَمتْ.
٢٧؛ ثَوبُ زِفافٍ أحمَرْ.
المَوسِمُ الثَّاني.
سِيماؤهمْ، وأشيَّاءٌ أخرىٰ.
الذِّكرى السنويّة الثَّانيةْ.
٢٨؛ عِقدٌ وذاكِرةُ جَسَدْ.
٢٩؛ الأبيّضُ والأسوَّد بِداخلي.
٣٠؛ لها حُزنٌ يشبه كارمينا.

١٥؛ مِن رَحِم الألمِ رسّام.

4.7K 482 634
Af SAYOPICA

السلام عليكنّ 💖

إبداعات (>^ω^<)

_


اختار الألم موطئ قلبه؛ ليحط رحاله. و أقبلت قافلته العظيمة تحمل بضائع من وجع، وأهدت الحياة لرجل من زمنٍ غابر لا يرتدي الساعات، ولا يضع العطور الباريسية ولا البذلات السوداء الرسمية، صمتًا مهيب.

أهدته الصمت ليعوض عنه كل تلك المتع، وكل تلك الكماليات التي تمنح الرجال شيء من جاذبية مزيفة. هو لم يحب الساعات على كلٍ!

التحف الصبر، وتوشح بالصمت وعقد قرانه على الحزن، وفي عينيه أشرقت الذاكرة.

يقولون: أن المتألمين هم أمهر الرسامين والكُتاب. وأننا لا نكتب ولا نرسم إلا في هذا الوقت الذي نستطيع في رحابه أن نلتفت للخلف ونشاهد طريقًا طويلًا مليئًا بالخيبات والانكسارات طويناه خلفنا في رحلة تقدمنا في الحياة وأننا نحكي عنّا عندما نستطيع لمس جروحنا بقلم ولا نتألم، ولاستحالة أمر كهذا نحن نكتب ونرسم ولا نحكي!

العباقرة، ليسو سوى حفنة من وجع. والوجع، أعظم أساتذة مدرسة الحياة، والدنيا أعهر داعية.

ولم تفدهُ عبقريته في شيء وهو يتهاوى سريعًا ليسقط فيها ويؤمن بها ثم يؤمن باستحالة كونهما معًا. دومًا كان شخصًا يسهل إرضاؤه، ويقبل بأقل القليل لكن اليوم فقط ولأول مرة شعر بالقنوط وبالخذلان، وبأنه يوّد حقًا الاعتراض. يود الصراخ رافضًا، ولو أن يقف ندًا للحياة يناطحها ويكسر شوكتها، قبل أن تكسر هي عظامه.

ولكن أوليست مكسورة عن آخرها بالفعل؟ ألم تقيده الحياة بالفعل وتغصبه بكل جبروت على الركوع، على السجود حتى.

أسدل جفنيه على الصمت و.. الألم! وأنزل غصته كلهب استعرت أحشاؤه من الداخل بسببه. ذراعيها اللذان يحيطان خصره يقيدان حركته ويشلان كل حواسه شدا عليه أكثر ودموعها الساخنة فرّت سريعة لتلامس جلد ظهره المكشوف.

تصطك أسنانها ببعضها تحاول بقوة منع صوت البكاء. تحس بأن تلك المعركة أيضًا ستخرج منها خاسرة وأنها ستفقد شيئًا منها على يديه ولن يعود لمكانه أبدًا.

سيمفونيّة زوربا الراقصة تعلمكَ كيف تخلع عنكَ الوجع، تجعلكَ تقسم ألا تبكي منه وأن ترقص عليه كرقص القبور. جعلت توًا حواس بيكاسو كلها ترقص، لا لنفض الوجع بقدر ما كانت ترقص لهول الوجع!

أحيانًا فعل النقيض يبرز البواطن، كأن تنفجر ضاحكًا لأن أطرافك تحترق. كأن تغني لأنك تموت. كأن تشيع ميت بتصفيق!

تلك الأفعال تبرز الألم. الألم الذي يقود للجنون، والجنون الذي يقود للعبقرية!

لم يرد أن يكون رسامًا عبقريًا مطلقًا على حساب الوجع!

- لا تذهب فأنت لي!

أنا وأنفاسي والعالم من حولي ملكٌ لكِ، وفي بعض الأحيان نحن لا نُمنح ما هو ملك لنّا لا لأي شيء سوى أن الحياة أرادت تجربة نوع جديد من الحرمان علينا. أن تُحرم من حقوقك أفظع من أن تحرم من أي شيء عداها.

كلما فتشت الحياة في جعبتها تجد دومًا الأفظع لتقديمه لنا.

لا تظن أبدًا أن هذا أسوأ شيء سيحدث لك فهناك دومًا أسوأ الأسوأ!

هبطت غصته مَرة أخرى مُرة وعلقمية في حلقه، ثم حبس أنفاسه بداخل صدره يغمض عينيه بلا حراك ودون أن ينبس ببنت شفة وعلى لسانه تتصارع الكلمات لكي تخرج
وتقود حربها بلا عتاد وبالتأكيد حُسِمت النتيجة بالخسارة فخسر الكلام أمام رهبة الصمت وأسدل ستاره على مسرح الألم.

رفع أصابعه المرتعشة ولمس كفيها الناعمين ثم فك أسرها ونهض!

رفعت كفها تحدق به، صدرها يعلو ويهبط بعنف تكاد عظامها أن تتحطم. اختنقت بالهواء وكأنه مليء بثاني أوكسيد الكربون وحسب ولا وجود للأكسجين؛ فقد سحبه من مجرى رئتيها حينما سحب نفسه منها!

أغمضت عينيها تحس باحتراق في قرنيتها. هذا الألم في زاوية صدرها لا يحتمل. ها هي مجددًا تخسر ما لا تذكر أنها امتلكته يومًا، تخسر ما لا تعرف ماهيته، وتبكي حواسها صمت هذا الرجل، ثم تعبث الأحرف المبهمة والهمسات المشوهة بخلايا قلبها وتنغزهُ بنصول النسيان، ولازالت الذاكرة في سبات.

- أتعلم؟ تلك الغصة تخنقني. لكنها ليست في حلقي. تلك الغصة في قلبي، وبكاؤه بات يزعجني، صوت الأنين في داخلي يؤلم خلايا دماغي!

عبأ رئتيه بالهواء حتى كادت حويصلاته الهوائية أن تنفجر قبل أن يزفرها يود لو أن تتزعزع صخرة الألم عن صدره ولم تفعل. التف ينظر لها بأعين غائرة وتمتم :
- سأخبر الطبيب.

ابتسمت بسخرية، ورويدًا رويدًا تحولت تلك الابتسامة الواهنة لضحكة مليئة بالدموع. رفعت وجهها تحرك عدستها بدائرية تحاول أسر المالح ثم عادت تنظر له وتمتمت :
- أخبرني فقط من تكون أنت! قل من تكون فقط ولن أطلب منك المزيد.

- بيون بيكهيون، خادمكِ المطيع مولاتي.

انزوت على نفسها تضم جسدها وكذلك قبضت على زاوية صدرها بأصابعها واجهشت في البكاء :
- لا أريد سماع هذا! أنا لا أريد سماع هذا أبدًا. أنت تؤلمني، وجودك يؤلمني، رائحتك تؤلمني، وعيناك تؤلمني. كل ما يتعلق بك يؤلمني!
ارتعشت فرائصها وهي تدفن رأسها عميقًا بين ذراعيها المعقودان فوق قدميها التي ضمتها لصدرها :
- ذلك البريق في عينيك يقودني للجنون. أرى عالمي بين جفنيك منعكس عند عدستيك، وأرى نفسي فيك وأشعر بك في كل ما فيّ. ثم أبحث عنك فأجد كل ما يتدرج تحت قائمة اسمك مشوش وكأنه فيلم قديم تم محيه! كل ما أجده فقط يكون في قلبي، بين أنين بكاءه وكأنه وحده من يذكرك. وحده من يعرف من تكون!!!

ارتعشت كفه، فأخفاها سريعًا وراء ظهره يعض شفته بقسوة يحاول الوقوف. كل ما يحدث حوله يجعل من أقصى طموحه أن يقدر فقط على الوقوف، ألا يسقط حقيقة ويكفي كل سقطات قلبه الفائتة.

في حلم أهوج هارب، رأى سعادة يتقاسمها معها وحدهما وفتح عينيه على مرارة اقتسمها الاثنان بالعدل، فحصل هو على الجزء الأكبر. قمة العدل حقًا!

وبين ذهاب وعودة، تجمد في محله تتقدم يساره خطوة وترجعه اليمنى ألف! ابتلع شيئًا من لعابه ليهمس بحشرجة :
- هلّا توقفتِ عن البكاء؟

- أنقذني من اللاشيء الذي أتحول له!

رفعت رأسها تتوسله بحروفها وأعينها غارقة في الدموع، فشعر وكأن سلاسل من فولاذ تقيده وتسحبه نحوها بكل قوة لا قدرة له بها. فتحركت قدماه طواعية واقترب منها ومع كل خطوة يخطوها نحوها كانت المسافة تتسع بينهما أكثر.

لم تتمالك نفسها وهبطت عن السرير سريعًا لتثب نحوه. توقفت أمامه باكية ومرتجفة. رفعت كفيها وأمسكت بذراعيه تنظر له عميقًا في عينيه. وبين عينيها، في لمعة عدستيها رأى خطيئته الأعظم.

°°

- أنا آسف، أقسم لك أنا آسف!

أكمل دورة كاملة حوله مثبتًا كفه اليسرى فوق كتفه، ثم توقف خلفه تمامًا. حرك دماغه بخفة ليُطرقع فقرات عنقه ثم همس بجوار أذنه :
- لا تتأسف، كن رجلًا!

حرك أصابع كفه تلك على عنق الرجل - الذي حاول مرارًا ابتلاع لعابه وحبات العرق تتلامع في كل جنبات وجهه - بخفة ثم أسدلها برفق ليمسك بكف الرجل ويرفعه.

أطال التحديق في يده بأعين شاردة، وفورما ارتفعت شفاههُ جانبيًّا بابتسامة ساخرة كان قد انتزع إصبع الرجل بإحدى مخالبه.

والرجل صرخ ملء حنجرته وجسده المقيد يهتز فوق الكرسي. كذلك أعينه لا تتوقف عن ذرف الدموع وراح يصرخ :
- أنا آسف. أنا حقًا آسف أتوسل إليك. أرجوك!!

انتزع إصبعه الآخر وابتسم بهدوء. أنفاسه الملتهبة تصطدم بعنق الرجل من الخلف :
- هذه فقط البداية، قلت لك كن رجلًا. أم أنك رجلٌ فقط من الأسفل؟

°°

- قُل شيئًا!

توسلته بدموعها وبأنين داخلها الذي يحرق كل ذرات العقل في دماغها فأسدل جفنيه بإنهاك وطأطأ رأسه يدفع الأحرف دفعًا لتفر من شفتيه :
- مولاتي، أنّى لي أن أقول!

هزته بعنف ودموعها تتساقط بلا توقف ثم صرخت فيه :
- لا تقل مولاتي! لا تفعل بيكاسو.

" بيكاسو أتوسل لك ألا تفعل "

أجفلت. اترعش بؤبؤ عينيها وأرخت مفاصل أصابعها لتنزلق ببطء فسقطت يدها ليتحرر جسده. احتبست الدموع في عينيها وتراجعت خطوة واحدة للوراء؛ هذا الصوت في دماغها تحرر من الهمس الخافت فيها يقول فقط تلك الكلمات!

- لا تفعل ماذا؟

تساءلت بأحرف مرتجفة وهي تحدق فيه. لم تحد عنه بنظراتها وابتلع هو لعابه بصعوبة ثم التف بسرعة ليفر من هذه الغرفة.

لكنها كانت الأسرع حينما قبضت على معصمه بقوة وبشراسة لفت جسده لينظر لها تحدق فيه تنتظر ردًا لتلك الأحرف الغريبة التي قفزت لدماغها فجأة. بضع كلمات فقط. بضع كلمات بصوتها هي مليئة بالبكاء والحشرجة واحتراق الفؤاد جعلتها تتمسك به تريد حتمًا إجابة لسؤالها.

لو بقيّ لحظة واحدة فهل ستعود ذاكرتها؟ لمَ ستعود؟

هدأت تعابيره لوهلة وتقدم خطوتين ليُمسك بذراعيها من الأعلى فتقترب منه كذلك نظرت لكفيه ثم لعينيه التي ومضت باللون الأحمر ليتمتم كأنه يلقي تعويذة :
- ستنسين هذا حالًا!

سرت ذات اللمعة الحمراء في عينيها وعادت الهالة السوداء لتحيط بجسدها قبل أن تدفعه عنها بكل قوتها وتوقفت على بعد إنشات منه تضحك بلا تصديق فرمش هو بذهول بأعين متسعة. رفعت سبابتها لتشير عليه :
- هذا هو؟ هذا هو ما فعلتهُ لي! أنت محيت ذاكرتي؟

- إيـ إيرين!

تمتم بأحرف ثقيلة كأنها صخور جبلية ملتصقة بلسانه تمنع تحركه بطبيعية. وفي المقابل هدأت تلك الهالة واختفت فورًا مع عودة عينيها لطبيعتها ثم صاحت فيه أقوى :
- ما الذي نسيته؟ من أنت بيكهيون؟ قل لي من أنت!

- إيرين!

عاد ليتمتم باسمها فعضت شفتها وطأطأت رأسها للأسفل. اهتزازة جسدها العنيفة لم تختفي لو لوهلة ثم أتت أحرفها عميقة ومخيفة حدّ الرجفة :
- سأمهلك فرصة واحدة فقط! هي واحدة فقط بيون بيكهيون، لو أضعتها سأوصد حصوني في وجهك ولن تتسلقها ولو أفنيت عمرك كله في التسلق!

ألقت تهديدها ثم رفعت رأسها ورمقته بنظرة مرعبة قبل أن تنسحب لتغادر الغرفة وصفعت الباب وراءها.

وظلّ هو يحدق في الفراغ الخانق أمامه ثم سقط على ركبتيه أرضًا يلهث بقوة كأنه يحتضر.

•••

إلى الحزن مرة أخرى لا بارك الله فيك وأكسد تجارتك. وإلى الألم لتحل عليك اللعنة ويغرقك غضب الإله!

وإلى روحك بيكاسو سلامًا، لأجل خاطر انكسارك وتصدعات روحك أمنحك السلام قبلة على شغاف قلبك علّها تشفي جراحك وتسقي عطشك لشيء من فرح خاصم أيامك ولم ينبت بأرضك اليابسة.

في عينك تلألأ الوجع كنجمة، واختار شرفة روحك ليسدل ستارهُ الأسود ليحجب عنك ضوء الحياة وليقتنص منك كل فرص السعادة. أهديك الفردوس لو كنت إلهًا. فقط لو أكون إله!

حمل ما يفوق قدرته على التحمل ونهض بعد طول سقوط. التقط ملابسه العلوية وقناعه وغادر غرفته بصمت، يليق به تمامًا!

خطواته الواهنة كانت كغير عادته، فمهما تألم كان صامدًا وكان قويًا، وكان صمت حواسه يخفي انكساره. أما الآن ها هو يحمل مراسم تأبينه على وجهه ويسير بلا هوادة.

لو أنها لم تنقذه ولو أنها لم تبث فيه تلك القوة منها لكان حتى الآن يحترق ولذا فور أن مرّ بديو أعرض عنه ولم ينبس ببنت كلمة.

تنهد المحارب وأسرع خطواته ليقف أمامه ينظر له بتوتر فأشاح بيكهيون بنظره وكسر خط سيره لينحرف بعيدًا عن حيز وقوفه لذلك ركض سريعًا ليوقفه ممسكًا بكتفيه :
- اهدأ! هلّا فعلت؟ أنت أكثر من يعلم كم نخشى عليك.

تنهد باختناق وأنزل يدي ديو متمتمًا بنبرة مبحوحة :
- ديو من فضلك هلّا تركتني وحدي الآن؟

ابتلع غصته وضيق عينيه متسائلًا :
- أنت بخير؟

- مطلقًا لم أكن بخير!

ساوره القلق فورًا بشأن هيئة بيكاسو المكسورة وذاك الصوت الواهن فعاد ليسأل :
- الحروق عادت لتؤلمك؟

ابتسم بجانيبة وكذا طأطأ رأسه للأسفل فانسدلت غرته لتحجب عينه وتمتم :
- كل شيء يؤلمني حتى أنفاسي تؤلمني!

أزاحه بذراعه وأكمل طريقه للخارج بعدما وضع القناع على وجهه يخفي به ملامحه. دومًا ما نخفيه يكون أعظم!

ظلّ ديو يحدق بظهره حتى اختفى من مجال نظره فعضّ شفته بأسى ولم يعرف لمَ آلمه قلبه بسبب كلمات بيكهيون المبهمة.

خلال شروده اللحظي وضع لوهان كفه بخفة على كتفه متسائلًا :
- لمَ تقف هكذا؟

استدار ببطء ينظر له بأعينه الواسعة وشعره الأسود الناعم المرفوع لأعلى مظهرًا جبهته اللامعة وكذلك لمعت عدسته السوداء ببريق ضعيف قبل أن يقول :
- بيكهيون هيونغ ليس بخير!

- هل استفاق؟

- نعم فعل. يبدو أن قوى الأميرة ساعدته تمامًا لكنه مع ذلك لم يبدو بخير!

- أين ذهب؟

رفع سبابته مشيرًا للبوابة الكبيرة التي تطل على ساحة القصر الخارجية ويتمركز عندها بعض الحراس :
- خرج!

ربت لوهان على كتف الفتى عدّة مرات قبل أن يجر قدميه بخفة يسير بأنفة نحو الخارج بحثًا عنه.

وفي ساحة التدريب الواسعة المتصلة بالقصر الملكي وقف بيكهيون يحدق بتلك المجسمات المتحركة بواسطة التُرس وفي وسطها دوائر صغيرة كل واحدة بداخل الأخرى تصغرها ويبعد عنها مسافة مترات عديدة لم يتعب نفسه بحسابها.

عرج للطاولة الخشبية والتقط القوس وكنانة السهام ليثبتها وراء ظهره ثم استل سهمًا منها وشد به وتر القوس مطلقًا بتركيز.

الأجسام تتحرك لكن سهمه لم يُخطئ أبدًا دائرة. منذ مدة كبيرة لم يتدرب على الرماية ولهذا ظنّ حتمًا بأنه فقد شيئًا من مهارته ولكنه لم يفعل.

ابتسم بسخرية لكرم الحياة في إعطاءه المزيد من أسباب إلقاءه في الجحيم. بعدما طهره الملك شعر لأول مرة بأنه حقًا على قيد الحياة وأن عمره ذا قيمة، حتى تلك الليلة التي ارتكب فيها معصيته الأعظم!

هي معاهدة ما بينهم وبين الإله أبرموها جميعهم وعلى رأسهم الملك، فمات الملك طاهرًا لتهنأ روحه في الفردوس وهدأت أرواح المحاربين وحلّ السلام الداخلي على قلوبهم عداه!

أتت هي لتزعزع سلامه الداخلي ولتحرضه دون أن تعلم حتى على إسقاط وعده وتدنيس روحه، على الخطيئة. ومن يخلف وعده مع الله فله الجحيم وبئسًا كان مصيرا!

كلما تراءى له ما أقدمت يداه على فعله وسمع ذلك الصراخ والتوسل بالغفران أحس بأن أنسجة روحه تتهتك وصوت مهيب سجد قلبه من خيفته يتلو حكمًا عليه: لم تغفر فلا غفران لك عندنا.

اهتز جسده وأغلق دفاتر الذاكرة سريعًا ليعيدها لرفوفها العتيقة واستل سهمه بلوعة يسدده نحو الدائرة المتحركة يود إلقاء ذلك الوجع مع السهم الملتهب.

وفي أوج ما يحدث له انطلق سهم آخر ليصدم سهمه ويبعده عن الهدف ويستقر هو في منتصف الدائرة.

جعد ما بين حاجبيه فورًا والتف سريعًا ينظر بحدة لمن اقترف هذه الفعلة فقفزت جيآن من فوق السور الصغير الذي تقف عليه لتتطاير تنورتها القصيرة قبل أن تعود لتنسدل على فخذيها.

أنزلت يدها الممسكة بالقوس وتقدمت بفخر تهز رأسه لتبتعد خصلات شعرها القصير عن عينها الموشومة بالكحل الأسود - الفاتن - واقتربت بضع خطوات لتحدق فيه مبتسمة.

لم ينبس ببنت شفة وظل يرمقها بأعين فارغة واحدة منهما مخفية تحت القناع والأخرى حمراء قاتمة كالدم. استلت سهمًا آخر وسددته نحو الهدف فتحرك بلمح البصر ليتوقف في مسار السهم واستل خاصتهُ مطلقًا إياه.

تطاير اللهب من وراءه حقًا كأنه الجحيم المستعر قبل أن يخترق سهمها طوليًا ويقسمه لنصفين متساويان سقطا على الأرض باستكانة.

اتسعت عينها وكاد فمها أن يلامس الأرض لهول وسرعة ما حدث. فمن على الأرض له القدرة على أن يقسم سهمًا لنصفين طوليًا؟!
من على الأرض يستطيع فعل أمر كهذا، ليفعل هو!

سقط القوس من بين أصابعها ليصدر ضجة على الأرضية الصخرية قبل أن يهدأ الصدى ويلفح الهواء خصلات شعرها. ابتلعت لعابها بصعوبة وتمتمت بتلعثم :
- أنت. حقًا أنت مذهل!

ابتسم بجانبية وقال بهدوء :
- كيف لبشرية أن تكون ضمن المحاربين؟

ابتلعت لعابها عدة مرات لتتجاوز صدمتها ثم أرجعت خصلات شعرها قبل أن تقول :
- تبناني سيهون وقام بتدريبي أيضًا. هزمته في معركة فعينتني الملكة!

اهتز صدره بخفة مشيرًا لأنه يضحك بصمت. تحرك ببطء حتى توقف أمامها وهبط ليتناول القوس ومده لها :
- سيهون يقوم بتدريب الجيش لأنه أقوى المحاربين، هزمته أنتِ؟

قطبت حاجبيها وانتزعت القوس منه بغضب :
- أتسخر مني الآن؟

- صدقًا أنا أكره البشر. لمَ لا تموتون جميعًا؟

ألقى حروفه الناقمة قبل أن ينسحب من مجال نظرها وظلت تحدق في ظهره تكاد تحرقه لو كانت النظرات تبصق نارًا.

من الخلف امتدت يد وبعثرت خصلات شعرها برفق ورسم ابتسامة رقيقة على محياه الوسيم وهو يقول بهدوء :
- لا تعبثي معه جيآن فبيكهيون صعب المراس!

تلاشت تجاعيد حاجبيها وارتعش قلبها في جوف صدرها تحاول تمالك شيء من قوتها لكيلا تنهار. التفت بخفة وأنزل هو يده ينظر لها فحدقت به لوهلة قبل أن تبتسم بخفة وتوردت وجنتيها لتهمس :
- منذ فترة لم تعد تمسح على شعري!

مد شفته السفلية بلطف قبل أن يميل بعنقه نحو اليمين قليلًا وفك أسر ضحكة خافتة لمعت فوق وجهه وتلاطمت الأمواج في عينيه لتتراشق القطرات عليها فتغرق أعمق!

تساءل :
- إذن هل يعجبكِ الأمر؟

- يذكرني بالماضي، بدفء أحضانك.

- ظننت أنكِ تتحرشين بسيهون وحسب!

ضحكت غصبًا، ضحكٌ كالبكاء! وأخفضت رأسها تقول :
- بجديّة هذه المرّة ليس تحرشًا!

- تريدينني أن أفعلها دائمًا؟ لن يزعجكِ الأمر؟

- هدوءك آسر!

قطب حاجبيه بتعجب ثم ضم شفتيه معًا وسحبهما لداخل فمه متسائلًا :
- حقًا؟

سحبت جسدها حتى طرف السور وتقعدت الأرض لتسند ظهرها له ثم ضربت على الأرض بجوارها مرتين تدعوه للجلوس. فعل كما طلبت ببساطة ونظر لها عن قرب لتقول بأعين لامعة تحدق في السماء الصافية فوقهما :
- في بعض الأحيان كنت أراك عظيمًا والآن أنا متأكدة أنك أعظم الرجال!

ضحك بهدوء وضرب جانب رأسها بإصبعه بخفة :
- توقفي عن المزاح!

لفّت عنقها تنظر له بصدق :
- ولكن أنا لا أمزح!

جعد ما بين حاجبيه واختفت الابتسامة لتحل محلها قسمات وجهه الجدية متسائِلًا بحسم :
- ماذا أكون بالنسبة لكِ؟

باغتها بسؤال لم تتوقع أن يخرج من عناق شفتيه مطلقًا. أثقل الصمت لسانها وظلت تحدق فيه طويلًا وما بين رغبة وخوف عبرت الأحرف مجرى جوفها ليقتطفها عن شفتيها :
- الكثير. أنت تعني لي الكثير!

- وأنتِ تعنين لي كل شيء!

اتسعت أعينها حتى كادت أن تغادر مقلتها كذلك ارتجف حنكها وكفيها فضغطت على إحداهما بالآخر. نهض هو على قدميه وقبل أن يتحرك قيد أنملة قبضت على معصمه تعيق حركته ونهضت فورًا :
- ماذا تعني بكل شيء؟

أبعد كفها ورفع خاصته ليبعثر شعرها مجددًا ثم منحها ابتسامة خاصة بلوهان وحسب، خاصة برجل أعجزت حكمته الرجال وابتعد ببطء عن مجال عينيها فشعرت وكأن روحها تموت وتحيا مع كل نفس يندفع بعنفوان في رئتيها.

•••

بهدوء يشبه جمالها أخذت أصابعها تتحرك بخفة وهي تحاول إفساد تعانق جفنيها واسترداد شيء من وعيها المفقود. حرّك يده بخفة وقبض على كفها بأصابعه يربت فوقه وهمس :
- عاد وعيكِ؟

فتحت عينيها تمامًا تحدق في سقف الغرفة واستعارت من الحياة بضعة لحظات حتى تعي تمامًا حقيقة ماحدث ولما اكتمل وعيها انتفضت لتعتدل جالسة فوق السرير.

حركت زاوية عينيها تحدق فيه - هو الذي خلع عنه هذا الزي المريب - وابتلعت لعابها بصعوبة تتنفس بسرعة للغاية.

شدّ على كفها بين أنامله وابتسم ليضرب جبهتها بإصبعه :
- جبانة! كنت أنا الشخص المخيف الذي رأيته.

انكمشت ملامحها وبدت وكأنها على وشك البكاء عندما رفعت يدها تخفي عينيها كالأطفال. فرمش بذهول وأبعد يده فورًا ليربت على ظهرها وقبل أن ينبس ببنت شفة أمسكت كفه لتكتب في داخله

" لقد كدت أموت من الخوف "

حركة إصبعها الخفيفة بداخل باطن كفه سببت له قشعريرة فريدة ليست في جسده بقدرما كانت في قلبه!

ابتلع لعابه وهو يتهجى أحرفها مكونًا الجملة التي أرادت قولها وقرأها بصوتٍ عالٍ. عضّ شفته السفلية قبل أن يضمها بلطف هي الأخرى بداخل فمه وهمس بأنين طفولي :
- أعتذر! حقًا لم أقصد إخافتكِ.

كانت كفه لاتزال بين يديها وهي تنظر له وفي عينيها شردت الدموع. فعادت لتكتب

" لا ترتدي هذا الشيء مجددًا. أنت هكذا أجمل "

توردت وجنته وظل محدقًا بها لوهلة قبل أن ينفخ خديه ويشيح بوجهه عنها ينظر في الفراغ. حاول سحب يده ببطء وبعثر خصلات شعره ثم عاد ينظر لها وهو يبتسم ببلاهة :
- آه! أنتِ أيضًا جميلة.

ابتسمت بلطف وأخفت وجهها بين كفيها فأطلق ضحكة خافتة على مظهرها اللطيف لتُبعِد إصبعين فقط تنظر له من خلفهما لتبدو حقًا كالجرو الصغير.

ولم يمنع نفسه وقتها من إبعاد كفيها - غصبًا - عن وجهها وهي تنظر له بدهشة سرعان ما تلاشت حينما قبض على وجنتيها يجعدهما لها وهتف :
- لطيفة كالكلب الصغير!

جعدت ما بين حاجبيها بغضب وهي تمد شفتها السفلية. نظرتها التي رمتها في وجهه كانت كمن تقول

" أتنعتني بالكلب؟ "

ضحك أكثر واستمر في تجعيد وجنتيها أقوى وهو يقول من وسط ابتسامته الواسعة على نحوٍ ساحر :
- أيــــقـــــــوووو!

حاولت التملص من قبضته وهي تدفع الغطاء بقدمها ولما لم تفلح قبضت على شعره الكثيف ثم جذبته بكل قوتها.

صرخ بطفولية وترك وجنتيها أخيرًا مغمضًا إحدى عينيه من الألم. عندها فقط تركته وقفزت سريعًا من فوق السرير لتفر من الغرفة وهي تضحك بخفة. ضربت خديها المتوردان بكفي يديها وخلفها كان هو لايزال فوق السرير يرتب خصلات شعره التي تبعثرت بسبب أصابعها وتمتم :
- هي حقًا تعجبني!

•••

جرّت جيآن قدميها بأعين شاردة تحدق في الطريق أمامها ولا تراه؛ كلماته أسرت دماغها في حيز تفكيره وحده ولا تعرف كيف عليها ترجمة ما قال.

أعليها أن تفرح لكونها كل شيء بالنسبة له كما وضح أم تحزن لأنه غادر دون أن يقول ولو حرفًا آخر يثبت صحة ما تفكر فيه. هل هو يحمل لها شيئًا ما في داخل قلبه حقًا؟

أعليها أن تسأله مجددًا أم تننظر منه اعتراف شارد ومباغت كهذا الذي صدمها به وألقاه في وجهها كتسديدة كرة مباغتة بعدما انتهت اللعبة!

- هيه! فيما أنتِ شاردة؟

تساءل تشانيول بتعجب وهو ينظر لها تلج للقصر من البوابة الضخمة. سارت في خط مستقيم دون توقف حتى كادت تصطدم بالحائط أمامها فتحرك فورًا ووضع كف يده بين جبينها والحائط قبل أن تصطدم.

- أوه!

هتفت أخيرًا بعدما خرجت من دوامة أفكارها تلك. أسدل كف يده بجوار خصره واعتدلت هي تحدق فيه ترمش مرة بعد أخرى :
- ما الذي حدث؟

- هل أنتِ ثملة؟ كدتِ تصطدمين بالحائط!

عبأت رئتيها بكمية كبيرة من الهواء ولازالت تحملق فيه ثم أخيرًا ابتسمت ببلاهة وتحركت بضع خطوات لتقترب منه فلم يعد يفصلهما ولو إنش واحد.

رفع حاجبه بتعجب وما كاد يتحدث حتى تعلقت بعنقه لتحتضنه بقوة بين ذراعيها وهي تضرب ظهره بقبضتها :
- آآآه! أشعر بالسعادة وبالرغبة في البكاء. إنها مشاعر مجنونة حقًا لم يسبق وأن أحسست بها إلا خلال دورتي الشهرية!

اتسعت أعين تشانيول واحمرت أذناه. ابتلع لعابه بصعوبة ورفع كفيه فورًا بجوار جسده حينما وقع نظره على أعين سيهون الغاضبة وكأنه يعلن عن براءته من هذا الاحتضان ثم صرّح بسرعة :
- أقسم لك لم أمسسها!

في المقابل عض لاي الذي أطل من البوابة على شفته يحاول كتم ضحكاته.

بسرعة اقترب سيهون ليجذب جيآن من شعرها كي ينتزعها من حضن تشانيول صارخًا فيها :
- هل تسيرين في الأنحاء وتتحدثين في أمورك الشخصية بهذه السهولة!

تأوهت وهي تمد يدها تحاول ضرب كفه بطفولية ليحرر شعرها من قبضته القوية فضربت الهواء بقدمها أيضًا وهي تصيح :
- لم أفعل شيئًا اتركنـ ..

استمرت تصرخ وهي مغمضة الأعين، فترك شعرها فجأة لتبتلع باقي أحرفها عندما سقطت على الأرض. اعتدلت بصعوبة وهي تتأوه تتحسس مكان السقطة فمال لاي برأسه قليلًا وأطلق صافرة طويلة وهو يضحك.

لذا تحرك سيهون فورًا ليقف أمامها يحجبها عن المحاربين الآخرين وصرخ به :
- لمَ لا تضع أعينك على حراسة البوابات عوضًا عن التسكع في القصر والتحرش بتلك الفاسقة؟

شُل لسانه عن إكمال الكلمة فور أن ارتفعت حرارته وصبغ الأحمر القاني وجهه كاملًا. صرخ وتحرك فورًا ليلتصق بالحائط يحدق فيها بصدمة هي التي وقفت تضحك ببلاهة. نفضت كفيها في بعضها وهتفت باعتزاز :
- حقًا أنا محظوظة لأنني أمتلك أب بهذه الإمكانيات!

أمسك تشانيول معدته ولم يقوَ على الوقوف فسقط على ركبتيه وانفجر ضاحكًا عندما وعى حقيقة ما فعلته جيآن بسيهون من الخلف. ولم تمر وهلة حتى سقط لاي بجواره يشاركه الضحك.

- هل تحرشتِ بسيهون للتو؟

تساءلت إيرين بذهول وأعين متسعة لا تكاد تصدق ما ترى وهي تشير بإصبعها نحو سيهون الملتصق بالحائط يكاد يتبخر من الخجل لقدوم الأميرة في موقف كهذا. لذا تحرك فورًا ليختفي من المكان مخلفًا وراءه ذرات غبار رمادية.

حاول المحاربان تمالك نفسيهما والنهوض عن الأرضية ليجثيا أمامها لكنهما عجزا ولم يكفا مطلقًا عن الضحك حتى احمرّ وجهيهما وكان تشانيول هو أول من استطاع أخيرًا تمالك نفسه لينحني معتذرًا وصوته مبحوح من الضحك :
- أعتذر بشدة مولاتي!

رمشت بعينيها عدة مرات وهي تنقل بصرها بينه وبين جيآن التي تقف بطبيعية كأنها لم تفعل أي شيء على الإطلاق ثم تمتمت :
- هل من الطبيعي هنا أن تتحرش النساء بالرجال؟

نهض لاي على قدميه بصعوبة هو الآخر وهز رأسه بنفي قاطع :
- كلا ولكنها جيآن! هي معتادة على هذا الأمر بدافع المزاح.

- وااه!

رمشت بتعجب عدة مرات قبل أن تضحك بخفة وهي تهز رأسها بلا تصديق. فازدرد تشانيول لعابه متسائلًا :
- أردتِ شيئًا مولاتي؟

- نعم. أود الذهاب في جولة لمملكة البشر. أود رؤية كيف يبدون أيمكن؟

- بالتأكيد! لكِ ما تأمرين به.
صمت لحظة ثم أكمل :
- إذن سأرافقكِ!

حركت يديها بنفي قاطع وهي تشير لجيآن :
- سأذهب معها فلقد أصبحنا صديقتين. أليس كذلك؟

- بالطبع مولاتي هذا شرف لي!

كانت إيرين بالفعل ترتدي عباءة رمادية فوق ثوبها الملكي فرفعت القلنسوة على رأسها وسارت جيآن برفقتها بعدما حوّلت جُل ملامحها الهزلية لأخرى جدية وعميقة.

بعد مغادرتهما القصر بدقائق حوّل تشانيول نظره لـ لاي متسائلًا :
- ألن تعود للبوابات؟
- سأفعل بالتأكيد.
صمت وهلة ليتساءل :
- لم يعرف لوهان هيونغ كيف خرج مصاص الدماء الذي عثر عليه جونغكوك؟

- كلا لم يتوصل لأي شيء على الإطلاق! لذا كُن أكثر حذرًا.
صمت لحظة وأردف بابتسامة :
- فكرت توًا ماذا لو صادف مصاص دماء مولاتي الأميرة وجيآن؟

- ماذا!!!

أتى الصوت محملًا بفجعة من الخلف فالتف تشانيول يحدق في صاحب الصوت الذي ما كان إلا بيكاسو. رمش بتعجب :
- ماذا تقصد هيونغ؟

- أين الأميرة؟

صاح فيه بانفعال فجعّد حاجبيه وأعلن :
- ذهبت في جولة لمملكة البشر مع جيآن.

لمعت عينا بيكهيون بلون أحمر قاني مرعب وهو يصيح فيه بغضب :
- هل جننت تشانيول! كيف تسمح لها بالخروج وحدها؟

- ليست وحدها فجيآن برفقتها وهي قوية بالفعل.

- اللعنة عليكما أنتما الاثنان! وهل ستتصدى تلك البشرية الحمقاء ليونجي الذي يسعى خلف الأميرة!

صاح وهو في ذورة انفعاله تكاد عروق عنقه أن تنفر كاملة للخارج واختفى بسرعة مخلفًا وراءه ذرات غبار رمادية تنشأ نتيجة ركضه السريع الذي تعجز العيون البشرية على التقاطه فلا تلمح منه غير غبار!

•••

- وااه!

أخرجت أحرفها بذهول وهي تحدق في السوق الذي تسير فيه برفقة جيآن. ليس بأقل روعة على الإطلاق من مملكة مصاصي الدماء.

- أتعلمين يا جيآن في البعد الآخر الذي كنت أعيش فيه كانت تلك الفترة تسمى بعصور الظلام لشدة الفقر والظلم الذي عاشه البشر وسيطر الإقطاعيون على البلاد ليستعبدوا الفلاحين ويقيموا المذابح بلا رقيب ولا حسيب! بالمقارنة بهذا البعد فأنتم بالتأكيد حينما تصلون للألفية الثالثة ستتخطون ما حققناه كله!

- في الواقع كان حالنا أسوأ من عصور ظلام البعد الآخر.

أتاها صوتٌ رجوليٌ وعميق من الخلف فالتفت بسرعة هي وجيآن تحدقان في صاحب النبرة الذي لم يكن غير الأمير يونجي مُمتطيًّا ظهر فرسه.

ابتسم بهدوء ابتسامة جانبية وهو يمسك بلجام الحصان وركز جُل بصره عليها. ابتلعت لعابها ببطء وصعوبة ثم همست :
- يونجي!

- التقينا مجددًا. مرحبًا أيتها الأميرة! أرغب حقًا في النزول عن الفرس والترحيب بكِ بطريقة لائقة لكن ..
أشار لقدمه موضحًا :
- أنا مصاب بالتواء خفيف ولن أقدر على الوقوف طويلًا.

كانت لا تزال مأخوذة به تحدق فيه كأن في حضرة وجوده سحر ينثر حباتهُ عليها يخرجها عن سيطرة نفسها وفقط تبقى جامدة تلتهمه بأعينها.

لقاؤه معها يكون فوق طاولة الذاكرة وينأى قلبها رافضًا تمامًا تلك الخيانة الحسيّة. فهو مطلقًا لن يخون الشخص الذي يسكن فيه ويستحوذ عليه. وتميل الكفة دومًا لمن تزخر الذاكرة بتفاصيله ويتضاءل بيكهيون كأن لم يوجد. أو هو فعلًا لا وجود له بين حنايا الذاكرة.

رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تتقدم ببطء لتسأل بتلعثم :
- هل أنت بخير؟

- سقطت من فوق الفرس وتأذيت.
نظر لجيآن بطرف عينه :
- يمكننا التحدث قليلًا لو رغبتِ، وحدنا؟

ازدردت لعابها وأحنت رأسها ترمق جيآن بتخوف، فهمست :
- لا أثق به!

أطلق يونجي ضحكة خافتة وساخرة ردًا على أحرف جيآن ثم استل سيفه وألقاه أرضًا :
- لن أؤذيها لا تقلقي. وها هو سيفي بين يديكِ؛ تعلمين ما معنى أن يسلم الملك سيفه صحيح؟

خسفت نظرها تحدق في السيف اللامع المصنوع من المعدن الثقيل ومطعم من الأعلى بالأحجار الكريمة. هو فعلًا سيفٌ ملكي وتسليم السيف الملكي هو أكبر دليل على نوايا الملك الحسنة.

زفرت بقلق ولكنها هزّت رأسها وأشارت للأميرة :
- يمكنكِ الذهاب لو أردتِ.
هبطت لتحمل السيف وأشارت له بتهديد :
- سيفك معي أي أنَّ كبرياءك كملك بين يداي! احذر.

دوّر عيناه وأهداها ابتسامة ساخرة وغير مبالية على الإطلاق ثم مدّ يده ناحية إيرين التي ترددت للحظات قبل أن تحتضن كفه بخاصتها فشد عليها ورفعها على حصانه.

جلست أمامه بزاوية تنسدل قدماها في ذات الاتجاه وأمسك هو باللجام ليلكز الفرس الذي سرعان ما ركض كالطلقة من السوق لوجهةٍ مجهولة!

لم يتحدث وهي لم تنبس ببنت شفة. طأطأت رأسها للأسفل تعبث في أصابعها وفي داخلها ولطول صمته المهيب بدأ شعور طفيف بالخوف يتولد.

ولقربه بتلك الطريقة - أنفاسه الساخنة التي تحلق فوق جسدها لتهبط مصطدمة بخصلات شعرها - كانت تصطدم كل مشاعرها أيضًا. ذراعها من الجانب يجاور صدره العريض وخفقات قلبه الواهنة تتردد بصدى في دماغها فشعرت وكأن نيرانًا أضرمت فيها. في يوم ما أرادته حقًا كرجل!

كل ما فيها كان ينبض باسمه وكل خلاياها تتفاعل مع قربه على أنه نعيم منتظر لم تظن يومًا بأنها ستحصل عليه. إلا قلبها كان الوحيد الناقم، وكان الوحيد الباكي، الوحيد الذي أقام مراسم العزاء وتوشح الأسود وأراد حقًا أن يقفز من داخل صدرها ليبحث - وحده - عن أعين بيكهيون ليسكن فيها، بجوار العالم الذي يراه بين جفنيه الحانيين.

ولم تعلم أن تلعثم قلبها ليس لقرب يونجي، بل هو تلعثم البكاء وشيء من العتاب!

- أعجبتكِ مملكة البشر؟

مزق الصمت بنصل أحرفه فانتبهت من دوامة أفكارها لتلتف تنظر له من هذا القرب واشتركا سوية في نفس ذرات الأكجسين فتفشى عبق أنفاسه بداخلها ليزيل عبق آخر كان يسكنها حتى وهلة ولهذا دمدم قلبها صارخًا وباكيًا حدّ الرجفة!

لم تتشبع رئتيها بأنفاسه الواهنة ولم يألف قلبها عبقه ويرتوي منه كفاية لكي تأتى هي بكل جبروت لتمحي أنفاسه وتضع بدلًا عنها أخرى خاصة بذلك اليونجي. ربما لهُ مكان ما في قلبها لكن ذلك الآخر، ذلك المتألم، هذا المكسور له كل المساحة وليس مجرد مكان ما وحسب.

سريعًا خسفت نظرها وتمتمت بتلعثم :
- آه نعم! أعجبتني كثيرًا. عرفت أنك أمير المملكتين وليست مملكة الصيادين فقط!

- صحيح.

حوّلت نظرها للبحيرة الصغيرة التي توقف الفرس أمامها. صفحتها كرستالية تتكسر الأضواء الساقطة من الشمس عليها لتلمع تمامًا كبلورات المحاربين.

رمشت عدة مرات بذهول ممتزج بالإعجاب قبل أن تهبط فورًا عن الفرس وتركض لتقترب منها تحدق فيها عن قرب :
- إنها رائعة. انظر!

ألقى نظرة سريعة لقدمه ثم تنهد بهدوء ونبتت أجنحته الذهبية ليرفرف من فوق الفرس مُحلقًا كذ يسكن بجوار جسدها ولم تلامس قدمه الأرض :
- هذا مكاني المفضل!

التفت ترمقه بتعجب. أخفضت نظرها لقدمه المرفوعة عن الأرضية ثم تساءلت بدهشة :
- عندما تصارعت مع بيكهيون تلك الليلة كدتما تقتلان بعض وبعدها بدوت بكامل عافيتك والآن تعاني لمجرد سقطة؟

انفرجت شفاهه عن التحامها لتكشف عن أسنانه البيضاء المرصوصة بانتظام. صغيرة تغطي معظم مساحتها لثتهُ الوردية واستحالت عيناه لنصف قمر منير وهو يقول بهدوء صوته العميق كالعادة :
- لديكِ قوة ملاحظة عالية.
بعثر شعرها بكفه ثم حوّل نظره للبحيرة موضحًا :
- كنت بكامل قوتي كصياد أثناء صراعي معه لكنني حينما سقطت عن الحصان كنت في هيئتي البشرية. نحن لنا كل صفات البشر عندما لا نتحول. ولو تأذيت وأنا بشري يحدث لي ما ترينه الآن، سأحتاج لعدة أيام حتى تشفى قدمي.

ضمت شفتيها سوية وأعينها متسعة تحدق بالفراغ أمامها في هذه الغابة الواسعة. كفه لاتزال فوق دماغها الصغير ووجنتها اشتعلت حتى كاد الدخان أن يتصاعد منها. للحظات نست كيف يتنفس البشر.

وفي الخلف ابتلع بيكهيون لعابه. عثر عليهما بعد طول بحث والآن فقط تمنى حقًا لو ضاعت منه للآبد ولم يجدها. لو أن يضيع هو في متاهات الحياة ويتلاشى كل أثر له من الدنيا. لو أنه مات ولم يبقى منه مجرد رفات يثبت أنه عاش هنا ذات ألم!

هو لم يعش ذات يوم، التعبير الأدق لما يصارعه وحده من فظاعة، أنه عاش في الدنيا ذات ألم. وذات وجع قتل الحب روحه، وتهشم حتى حطامه!

أراد أن يبكي. رغب لو أن يسقط على عقبيه ويبكي حتى يملّه البكاء وحتى تجف مياه العالم كله. لكنه لا يملك حتى القدرة على فعل هذا.

ذات وجع قديم، اطّلع على المستقبل وتحولت حياته كلها لألم يطويه ومعه تنطوى قطع روحه حتى لم يبقى منها ذرة.

رأى هذا وعرف أنها ستعبر لتذهب ليونجي وستتركه يصارع هزيمته كرجل ضحى بعمر آخر لم يملكه، ضحى بالحياة الأخرى لأجلها ولم ينتظر المقابل ولم يطلب غير ابتسامة من ثغرها تبث في روحه الباهتة لونًا يضفي شيئًا من الحياة.

واللعنة كل ما يتعلق بالحياة أفظع وطأة من الموت، فلمَ يسعى لها كالأحمق.

وللمرة الثانية تمتم :
- عرفت أن هذا ما سيحدث فلمَ رؤيته تولمني؟!

وفي الناحية الأخرى التقط القلبان نبأ وجوده فاحتضناه بكل الصدق واللّهفة التي تشتعل فيهما.

التف يونجي أولًا وصنع أول تواصل بينهما لتلك اللحظة في منطقتهما المقدسة التي جمعت بين ثناياها كل ذكرياتهما وها هي تشهد على تهشم جديد انضاف لكل انكسارات بيكهيون السابقة.

حرّك يونجي رأسه للجانب ليبعد خصلاته السوداء المموجة عن عينه ثم تقدم ببطء نحوه توقف أمامه مباشرة ليهمس بضحكة :
- ها نحن نتشارك نفس المرأة، مجددًا.

أغمض بيكهيون عينيه وأصبح تنفسه شيئًا يكاد يكون مستحيلًا فبات وكأنه في منتصف غرغرة الموت.

المزيد والمزيد! كلما قال كفى غرفت له الحياة المزيد!

فتح عينيه بصعوبة وقاد حربًا ضروس لتخرج أحرفه متوسلة :
- لا تفعل هذا بها. لا تصل لهذا الحد من الدناءة!

مدّ يونجي إصبعه وراح ينغز كتف بيكهيون عدة مرات وهو يقول من بين اصطكاك أسنانه :
- أنت من بدأت لذلك تحمل نتائج فعلتك.

وكانت حقًا القشّة التي قسمت ظهر البعير أو هي ليست قشة على النحو الصحيح، هي كيلوات حديدية لا حصر لها سقطت فوق البعير لتدفنه بين التراب.

كم مرة لطمته الحياة وأعاد لها خده؟ كم مرة ركلته في قدمه ليقسط ثم اتكأ على ذات القدم المكسورة ونهض؟ كم مرة لملم جراحه واحتضن روحه ونهض؟

كم مرة ابتسم وجراحه تنزف؟ وكم مرة صمد والموت يحوم حوله؟ وكم مرة ضَحى وضُحي به؟

كم مرة ظُلِم واقترفت الحياة الإثم ثم فرت وألصقت التهمة به؟

وكم مرة أزال عنه تراب مقبرته وأحيا موتًا التهمه ليقف كمحارب؟

أمّا آن للمحارب أخيرًا أن يفقد ثباته؟ أن ينهار أمام أحدهم لأول مرة؟

وفَعَلَ.

ها هي الدنيا انتصرت ضده في معركة أخرى. في معركة الصمود والصمت اقتنصت منه وجعلت رأسه مُطأطئ حينما ولأول مرة أظهر انكساره أمام أحدهم.

جسده يهتز وأطرافه ترتعش وألقى قناعه أرضًا يصرخ بملء الألم الذي يغلي بداخله كأنه وادي سَقَر أفظع أودية الجحيم :
- لستُ أنا. أقسم لك لستُ أنا. أقسم لك بعرش الإله لست أنا. أقسم بكل الكتب السماوية لست أنا. أقسم بقدرة الإله لست أنا. بحق الجحيم لست أنا!
رفع كفيه بجوار رأسه والتهب وجهه محمرًا ونفرت كل عروق وجهه وعنقه وذراعيه وهو يصرخ حتى بُح صوته تمامًا :
- لست أنا من قتله، لست أنا. أتمنى فعلًا لو فعلت أقله سأكون حقيرًا أستحق كل ما يحدث لي. فوق كل ألمي لا أحتمل ظلمك ليّ! توقف عن ظلمي، توقف عن عصر روحي، توقف عن قتل الحياة فيّ كلما ولدت.

كويت قلبي بالألم. سددت كل سهامك كالجحيم ليّ. أسقيتني زيتًا مغليًا حرق أحشائي. أنت تقتلني في كل لحظة وتمثل بجثتي بكل جبروت. أنت دمرتني ولم تبقي فيّ نفس. أنت أطحت بأي ذرة صمود تسكنني، أنتما لعنة!!!!

اختنقت أنفاسه في حلقه ولم يستطع التنفس مطلقًا. صدره يعلو ويهبط لشدة ما يلهث يحاول استقطاب الأكجسين ولما لم يقدر سقط على ركبتيه أرضًا يمسك عنقه وهو يشهق عدة مرات.

انسدل الدم من عينه اليسرى و تلوثت اليمنى بقطرات الدماء.

________

انتهى 👀

تقييمكم للشابتر من 10 ؟

أكتر جزء عجبكم في الشابتر ؟

ايه هي خطيئة بيكهيون اللي اتذكر منها تلميح ف البارت؟ اخدتوا بالكم اصلا :3

لوهان قصده ايه بان جيآن هي كل شيء بالنسباله؟ كـ حبيبة ولا طفلة شارك في تربيتها؟

بيكهيون هيفضل يعاند لحد امتى؟

واخيرا محارب المملكة طلع عن شعوره :v يونجي جننه، تفتكروا هيعيط من عينيه الاتنين ويموت ولا المخرج الشرير هيديله فرصة تانية؟ :3

ممنوع اي الفاظ بذيئة تجااااهي! وقد زعتر من بعتر :3

متنسوش الفوت والكومنت ^^

Fortsæt med at læse

You'll Also Like

141K 8.7K 14
{ Sexuel contact} جنيرالٌ مخدرمٌ أنتَ أوقعتنِي بينَ سلاسلِ عشقكَ الأبدية و أنا مجردُ أنثى عذراء سقيتُ بعسلِ علاقتناَ الآثمة و بللت إطار علاقتنا بدمو...
10.3K 140 18
> > > > > > > _Jeon Jungkook _Olga Jonans رواية تحتوي على مشاهد +18 رواية لا تدعم المثلية الجنسية جميع الحقوق محفوظة لذلك ممنوع الاقتباس أو تشبيه الر...
774K 15.8K 73
لقد أخذ مني أغلي ماتملكه كل فتاة 💔 دمر حياتي بل أنهاها عند لمسي أول مره 💔 ولكني أشعر بالضعف ولا أستطيع الإنتقام لشرفي الضائع.. بل فقط أكتفي بالصمت...
115K 4.8K 25
-مَا رأيكِ في أن نتحَدث في مَكتبي على إنفِراد؟ 'لكِنّي طالبتك أستاذ جُيون،ألا تَعتقد أنّ هَذا مُثير للشّكوك؟' -لَن يُلاحِظ أَحد هَذا عَزيزتي،هَذا بَي...