طائف في رحلة ابدية

By nanono3726

7.3M 138K 13.4K

من بين جموع البشر ... كان هو الاول والاخير... واخر من رغبت بمواجهته في هذه الارض القاصية الواسعة صرخ بها وال... More

المقدمة
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس ....الجزء الاول
الفصل الخامس ... الجزء الثاني
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر ..الجزء الاول
الفصل التاسع عشر ..الجزء الثاني
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرين
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرين
الفصل الخامس والعشرين ..الجزء الاول
الفصل الخامس والعشرون..الجزء الثاني
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الاربعون
الفصل الواحد والاربعون
الفصل الثاني والاربعون
الفصل الثالث والاربعون
الفصل الرابع والاربعون
الفصل الخامس والاربعون..الجزء الاول
الفصل السادس والاربعون
الفصل السابع والاربعون
الفصل الثامن والاربعون
الفصل التاسع والاربعون
الفصل الخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الاخير
الخاتمة

الفصل الحادي والخمسون

102K 2.1K 37
By nanono3726


( بدور !! ...... هل هذه أنتِ حقا ؟!!! .... لم اصدق مبروكة حين أتت الي مهرولة تخبرني بأنكِ واقفة بدمك و لحمك في منتصف بهو الدار !! ..... )
كانت بدور واقفة كالغريبة في بهو دارها .... ذاك الدار الذي لم تشعر يوما بأنه بيتا لها ....
بل مجرد سجن عقيم .... هروبها الأول منه , كان معجزة التحاقها بالجامعة في المدينة و اغترابها بعد رفض والدها لفترة طويلة ....
على الرغم من ضربه لها كلما حصلت على علاماتٍ غير مشرفة في المدرسة مما جعلها تظن بأنه يرغب في أن تلتحق بأكبر الجامعات و أصعب الكليات ... الا أنه على ما يبدو كان يفعل هذا مع ايمانه التام بأنها لن تصل الى اي مستوى مشرف ...
لذا كان ذهولها شديدا حين رفض اغترابها .... و كانت تظن بأنه سيفخر بها للمرة الأولى و هي تزف له خبر نجاحها في الثانوية العامة ....

نظرت بدور الى صورة مذهبة الإطار ضخمة لوجه والدها تحتل البهو بصرامة ملامحه المتجهمة دائما حتى في لحظة التقاط صورة ستظل تلاحقهم حتى بعد وفاته ....
غير قادرة على الجلوس و كأنها ضيفة تنتظر نزول أهل البيت اليها لإستقبالها و هي بكامل حجابها و عبائتها السوداء .... لا تريد حتى التحرر من وشاح رأسها ....
الى أن وصلها هتاف أمها المذعور من خلفها و الذي لا يحمل ذرة ترحيب أو اشتياق ... فقط ذعر طغى على كل شيء آخر ...
التفتت بدور ببطىء و بملامح ثابتة ذات نظرات لا تحمل اي مشاعر .... فأبصرت أمها التي تنزل على درجات السلم متعثرة و ملامحها مضطربة خائفة الى أن وصلت اليها تلهث بعينين واسعتين ...
فبادرتها بدور بإبتسامة لا تحمل أي مرح و لم تصل الى عينيها ... و قالت بخفوت
( أهلا أمي حبيبتي .... اشتقت اليكِ ...... )
الا أن والدتها لم تبادلها الإبتسام و لم يختفي الخوف عن ملامحها و هي تمسك بكتفي بدور تسألها متوترة
( ما الذي حدث و أتى بكما الى هنا و لم تكملا بعد الإسبوعين منذ زفافكما ؟!!! ..... هل حدث مكروه ؟!! .... هل أم أمين بخير ؟!!! ...... )
زفرت بدور نفسا بطيئا و هي تنظر الى عيني أمها الواسعتين .... و قالت تقاطعها بصوتٍ متشنج
( أمي أنا ...........)
الا أن أمها قاطعتها و هي تنظر خلفها و في كل مكان بذعر
( أين زوجك ؟!! ....... أين ذهب و تركك ؟!! .... قلبي كان متأكدا أن هناك أمر جلل كي يأتي بكما الى هنا بعد أيامٍ من زواجكما ..... يا رب العالمين ...)
أغمضت عينيها للحظة و هي تضع يدها على صدرها لتلتقط نفسا مرتجفا و هي تبدو على وشك السقوط أرضا ... ثم فتحتهما لتسأل بدور بصوتٍ مرتجف يتوقع حدوث مأساة
( من مات ؟!!!! ..... هل حماتك بخير ؟؟!!! .......)
هزت بدور رأسها بيأس ثم قاطعت أمها بنبرة عصبية عالية
( لم يمت أحد يا أمي ........ و خالتي أم أمين بخير ....... كما أن أمين لم يأتي معي من الأساس ....)
صمتت فجأة و قد غادرتها بعض من شجاعتها ... و هي ترى عيني أمها تتسعان بعدم فهم ... الا أنه عدم فهم مرتاع !! .... فأخذت نفسا مرتجفا و تابعت تقول بصوتٍ أقل حدة ...
( لقد سافرت وحدي ..... ...... )
ظلت أنها في حالةٍ من الصمت و الجمود التام و هي تنظر الى بدور و كأنها لم تسمعها ... الى أن قالت أخيرا بصوتٍ مصدوم خافت
( سافرتِ وحدك !!! ........ بعد أيامٍ من زواجك ؟! كيف وافقكِ أمين على هذا ؟! .... و لماذا ؟! .... )
نظرت بدور الى عيني أمها للحظات , قبل أن تخفض وجهها ثم قالت بصوتٍ أكثر خفوتا و اضطرابا
( لم يوافقني .... لقد خرجت من البيت دون علمه , الا أنني أخبرته بسفري في اتصال ..... لقد .... لقد انتهى زواجنا يا أمي .... أريد الإنفصال عنه ..... )
للحظةٍ ترنحت أمها حتى ان بدور سارعت محاولة إسنادها , الا أن أمها تماسكت و قبضت على ذراع بدور فجأة بمخالبٍ حادة عنيفة .... و هي تنظر الى عينيها بفزعٍ ثم سألتها بصوتٍ مرتجف
( ماذا قلتِ للتو ؟!!!! ....... لا أظن أنني سمعتك بشكل صحيح ......)
لعقت بدور شفتيها الجافتين و هي تنظر الى أمها دون أن تحيد بعينيها عن تلك العينين المصعوقتين .... ثم قالت بصوتٍ مختنق
( لا يا أمي .... لقد سمعتِني ...... أنا أريد الإنفص....... )
الا أن أمها صرخت بجنون و هيستيريا
( لا!!!!!!!!! ....... لم أسمعك و لن أقف لحظةٍ واحدة لأسمع هذا الجنون الذي تهذين به ..... )
همست بدور بصوتٍ يائس
( أمي ............. )
الا أن أمها صرخت فيها بعنفٍ جديدِ عليها
( اخرسي ....... اخرسي لا أريد سماع صوتك ........ )
ثم نفضت كفها عن ذراع ابنتها و هي تستدير حول نفسها ضاربة على صدرها ... ثم همست بذعر
( سافرتِ دون اذن زوجك بعد أيامٍ من زواجك ... و دخلتِ الى البلد أمام الجميع بمفردك ..... ياللفضيحة !! .... ماذا سيقول الناس عنا ؟!! ...... )
ارتجفت بدور قليلا , الا أنها قالت بخفوت
( لم يرني أحد يا أمي و لا أعتقد أن رؤيتي تهم أحد ........ )
استدارت أمها اليها مجددا و صرخت بجنون و قد بدأت الدموع تفر من عينيها بسرعة البرق
( بل سيهتمون في ظرفٍ كهذا ..... ما الذي يجعل عروس جديدة تخرج من القطار بمفردها عائدة الى بيت والدها الذي غادرته منذ أيام بفستان الزفاف ..... إن لم يهتم بكِ أهل البلدة طوال عمرك , فسيهتمون بكِ الآن و تصبحين مثار تساؤل و تكهنات , ..... الله أعلم كم القصص التي سيتم تأليفها عن عودتك ..... ياللمصيبة .... ياللمصيبة ....... )
كانت تضرب على صدرها مع كل هتاف مذعور ..... فقالت بدور تئن بإختناق
( أمي ....... أرجوكِ لا تفعلي هذا بنفسك ..... )
الا أن أمها صرخت و كأنها لم تسمعها
( و زوجك !!! ...... كيف سغفر لكِ فعلتك السوداء ؟!! ..... كيف سنرفع وجوهنا أمامه بعد الآن ؟!!! ..... ياللمصيبة التي لم تكن في البال أو الخاطر .... )
الا أنها توقفت عن الكلام فجأة و شحب وجهها كشحوب الموتى و هي تحدق في البعيد هامسة
( و ماذا عن والدك ؟!!! ....... ياللخراب الذي هطل على الدار و أهله .... هذا حسد .... حسد أسود ..... لقد حُسِدتِ منذ الليلة الأولى لزواجك ..... و كأن البشر يستكثرون الفرحة لكِ ...... ..... )
رفعت أمها وجهها الشاحب المبلل تنظر الى بدور و همست بقسوة
( عليكِ العودة حالا ....... و قبل عودة والدك , حتى إن اضطررتِ للبقاء في المحطة منتظرة القطار التالي و أنت ترتدين نقاب ...... و إن اقتضى الأمر سأقبل يد زوجك كي يعفو عنكِ و لا يخبر والدك و يحتكم اليه في فعلتك السوداء ..... )
ثم جذبتها من ذراعها بسرعة و هي تتحرك بها تجاه الباب دون تفكير أو تخطيط ...
بينما بدور تتعثر و قد أرهقتها ساقها من الجلوس لساعاتٍ طويلة ... ثم الوقوف لفترةٍ طويلة كالأغراب ..
الا أنها هتفت بقوة
( أمي .... لا يعقل أن تطرديني من بيتي , ..... أنتِ حتى لم تسأليني إن كانت هناك مشكلة أعاني منها ..... )
توقفت أمها بالقرب من الباب تلتفت الى ابنتها و هي تصرخ بجنون
( و لن أسأل ..... لن أسأل ..... هل تسمعين هذا ؟؟ .....لا أريد معرفة أي شيء ...... )
توقفت عن الكلام فجأة و هي تسمع صوت مفتاح في قفل الباب بالقرب منهما تماما .... قبل أن يٌفتح و يطل منه زوجها بملامحه المتجهمة المخيفة ينظر اليها بنظرةٍ تجمد الدم في العروق ثم صفق الباب بعنف وهو يقول هادرا
( لماذا يعلو صوتك يا امرأة ؟! ...... هل فقدتِ عقلك , لقد سمعته قبل أن أفتح الباب ..... )
تراجعت أم بدور للخلف خطوة واسعة العينين .... شاحبة الوجه .... فاغرة الفم و كأنها قد نسيت كيف تتنفس ...
و لم تجد الفرصة للرد ... فقد لمح بدور خلف الباب بالفعل و حدث ما حدث .....
للحظات اتسعت عيناه , قبل أن تزداد ملامحه قتامة وهو يسأل بنبرةٍ منذرة بالشر ... التوتر واضح فيها
( بدور !!! ...... ماذا تفعلين هنا يا فتاة ؟! .... ما الذي أعادكما الى البلد بهذه السرعة ؟! .... )
ساد صمت مرعب بين ثلاثتهم .... و قد فقدت بدور كل شجاعتها في لحظةٍ واحدة و شعرت بنفسها على وشك الموت و كأنه قلبها قد أعلن توقف دقاته .....
و للحظات دار في ذهنها شريط طويل من الكذبات التي يمكن أن تتلوها على مسامعه و ربما تنقذ حياتها بعد أن تعود لأمين .... و هو لن يطردها كما فعلت أمها بل سيستقبلها لفترة مناسبة حتى يحين وقت طلاقهما ....
لكن فجأة ... طالعتها نظرة أمين الساخرة وهو يراها واقفة أمامه متخاذلة عائدة بخيبتها ....
و فراغ ..... فراغ غريب جعلها ترفع وجهها الى والدها بملامح جامدة و قد سكنت روحها بعد أن أوشك الفزع أن يفقدها صوابها ....
و دون تفكير وجدت شفتيها تتحركان قائلة بهدوء
( أنا أريد العودة الى داري يا أبي ...... أريد الطلاق و العودة الى داري ..... لم أكن مستعدة للزواج من البداية .... لا أريد سوى متابعة دراستي , أرجوك افهمني قبل أن تنفعل لمرة واحدة في حياتك ..... أنا ..... )
الا أنها لم تجد الفرصة لتتابع كلامها الخافت الخالي من أي مشاعر .... فقد عاجلتها صفعة عنيفة من والدها أسقطها أرضا وهو يهدر بجنون
( اخرسي ....... هل جننتِ يا بنت ال *** ....... هل جننتِ .... هل جننتِ .... هل تردين جلب الفضيحة لهذا الدار ؟!! ..... )
صرخت أمها عاليا و هي ترى ابنتها واقعة أرضا و قد شُقت شفتيها على الفور و أدميت .....
بينما تابع والدها يسألها بصوتٍ مرعب
( هل زوجك هو من أحضرك الى هنا بعد أن هذيتِ أمامه بهذا الجنون ؟!!! ..... والله كان عليه تكسير عظامك قبل أن يعيدك ...... )
رفعت بدور كفها لتمسح بها طعم الدم الذي سال الى لسانها و هي تنظر الى ملامح والدها الشبيهة بأشرار القصص الخيالية .... و كانت تتنفس بسرعة .... سرعة غضب عنيف ...... غضب أسود لم تدرك أنها تملكه أبدا , لكن على ما يبدو أنها قد ورثته عن والدها و ظل قابعا في زاوية عميقة بداخلها دون أن تدري ...
هذا الغضب جعل عينيها تبرقان بشراسةٍ و تشفي و هي تصرخ هاتفة في وجهه دون خوف
( لم يحضرني ..... أنا أتيت وحدي دون علمه , لذا لن يسامحني و لن يعيدني اليه بعد ما فعلت .... لذا لا تتأمل كثيرا ..... )
و لم تدرك أنها تبتسم ابتسامة خفية و هي ترى والدها ذاهلا من وقاحة ردها و جرأتها الغريبة ..... حتى أنها خشت أن يصاب بنوبةٍ قلبية صدقا .....
صرخت أمها قاطعة هذا الصمت المجنون و هي تنتحب بذعر و ذهول
( بدور ّ!!! ...... ما الذي أصابك ؟!! ..... أقسم بالله هو عمل شرير و أصابك ..... حسدونا على فرحتنا ... )
الا أن زوجها لم يسمع ما قالته .... بل هدر بعنفٍ ما أن استرد وعيه من تلك الطريقة التي خاطبته بها ابنته للتو ....
( أنا سأريكِ أيتها ال *** ......... سأريك من منا الذي لن يتأمل ..... الرحمة ... )
و بحركةٍ واحدة انحنى اليها ممسكا بوشاح رأسها و شعرها و ذراعيها وجرها أرضا بينما هي تصرخ عاليا من شدة الألم ..... و ما أن حاولت أمها التدخل بينهما حتى رفع زوجها وجهه لها و صرخ بعنف زلزل أرجاء الدار
( قسما بالله لو تدخلت للدفاع عنها ولو بكلمة فستكونين طالقا بالثلاث ........ )
ضربت أم بدور فمها بكفها وهي تكتم كل الكلمات التي كانت ستتوسله بها بينما انهمرت الدموع من عينيها بقهرٍ غير قادرة على الحركةٍ أو النطق و هي ترى زوجها يجر بدور أرضا كما تجر الذبائح و هي تصرخ بألم .... الى أن دخل بها غرفة في الطابق الأرضي أغلق بابها خلهما بالمفتاح الذي أصدر صوتا مرعبا ...
و ما هي الا دقائق حتى علا صوت صرخات بدور بنبرةٍ أكثر ألما مترافقةٍ مع صوت ضرباتٍ لا ترحم ....
فسقطت أمها أرضا و هي تضرب وجنتيها صارخة
( ابنتي ....... البنت ستضيع مني ....... )
خرجت مبروكة من المطبخ جريا حتى ارتمت بجوار سيدتها ارضا على ركبتيها و صرخت فيها مترجية
( افعلي شيئا يا حاجة ...... البنت ستموت ....... )
نظرت اليها أم بدور بنظراتٍ مثيرة للشفقة بأبشع صورها ثم هتفت مولولة
( لقد أقسم علي بالطلاق ........ سيطلقني و يرميني خارجا بعد هذا العمر ...... )
صرخت مبروكة فيها
( أقسم بالطلاق إن تدخلت بينهما بكلمة ...... اذن اتصلي بزاهر وهو من سيفعل .... هو شقيقها و سيدافع عنها ...... )
أومأت أم بدور برأسها و هي تمسح دموعها بأصابع مرتجفة و كأنها قد تذكرت ابنها على الفور ... فنهضت من فورها و مبروكةٍ تساعدها و كأن ساقاها قد تحولتا الى هلامٍ الى أن وصلت للهاتف فاتصلت بزاهر و هي تبكي هاتفة
( انجدني يا ولدي ......... انقذ أختك ...... )
.................................................. .................................................. ......................
( لن تدخلي يا أمي ...... لقد أقسم عليكِ بالطلاق ....... )
منعها زاهر هادرا وهو يمسك بكتفيها بكل قوته ... فرفعت أمها وجهها و هتفت باكية
( فليطلقني اذن ...... قلبي لا يحتمل أكثر .... ابنتي تصرخ منذ ساعة و أنا التي ظننتك ستتدخل و تنقذها .. )
هتف زاهر بصوتٍ شبيه بصوت والده .... غاضبا محتدا
( أنقذها ؟!!! ..... والله لو رأيتها لما استطعت السيطرة على غضبي ولخنقتها بكلتا يداي ..... دعيه يربيها على فعلتها ..... أنتِ لا تدركين حتى الآن حرج موقفنا أمام أمين ..... و ماذا إن تملكه العناد و طلقها بالفعل ؟!! ..... من سيلومه حينها ؟!! ...... نحن فقط من سنتحمل القيل و القال في البلدة ..... ابنتك تحتاج القتل لا الضرب ....... و قسما بالله إن حاولتِ التدخل أنا من سيقف لكِ .... )
توقفت امه عن المقاومة للحظات و هي تنظر اليه بعينين واهنتين .... عاجزتين و متورمتين ....
ثم قالت بصوتٍ ضعيف غير مصدق
( و أنا التي ظننتك ظهري الذي سأشتد به في الدفاع عن أختك !! ....... )
الا أن زاهر لم تلن ملامحه .... بل ظلت على خشونتها و قسوتها وهو يرد بفظاظة
( أي دفاع هذا عن مختلةٍ مثلها ستطيح بكرامتنا في البلد ..... فعلا ..." ناقصات عقلٍ و دين " .... )
اتسعت عينا والدته مصدومةٍ للحظات .... ثم تراجعت للخلف و هي تهمس
( هكذا !! ..... سامحك الله يا ولدي ...... سامحك الله ..... )
ثم استدارت عنه و هي تكرر دعائها باكيةٍ بإختناق الى أن ابتعدت عنه تماما .... و ما أن شعرت بنفسها تكاد أن تسقط حتى انحنت و جلست أرضا تستند الى الجدار محدقة أمامها بعينيها المتورمتين ....
تسمع من بعيد صوت ضربات زوجها .... و صرخات بدور ذات الإيقاع الرتيب المفزع .....
بعد ساعةٍ أخرى .....
كان صوت أبا زاهر لا يهدأ وهو يملي على مسامع ابنته ما سيحل بها إن طلقها زوجها .... سيحيل حياتها الى جحيم ...
ستتوقف عن الدراسة و تحيا في الدار تعمل مع الخادمات و ليس لها قيمة أكبر عنده .....
لم يضربها بصورةٍ متواصلة طوال الساعتين .... بل كانت يتوقف كل فترةٍ و أخرى .... ثم يعاود ضربها و كأنه يتأكد من الا تفقد الوعي ....
و الغريب أن بدور كانت تزداد شراسةٍ بطريقة غريبة .....
كان صوتها الصارخ يصل الى أذني أمها على فتراتٍ متباعدة
( لم أعد أخاف منك ....... افعل ما تريد ....... )
فيزيد جنون والدها أكثر .... و يزداد جنون ضرباته .....
أما أم بدور على حالها ... مرمية أرضا بجوار الجدار ككمٍ مهمل .... و قد تجمدت الدموع في عينيها , منتظرة سماع نهاية حياة ابنتها في أي لحظة ....
الى أن جائتها مبروكة على أطراف أصابها و جثت بجوارها تهمس في اذنها
( خذي يا حاجة أتيتك بهاتفك ..... اتصلي بالسيد أمين ........ )
نظرت اليها أم بدور بوجه ميت و هتفت بإختناق
( هل جننتِ يا امرأة !! .... بعد ما فعلته بدور هل أجد الجرأة على الإستنجاد به ؟!!! ...... )
ردت مبروكة بثقةٍ دون تفكير
( السيد أمين ابن الحاج راشد رحمه الله مختلف ...... )
ثم أدركت ما تفوهت به للتو بغباء , خاصة و أن أم زاهر أخفضت وجهها بملامح مكتئبة حزينة ... فسارعت مبروكة تقول بتلعثم
( لم أقصد يا حاجة .... قصدت قفط أنه ..... أن ....... )
قاطعتها أم زاهر و هي تمد كفها هامسة بإعياء
( هاتِ الهاتف ........... )
انتظرت تستمع الى الرنين الرتيب و كأنه رصاصٍ في أذنها .... لا تتخيل كيف ستستجد بأمين !! ....
ترى هل سيغلق الهاتف في وجهها ؟!! .....
عليها أن تتحمل كي تنقذ ابنتها ....
و ما أن وصلها صوته حتى هتفت باكية منتحبة و كأن صوته كان أكثر رحمة من زوجها وولدها ... ابن رحمها .....
( أمين ..... أدركنا يا ولدي ....... بدور ستموت بين يدي والدها .....الباب مغلق عليهما منذ ساعتين و صراخها لا يتوقف ... ابنتي ستموت على يد والدها ..... )
اتسعت عينا أمين وهو يشعر بأنفاسه تتوقف ... حتى أنه نهض من كرسيه ببطىء وهو ينظر حوله و كأنه يحاول ايجاد وسيلة تجعل القطار يزيد من سرعته .... ثم لم يلبث أن صرخ بقوة
( ما بالك تقفين ساكنة ؟!! ...... اكسري الباب .... استدعي الغفر أو اتصلي بالحاج سليمان .... )
شهقت أم بدور باكية و هي تقول بعويل
( لكن الفضيحة ....... حين يعرف الجميع بخروجها من بيت زوجها بعد اسبوعين فقط ... و عودتها و طلبها الطلاق ...... فضيحة كبيرة يا أمين .... )
شعر أمين و كأنه على وشك الإصابة بالجنون فعليا .... فصرخ فيها بعنف
( أفيقي يا امرأة ..... هذه ابنتك و قد تموت ........ لا تقفي عاجزة هكذا و الا طلبت الشرطة ....... )
ظلت أم بدور تبكي و هي تنظر الى مبروكة بعجز .... غير قادرة على الإيتان بأي حركة ....
تخاف حد الرعب من زوجي الوحوش في دارها .....و حين طال صمتها و هي تبكي بإختناق ...
هتف فيها أمين بنفاذ صبر
( اتصلي بزاهر ..... فليأتي و يكسر الباب و ينقذها من بين يديه ..... )
اغمضت أم بدور عينيها بقوة و الدموع تنهمر من تحت جفنيها المجعدين ... ثم قالت بصوتٍ أشد اختناقا و نحيبا
( زاهر هنا .... واقف أمام الباب يمنعني من الدخول و يقسم إن رآها فسوف يخنقها ..... )
اتسعت عينا أمين غير مصدقا لما يسمع ... و ظل صامتا بضعة لحظات , الى أن أظلمت ملامحه و عقد حاجبيه وهو يهدر بصرامة
( أعطي الهاتف لزاهر ....... أريد الكلام معه ...... )
اتسعت عينا أم زاهر برعب ... ثم هتفت مرتجفة
( لكن لو عرف أنني اتصلت بك فسوف ....... )
قاطعها أمين صارخا
( انه ابنك ..... اضربيه على رأسه إن اعترض .... هل تخافين ابنك ؟!!! ..... )
امتقع وجه أم زاهر بشدة و ارتجفت شفتاها و هي تهمس بخزي
( نعم يا ولدي ...... أخاف ابني ........ )
أغمض أمين عينيه غير مصدقا وهو يزفر بحدة نافذ الصبر .... ثم لم يلبث أن أمرها بقسوة
( أخبريه أنني اتصلت بكِ أسأل عن بدور ... و طلبت منكِ الكلام معه .... )
ظلت أم زاهر متربعة أرضا مكانها لا تعرف كيف تتصرف و قد غادرتها البقية الباقية من التصرف الحكيم .... الا أن أمين صرخ فيها
( هيا .............. )
حينها استندت الى مبروكة التي أوقفتها على قدميها و ساعدتها كي تهرول حتى وصلتا الى زاهر الذي كان يدور حول نفسه امام باب الغرفة المغلقة .... مكفهر الملامح ..... عنيف النظرات حتى أبصرها فإزدادت ملامحه تجهما و تهديدا مما جعلها تمتقع و تتعثر الا أنها سارعت بمد يدها بالهاتف اليه و هي تقول بصوتٍ مرتعش
( هذا ..... هذا أمين .... اتصل يسأل عن بدور و يريد الكلام معك على وجه السرعة ....... )
برقت عينا زاهر بحدة ثم همس ملوحا
" تبا لهذا !!! ...... ماذا سأقول له الآن ؟!! ...... بأي عذرٍ سأبرر له تصرف ابنتك الحيوانة .... "
ظلت أمه صامتة تمد له الهاتف غير قادرة على النطق .... الى أن اختطف منها الهاتف بقوة وهو يزفر مجددا ... ثم لم يلبث أن قال بصرامة دون مقدمات
( مرحبا أمين ..... أعرف انك غاضب و لك حق عندنا , لكن ثق أننا سنعيد تربيتها و ستكون تحت قدميك منذ اليوم ..... فقط لا .... )
قاطعه أمين هادرا
( اسمعني جيدا يا زاهر ..... ابعد والدك عن بدور , حتى إن تطلب الأمر كسر الباب .... أنا لا أطلب بل آمر .... هذه زوجتي و أنتما تتعديان على حقوقي .... )
ارتبك زاهر ووقف بمنظرٍ لا يحسد عليه .... ثم قال غاضبا
( لكنها اخطأت و علينا معاقبتها ..... لم تقدم واحدة قبلها على تصرفها ال ........ )
قاطعه أمين مجددا بصوتٍ أكثر صرامة
( أمر معاقبتها عائد الى شخص واحد فقط ..... هو أنا .... و الآن أخرج والدك من تلك الغرفة و الا سأنفذ لها ما تريد و اترك أمرها لكما كما تريدان ..... )
ظل زاهر واقفا ممتقع الملامح وهو ينظر الى وجه والدته المتلهفة بأمل .... و .... المتشفية في ابنها للمرة الأولى .... فزم شفتيه و قال على مضض
( ستكون عندك في الغد على الأكثر ........ )
لكن أمين قاطعه قائلا بقوة
( بل أنا في القطار الآن , في طريقي اليكم ..... و يجدر بكم الا يمسها أحد لحين قدومي .... )
أغلق زاهر الهاتف بعنف وهو يلقي به دون اهتمام ... حتى أنه وقع أرضا و تفكك الى أجزاء ....
لكنه لم ينظر اليه بل اتجه الى باب الغرفة و بدأ يطرق عليه بقوة مناديا
( أبي .... يكفي هذا , افتح الباب ..... افتح يا ابي ..... )
لكنه لم يسمع ردا ..... بل صرخة واهنة من بدور اثر ضربة من والدها ..... حينها زفر زاهر بغضب قبل أن يضرب الباب بكتفه عدة مرات حتى كسر القفل فدخل الغرفة ...
للحظة توقف مكانه مضطربا وهو ينظر الى بدور التي ربطها والدها في أحد أعمدة السرير الموجود الغرفة ... مرتمية أرضا بوجهٍ متورم .... ووالدهما يقف بجوارها بأحد الخراطيم السميكة التي يحتفظ بها ...
متعبا من شدة المجهود الذي بذله .... فسنه لم يعد يسمح بمثل هذه المشقة كالسابق ....
بينما اندفعت أمه من خلفه و هي تولول ضاربة وجنتها لترتمي بجوار ابنتها تأخذها بين أحضانها و هي تنتحب هاتفة
( اسم الله عليك يا ابنتي ..... ليتني كنت أنا و لستِ أنتِ ..... سامحيني , لم يكن بيدي الوقوف دون مساعدتك .... حكم القوي .... )
تأوهت بدور بصوتٍ ضائع متألم بينما تدارك زاهر أعصابه وهو يقول بخشونة
( هذا يكفي يا حاج ...... لقد اتصل أمين و ...... )
مجرد سماع اسم امين جعل ملامح وجه والدها تزداد غضبا وهو يرفع الخرطوم في يده مجددا ....
لكن زاهر اندفع بسرعة ليمسك بساعد والده يمنعه من ضربها وهو يهتف بقوة
( كفى يا حاج ..... لقد اتصل زوجها و طلب الا يضربها أحد .... وهو في طريقه ليستعيدها و لن يطلقها ..... لنغلق الأمر عند هذا الحد .... الحمد لله أنه أبرد دما مما ظننا و الا لكنا الآن حكاية على كل لسانٍ في البلد ..... )
ظل والده ينظر اليه متجهما وهو يلهث من شدة الغضب و الإنفعال .... ثم سأل بشك
( أليس غاضبا منها ؟!! ..... الن يطلقها ؟!! ....... )
رد عليه زاهر بنبرةٍ تحمل القليل من الدهشة الساخرة
( ما لاحظته أنه كان غاضبا لأنك ضربتها .... لم يذكر شيء عن سفرها بتلك الطريقة أو طلبها الطلاق و لقد أكد لي بنفسه أنه لن يطلقها ....... )
ازداد انعقاد حاجبي والده و قد ظهر تعجب غريب في عينيه القاسيتين و قال بعدم تصديق
( ألن يطلقها ؟!! ...... و غاضب لأنني ضربتها فقط ؟!! ..... اي رجال هم شباب هذه الأيام !!! .... بالتأكيد لم تتجرأ على فعلتها الا حين رأت منه ضعف شخصية ..... أتتجرأ زوجتك على فعل ما فعلته قليلة الأدب هذه ؟!!! ..... )
رفعت بدور وجهها المتورم عن صدر أمها لتنظر الى والدها بعينيها المحتقنتين دون أن تصدر صوتا ..... مجرد نظرة غريبة من عينٍ مضروبة ....
بينما ارتفع حاجب زاهر بإستهزاء ساخر وهو يقول بإستنكار غاضب
( زوجتي !!! سامحك الله يا حاج ..... والله كنت دفنتها في فناء الدار ........ المهم عندنا أن ضعفه يناسبنا حاليا ...... على الأقل ليكن ذو كلمة في عدم تطليقها و لا نريد منه أكثر من هذا .... )
القى والده بالخرطوم من يده أرضا .....ثم قال بعنف
( ماذا يحدث إن أعادتها مجددا و هربت الى هنا طالبة الطلاق ؟؟؟ ...... )
رد زاهر بصوتٍ مخيف وهو يرمق أخته بنظرةٍ مهددة
( و هل تجرؤ ؟!!! ......... )
زادت أمها من ضمها الى صدرها و هي تبكي بشدة ... بينما بدور صامتة تماما ....
ثم التفت الى والده و قال بخشونة
( لقد نالت ما سيمنعها من الإقدام على أي عملٍ أحمق المتبقي من عمرها كله ..... لندعو الله فقط الا يكون قد علم بقدومها أحد من البلد ...... و لنبدأ في تحضير أي كذبة لنتدارك بها الوضع إن سأل أحدهم ..... )
زمجر والده بغضب وهو ينظر الى بدور المرتمية على صدر أمها ثم هدر بصوتٍ يهز الأوصال
( أنقذك زوجك مني .... والله لو كنت مكانه لكسرت عنقك و شربت من دمك ..... لكن الله عالم أي غبية أنتِ فرزقك بشخصٍ متساهل ....... اعتبري ما حدث لكِ مجرد انذار ....... )
ثم تحرك ليخرج من الغرفة .... فاقترب زاهر منها كي يفك وثاقها , الا أن والده صرخ بقوة أفزعتهم
( ماذا تفعل يا زاهر ؟!!! ...... والله ستظل بهذا الشكل الى أن يأتي زوجها و يستلمها ..... لا طعام و لا شراب و لن يفك أحد معصميها ...... )
قال زاهر محاولا
( أنا أرى يا حاج أنها نالت ما يكفي ..... لندعها ترتاح في السرير قليلا ..... )
صرخ والده بصوتٍ أعلى
( لقد أقسمت يا زاهر ...... لا أريد كلمة واحدة أخرى ..... )
زم زاهر شفتيه وهو ينظر الى أخته متنهدا .... ثم استقام ليغادر الغرفة , بينما تابع والده آمرا بقسوة
( و أنتِ يا امرأة ..... أخرجي من هنا الى أن يصل زوجها ..... )
رفعت زوجته وجهها المبلل و همست بترجى ...
( اسمح لي أن أعد لها لقمة و شيء تشربه .. الفتاة لم تضع في فمها شيء منذ الصباح ..... أرجوك يا حاج )
الا أن زوجها صرخ بصرامة
( انهضي يا امرأة و اخرجي من هذه الغرفة على الفور أو سأتناسى عمرك و مكانتك و أعاملك بالمثل ....... هيا انهضي ..... )
نظرت أم زاهر الى ابنتها و هي تبكي بحرقة ... الا أن بدور أومأت لها ببطىء و هي تحاول الإبتسام بصعوبة .... ثم همست بصوتٍ متعب
( اذهبي ................ )
تركتها أمها و هي تنهض من مكانها باكية بصوتٍ مختنق .... تلاها زاهر , ثم والده الذي رمق بدور بنظرةٍ محتقرة أخيرة و قال من بين أسنانه بتعب
( حسابك لم ينتهي عند هذا الحد ...... إن كنتِ تظنين أنه بزواجك أصبحت حرة و لن تجدي من يكسر لكِ ضلعا .... فأنا لازلت على قيد الحياة , أكسر لكِ عنقك لا ضلعك فقط ...... إياك أن تظني ان زوجك المتحضر بشكلٍ يدعو للشفقة عليه سيكون جواز سفرك لعالم بلا قيود ....... )
ظلت بدور مكانها تبادله النظر بصمت عبر عينيها المتورمتين ..... دون أن يرمش لها جفن ....
حتى استدار عنها و خرج من الغرفة تاركا اياها أقوى ..... أقوى من ذي قبل .... أقوى من أي يومٍ مر في حياتها المهمشة المهينة .....
.................................................. .................................................. ...................
( قد أتأخر اليوم قليلا ....... لا تنتظرني , يمكنك النزول و تناول طعامك مع والدتك ...... )
قالت هذا بهدوء و هي تلتقط حقيبتها تنوي الخروج من البيت صباحا ... الا أنه أمسك بذراعها بقوة قبل أن تتجاوزه يمنعها من الخروج .... فنظرت اليه بغرور رافعة حاجبيها متسائلة ...
و للحظات شعرت بشيء ما أوجعها في صدرها بسبب نظرته العميقة .... التي تسللت الى أعماقها هي ....
و كأنها فتحت نافذة من روحها الى روحه .... تكشفها تماما أمامه و تجعلها عرضة للخطر ....
أخفضت وجهها و هي تحاول اغلاق تلك النافذة الفاضحة بينهما .... فما كان منه الا أن قال بإصرار
( سأنتظرك ...... لا أحب تناول طعامي وحيدا ...... )
قالت بنبرة حاولت جاهدة أن تجعلها لا مبالية ...
( أخبرتك أنه ليس عليك انتظاري أو الأكل وحيدا ..... تناوله مع أمك و أختك ....... )
ثم أبعدت ذراعها عن يده ببساطةٍ و خرجت .... لكنها لم تلحظ أنه خلفها خطوة بخطوة , حتى وجدت نفسها تستدير اليه بفعل كفيه ...
تأففت مسك و هي تقول بنفاذ صبر
( لقد تأخرت على عملي يا حسيني ..... ماذا تريد الآن ؟!! ...... )
ظل أمجد صامتا للحظات ثم قال أخيرا بجفاء
( أريد الكلام معك ..... حديث تأخر كثيرا ..... )
رفعت حاجبيها بإستفزاز و سألته بهدوء
( الآن تريد الكلام ؟!! ...... طالما أن الحديث قد تأخر كثيرا فلا مانع من أن يتأخر لفترةٍ اضافية ... فأنا لا أملك الوقت الآن ..... )
رد عليها أمجد بنبرةٍ أكثر تسلطا ...
( بل الآن ...... فأنا على وشك الإمساك برأسك و مسح زجاج النافذة بشعرك ...... )
برقت عينا مسك بحدة ... الا أنها قالت بهدوء جليدي
( طريقتك اللطيفة في بدء الحوار لن تفيدك الآن تحديدا يا حسيني ...... فلا تحاول استفزازي أكثر و اتركني من فضلك ..... )
زم شفتيه للحظات ثم قال ببطىء من بين اسنانه
( ناديني حسيني مجددا و صدقيني لن أكون مسؤولا عن تصرفي معكِ ......... )
شعرت بدهشة حقيقية هذه المرة ... لكنها سألته بلامبالاة زائفة
( هل يضايقك لقب الحسيني ؟!! ..... عجبا !! ..... بهذه الطريقة أنا أستحق وسام الشرف لتحملي الكثير من الألقاب التي تكرمني بها .... بدئا من ألمظ ... ظاظا .... )
تابع أمجد بصوتٍ أكثر عمقا حين خفت صوتها و صمتت
( كليوباترا ..... ألماس ........ )
ابتسمت بسخرية على الرغم من ذلك الشعور الغير مرغوب فيه و الذي ينبض داخل صدرها كل حين حتى باتت معتادة عليه ... تألفه ....
ثم همست بإقتضاب و هي تبعد عينيها عن عينيه
( نعم ...... و هذان أيضا ....... )
أخذت نفسا عميقا و هي تسوي كتفيها ثم قالت ببساطة و عفوية قدر الإمكان
( حسنا .... هل تعطيني قائمة بالألقاب التي ترفضها , أو ربما الأسهل في حالتك الألقاب التي تقبلها .... )
نظر أمجد الى عينيها المتهربتين منه و ظل صامتا حتى أصبح جو الصمت بينهما خانقا متوترا ....
فإضطرت الى رفع عينيها اليه أخيرا بتوتر .... حينها ذابت دقات قلبها أمام نظراته الجادة النافذة الى أعماقها ... دون ابتسامٍ حتى ....
فقال أمجد أخيرا بخفوت
( فقط لقبين ...... الأول هو أمجد ...... لا أحب لدي من سماع اسمي أنا من بين شفتيكِ ..... لكِ نبرة غريبة حين تنطقين بها اسمي .... و كأنني الرجل الوحيد الذي يحمل هذا الإسم .... )
ضحكت مسك بسخرية .... الا أنها كانت سخرية زائفة ... فخرجت كضحكةٍ عصبية مختنقة كسعالٍ مجروح من القلب ....
و كي تخفي تلك العصبية ردت بمرح بارد و هي تنفض شعرها ناظرة اليه بثقة
( و ما هو اللقب الثاني ؟؟ ............. )
لم يرد عليها على الفور , ثم قال ببطىء
( ستعرفين حين تنطقين به ............ )
اضطربت مسك أكثر , لكنها قالت بنبرةٍ بدت خشنة أكثر من اللازم
( يجب أن أذهب الآن ..... أنا جادة يا أمجد ..... )
الا أنه شدد قبضتيه على كتفيها و رد بصرامة
( لن تذهبي قبل أن ننهي ما بدأناه من كلام ..... لقد ضقت ذرعا بهذا الصمت الخانق بيننا .... )
هتفت مسك فجأة بحدة و انفعال
( أي كلام ؟!! ...... نحن لم نبدأ أي كلام حتى الآن ........ )
رد عليها أمجد بصوتٍ أكثر عصبية
( كلام مضى عليه أكثر من شهر ..... احترمت رغبتك في العودة اليه لأنه آلمك , لكن النتيجة كانت أن كل ما اقتربناه من خطى من بعضنا .... عادت لتفرق بيننا من جديد ..... أنتِ تتجنبينني منذ فترة ... )
ارتبكت ملامحها و توترت ... الا أنها هتفت بقوة
( هذا من أكثر ما سمعته منك سخافة ...... كيف أتجنبك ؟!! ..... نحن لم نفترق أي ليلة .... لم ينقطع كلامنا أي يوم ...... )
هتف بها أمجد بإنفعال
( كلام مهذب بارد ...... حتى علاقتنا الحميمية ..... )
ارتفع حاجبيها و برقت عيناها بشراسة و هي تضع كفيها في خصرها هاتفة تقاطعة بشعورٍ بالإهانة
( هل ستشكو من هذا أيضا ؟!! ....... انظر الى عيني وواجهني , هل تعاني من مشكلة في هذه النقطة كذلك ؟!! ..... )
نظر الى عينيها بالفعل ..... نظرة أبلغ من أي كلام , الا أنه قال أخيرا ببطىء أجش
( أعاني من عدم وجودك معي .... بين ذراعي فعلا ....... لا تكونين معي بكامل روحك ... )
شعرت مسك بغصة تؤلم حلقها بشدة ... الا أنها قالت بصوتٍ باهت غليظ
( هذا ثاني أسخف شيء أسمعه منك ..... و أظنك تحاول التحجج بأي شيء لتثبت أن زواجنا ليس على ما يرام ..... إن كان هذا هو الأمر فأنا أفضل الصراحة يا أمجد , يمكنك التحرر مني بكل بساطة و أنا لن أعيقك طريقك مجددا ...... )
ضغط على أسنانه بقوةٍ وهو يغمض عينيه لدرجة أنها سمعت صوت صرير تلك الأسنان التي هددت بنهش عنقها في اي لحظةٍ كمصاصي الدماء .... و حين فتح عينيه الغاضبتين , شعرت مسك للمرة الأولى بالخوف فابتلعت ريقها متوترة .... الا أنه دفعها عنه قليلا وهو يقول بصوتٍ قاتم
( اذهبي الى عملك ........ من الأفضل أن نترك الكلام عند هذه النقطة حفاظا على عنقك الجميل ..... )
ظلت مسك واقفة مكانها تشعر بشيء من الندم على هذا الصباح المتوتر بينهما ..... خاصة و أنه ابتعد عنها يوليها ظهره متجها الى النافذة ينظر الى الطريق و يديه في جانبيه و ظهره متشنج و كأنه يحمل حملا أكبر من طاقته .....
مضت بضع دقائق و هي واقفة مكانها تنظر اليه بصمت .... الى أن شعرت بصورته تضطرب أمام عينيها حتى أصبح خيالا ... فأدركت أن هناك غلالة من الدموع تكونت على حدقتيها تكاد أن تحجب الرؤية عنهما ...
حينها شعرت بفزعٍ حقيقي , مما جعلها تستدير بسرعة و تهرع الى باب الشقة لتخرج منه و تصفقه بقوةٍ دون حتى أن تلقي عليه تحيتها الروتينية المعتادة ...
سماع صوت الباب يصفق بدا و كأنه صفعة على قلبه ..... مما جعله يغمض عينيه بألم للحظة ....
ثم فتحهما وهو يأخذ نفسا عميقا حتى كادت أزرار قميصه تخلع من مكانها من شدة ما يحمل في صدره من مشاعر مكتومة و عدم راحة ....
كان يظن أنهما اقتربا من بعضهما و اقترب هو من غايته .... كان قريبا جدا من حد ملامسة قلبها بل يكاد يقسم على أنه كاد يتخلل اعماق روحها دون أي حواجز ...
الى أن تفجر بينهما موضوع الطفل المتبنى و الذي لا يعلم من أين هبط كي يفسد عليه كل ما بناه معها ... و من وقتها و هي رافضة الكلام في هذا الموضوع رفضا قاطعا .....
رآها تخرج من البناية أخيرا و تتجه الى سيارتها .... فابتسم رغم عنه وهو يتذكر تلك الأيام التي كان يراقبها فيها من نافذة مكتبه .... تحمل شطيرتها الصحية لتتخذ المقعد الوحيد المنعزل بجانب الحديقة الصغيرة ....
واضعة ساقا فوق أخرى , تتناول شطيرتها بكل أناقة و هي تنظر للبعيد ...
كانت من أجمل أوقات التلصص التي أمضاها في حياته الى أن قرر اقتحام خلوتها بكل تطفل لم يندم عليه حتى هذه اللحظة ....
فتحت مسك باب سيارتها ... ثم توقفت للحظة مما جعل قلبه يتوقف معها .... الى أن رفعت وجهها اليه ....
فابتسم لها وهو يرفع كفه ....
للحظات لم تتجاوب معه .... بل ظلت واقفة بشكلٍ غريب , تضع نظارة سوداء فوق عينيها مما جعل ابتسامته تتوتر ... ماذا بها ؟!! ..... لماذا تقف بهذا الشكل ؟! ...
هل نست شيئا ؟! .....
عقد أمجد حاجبيه , ثم ابتعد عن النافذة و ذهب يبحث عن هاتفه .... حتى وجده فاتصل بها على الفور ...
و مضى الإتصال دون أن ترد عليه ... فإزداد قلقه و اتصل بها من جديد حتى وصله صوتها و هي ترد عليه بنبرة غريبة
( ماذا تريد يا حسيني ؟!! ....... )
ازداد قلقه و انعقاد حاجبيه , فسألها بخشونة
( ماذا به صوتك ؟!! ..... هل تبكين ؟!! ...... )
وصله صوت ضحكة ساخرة عصبية ... ثم قالت بإستهزاء
( أبكي ؟!! ....... كم تظن عمري يا حسيني ؟!! ...... )
الا أنه لم يتجاوب مع سخريتها , بل قال بصرامة
( انتظري مكانك .... سأنزل اليكِ حالا ..... )
لكنه لم يكد ينهي كلماته حتى سمع صوت صرير سيارة في الخارج ... ثم وصله ردها باردا
( أنا في منتصف طريقي للعمل الآن ..... أراك مساءا ...... )
ثم أغلقت الخط قبل أن تنتظر منه ردا , فسارع أمجد ينظر من النافذة ليجدها و قد خرجت للطريق و اختفت عن ناظريه في لمح البصر ....
أغلق أمجد هاتفه و ألقاه على أقرب كرسي هاتفا
( تبا ..... تبا ..... من أين لي بالصبر عليها ؟! ..... لقد تعبت دون مبالغة .... )
وقف مكانه و يداه في جانبيه و حين شعر أنه على وشكِ كسر أي شيء في البيت ... عاد و أمسك هاتفه و كتب لها رسالةٍ سريعة غاضبة
" أتدرين ما أنتِ ؟!! .... أنتِ صبارة شائكة يحاول من يحبك اختراق أشواكك الحادة و بعد سلسلة من الجروح يتنهد مرتاحا لوصوله الى قلبك , فلا يجد سوى سائل شديد المرارة كالعلقم ....
يمكنك وضع هذا اللقب بين قائمة ألقابك .... أراكِ مساءا يا صبارة .... "
ثم أرسل الرسالة وهو يشعر ببعض الراحة الشريرة .....
و ما هي الا لحظات حتى وصله الرد فأسرع يفتحه و كان ...
" شكرا لذوقك يا محترم ...... يوما سعيدا ... "
فغر أمجد شفتيه وهو ينظر الى الرسالة ...... ثم لم يلبث أن ألقى الهاتف مجددا وهو يزفر بنفسٍ منفعلا عنيفا ...
هناك شيء ناقص بينهما .... سعى بكل جهده كي يملأ فراغه , و ما كاد يفلح في هذا حتى تسرب كل أملٍ من بين يديه فجأة ... تاركا كلا منهما على حافة منحدر , يولي ظهره للآخر ....
قريبان و في نفس الوقت اقترابهما شبه مستحيل ....
أما مسك ...
فقد ألقت هاتفها هي أيضا على المقعد بجوارها , ثم تبعته بنظارتها السوداء لتشهق باكيةٍ بصوتٍ عالٍ دون أي اعتبار للطريق المزدحم الذي تقود سيارتها خلاله أو نظرات الناس الفضولية لبكائها العالي ...
و حين شعرت بأنها على وشك الإقدام على حادث مروع حتى أوقفت سيارتها جانبا و تركت لدموعها العنان ...
فتابعت بكائها رحمة بقلبها المتعب ...
قبل أن تخرج من باب الشقة و حين كانت تنظر الى ظهره أوشكت على النزول الى ركبتيها و البكاء أمامه متوسلة
" أرجوك لا تتركني .... اضمن لي الا تتركني ..... أريد ضمانة عينية , لأنني لا أستطيع الإكتفاء بما تقول , و لأنه ليس من المنطق في شيء ..... ارجوك لا تتركني ..... أتوسل اليك الا تتركني ... "
رفعت مسك وجهها المبلل المحتقن تنظر الى الطريق امامها و هي ترجع رأسها للخلف .... ثم همست بصوت ممزق
( اتوسل اليك الا تتركني ...... لم أعرف سعادة و رضا لنفسي قبل أن تدخل حياتي .... فأرجوك لا تسلبهما مني ...... )
شهقت بنفس آلم صدرها حتى أنها وضعت راحتها عليه و تشرد بعيدا
" لماذا قبلت به من البداية ؟!! ...... دمرت حياته و حياتي لأجل سعادة قصيرة .... مهجة كانت على حق , كنت في منتهى الأنانية و أنا أختار رجلا لا ينقصه شيء .... كي يرتبط بشبه امرأة .....
أعمى الغرور عيني و تصرفت و كأنني مسك الرافعي ..... ناسية أن مقدارها أنا من أقدره بنفسي و ليس من حقي فرضه على حساب حياة رجل كل ذنبه أنه أحبها .... فأعماه الحب عن رؤية يوم آتٍ لا محالة ... يوم ستنتصر فيه رغبة الأبوة على نداء القلب بعد أن يكون قد خفت صوته ..... "
رفعت يدها و عدلت من وضع مرآة السيارة حتى نظرت الى عينيها الحمراوين الظالمتين ....
و أقرت هامسة بصمت
" اعترفي بأنكِ تطيلين عذابه كي تبقين في المنطقة الآمنة .... طالما لا يزال يريد منكِ شيئا غامضا صعب المنال فهو لن يتركك ...... تتلاعبين بقلبه فيظل يدور في فلكك , لكن الى متى ؟! .... يأتي يوم و يمل فيه تلاعبك حتى و إن لم ينالك كما يتمنى ..... "
أغمضت عينيها بقوة و هي تبكي بأنين يمزق نياض القلب ... و ظلت على حالها حتى سمعت طرقا على نفاذ زجاج سيارتها ...
ففتحت عيناها مجفلة و هي ترفع رأسها .... لترى طفلة لا يتجاوز طولها ارتفاع النافذة , لكنها تبدو في العاشرة من عمرها ... , ترتدي ملابس مهترئة .... لكن على الرغم من ذلك ممشطة الشعر بأنوثة و في عينيها بريق شقاوة لم يمحوه شقاء اللف في الطرقات بعد .... و تمتلك غمازة جميلة ذكرتها بأمجد على الفور ...
همست من بين أسنانها بصوتٍ مختنق و هي تفتح النافذة
" أخرج من ذهني يا حسيني ......أخرج بغمازتك الغير مرغوب بها "
نظرت الى فتاة بصمت , ثم قالت أخيرا بصوت باهت
( أهلا .............. )
اتسعت ابتسامة الفتاة و رفعت لها عددا من علب المحارم الورقية و هي تهتف مترجية
( اشتري مني علبة محارم , حفظ الله لكِ أولادك ....... )
ظلت مسك تنظر اليها دون مشاعر و رأسها مرتاح على مؤخرة مقعدها ... ثم قالت بصبر و بنفس النبرة الباهتة
( ليس لدي أولاد ............ )
ظلت الطفلة تفكر قليلا , ثم قالت مبتسمة
( اذن اشتري مني علبة , رزقك الله بأولاد قريبا ......... )
ابتسمت مسك على الرغم من الدموع التي تغرق وجهها , ثم قالت بخفوت
( لن يرزقني الله بأطفال ........... )
نظرت الطفلة الى أصابع مسك المرتاحة على المقود , ثم قالت عاقدة حاجبيها
( أنت متزوجة ...... كل شيء بإرادة الله ...... )
ابتسمت مسك أكثر , بينما انسابت دمعتان ناعمتان على وجنتيها ثم قالت بلطف
( و نعم بالله ...... لكن الله لن يرزقني بأطفال أبدا و هذا أيضا يخضع لإرادته ...... )
ظلت الطفلة صامتة و هي تفكر في طريقة أخرى تستدرج بها مسك كي تشتري منها علبة محارم بينما مسك تسد أمامها كل طرق الدعاء ... ثم لم تلبث أن قالت بحماس
( اذن اشتري مني علبة محارم , حفظ الله زوجك لكِ ....... )
رمشت مسك بعينيها الحمراوين و هي تحاول جاهدة الا تبكي على الرغم من أنها لم تفقد ابتسامتها بعد ... ثم همست أخيرا بصوتٍ واهٍ ضعيف
( ليحفظه الله في كل الأحوال ..... حتى إن ابتعد ..... )
تهللت ملامح الفتاة الجذابة و هي تقول
( و من يترك القمر و يهبط للأرض !! ..... هل تشترين مني علبة محارم يا قمر ؟!! ..... )
أومأت مسك برأسها و هي تلتفت لتفتح حقيبتها و التقطت منها ورقة مالية ناولتها للفتاة في صمت , فأخذتها الفتاة بعينين متلهفتين و هي ترى الورقة الكبيرة ... ثم قالت بفرحة و أمل
( ليس معي ما يكفي ..... هل تأخذين العلب كلها ؟!! .... لكن حتى إن أخذتِها فلن تكفي ..... )
قالت مسك بوقار و هي تمسح وجهها بظهر يدها
( بل احتفظي بالعلب ....... سعدت بالكلام معك ...... )
ظلت الفتاة تدعو لها و تهتف بسعادة , بينما مسك تتحرك بالسيارة .... ثم ابتعدت لتتخذ أول ملف .....
عائدة الى البيت , فهي لن تسمح لأي مخلوق بأن يراها في مثل هذه الحالة مطلقا ..... 

خرجت مسك من المصعد بتثاقل .... حيث كان يفترض بها الصعود الى شقتها , لكن شيئا ما جعلها تمر لشقة حماتها أولا ..... فهي تعرف أنها الآن تجلس وحيدة في فراشها تنتظر قدوم مهجة ....
الحقيقة أن مهجة تبذل مجهودا ضخما في البقاء مع والدتها لخدمتها بالإضافة الى المرور على شقتها في غياب زوجها ... و الإعتناء بأطفالها و الإهتمام بمطالبهم و دراستهم .... لذا بعض الأحيان تترك أمها نصف نهار .... تسرع خلاله في انهاء كل مصالحها خارجا ....
حتى أنها حددت يوما واحدا في الإسبوع لهذا .... و في هذا اليوم غالبا ما تمر مسك بها بعد العمل ....
و اليوم ستقضيه معها .... طوعا و ليس كرها , فهي غير قادرة على تحمل وحشة الجدران من حولها و هي في مثل هذه الحالة ....
فتحت الباب بالمفتاح الذي تمتلكه و الذي سلمته لها مهجة للطوارىء .... و دخلت ببطىء و دون صوت حتى غرفة حماتها ... فأطلت عليها بهدوء ...
كانت حماتها نائمة في سريرها , مبتسمة الملامح .... مما جعل مسك تبتسم هي الأخرى و ظلت مكانها تتأملها لبضعة لحظات قبل أن تتجه للمطبخ كي تعد فنجان قهوة يساعدها على استجماع بعض قوتها ...
لكن ما أن دخلت المطبخ حتى تسمرت مكانها و هي تنظر الى المنظر الغريب أمامها ....
عقدت مسك حاجبيها و هي تهز رأسها قليلا .... ثم اقتربت ببطىء و حذر تتأكد مما ترى ....
فبجوار الثلاجة كانت هناك عربة أطفال مزدوجة ..... و تحتوي على طفلين صغيرين ....
من الواضح أنهما توأم لشدة الشبه بينهما ..... الا أن الملابس الزرقاء و الوردية أخبرتاها أنهما صبي و فتاة ....
كلاهما مستيقظان و ينظر اليها .... و كلاهما يضحكان لها كذلك !! ......
فغرت مسك فمها ببطىء و هي تهمس
( من أنتما ؟!! ...... المزيد من أطفال مهجة , سقطا من ذاكرتي سهوا ؟!!! ..... لا بالتأكيد لا .... من أنتما ؟!!! ..... )

وصلها صوت ساخر من خلفها يقول بمرح
( هل حقا تنتظرين إجابة منهما ؟! ام أنك ساخرة بطبعك ؟!! ....... )
شهقت مسك منتفضة و هي تستدير حول نفسها ما أن سمعت هذا الصوت الرجولي من خلفها , ثم تراجعت للخلف مجفلة و هي ترى شابا في منتصف العشرينات على الأرجح .... يرتدي بنطالا من الجينز فقط ....
بينما صدره مبلل كشعره و منشفة ملقاة حول عنقه !!! ..... من الواضح تماما أنه كان يستحم هنا في الشقة و قد خرج من الحمام لتوه !!! .....
هتفت مسك بصرامة و هي تستعد لقتالٍ شرس
( من أنت ؟!!! ...... و كيف دخلت الى هنا ؟!!! .....انطق قبل أن أصرخ و أطلب الشرطة .... )
رفع الشاب حاجبيه ساخرا وهو يتأملها مليا .... ثم قال ببساطة مبتسما
( يجدر بي أن اسألك نفس السؤالين ........ لكنني سألجأ لإستخدام تلك الكتلة المسماة مخا و الموجودة في رأس الإنسان عادة .... لكنها معطلة لديكِ على ما يبدو ......لأنني لو كنت لصا , فهل يعقل أن أحضر مناوبة عملي و معي طفلاي في عربتهما ؟! ..... صحيح أن عالم الجريمة قد تطور لكن ليس الى هذه الدرجة .... أفضل تركهما مع والدتهما و التي تتوقف عن النشل في الحافلات , أثناء هجماتي على الشقق كي ترعى الطفلان ..... نحن نسير على مبدأ المساواة عادة ... )
صمت قليلا وهو يرفع احد حاجبيه بخبث وهو يتأملها مجددا ..... ثم قال ساخرا
( اذن على ما يبدو أنكِ زوجة أمجد التي لن تنجب أبدا ....... )
عقدت مسك حاجبيها للحظة و هي تتأمله بالمثل و بإدراك جديد هذه المرة
شاب لا يشبه أمجد في شيء .... أسود الشعر و لديه لحية خفيفة أيضا لكنها سوداء و ملامحه يعلوها المكر ...
لكن نفس الفظاظة في طريقة الكلام , .... حتى أنها تذكرت اسلوب أمجد في التعامل معها في بداية علاقتهما ...
نفس الوقاحة و قلة الأدب ...
كتفت مسك ذراعيها و هي تمط شفتيها إمتعاضا قائلة ببرود
( و أنت الإبن الضال على ما يبدو ..... ماذا كان اسمك ؟! .... آه تذكرت , مصطفى ..... )
رفع مصطفى ذراعيه وهو يقول بمرح هاتفا بطريقة مسرحية
( قامت بإستخدام الكتلة الهلامية في رأسها أخيرا ..... الحمد و الشكر لله ..... )
زادت مسك من مط شفتيها و هي تقول بصوتٍ جليدي
( و كأنني أرى نسخة مصغرة من الحسيني !!! ...... و كأن واحدا لا يكفيني .... )
وضع مصطفى يده على صدره وهو يقول مدعيا الألم
( أوووووتش ..... تشبهني بأمجد !! .... ضربتني في مقتل ...... )
ثم نظر اليها و قال بشقاوة
( لستِ ذكية تماما كما سمعت عنكِ ....... )
رفعت مسك حاجبها دون أن تتأثر , و سألته بجمود و لا مباللاة
( و ماذا سمعت عني ؟! .... بخلاف الغباء و العقم !! ....... )
للحظات لم يرد عليها , و لم يفقد ابتسامته و شقاوته ..... الا أن السخرية زالت من عينيه و لاح بهما تعبير لطيف قبل أن يقول
( سمعت أنكِ أنانية جدا ..... أنانية في اغتنام الفرص في حياتك ..... )
شعرت مسك بقرصة لوعة في قلبها فقد أصاب الهدف تماما دون رحمة , الا أن شيئا لم يظهر على وجهها البارد الأنيق و هي تقول ببرود
( من الواضح أنك كنت على تواصل قوي بمهجة خلال الفترة الماضية .....)
ضحك عاليا وهو يلقي بالمنشفة بعيدا .... ثم اتجه الى عربة طفليه فجثا على عقبيه أمامهما وهو يبحث عن زجاجتي الحليب الخاصة بكلا منهما .... الى أن وضعهما في فمي الطفلين معا ....
راقبته مسك بنفس الملامح الجامدة الا أن الحنين أثار الجوع بداخل قلبها بمنتهى الوحشية و هي ترى نظرة الحب التي يرمق بها الطفلين ....
قال مصطفى دون أن يلتفت اليها ....
( هل تجيدين تغيير حفاضات الأطفال ؟؟؟ ........ )
ارتفع حاجبي مسك تلقائيا و هي تهتف بخشونة
( عفوا !!!!! ........... )
رد مصطفى وهو يتابع ارضاع الطفلين
( الحفاض ...... الا تعلمين ما هو !! ..... وعاء حمل فضلات هذه الكائنات .... عليكِ تغييره كل فترة بآخر نظيف ....)
هتفت مسك بعصبية من خلفه , بينما عيناها تتقدان بشررٍ صامت
( و ما الذي يجبرني على تغيير حفاضات أطفالك ؟!! ..... أحدى مزايا العقم أنني لست مضطرة للقيام بمثل هذه الوظائف الدنيا ...... )
ضحك مصطفى عاليا أكثر وهو يتابع عمله بمهارة ... ثم قال أخيرا بسعادة
( الا أنكِ بصراحة خفيفة الظل ........ )
ردت مسك بإمتعاض
( يسرني أنني رفهت عن جنابك ...... أنا ذاهبة الى شقتي , حين تستيقظ حماتي أخبرها أنني قد مررت )
ثم تحركت بإتجاه باب المطبخ , الا أنه ناداها بسرعة
( انتظري ..... " مستكة " .... انتظري ....)
تسمرت مسك مكانها و هي تضغط على أسنانها بغيظ شاعرة بكل عصب في جسدها ينتفض غيظا , ثم استدارت اليه ببطىء و عي تقول من بين أسنانها مشددة على كل حرف
( اسمي .... مسك .......)
ابتسم مصطفى وهو يرفع الطفلة من عربتها برفق الى كتفه ... ثم استقام ناظرا اليها وهو يقول ضاحكا
( الإثنان متوفران لدى نفس العطار ....... لا فارق ضخم ....)
همست مسك بشيء بدا و كأنه شتيمة ... الا أن مصطفى قال ببساطة وهو يربت على ظهر طفلته
( خذي عبد الرحمان من العربة و ربتي على ظهره حتى يتجشأ ......)
ارتفع حاجبي مسك مجددا و هي تقول بدهشة
( عفوا !!! .........)
هتف بها مصطفى قائلا
( يا فتاة شغلي مخك قليلا ..... خذي الولد كي يتجشأ قبل أن توجعه الغازات .... الا ترين أنني أحمل عائشة ؟!!! ..... كيف سأتدبر أن يتجشأ الإثنان معا ؟!! ......)
ظلت مسك واقفة مكانها تتنفس نفسا لاهبا كالتنين و هي تنظر اليه , موشكة على ضربه بأقرب مقلاة كما كانت ستفعل مع شقيقه مرة من قبل ....
حين رآها مصطفى لا تزال واقفة لا تنوي الحراك , قال ببساطة
( ذنبه في رقبتك ..... منك لله , سيضطر للإنتظار حتى أنتهي من عائشة .... قدر الرجال أن تكون النساء أولا ....)
زفرت مسك بغيظ دون صوت .... ثم اتجهت بنفاذ صبر الى العربة بينما مصطفى يدور في أنحاء المطبخ حاملا عائشة على كتفه يربت على ظهرها و يهمس لها بشيء لم تسمعه مسك .....
الا أنه ابتسم وهو ينظر اليها بطرف عينيه وهي تنحني لترفع عبد الرحمان من عربته و تضعه على كتفها برفق .... ثم بدأت في التربيت على ظهره بحنان
و عم السكون المطبخ الى أن صدح صوت تجشؤ عائشة فإبتسم مصطفى قائلا بزهو المنتصر
( صحة يا سيدة ....... سبقتِ الأسد .....)
ثم استدار الى مسك و قال ببساطة
( هاتِ عبد الرحمان .... يمكنني أخذه منكِ الآن بما أنكِ فاشلة تماما ....)
ابعدت مسك عبد الرحمان عن مرمى ذراعي والده بعد أن وضع طفلته في عربتها و هي تقول بحدة و إباء
( أستطيع فعلها .... توقف فقط عن ازعاجه ......)
ضحك مصطفى رافعا كفيه بإستسلامٍ قائلا
( كما تحبين .......... )
ثم اتجه الى الموقد و سألها بتهذيب
( أتسمحين لي أذن بأن أعد لكِ فنجان من القهوة تعبيرا عن امتناني ؟؟ ....... )
أرادت الرفض و الخروج من هنا سريعا ..... الا أنها قالت بتذمر و جفاء
( أسمح ........... )
ضحك مصطفى وهو يهز رأسه قائلا
( أنا ممتن لقلبك الطيب ........ )
استدارت مسك عنه و هي تربت على ظهر عبد الرحمان ..... الى أن أصدر صوتا أعمق و أكبر من الصوت الذي أصدرته عائشة فهتفت مسك منتصرة
( هاك ............ )
رفع مصطفى وجهه اليها ضاحكا وهو يقول ببساطة
( أحسنتِ ..... الآن ضعيه في عربته و اتخذي كرسيا كي أسكب لكِ القهوة .... )
وضعت مسك الطفل في عربته بحرص ... ثم جلست على أحد الكراسي و هي تنظر اليه بحذر , بينما هو يسكب القهوة ..... فسألها مبتسما دون أن ينظر اليها
( ترى ما هو السؤال الذي يشغل بالك حاليا و أنت تنظرين الي !! ............ )
سحبت مسك الفنجان أمامها و قالت بهدوء و أناقة
( كنت أتسائل ..... ألست صغيرا على أن تكون والدا لطفلين ؟!! ....... )
جلس مصطفى أمامها وهو يقول يائسا
( الطفلان جاءا في نفس البطن ..... لذا أعتبر والدا مرة واحدة يا ذكية ...... )
قالت مسك ببرود
( لازلت صغيرا في نظري ....... التساؤل الثاني لماذا لم تأتي زوجتك معك بعد كل هذه الغيبة ؟!! ..... )
ظل مصطفى صامتا قليلا وهو يرتشف قهوته ببطىء ..... ثم قال بهدوء وهو يرفع عينيه اليها
( فكرت أن آتي بالأطفال أولا كورقة ابتزاز عاطفي ...... فزواجي مرفوض نوعا ما .... )
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول
( لم أعرف أنك متزوج من الأساس .......... )
رد عليها مصطفى و هو ينظر اليها بفضول
( ألم تحاولي السؤال عن شقيق زوجك مطلقا ؟!!! ......... )
هزت مسك كتفها و هي تقول بنبرة ذات مغزى
( لم أهتم للسؤال ..... فأنا لا اشعر بالفضول تجاه أي انسان عادة ...... بخلاف البعض ممن يقتنصون المعلومات عن الغير ....... )
ضحك مصطفى وهو يقول دون خجل
( إن كنتِ تقصديني بتلميحك , فأنا أعترف بأنني شعرت بفضولٍ كبير لمعرفة كل ما يخص الفتاة التي قرر أمجد الزواج منها فجأة ...... )
سألته مسك مباشرة بغرور
( أتسائل كيف كان انطباعك حين عرفت بعض المعلومات عني .......... )
قال مصطفى دون تردد
( صدمت حتى أنني نسيت فمي مفتوحا .... الا أنني خلال لحظة انفجرت ضاحكا بقوة .... )
ظلت مسك ساكنة تماما و هي تنظر اليه دون تعبير ثم سألته قائلة
( الا ترى نفسك فظا , سيء الاخلاق , شديد الوقاحة ..... أم انك ببساطة تكره أخيك لدرجة التشفي فيه ؟!! ..... )
نظر اليها مصطفى وهو يقول ببراءة
( و لماذا أتشفى فيه ؟!! ........... لقد تزوج الفتاة التي أحبها رغما عن الجميع , مضحيا لأجلها بالكثير ... )
شعرت مسك بنفس لوعة الألم التي اعتادت عليها مؤخرا , فأخفضت وجهها لترتشف القهوة تداري فيها حزن ملامحها .... الا أنها لم تلبث أن رفعت وجهها و هي تقول بدهشة
( لم تسألني عن نوعي المفضل من القهوة ..... و على الرغم من ذلك فقد أعددتها كما أحبها تماما !!! .... هل قهوتي المفضلة كانت أحدى المعلومات التي حصلت عليها و تخصني ؟!!! ..... )
ضحك مصطفى وهو يقول بمرح
( لا تغتري الى هذه الدرجة ........ هل ما في الأمر هو أننا متشابهان .... لذا من الطبيعي أن يتطابق نوعنا المفضل من القهوة ...... )
رفعت مسك حاجبها و هي تسأله بسخرية
( أنا و أنت نتشابه ؟!!! ...... ما هو وجه التشابه يا ترى ؟!! ....... )
رد عليها مصطفى دون تردد
( ألم أخبرك منذ قليل ؟!! ........ انكِ من النوع الأناني الذي يغتنم الفرص في حياته ..... و أنا أيضا كذلك ..... )
لم ترد مسك و هي تبادله النظر بملامح جامدة بينما هو يرتشف قهوته مبتسما راضيا ...
فسألته مسك بتردد
( ألم ترى والدتك منذ خروجك من البيت ....... )
أجابها مصطفى و قد اختفت ابتسامته
( كنت أتصل بها ......... و هي أتت لمقابلتي في شقة مهجة مراتٍ قليلة .... )
رفعت مسك حاجبها و سألته بخفوت
( و ماذا عن أمجد ؟!! ...... ألم يفعل أبدا ؟!! ........ )
ابتسم مصطفى ابتسامة أبعد ما يكون عن المرح وهو ينظر الى سطح قهوته .... ثم قال بخشونة
( لم يفعل ...... ...... )
عقدت مسك حاجبيها و سألته بدهشة حقيقية
( لا أفهم كيف استطاع أمجد فعل هذا !! ..... مر أكثر من عام على خلافكما بكل تأكيد ..... هل طردك من بيت والدك ؟!! ..... )
رد مصطفى بجفاء دون أن ينظر اليها
( بل أنا من خرجت من البيت و رفضت العودة الى أن يعتذر ....... )
هتفت مسك مصدومة
( يعتذر !! ..... تريد من أخيك الأكبر أن يعتذر لك ؟! ..... ماذا فعل ؟!! ..... )
نظر اليها مصطفى و قال بهدوء
( عليكِ سؤاله بنفسك بعد أن تتحلي ببعض الفضول ....... )
ظلت مسك صامتة طويلا ثم سألته أخيرا
( ما الذي جعلك تغير رأيك و تأتي الى البيت ؟!! .......... )
قال مصطفى دون مقدمات وهو يتأملها
( أنتِ .............. )
ارتفع حاجبي مسك و هي تتراجع في مقعدها قائلة بدهشة
( أنا ؟!! .......... كيف ؟! ..... )
أومأ مصطفى برأسه وهو يقول ببساطة
( أردت رؤية الفتاة التي تزوجها أمجد ........ فانتظرت الى أن تكون معي ورقة الإبتزاز العاطفي التي أخبرتك عنها , ثم أتيت ...... )
نظرت مسك تلقائيا الى الطفلين في عربتهما .... ثم أعادت عينيها الى مصطفى قائلة
( لماذا تريد رؤيتي ؟؟ .......... )
تأملها مصطفى مليا .... ثم قال أخيرا مبعدا عينيه عنها
( فضول ............. )
استنتجت مسك أنه لا يريد الكلام أكثر فصمتت و هي ترتشف المتبقي من قهوتها .... ثم سألته مجددا لكن بصوتٍ خافت
( لماذا لم توقظ والدتك كي تراك ؟؟ .........أقصد كي تعرف أنك هنا .. )
قال مصطفى ببطىء
( خفت عليها أن تستفيق على صوتي فيضطرب قلبها .... ففضلت أن تستيقظ من نفسها , .... لقد مر عامان منذ أن خرجت من باب هذا البيت .... )
لم تجد مسك ما ترد به سوى أن همست
( هي تستيقظ في مثل هذه الساعة عادة ...... لا تطيل في قيلولتها الصباحية .... )
ثم ظلت صامتة قليلا , و قالت بعد فترة
( أنت أصغر مما توقعت ...... لقد أنجبتك أمك في سن متقدم على ما يبدو ..... )
رفع مصطفى وجهه اليها و قال ضاحكا
( نعم ...... كنت غلطة غير محسوبة أغلب الظن ....... )
لم تستطع مسك منع نفسها من الإبتسام ... لكنها لم ترد و هي تداعب حافة الفنجان برفق ..... الى أن سمعا معا صوت مفتاحٍ في باب الشقة , فنظر كلا منهما الى الآخر و قالت بهدوء
( لقد عادت مهجة ............. )
لم تكد تكمل عبارتها حتى سمعت صوت أمجد وهو ينادي بقلق
( مسك ....... هل أنتِ هنا ؟؟ ............. )
اتسعت عينا مسك و هي تنظر الى ساعة معصمها هامسة بدهشة
( أمجد !! ....... ماذا يفعل هنا في مثل هذه الساعة ؟!! ....... )
و لم تفطن الى تشنج ملامح مصطفى بالكامل ..... بل نهضت مسرعة لتخرج من المطبخ .....
فوجدته يبحث عنها بملامح متوترة , الى أن وقعت عيناه عليها فسألته بقلق
( ماذا تفعل هنا يا أمجد ؟!! ...... أليس من المفترض أن تكون في عملك ؟؟!! ....... )
تأوه أمجد دون صوت .... ثم أسرع اليها و قبل أن تدرك ما ينتويه وجدت نفسها بين ذراعيه وهو يحتضنها بقوة الى صدره حتى سمعت بعض فقرات ظهرها تصدر صريرا ....
ارتبكت مسك و لم تستطع الكلام للحظات , ثم قالت أخيرا بخفوت
( ماذا بك ؟!! ........... )
لم يتركها أمجد , بل دفن وجهه في عنقها ثم قال بصوتٍ أجش
( شعرت بالقلق لأنني أرسلت اليكِ تلك الرسالة اللعينة قبل قيادتك السيارة ..... فلم أستطع التركيز للحظة مما جعلني أترك العمل و أذهب الى عملك لأطمئن عليكِ خاصة و أن هاتفك مغلقا ...الا أنهم أخبروني أنكِ لم تصلي بعد ....... هل لكِ أن تتخيلي الرعب الذي عشته حتى وصلت الى البيت ؟!!! ..... لكن رؤية سيارتك في الأسفل أعادت الي بعضا من أنفاسي ......... )
أغمضت مسك عينيها و هي تتنعم برائحة عطره .... و جمال احتضانه لها و قلبه الذي ينبض خائفا فوق صدرها .... , و في لحظةٍ زال الخصام مما جعلها تعقد ذراعيها حول عنقه .....
الا أن صوتا ساخرا من خلفهما جعلهما يبتعدان عن بعضهما بسرعة البرق
( لطالما كان كلامك أشبه بمطبٍ في طريق سريع ...... ترى ما هو فحوى الرسالة التي أرسلتها الى زوجتك ؟!! ..... )
كانت مسك قد نست وجود مصطفى تماما , بينما اتسعت عينا أمجد وهو يهتف بدهشة
( مصطفى !! ........ ماذا تفعل هنا ؟! ...... )
ابتسم مصطفى دون مرح وهو يقول بخشونة
( هذا البيت لا يزال بيت والدي أنا أيضا ............ )
للحظات رأت مسك مشاعر متعاقبة على وجه أمجد ... أولها كان اشتياق كبير مؤلم , ثم خذلان .... و في النهاية باتت ملامحه كمرآة معتمة لا تظهر شيئا .....
أبعد أمجد مسك الى الخلف وهو يقول بجفاء ,
( أنت من تركته بمحض ارادتك ........... )
كتف مصطفى ذراعيه وهو يقول متحديا
( كنت أظنك قد تغيرت ولو قليلا ...... لكن من الواضح أنني كنت مخطئا .... )
رد أمجد بخشونة
( ما الذي سيجعلني أتغير ؟!! ...... أنا من ظننتك عدت الى رشدك , لكن من الواضح أنك لم تفعل .... )
كانت مسك تنقل عينيها بينهما بقلق .... ثم أمسكت بمعصم أمجد و هي تسأله بحيرة
( ما الذي يدعو الى كل هذا الخلاف ؟! ........... )
لم يرد أمجد عليها , بل نظر الى أخيه نظرة فيها خيبة أمل لم تختفي حتى بعد عامين ..... مما جعل فكه يتوتر و عيناه تظلمان .... الا أنه قال ساخرا , مخاطبا مسك
( دعيني أنا أتطوع لأخبرك بما يخجل زوجك ......... كل الأمر أنني تزوجت من امرأةٍ لم تنل رضاه .... )
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر الى أمجد المتجهم و سألته بحيرة
( هل هذه هي كل المشكلة حقا ؟!!....... )
نظر اليها أمجد طويلا , ثم قال بخشونة
( هو حر ..... لقد اختار حياته بنفسه ............ )
ابتسم مصطفى بغضب وهو يعض على جانب شفته .... ثم سأل أمجد بنبرة غريبة
( كما فعلت أنت ؟!! ......... )
انعقد حاجبي أمجد بشدة من سؤال أخيه , الا أن صوت بكاءٍ مفاجىء جعل ملامحه تجفل وهو يرهف السمع قائلا بتوتر
( ما هذا الصوت ؟!! ..... هل هذا صوت طفل ؟!!! ...... )
ضحك مصطفى قبل أن يدخل الى المطبخ الذي خرج منه منذ قليل ...... و سرعان ما خرج وهو يجر العربة المزدوجة ...... مما جعل عينا أمجد تتسعان بصدمة ....
أما مصطفى فقال بهدوء مبتسما
( عائشة و عبد الرحمان ...... )
ساد صمت غريب موحش بين ثلاثتهم و أمجد يحدق في الطفلين بملامح غريبة و نظراتٍ أوجعت قلب مسك بشدة ..... و بعد فترة طويلة رفع وجهه الى مصطفى قائلا بجفاء
( هل أنجبت زوجتك ؟!!! ............ )
السؤال في حد ذاته زاد من الغضب القاتم في عيني مصطفى .... الا أنه قال بتحدي قاسٍ
( و زوجتك لم تفعل على ما يبدو ......... )
اتسعت عينا مسك , بينما برقت عينا أمجد بتعبير مخيف ثم همس ببطىء شديد
( إياك ......... إياك يا مصطفى ....... )
الا أن مصطفى قال متابعا بحدة و قد علا صوته
( لقد تزوجت الفتاة التي أحببتها رغما عن الجميع ..... مخالفا كل عقلٍ و منطق ...... حرمت نفسك من نعمة الأبوة لأنك أحببتها ..... بينما أنكرت علي نفس الشيء سابقا ..... )
اتسعت عينا أمجد بذهول غاضب قبل أن يهدر عاليا وهو يفقد أعصابه مشيرا الى مسك
( من تقارن بها ؟!!!! ..... انظر اليها ....... امرأة ناجحة متعلمة يتمناها أي رجل له ذرة عقل .....بينما زوجتك ..... )
شعر مصطفى بنفس الإهانة القديمة التي كانت السبب في خروجه من البيت , فصرخ عاليا بنبرةٍ متحدية يقاطع أمجد عن تكرار اهانته
( و على الرغم من ذلك فإن زوجتي هي من أنجبت طفلين .... بينما زوجتك الجميلة التي تليق بك لا تستطيع ..... )
شعرت مسك أنها وقعت ضحية غضب شاب في مقتبل عمره يقذف بسهامه دون مراعاة .....
لكن ما لم تتوقعه هو أن يندفع اليه أمجد و في لحظةٍ لكمه بقوة مما جعله يتراجع للخلف مصطدما بالجدار من خلفه ....
صرخت مسك بقوةٍ و هي تمسك بأمجد بكل قوتها
( أمجد ....... لا تفعل ....... )
بينما استقام مصطفى في وقفته وهو يمسح فمه ببطىء ...... ثم نظر الى أمجد مبتسما دون مرح و سأله بجفاء
( لم تستطع تحمل كلمة قد تؤلمها ...... وقعت في الحب الخطأ بكل جوارحك , فاقتنصت فرصتك في السعادة دون التفكير في العواقب ..... )
لم يرد عليه أمجد الذي كان يلهث من فرط الغضب .... و مسك تمسكه , متشبثة به كي لا يتهور مجددا ....
بينما ازداد بكاء عائشة علوا و قد أزعجها الصوت العالي ... مما جعل مصطفى ينحني اليها ليأخذها بين أحضانه وهو يربت على ظهرها و يهمس في أذنها برقةٍ كي تهدأ ....
و فجأة .... علا صوت آخر .....
صوت أمهما ..... و التي خرجت من غرفتها تتلمس الجدار و هي تهتف بلهفة
( مصطفى ....... هل هذا أنت يا ابني ؟!! ...... هل أنت هنا حقا ؟!! ....... )
حمل مصطفى , ابنه عبد الرحمان على ذراعه الأخرى قبل أن يتجه الى والدته ببطىء حتى وصل اليها فهمس بصوت مختنق
( لست وحدي يا أم أمجد ...... لست وحدي .... افتحي ذراعيكِ ..... )
فتحت أمه ذراعيها بصدمةٍ و الدموع تغرق عينيها قبل أن تشعر مصعوقةٍ بجسمين صغيرين ينبضان على صدرها و يتحركان بفوضى محببة ..... فشهقت بنفسٍ مختنق
( أطفالك ؟!!!! ....... أطفالك يا ابني !!!!!!!! ...... أحفادي ؟!!!!! ........ )
دمعت عينا مصطفى و تحشرج صوته و بدا غير قادرا على النطق بينما أغمضت أمه عينيها الغير مبصرتين و هي تبكي بقوة و تأثر محتضنة الطفلين بقوة ..... بينما مصطفى يقبل جبهتها بإنفعال ....
أما مسك فقد كانت تراقب أمجد بقلبٍ منهار .....
ملامحه في تلك اللحظة كانت كفيلة بأن تجعلها تخر على ركبتيها باكية بكل ما يعتمل في صدرها .....
رفعت مسك كفها لتضعه على صدره و همست بخفوت
( أمجد ........ هل أنت بخير ؟؟؟ .......... )
نظر اليها أمجد فجأة بنظرةٍ عميقة قبل أن يضع كفه على جانب وجهها وهو يسألها همسا بخشونة
( هل أنتِ بخير ؟؟؟ ......... )
أومأت مسك برأسها بسرعةٍ تؤكد له أنها بخير , فأخفض كفه يمسك بيدها بقوة وهو يجرها خلفه حتى خرجا من باب الشقة و لم يترك يدها حتى دخلا الى شقتهما ..... و غرفتهما .....
فجلس أمجد على حافة الفراش وهو يفك زر قميصه العلوي بصعوبةٍ دون أن يترك كفها فإضطرت للجلوس بجواره دون صوت و هي ترى ملامح التوتر و الغضب على وجهه .... فهمست مجددا
( هل أنت متأكدا من أنك بخير ؟؟؟ ......... )
أخذ أمجد نفسا مرتجفا .... ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش دون أن ينظر اليها
( أنا بخير الآن ........... )
منحته مسك بعض الوقت ... الى أن هدأ وأطرق برأسه ناظرا الى البساط بصمت ... فسألته بخفوت
( لا أصدق أن الخلاف بينكما لمجرد أنه تزوج فتاة لم تنال موافقتك ......... )
رفع أمجد وجهه ينظر اليها ... ثم قال بنبرةٍ باهتة كئيبة
( فتاة ؟!!! ............ )
ارتفع حاجبي مسك و ضحكت بعصبية قائلة
( نبرتك غير مريحة ........... )
قاطعها أمجد قائلا بلا تعبير
( امرأة تكبره بخمس عشر عاما ............. )
اتسعت عينا مسك و فغرت فمها غير مصدقة ...... بينما تابع أمجد بصوتٍ أكثر قتامة
( حين التحق مصطفى بكلية الهندسة ..... شعرت و كأن ابني هو من فعل , كانت سعادتي لا توصف ... و مرت السنوات ببطىء وهو ينجح بالكاد ..... و أنا لم أضغط عليه كي يتفوق .... لكن فجأة بدأ كل شيء يتغير .... رسب عاما ... ثم الآخر .... و بدأت طباعه تختلف و يتغيب عن البيت كثيرا ...
فراقبته الى أن صعقتني الحقيقة المرة ..... الأستاذ ترك دراسته ... ترك كليته التي ساعدته بكل ما استطيع كي يلتحق بها ..... و عرفت فيما بعد الخبر الأكثر صدمة ..... أنه على علاقةٍ بإمرأة أكبر منه بخمسة عشر عاما .... و لم تكمل تعليمها حتى ..... )
صمت أمجد وهو يتمتم بشيء غير مسموع .... بينما كانت مسك تستمع اليه مصدومة كذلك ......
ثم تابع بصوتٍ عنيف محتد النبرات ....
( ظننتها مجرد نزوة فحاولت جهدي أن أمنعه عنها ...... الا أنه صدمني الصدمة الثالثة وهي أنه يريد الزواج منها ..... حينها فقدت أعصابي و أقسمت بأغلظ الأيمان أن أقف لها بنفسي ..... حينها خرج من البيت بكل بساطة ..... و لم يعد .... و عرفت بعدها أنه تزوجها بسرعة و عاش معها في بيتها كي تنفق عليه ...... و الآن هو يعمل في ورشة تخصها ...... )
ساد صمت ثقيل بينهما ... و مسك تنظر اليه غير مصدقة .... ثم نظرت أرضا أخيرا و هي تزفر نفسا مرتجفا قبل أن تقول ببطىء
( أتفهم أنها كانت خيبة أمل لك ............ )
رد عليها أمجد دون أن يرفع وجهه
( خيبة الأمل لا تصف الشعور بالخذلان الذي أشعر به تجاهه ........ لقد أفسد حياته .... )
لم ترد مسك على الفور ... بل ظلت صامتة للحظات ثم قالت أخيرا بهدوء
( ربما ..... لكنها حياته وهو اختار ........ )
رفع أمجد وجهه ينظر اليها ببطىء ثم قال بنبرةٍ غريبة
( ماذا ؟!! ......... )
عرفت مسك أنها تخطو في منطقةٍ خطرة في تلك اللحظة ..... الا أنها أجابته قائلة بحذر
( حياته ..... أي كانت الطريقة التي اختارها , فهي في النهاية حياته و سيحياها كما يريد ...... )
قفز أمجد من مكانه وهو يهتف غاضبا
( ما الذي دهاكِ يا مسك ؟!!! ..... لا أصدق أنني أسمع هذا الكلام منكِ أنتِ تحديدا ؟!!! ...... لقد ترك دراسته و يعمل عملا أقل مستوى مما كان يستحقه ..... و تزوج امرأة تكاد أن تكون في عمر أمٍ له , تنفق عليه و يسكن بيتها ...... أي فشل آخر ينتظره أكثر ؟!!! ......)
نهضت مسك من خلفه و هي تقول بإصرار
( أنا لا اقول أنني راضية عن حياته ..... لكنها حياته هو ..... لست مجبرة أن أكون راضية عنها , المهم أن يكون هو راضيا ..... )
صرخ أمجد قائلا بعنف
( لا .... لا ..... الأمور لا تتم بهذه الطريقة ........ ليس الهدف الوحيد من الحياة أن يكون الإنسان راضيا عنها فقط .... فلمن حوله حقوقٍ عليه ...... )
ابتسمت مسك و هي تهزر رأسها شاعرة بنفس الألم يتسرب اليها من جديد .... ثم نظرت اليه و قالت بهدوء
( الآن فقط فهمت سبب عودته ...... لقد عرف بزواجك من امرأة لا أمل لها في الإنجاب , بالنسبة له .... أنت أيضا قمت بنفس الشيء الذي أنكرته عليه ..... )
هتف أمجد بحدة غاضبا بذهول
( اخرسي يا مسك ..... اخرسي ...... لا تجرؤي على مقارنة نفسك بها ..... أنتِ ..... )
صرخت مسك بإنفعال مفاجىء و هي تقاطعه بجنون طال كبته
( أنا امرأة عاقر ..... لقد تزوجت امرأة عاقرا ضاربا بأمنية أمك عرض الحائط .... لقد اخترت سعادتك دون النظر الى أي منطق أو عقل ....... إن كان هو قد تخلى عن دراسته فقد تخليت أنت عن أبوتك .... أيهما أهم يا أمجد ؟!!! ....... كن صادقا مع نفسك و أخبرني أيهما أهم ؟!!! .......)
صمتت أخيرا و هي تعض على شفتيها ترتجف من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها .... ثم تابعت بحدة و هي تلوح بذراعها
( لقد عاش التجربة ..... و احتمال كبير أن تفشل .... لكن حتى و إن حدث هذا فسيكون قد خرج بطفلين .... حفيدين لوالدتك .... و سيكمل حياته و يعوض ما فاته .... و ربما تكون زوجته قد حصلت على فرصتها الأخيرة في الإنجاب كذلك .... لذا ستخرج هي أيضا من التجربة رابحة .....)
صمتت مجددا و هي تلهث .... ناظرة الى ملامحه المصدومة و نظراته الذاهلة ....
فاستدارت عنه غير قادرة على مواجهة عينيه أكثر ..... ثم أغمضت عينيها و همست بصوتٍ مختنق
( أعتقد ....... أنا أرى ..... أن تخرج أنت أيضا من التجربة بأقل خسائر ممكنة ..... لقد أخطأنا في زواجنا يا أمجد ........ إن كنت ترى أن مصطفى قد أفسد حياته , فمن الأفضل ألا تفعل أنت ....... )
شعرت بالأرض تميد بها , الا أنها تابعت قبل أن تفقد شجاعتها
( طلقني يا أمجد ............ )
شعرت أن الكلمة خرجت من بين شفتيها كطلقةٍ نسفت قلبها ..... لكنها قوت نفسها و انتظرت الرد ....
انتظرت و انتظرت ..... الى أن سمعت صوتا لشيء يرتطم فوق البساط ....
فاستدارت ببطىء لتجد امجد و قد ضرب كرسيا في منتصف الغرفة ....
عقدت مسك حاجبيها و هي تسأله بصوتٍ مختنق
( ماذا تفعل ؟!!! ............ )
رد أمجد عليها بصرامة
( سنكمل كلامنا الذي قطعناه صباحا ......... )
شعرت مسك بالقلق و الخوف ..... بينما ترك هو الكرسي و اتجه الى دولابه ليفتحه , فقالت مسك بعصبية
( لن نتابع أي كلام يا حسيني ....... أنا خارجة من هنا الى أن تفكر فيما قلته لك للتو ... لأنه على ما يبدو تتظاهر بأنك لم تسمع .... )
ثم اتجهت الى الباب لتخرج .... الا أنها فوجئت بأمجد يقطع عليها الطريق ممسكا في قبضتيه ربطتي عنق من أربطته .... و ملامحه قاسيةٍ بشكل غريب خاصة وهو يجيبها بصرامة
( بل سنفعل يا صبارة ........ )
و قبل أن تستطيع الهرب منه .... انحنى ليرفعها على كتفه و اتجه بها الى حيث الكرسي بينما هي تتلوى و تصرخ بغضب .... فأنزلها على الكرسي بقوة .....
سارعت مسك تحاول النهوض من الكرسي .... الا انه كان أسرع منها فثبتها وهو يمسك بمعصمها و بمهارةٍ عالية قيده في ذراع المقعد بإحدى ربطتي عنقه .....
ثم قيد المعصم الآخر بالربطة الاخرى .....
تسمرت مسك مكانها و هي تنظر بذهول الى معصميها المقيدتين بذراعي الكرسي .... ثم لم تلبث أن صرخت بغضبٍ مجنون
( فك معصمي حالا يا حسيني .................... )
الا أنه لم يهتم لصراخها , بل اتجه ليجلس مجددا على حافة السرير المواجه لها .... ثم نظر اليها مبتسما بهدوء و هي تحاول مصارعة قيدها ... ملوحة بساقيها .... فقال أمجد ببساطة
( توقفي عن المقاومة لأنكِ لن تتسببي الا في وقوعك بالكرسي ..... و أن حدث هذا فسنكمل كلامنا و أنت ملقاة أرضا .... الخيار لكِ ..... )
نظرت مسك اليه بعينين غاضبتين همجيتين و هي تتوقف عن المقاومة .... ثم صرخت عاليا
( أنا لا أحب تلك الأساليب المتخلفة يا حسيني ......... )
رد عليها ببرود
( لم تتركي لي خيارا آخر ...... لقد فاض بي الكيل من غبائك يا ألمظ ......... )
ظلت تتنفس بسرعة و هي غير قادرة على التحكم في غضبها .... بينما تابع أمجد يسألها بجدية
( حين طلبتِ مني أن نكفل طفلا في بيتنا .......... )
تأففت مسك متظاهرة بالملل و قالت ببرود
( ألازلت تتذكر هذا الموضوع ؟!! ..... كان مجرد اقتراح سخيف ...... )
راقبها أمجد بتفحص ثم قال بجدية
( لو كنتِ تدركين كم أعرفك أكثر مما تعرفين نفسك ...... لأدركتِ أنكِ لا تطلقين اي اقتراحاتٍ سخيفة دون تفكير مسبق ........... الآن لنبدأ من جديد ... لماذا أردتِ أن نتخذ طفلا ليس بطفلنا ؟!! ..... )
رفعت مسك عينيها اليه و أجابت بحدة
( لأنني لن أنجب أي أطفال ..... و بدا هذا اقتراحا مناسبا ..... هل يحتاج الامر الى ذكاء ؟!! ...... )
ضاقت عينا أمجد وهو ينفذ الى أعماقها .... ثم سألها بصوتٍ أجش
( هل تريدين الطفل لأن غريزة الأمومة لديك تشتاق اليه ..... أم لأنكِ كنتِ تبحثين عن حالٍ لجعل حياتنا أكثر استقرارا ؟!!! ....... )
ردت عليه مسك بإقتضاب
( و هل يشكل هذا فارقا ؟!!!! ............ )
لم يرد أمجد على الفور ..... بل نهض من مكانه ببطىء و اقترب منها حتى جثا على عقبيه أمامها و يده على كفها ...... ثم قال بخفوت
( فارقا ضخما ........ للغاية .......... أجيبيني ..... )
هتفت مسك بإختناق و هي تشعر بنفسها على وشكِ الإنفجار بكاءا ....
( ماذا تريد مني يا امجد ؟!!! ....... ما الذي تريده مني ؟؟!!!!! ......... )
رد عليها بخشونةٍ هاتفا ..... بجوابٍ آمرا
( أحبيني .............. )
نظرت مسك الى عينيه الغاضبتين ..... العميقتين بشدة ..... فارتجف قلبها و شعرت و كأن أضلعها تلتوي ألما ..... بينما اعاد هو بنبرةٍ أكثر فظاظة
( أحبيني ...........فقط أحبيني ..... )
أغمضت مسك عينيها بتعب مضني الا أنه أحاط وجهها بكفيه وهو يقول بحدة
( لا ... لا لا ....... افتحي عينيكِ , لن أسمح لكِ بالهرب مني ...... )
فتحت مسك عينيها بألم و هي تنظر الى عينيه الغاضبتين .... ثم همست أخيرا بإختناق
( ربما كانت غريزة الأمومة تلح علي بشوقٍ بين الحين و الآخر ....... لكنني حين رغبت في طفلٍ كان هذا كي يكون بيننا رابط للأبد .....لأنني ..... )
صمتت للحظة و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن تهتف بقوة
( لأنني أموت في اليوم ألف مرةٍ منتظرة اللحظة التي ستعود فيها الى رشدك .....و تتركني ..... )
أغمض أمجد عينيه وهو تأوه عاليا قبل أن يخفض رأسه ببطىء حتى ارتاحت جبهته فوق ركبتيها ......
و ظلا على هذا الوضع طويلا الى أن قال اخيرا بتعب
( كم عمرا سأحتاج .... كي أثبت لكِ أنني ببساطة أحبك .... و لن أتركك طالما في صدري نفس يتردد ...... أخبريني يا ألماس كم عمرا أحتاج ؟!! ........ لو كنتِ تملكين من الحب نصف ما أكنه لكِ لربما وثقتِ في حبي ولو قليلا ....... )
شهقت مسك باكية و هي تقول بإختناق
( لا يدوم الحب طويلا .......... صدقني ........ )
رد عليها أمجد قائلا بخشونة
( الحب الذي لا يدوم , لم يكن حبا في الأساس ...... بل شعور مريض و إياكِ و أن تقارني حبي لكِ به ...... إياكِ ........ )
ارتجف صوت بكائها حتى سالت الدموع على شفتيها و هي تنظر الى رأسه مبتسمة ... منتحبة .....
ثم همست أخيرا بضعف
( هلا حللت قيدي الآن أرجوك ......... )
رد عليها أمجد بصوتٍ قاسٍ منفعل
( و لماذا أفعل هذا ؟!! ........ أمنحيني سببا واحدا لأفعل ........ )
ضحكت باكية و هي تهمس بألم
( لأنني أريد أن أتخلل شعرك بأصابعي ....... )
رفع أمجد وجهه اليها ببطىء ينظر الى عينيها بعينين لا يكذب حبهما الا أعمى لا يبصر .....
لكنه لم يحل وثاقها .... بل قال بجفاء آمرا
( أحبيني ................. )
أومأت برأسها بسرعة و همست من بين دموعها بقوة
( أحبك ....... أحبك ....... أقسم بالله أحبك يا حسيني ........ )
للحظات ألجمت الكلمات امجد و كأنه كان يائسا من سماعها ....... ثم لم يلبث أن سارع بفكِ وثاقها بأصابع مرتبكة ... حتى أصبحت حرة تماما .....
فارتمت عليه حتى أسقطته أرضا و هي على صدره .... تقبل كل ذرةٍ من ملامحه و هي تهمس بنحيب خافت
( أحبك ....... و أكره تضحيتك من أجلي و اكره أنانيتي في اغتنام سعادتي بالقوة ...... )
ضمها أمجد اليه بالقوة وهو يغمض عينيه يستمع الى تلك الكلمات التي طال لها الإنتظار ....
ثم همس بصوتٍ أجش خشن
( اغتنمي كل فرصةٍ للسعادة يا ألماس .... فأنا نفسي فعلت حين اغتنمت فرصتي فيكِ ..... )
.................................................. .................................................. ......................
( لن أسمع أي كلام قبل أن أرى بدور بنفسي ........... )
هتف أمين بتلك الكلمات في بهو دار عمه ...... وهو يجيل عينيه في كل مكان بقلق متزايد , بينما عمه و زاهر يقفان أمامه ينظران اليه بغضب فور وصوله ....
ثم قال عمه بخشونة
( لنتكلم أولا يا أمين ............ الأمر لن يمر بهذه البساطة , ..... )
استدار أمين اليه وهو يقول بصرامة
( و انا قلت أنني لن أتكلم الا بعد أن أرى بدور بنفسي ....... )
نظر كلا من زاهر ووالده للآخر ..... ثم قال زاهر أخيرا بخشونة
( اتبعني اذن .................. )
ثم تحرك بإتجاه الغرفة في الطابق السفلي .... و دفع بابها الخشبي يتبعه أمين وهو يحاول أن يتجاوز كتفي زاهر بعينيه القلقتين .....
كانت الغرفة مظلمة .... لا يظهر منها الا شعاع الضوء الداخل من شق الباب .....
حتى فتحه زاهر ثم أشعل الضوء .......
للحظات بدت الغرفة لعيني أمين خالية .... الا أنه حين دقق النظر وجد كومة سوداء ملقاة أرضا بجوار السرير ....
ضاقت عيناه للحظةٍ قبل أن تتسعا وهو يهتف بصوت اجش شاعرا بشيء مفزع يضرب أعماقه
( لا ...... لا .......... )
ثم تجاوز زاهر ليندفع حتى هذه الكومة ..و انحنى أرضا يبعد الشعر الذي وجده عن وجهها ..... مناديا بصرامة
( بدور ...... بدور أجيبيني ..... )
لكن أصابعه تشنجت وهو يرى الكدمات في وجهها فاتسعت عيناه ارتياعا ..... لم يرى يوما امراة مضروبة بتلك الطريقة من قبل .... حتى هو لم يضربها بنفس الوحشية على الرغم من صدمته فيها و خداعها له ..... و الأفظع أن كفيها كانا مقيدين الى أحد أعمدة السرير .....
التفت أمين الى زاهر الذي كان يراقبه متجهما ... و عمه الذي دخل الى الغرفة ....و هتف بقوة غير مصدقا
( لما كل هذا ؟!!!!! ...... فقط كيف استطعتما ؟!!! ........ )
ارتفع حاجبي عمه وهو يهتف بغضب
( هل تعاتبنا يا ولد ؟!!! ........ زوجتك أخطأت خطأ كبيرا , فضيحة لا تغتفر في بلدة كبلدتنا ....... )
صرخ أمين بغضب أكبر
( إن كانت قد أخطأت , فيتوجب عليكما انتظار قدومي ..... هذه زوجتي و أنتما تخطيتماني ...... )
زمجر عمه قائلا
( لا عجب أنها استهانت بك و فعلت ما فعلت ....... )
فتحت بدور عينيها بضعف تنظر الى والدها مما استرعى انتباه أمين الذي هتف على الفور
( بدور ...... هل أنت بخير ؟!! ....... هل تستطيعين تحريك نفسك ؟!! .... هل تشعرين بأي كسور ؟!! ....... )
فتحت بدور فمها و حاولت الكلام .... الا أن شفتاها الجافتان لم تستطيعا النطق سوى بإسمه .... فهمست متوسلةٍ بنحيبٍ متوجع
( أمين .......... )
سارع أمين ليفك كفيها ثم لف ذراعيه حولها بحرص , الا أنها تأوهت عاليا ثم صرخت بضعف ....
توقف أمين على الفور وهو يقول عاقدا حاجبيه بصدمة
( ياللهي ....... و كأن جسدك لم يعد به جزءا سليما ....... )
أبعد المزيد من الشعر عن وجهها المتورم .... ثم همس في أذنها
( هل تستطيعين الوقوف على قدميكِ ؟؟؟؟ ........ )
أومأت برأسها بضعف , فأمسك بذراعيها وهو يقول بحزم
( سأساعدك ...... تشبثي بي ....... )
نهض أمين من مكانه وهو يرفعها اليه و هي تتأوه عاليا مع كل حركةٍ الى أن وقفت على قدميها بالفعل , الا أنها ترنحت قليلا فارتمت على صدره .....
وجد أمين ذراعيه تحيطان بها قبل أن يستطيع منعهما ..... فإحتضنها بقوة مما جعلها تئن عاليا ...
همس أمين بخشونة
( لا بأس ..... لم أقصد الضغط عليكِ ...... هيا بنا لنخرج من هنا , لنعد الى البيت ....... )
الا أن عمه هدر قائلا بخشونة
( ليس قبل أن نضح حدا لما حدث اليوم ............. )
انقبضت أصابع بدور بضعف فوق صدر أمين الذي شعر برعدةٍ تسري جسدها بوضوح .... مما جعله يعقد حاجبيه و يقول بصوتٍ عاليا عنيفا
( لن يقترب منها أيا منكما مجددا .......... كفى تعذيبا بها ......... )
لوح عمه بذراعيه و هتف غاضبا
( لا تكن لينا بهذا الشكل ..... اجمد يا ولد و أجبرها على احترامك , أو ستقدم على ما فعلت كلما شعرت بالملل و رغبت في وصم كرامتك ....... كن رجلا ..... )
لم يرد أمين و لم يشعر بالإهانة , بل على العكس .... نظر الى عمه بنظرة أعلى و أكثر تفوقا .... و كان أن يتغاضى عن إجابته ....
الا أن صوت بدور علا فجأة و هي تقول بأحرفٍ مشددة
( أمين رجل ......لن أسمح لأحد بأن يهينه ......... )
ارتسمت الصدمة على ملامح والدها وهو يسأل بنبرة تفيض بالشر
( هل تردين كلمتي بكلمة يا حيوانة ؟!!! ........... )
صرخت بدور فجأة
( أنا لست حيوانة ........ لست حيوانة .......... )
قال أمين بصرامة
( اصمتي الآن يا بدور ...... دعينا نخرج من هنا ...... )
بينما جن جنون والدها وهو ينظر حوله صارخا بغضب
( والله لن تخرج من هنا ....... أين الخرطوم ..... أين هو ...... كان في يدي ...... من أخذه ؟!!! .... )
أزاح أمين بدور خلفه و قال قاطعا
( لن يمسها أحد .......... )
الا أن بدور لم تصمت ..... بل صرخت مجددا بشجاعة
( و انا لن أوقع يمين قسمك و لن أخرج من هنا ..... لأنني مصممة على طلب الطلاق .... )
استدار اليها أمين صارخا بقوة
( اخرسي يا بدور ....... اخرسي حالا ......... )
لكن كلا من والدها و أخاها حاولا الوصول اليها عبر أمين الذي قام بإعتراض هجومهما بكل قوته وهو يصرخ
( لن يضربها أحد ......... ....... )
أمسك عمه بمقدمة قميصه وهو يهتف به غاضبا
( الا تسمعها ؟!. ........ زوجتك تطلب منك الطلاق بعد أيامٍ من زواجكما بكل عينٍ متبجحةٍ وقحة ..... الا تمتلك بعض النخوة ؟!!! ......... )
فتح أمين فمه ليرد بقسوة , الا أن بدور صرخت من خلفه بغضب و جنون
( أمين يمتلك من النخوة و الشهامة ما جعله يتستر على ابنتك ......... )
اتسعت عينا أمين بذهول وهو يستدير الى بدور ناظرا اليها بعدم تصديق .... الا أن ملامحها كانت عنيفة بشكلٍ غريب و كأنها فقدت كل ما تخاف منه أو عليه ....
صرخ فيها أمين بصرامة
( قلت لكِ اخرسي ............. )
الا أنها هتفت بعنف و هي تنظر الى والدها الغير مستوعب
( لن أخرس ...... أنا أطلب الطلاق لأنني لا أستحق رجلا كأمين .... رجل تستر علي بعد أن سلمت نفسي لراجح ..... )
ساد صمت مجنون بين الجميع وهم ينظرون اليها بذهول ..... فصرخت أكثر
( نعم ....... راجح جعلني زوجته ثم تخلى عني ..... و أمين هو من تستر علي .......يمكنك قتلي الآن لا آبه ...... )
كان أمين عاجزا عن الكلام غير مصدقا لما فعلت بينما هجم عليها زاهر وهو يصرخ بذعر
( سأقتلك ........ سأقتلك يا بنت الحرام .......... )
أما والده فصرخ بصوتٍ يرتجف
( أين السلاح ؟؟؟ ............ أين السلاح ؟؟؟؟؟ سأقتلك ..... سأقتلك ؟؟؟؟؟ ....... )
بينما سقطت أمها على ركبتيها أرضا و هي تضرب وجنتيها بقوة مولولة ........
للحظات ظل أمين متسمرا مكانه .... الى أن اتخذ قراره بسرعة ..... فاندفع الى زاهر و أبعده عن بدور بالقوة صارخا
( لن تستفيد شيئا من قتلها سوى الفضيحة ........ تعقل يا غبي .... هي الآن زوجتي و أنا قررت أن يدفن هذا الأمر للأبد ....... )
لم يبدو على زاهر انه قد سمع شيئا ...... وهو يحاول الوصول الى عنق بدور مما جعل أمين يلكمه بكل قوته فترنح زاهر قليلا .... فانتهز أمين الفرصة و قبض على مقدمة ملابسه يصرخ في وجهه كي يستوعب
( أفق يا زاهر ....... لقد أصبحت أختك زوجتي أمام الجميع , فلماذا تفضح أسرتك .... أفق .... )
توقف زاهر عن المقاومة وهو ينظر الى أمين بذهولٍ لاهثا .... ثم الى بدور التي وقفت متشبثة بأحد أعمدة السرير تنظر اليهما ببريقٍ مخيف يظهر في عينيها .....
أما والدها الذي أراد الخروج ليبحث عن سلاح .... توقف مترنحا ليمسك بإطار الباب وهو يحني هامته ... شاعرا بدوارٍ عنيف .....
فهتف امين بقوة .....
( تخلى عن فكرة السلاح يا عمي ....... ابنتك لم تخالف الشرع , لذا ليس عليها اقامة حد أو تطهير شرف ...... فما الداعي للفضيحة الآن بعد أن أصبحت امرأة متزوجة أمام الجميع ....... )
رفع عمه كفه ليحك بها جبهته التي أخذت تتعرق بغزارة بينما جحظت عيناه بشكل مخيف .....
فانتهز أمين فرصة صدمتها و صرخ فيهما يقول
( هل تريدان أن أطلقها لتقتلاها و تنتشر الفضيحة ؟!!! ....... هل هذا حقا ما تريدان ؟!!! ........... )
ساد الصمت مجددا , ..... صمت لا يقطعه الا عويل أمها ......
و طال أكثر و أكثر ...... الى أن قال أمين أخيرا لاهثا
( هذا أفضل ...... أرى أنكما قد بدأتما تفكران بالعقل ........... سآخذ بدور في يدي الآن و أخرج من هنا .... فلا تحاولان اعتراض طريقنا لمصلحة الجميع .....و سيدفن هذا السر بين جدران هذه الغرفة للأبد .... . )
ثم استدار الى بدور و مد كفه اليها , قائلا بصرامة
( تعالي ............. )
كانت بدور تنظر اليه بعينين متوسلتين أن يتركها لمصيرها بعد أن حاولت دفع ثمن ما فعلت للمرة الأولى في حياتها .... الا أنه حذرها بعينيه الصارمتين كيلا تتجرأ و تعارضه ....
اقتربت بدور منه تعرج بصعوبة و عيناها على عينيه .... الى أن وضعت يدها في كفه .... فأطبق عليها و جذبها خلفه كي يخرج بها من هذه الغرفة الأشبه بغرفة تعذيب من القرون الوسطى .....
لكن ما أن حاولا تجاوز والدها .... حتى رفع يده و أمسك بذراع أمين قائلا بصوتٍ مهزوم
( معروفك ...... لن أنساه أبدا يا ولدي ....... لقد أنقذت سمعة عمك بعد ما فعلته الفاجرة ..... )
رمقه أمين بنظرةٍ طويلة .... ثم قال أخيرا بجفاء
( لا داعي للكلام يا عمي ..... بعض الجروح لا يصلح معها أي علاج , فقط تترك كي تندمل وحدها .... الا أنها ستترك أثرا لا ريب ...... )
.................................................. .................................................. .......................
نظرت تيماء الى وجه قاصي وهو يجلس على درجات السلالم أمام بيتهما بعد أيام طويلة من البحث المضني
ملامح وجهه كملامح أبا ... سٌرِق ابنه الوحيد ......
مدت يدها تمسك بمعصمه و همست بخفوت
( سنجده يا قاصي ......... صدقني ....... لا تصمت هكذا يا حبيبي ....... )
لم ينظر اليها قاصي ..... بل ظل مكانه يتلاعب بغصنٍ جاف خشن ..... ثم قال أخيرا بصوتٍ خالي من أي شعور
( بحثنا عنهما في كل مكان ...... لقد ضاع عمرو للأبد ...... )
جلست تيماء بجواره تتمسك بذراعه قائلة بلهفة
( لا تقل هذا .... لا أطيق نبرة اليأس تلك ..... سنجده يا قاصي أعدك بهذا ,... عد الى الشقة معي أرجوك ...... منذ أيام و أنت تقضي لياليكِ هنا في البيت على أرضٍ خاوية بعد بحثٍ منهك .....
أرجوك لا تفعل بي هذا , قلبي لا يحتمل أن يراك بهذه الصورة ..... )
ظل قاصي صامتا وهو يكسر الغصن بشراسةٍ الى آلاف القطع ..... ثم ألقى بها بعيدا ....
قبل أن ينظر اليها بملامحه المظلمة المرهقة ..... و قال بخفوت
( ابني ........ ابني يا تيماء , ابني ضاع مني لأنني استهنت بقدرات راجح ......... أنا السبب في ضياعه .... )
أغمضت تيماء عينيها و هي تحني رأسها لترتاح على ذراعه .... شاعرة بغصة مؤلمة ....
ينتابها نفس الرعب على الرغم من محاولاتها في تهدئة رعبه ....
لكن ماذا لو سافر راجح و اصطحب عمرو معه للأبد ؟!! ......
ارتعش جسدها و هي تتخيل حالة قاصي حينها .... مما جعلها تشدد من احتضانها له بقوة ....
و بقيا على هذه الحال طويلا بينما الشمس تميل الى الغروب ... حتى سمعت صوت رنين هاتفها مما جعلها تستقيم و هي ترد بالهاتف شاعرة بالتشاؤم منه رغما عنها ....
لكن ما أن ردت حتى وصلها صوتٍ غريب يقول
( عفوا ..... لدينا طفل هنا , أعطانا رقم هاتفك لأنه الرقم الوحيد الذي يحفظه ...... اسمه عمرو ... )
قفزت تيماء هاتفة
( عمرو !!! ............ أين هو أرجوك ؟!! ........... )
رفع قاصي وجهه اليها و قد اتقدت ملامحه , فنهض مندفعا يختطف الهاتف منها وهو يجيب بلهفةٍ و صرامة
( أنا والد عمرو ........ أين هو ؟!! ........ )
رد الصوت الغريب قائلا بإرتباك ....
( والده !! ........ عفوا ما فهمناه أنه كان مع والده , و قد قام أحدهما بإطلاق رصاص عليها فأصابت والده .... وهو الآن في المشفى بحالةٍ مستقرة ..... لكن الطفل مصمم على الرجوع الى قاصي و تيماء ..... )
نظر قاصي الى تيماء بعينين واسعتين ..... فسألته دون صوت عما يجري ...
الا أن قاصي سأل الرجل بتوتر قائلا
( ماذا عن والده ؟!! ......... هل هو في حالةٍ خطرة ؟ ........ )
رد الرجل عليه قائلا
( الإصابة في ساقه .... و قد تضررت بشدة , لكن حالته مستقرة ....... )
أغمض قاصي عينيه وهو يقول ملتقطا أنفاسه
( سآتي على الفور لأخذ الطفل ......... ) 

Continue Reading

You'll Also Like

3.5K 181 11
من الصعب جداً أن يعيش الانسان مع شعور دائم بالألم..لكن الاصعب منه أن لا تكون لديه فكرة عامة حتى عن مفهوم الألم ! عدم الاحساس الخلقي بالألم ! حقيقة مر...
172 70 9
العنوان+صورة الغلاف اختيار #الكُتّاب_العَرب @arab_writers مجموعة قصص قصيرة ١. وماذا بعد ٢. المساعدة تأتي لمن يحتاجها ٣. الحلم المتحقق ٤. هذا جزاؤك 5...
2.2K 97 21
المقدمه كان يتقن الغزل كلماته كانت تجعلها تبحر بعيدا ِمن اين كان ياخذ هذه الكلمات ِلعله قرا كثيرا من شعر جميل ِلعله قرا عده روايات رومنسيه ِكان يقول...
600K 31.1K 38
لم تتوقف حروب الشوارع يومًا بين أقوى المنظمات لفرض السيطرة على أكثر المناطق ثراءً وقوة في "شيكاغو"، وخلال ذلك الصراع الإجرامي كان كل شيء مباح؛ القتل،...