الفصل الخامس ... الجزء الثاني

89.7K 2.2K 50
                                    

" كنت طالبة بكلية الطب .......... لكنني خرجت منها و غيرت مجال دراستي كلها .... "
حين نطقت بهذه العبارة البسيطة و كأنها مجرد ذكرى قديمة لم تعد مهمة لها الآن ....
وجدت عقلها يرسم لها اهتمام الشخص الوحيد في حياتها منذ سنوات و هي تحكي له منبهرة بالكلية ما أن دخلتها اول مرة ....
قاصي ......
و كل يوم باتت تحكي له مغامراتها في أروقة تلك الكلية التي هي عالم في حد ذاته ...
أغمضت تمياء و هي تتذكر ملامح وجهه ذات القناع الجامد ....
و على الرغم من ذلك تبتسم شفتاه في التواءة صغيرة ... وهو ينظر اليها مسترخيا بينما عيناه تبرقان لحماسها ....
ابتسمت تيماء و هي تتذكر المرة الأولى و هي تحكي له عن دخول المشرحة ....
كان مسترخيا ... مستندا الى جذع شجرة قديمة قدم الزمن ... في إحدى الحدائق المزدهرة منذ مئات السنين حيث اصطحبها ....
بينما كانت هي واقفة أمامه .... تنظر بأمل و تفاؤل للمستقبل ....
تقول بسعادة غامرة
( كنت قوية ثابتة ..... لم أهتز للحظة , بينما أصيبت طالبتين بالإغماء و حملوهما على الأعناق خارجا .... بينما بكت باقي الفتيات ..... أما انا فلم يهتز لي جفن ..... )
كانت توليه ظهرها و هي واقفة تنظر الى الحدائق الواسعة أمامها .... تماثل اتساع حياتها في تلك اللحظة ....
ساد صمت طويل من خلفها دون أن يرد قاصي ... فاستدارت اليه بحيرة لترى استرخاؤه و تلك الإبتسامة الصغيرة .... و بريق عينيه الخاطف !! ....
فعقدت حاجبيها قليلا لتقول بلهجة آمرة
( ما بالك صامتا ؟!! ..... يمكنك أن تفخر بي الآن .... أريد أن أسمعك تشيد بشجاعتي .... )
التوت شفتاه أكثر وهو ينظر اليها مبتسما دون أن يتحرك من مكانه .... ثم قال أخيرا بهدوء ساخر
( أيقنت أنكِ شجاعة منذ اليوم الأول الذي رأيتك فيه تصيدين الفئران بينما لا يتجاوز طولك عن مقبض الباب ...... )
ازداد انعقاد حاجبيها و هي تضع يديها في خصرها قائلة
( لم أكن قصيرة الى هذا الحد !!! ........... )
رفع قاصي حاجبا مستفزا وهو يقول
( ظننتك في العاشرة من عمرك ............ )
هزت تيماء كتفها و هي تقول ممتعضة
( اذن كانت لديك مشكلة في نظرك ........ )
ازدادت ابتسامته أكثر ... حتى بدا أصغر سنا , أقل هما .... بدا .... طبيعيا كشاب في مثل عمره و كم أشعرها ذلك وقتها أنها ذات تأثير قوي على حياته ... و روحه ....
و كم أبهجها ذلك !! ....
طال به النظر اليها وهو مسترخيا مستندا الى شجرته .... فارتبكت قليلا و احمرت وجنتاها .....
تلك الشابة التي لم تهب دخول المشرحة ....تقف الآن مرتبكة محمرة الوجه ازاء نظراته القوية المتفجرة ...
لكن هذا هو قاصي ....
قادرا دائما على ارباك كيانها كله .....
لكنها لم تكن تعلم مدى جاذبيتها و هي تقف أمامه ... بينما الشمس من خلفها تشعل شعرها النحاسي المعدني بشعراته المتمردة ....
فبدت أطرافه و كأنها متوهجة تشتعل .....
أما عيناها في الظل ازدادت قتامة لونهما فاصبحتا بلون المحيط الداكن .....
قالت تيماء بارتباك بلهجة مستفزة ... تحاول الهاء عينيه عنها
( هيا ... لا تتهرب من الأمر , أخبرني أنني شجاعة ..... )
طال به الصمت قبل أن يقول بهدوء خافت
( أنتِ جميلة .......... )
أجفلت تيماء من الجملة البسيطة و التي نطقها بمنتهى البساطة كأنه يلقي عليها التحية ....
اختفت ابتسامتها عدة لحظات ... قبل أن تقول ضاحكة بعصبية , و هي تبعد خصلات شعرها الهمجية خلف أذنها ...
( حسنا أنت الوحيد الذي ترى ذلك ..... ألم أخبرك أنك تعاني مشكلة بنظرك ..... ربما لو تخصصت بالرمد فيما بعد لتمكنت من علاجك من باب الشفقة .... )
لم يرد عليها قاصي ... بل زاد من تأمله لها , حتى ابتسمت و نظرت بعيدا ....
ذكرى القبلة الوحيدة بينهما كانت تقتلهما معا .... لا ترحمهما ...
لا تفخر بها , و تشعر بالندم كثيرا ... و متأكدة أنه يماثلها الشعور ....
و مع ذلك لا يستطيع كلاهما محو تلك الذكرى من ذاكرة روحه ....
لم تكن مجرد قبلة .... بل كانت امدادا بنوعٍ من الحياة ....
تنهدت تيماء , فسمعت صوت قاصي الجاف من خلفها يقول آمرا
( تعالي ............ )
استدارت تنظر اليه بارتباك ... قبل أن تقول مبتسمة
( ماذا تريد ؟!! ............ )
لم يرد عليها بل أشار لها بإصبعه بتلك الحركة الآمرة المتغطرسة أن تقترب .... لكنها لم تشعر بالتمرد هذه المرة ... بل بالخوف ....
الخوف من نفسها و من مشاعرها المتهورة .... فقالت مبتسمة بعفرتة ...
( لا أظنها فكرة سليمة ......... )
ظل قاصي يضع على وجهه نفس القناع الساخر الهادىء , قائلا
( لماذا ؟! ........... )
نظرت تيماء الى عينيه لتقول بنعومة
( بعينيك تلك النظرة ............ )
ارتفع احد حاجبيه , و قال مبتسما
( أي نظرة ............ )
برقت عيناها و هي تجيبه برقة
( نظرة فهد يوشك على مهاجمة فريسته ........ )
لم يرد قاصي على الفور ... بل قال بنفس الهدوء و إن كانت لهجته ازدادت دفئا ... وهجا ...
( أتظنين أنني سأهاجمك ؟!! ...... يبدو أنني قد تركت لديكِ انطباعا سيئا جدا ..... )
أسبلت جفنيها و ازداد دفىء وجنتيها بريقا ....
كان يشير الى قلبتهما ... و احساسه بالذنب لا يزال ظاهرا بصوته ممتزجا بالشغف و الذكرى
حسنا ... مهاجمة ليست اللفظ المناسب تماما .....
ربما اللفظ المناسب هو .... اجتياح .... طوفان يوشك على أن يغرقهما معا ....
رفعت عينيها اليه أخيرا و قالت بثقة زادتها جاذبية
( لو تدرك الإنطباع الذي تتركه بداخلي ..... ل ..... )
صمتت قليلا و هي تتأمل عينيه غير قادرة على المتابعة , على الرغم من أنها كانت هي المبادرة دائما في الهجوم اللفظي العاطفي بشجاعة .... بينما هو , لا ينطق ..... و صمته يزيد من جنونها به ....
أشار اليه بإصبعه مجددا وهو يقول بصوتٍ أكثر خفوتا
( تعالي ................ )
هذه المرة لم تقوى على المجادلة ..... فاقتربت منه , الى يده التي فتحها له ... متنازلا عن حركة الصلف المعتادة ...
فمدت يدها تضعها بكفه الذي اطبق عليها برفق .... وقوة ...
ثم جذبها اليه لتسقط جالسة بجواره على العشب الأخضر الندي .....
ظل ينظر الي وجهها طويلا و كأنه لا يرغب في الكلام .... فقط يريد أن ينهل من ملامحها ....
والله وحده يعلم ما الذي يعجبه في وجهها الى هذا الحد !! ......
ضاقت عيناه قليلا وهو يقرأ تلك الملامح .... يحفظها ....
حتى قال أخيرا بصوتٍ خافت .... عميق جدا
( لكم كبرتِ !! ...... و لا زلتِ صغيرة أيضا , فما الحل معكِ ؟!! ...... )
ابتسمت بجمال حتى ظهرت غمازتيها تحفران عميقا في وجنتيها .....
رفع اصبعا مترددا ... و لامس به غمازة وجنتها حتى اترجفت بعمق .... بينما كان هو شاردا ... عاقدا حاجبيه ... ثم قال أخيرا بخفوت
( تلك الوجنة الناعمة , تحملت صفعة قوية كي لا تبتعدي عني ........ )
لم تختفي ابتسامتها ... و لم تهتز حدقتي عينيها ....
على الرغم من أن الشعور بالإهانة كان لا يزال محرقا على روحها ... الا أنها لم تتردد و لن تندم ...
فقالت بخفوت واثق
( انه ثمن بخس جدا يا قاصي .... للحفاظ على الرجل الوحيد بحياتي .... )
ازداد انعقاد حاجبيه والتوى فكه قليلا ..... ثم قال بخفوت أجش
( الرجل الوحيد ؟!! ........ )
أومأت برقة و عيناها بعينيه لا تحيدان عنهما ... ثم قالت بخفوت
( هل لديك شك بذلك ؟!! .... حتى والدي لم أعرفه تمام المعرفة ..... لم أعرف سواك , أحيانا أتسائل كيف كانت حياتي لتكون لو لم أقابلك !! ........ أنت و أمي أصبحتما عائلتي الوحيدة .... )
رأت حلقه يتحرك و كأنه متشنجا ... غير قادرا على الكلام ....
ثم قال أخيرا بصوتٍ خشن أجش
( أنتِ جميلة ....... هل سبق و أخبرتك ذلك ؟! , لكنك ستصبحين غدا أكثر جمالا .... و ستزيدين جمالا بعد غد ...... و ستكونين شابة متفوقة ذات مكانة راقية ..... )
ابتسمت اكثر و اكثر .... و شعرت ان قلبها يخفق بجنونٍ و انفعال ...
الا أنها تمكنت من القول ببساطة و رقة
( و ستفخر بي حينها بشكلٍ لائق ؟!! .......... )
لاح بعض الألم بعينيه .... لم تعلم سببه تماما , فشعرت بنصلٍ من الألم على حافة قلبها ملائما لألمه ....
و شعرت بالخوف و هي تقول بخفوت
( ستكون معي دائما .... اليس كذلك ؟!! ..... لن تتخلى عني أبدا ..... )
لم تعلم إن كانت تقر أمرا واقعا أم تسأله السؤال الذي طالما أرقها
" ما هو مصير علاقتنا ؟!! .... و الى أين ستنتهي ؟!! .... "
لمعت عيناه بنيران الجمر وهو ينظر اليها ....
و اصبعه لا يزال يداعب عمق غمازة وجنتها ببطىءٍ جعلها ترغب في البكاء ....
ثم قال أخيرا بصوتٍ قاسٍ .... قوي
( لن أتخلى عنكِ أبدا ..... و هذا وعد مني و أنا لا أخلف , ثقي بهذا ..... )
ظلت تنظر اليه بعينين مبللتين بالدموع قليلا .... ثم بادرت بجوابه الأقوى على الأطلاق ...
ففعلت ما أملته عليها غريزتها ...
ابتسمت من بين دموعها و هي تمد يدها لتلامس صدره باصبعها فوق قلبه مباشرة ... تدفعه قليلا مداعبة ...
قبل أن تضم قبضتها و تطرق بها بخفة فوق قلبها ... لتهمس برقةٍ قائلة
( أنت تخصني .... أنا .....تذكر هذا دائما .. )
ازداد بريق عينيه ... و ابتسمت شفتاه القويتان العابثتان بالفطرة ... بينما تزايد تسارع أنفاسه قليلا ...
ثم تحشرج صوته وهو يقول بخفوت مبتسما
( هل أستطيع فعلها بالمثل ؟!! .......... )
احمرت وجنتاها و ضربت صدره و هي تقول بصرامة مفتعلة على الرغم من جنون ضربات قلبها
( احترم نفسك ..... و لا تكن قليل الأدب .... )
عقد حاجبيه وهو يقول ببراءة
( على الأقل أنا طلبت الإذن أولا ..... أما أنتِ فتتطاولين دون حرج .... )
ازداد احمرار وجنتيها و هي تقول ممتعضة رغم ابتسامتها
( توقف عن ذلك .... ..... و الا تركتك و ذهبت ..... )
ابتسم أكثر و تعمقت زوايا فمه .... فانتقلت العدوى لها و ابتسمت أكثر ...
أما أعينهما فكانت تراقص بعضها على لحنٍ آخر ....
قال قاصي اخيرا بخفوت دون أن تترك عيناه عينيها
( أنا فخور بكِ ....... يوما ما ستكونين طبيبة ممتازة ..... )
شعرت بالفخر يجتاحها ... و الزهو يملأ كيانها من عبارته البسيطة .... فقالت بفرحة حقيقية
( شكرا .......... أترى لم يكن الأمر صعبا ..... فقط حاول الكلام ... )
شردت عيناه قليلا و ابتعدتا عن التواصل مع عينيها .... فشعرت بالخسارة وودت لو تخترق كيانه كما يخترق كيانها بسهولة الغوص في الماء ....
مدت يدها لتمسك بكفه بقوة و قالت
( قاصي ..... الى أين تذهب و تتركني دائما ..... ادخلني الى حياتك و أفتح لي ذلك المستودع المظلم , لا تخشى شيئا ..... الى متى سأظل أطلب منك أن تطلعني على أسرارك ؟!! .... )
نظر قاصي الى عينيها ... قبل أن يعود و يضع القناع الجامد على ملامحه وهو يقول بخفوت
( هل تخشين أن تكوني قد سلمتِ حياتك الى مجرم مثلا ؟!! ..... )
زمت شفتيها و هي تزفر بنفاذ صبر .... ثم قالت باصرار
( لن تنجح في اثارة غضبي ...... أنا أثق بك أكثر من ثقتي بنفسي .... )
ابتسم شبه ابتسامة بدت كالشبح .... فقالت مبتسمة يائسة
( أنت تحب هذه العبارة ..... اليس كذلك ؟!! ......... )
التوت شفتاه و قال بصوتٍ أجش هامس وهو يلاحق عينيها بعينيه
( أحبها جدا .............. )
عضت على شفتها السفلى و في داخلها همست
" محظوظة اذن هذه العبارة و هي تنال هذا التصريح النادر بمثل هذه البساطة !!! .... بينما أنا ألهث خلفه منذ سنوات .... "
قالت أخيرا بهدوء و هي تضغط كفه بين أصابعها
( اذن سأدللك بها ..... الى أن تملها ..... )
رفع يده الى وجنتها مجددا و همس بخفوت
( لن أملها حتى مماتي .... الثقة هدية ثمينة , و قد اخترتني كي تهديني بها .... )
رفعت يدها الأخرى لتمسك بكفه و تفتحها فوق وجنتها و همست
( اذن الم يأتي الوقت كي تمنحني نفس الهدية ؟!! ....... )
أظلمت عيناه قليلا .... و انعقد حاجباه كان شيئا ما بصدره قد أوجعه فجأة ....
فضغطت كفه أكثر و همست بحرارة
( أخبرني ...... أخبرني و لا تخف ....... )
نظر الى عينيها و همس بصوتٍ أجش متحشرج
( أخبرك بماذا ؟!! ........... )
طارت خصلة من شعره فوق جبهته الناصعة .... فمدت يدها لتبعدها برفق و هي تهمس
( أخبرني عن أمك مثلا ........ )
لم تكن مستعدة الى القبضة التي أطبقت على كفها فجأة بعنف .... تبعده عن جبهته دون أن يحررها ...
اتسعت عينا تيماء بألم و ابتلعت تلك الغصة بحلقها قبل أن تقول بإختناق
( حسنا .... إن كنت تفضل ابقائي بعيدة , على الأقل لا داعي لأن تؤلمني .... أترك يدي .... )
رمش بعينيه قبل أن ينظر الى كفها التي يعتصرها بين أصابعه لدرجة أن عظامها الهشة قد بدأت في اصدار أصوات قرقعاتها الصغيرة ....
حينها انتفض و هو يخفف من ضغط أصابعه على كفها دون أن يتركها ... ليرفعها الى فمه وهو يفتحها بيده الأخرى ... و يطبع شفتيه على راحتها بقوةٍ هامسا
( أنا آسف .......... آسف .... )
تنهدت بحزن و ألم .... ثم همست بخفوت
( و أنا أيضا آسفة .... يبدو انني قد تجاوزت حدودي مجددا ....... )
مد يديه ليمسك وجهه بين كفيه و نظر الى عينيها طويلا قبل أن يقول بصوتٍ عميق ... قوي ...
( تيماء .... أنتِ أصغر من أن تتفهمي احتياجي لكِ دون شروط ..... لكن هذا أقصى ما أستطيع تقديمه ,
فإن أردت الإنسحاب .... الأفضل أن تتخذي قرارك الآن , لأنني لن أقبل به فيما بعد ..... هل فهمت؟!! .... )
ارتجفت تيماء قليلا و همست باختناق
( هل تنذرني ؟!! ......... )
قال قاصي بمنتهى الصراحة والوضوح دون أن يترك وجهها
( بل أهددك ..... قرري الآن .... في هذه اللحظة .... )
عضت على شفتيها بصرامة و هي تسحب نفسا خشنا ... محاولة السيطرة على دموعها كي لا تتساقط أمامه ...
ثم قالت بصوتٍ أجش صلب
( لكن أنت تتخلل حياتي بلا حواجز ....... اليس كذلك ؟؟ .... )
أومأ قاصي برأسه و قال بصرامة و صدق ناظرا الى عينيها
( نعم .... لا حواجز أو أسرار من جهتك .... لأنني سأكون كاذبا لو ادعيت العكس .... الفتاة التي تخصني هي كتاب أوراقه كلها مفتوحة أمامي ... و لن أقبل بأقل من ذلك .... )
قالت تيماء بصوتٍ جامد
( الا ترى أنك غير منصف ؟؟ ........ )
قال قاصي دون أن يتركها ....
( لهذا أمنحك القرار خلال خمس ثوانٍ و بعدها ستكونين ملكي للأبد ...... )
مطت شفتيها بسكون أمام عينيه المشتعلتين .... القلقتين و كم أفرحها قلقه ....
ثم لم تلبث أن تنهدت و هي تقول بخفوت
( نفس قراري ..... أنا لك و أمري الى الله .... مهما كانت شروطك , ثقتي بك أكبر ... )
للحظات ظهر تعبير مختلف في عينيه ... تعبير أكثر عمقا ... أشد احتواءا و امتنانا ....
ثم زفر بقوةٍ وهو يهز وجهها بين كفيه بقوة قائلا من بين أسنانه
( أيتها العفريتة ..... جعلتِني أشك للحظات ..... علي أن أعاقبك على هذا ... )
عقدت حاجبيها و قالت ممتعضة
( هل هذا هو الجواب المثالي على تضحيتي ؟!! .... عليك أن تكون شاكرا و رقيقا .... )
التوت شفتاه قليلا قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( الرقة أبعد ما تكون حينما يتعلق الأمر بكِ سيدتي ........ أشعر دائما أنني على حافة البركان معك و أنني أرغب في ضربك باستمرار .... )
ارتفع حاجباها و اتسعت عيناها و قالت بدهشة
( كم أنت مجامل و كلماتك مطمئنة للقلب الحزين !!! ....... لماذا ترغب في ضربي بالله عليك ؟!! .... بعد كل رضوخي لك و الذي لم أمنحه لمخلوقٍ قبلك ؟!! .... )
ظل ينظر اليها طويلا و ابهاماه يتلمسان وجنتيها برفق .... بينما عيناه زائغتين .... تنظران اليها و بعيدتين عنها في نفس الوقت ....
ثم قال اخيرا بخشونة فظة دون ان يتركهها ... و كأنه ينهرها
( يوما ما ستدركين أنني كنت في منتهى الأنانية حين تمسكت بك و لم ابعدك عني على الفور ..... )
ابتسمت ببطىء ... ثم تنهدت بحزن و هي تنظر اليه تعبا , لتقول بخفوتٍ هامسة
( لقد تركت لي القرار ... و ليس لي سوى أن ألوم نفسي وقتها , فاطمئن ..... )
للحظة تبسمت شفتيه ... لكنه قال بخشونة
( أنتِ عنيدة كالخيول البرية .......... )
ضحكت برقة و قد بدأت أطرافها جميعا في الذوبان ... و كأنه يسمعها ارقى عبارات الغزل ...
هذا هو تأثيره عليها ....
تنحنحت أخيرا و قالت بدلال و هي تميل اليه
( اذن .... هل ستأتي لتصطحبني من الكلية غدا ؟؟ ...... )
تنهد مجددا وهو يحرر وجهها ليقول بصوتٍ واهٍ
( لا أستطيع السفر يوميا ............ )
شعرت بالحرج و خيبة الأمل .... فقالت بكبرياء وجمود
( كما تحب ...... لم أقصد الضغط عليك ... )
نهضت على الفور مبتعدة عنه , الا أنه أمسك بكفها قبل أن تنجح في الإبتعاد و جذبها اليه بقوة دون أن يتحرك من مكانه ...
فسقطت على ركبتيه ببساطة !! ...
احمرت وجنتاها و حاولت النهوض ... الا أنه أمسك بخصرها بكفيه يمنعها من الهرب و همس لها بصوتٍ خشن
( توقفي عن الغباء تيماء ........ )
هزت خصلات شعرها المجنونة و هي تتلوى قائلة بغضب
( اتركني يا قاصي ........ )
الا أن صوته كان أشد صلابة من صوتها وهو يقول بجدية
( توقفي اذن عن الغباء أولا ........ و أنا جاد فيما أقول ...... )
حين لمحت الغضب حقيقيا في صوته ... توقفت عن الحركة و كتفت ذراعيها بعناد كالأطفال ....
فقال قاصي بهدوء
( ظهوري معك كل يومٍ أمام كليتك .......... )
لم يكمل كلامه .... و كأنه لم يجد التعبير المناسب , فالتفتت اليه تيماء تنظر الى عينيه
عيناه كانتا غامضتين .... مراقبتين و ظالمتين في تأثيرهما المهيب عليها ....
فقالت أخيرا بجفاء
( لقد تأخرت قليلا في ادراك ذلك ..... بات الجميع يعلمون أنني أخصك ..... فتاة رجلٍ واحد وهو أنت ... )
لم تبدو عليه السعادة هذه المرة .... بل زادت عيناه قتامة ....
ثم همس اخيرا بصوتٍ أجش
( لقد أسأت الى سمعتك كثيرا ..... هل تدركين ذلك ؟! .... )
شعرت بالخوف .... لم تشأ يوما أن تقع في فخ الخطأ , لكن أي حل آخر أمامها .... طريق مرسوم و ربطها به قبل حتى أن تدرك معنى الأنوثة من الطفولة ....
قالت تيماء أخيرا بخفوت
( نعم أدرك ذلك ........ لا يهمني راي أحد , منذ متى كان لي من أهتم به ؟!! .... فلماذا أهتم الآن ؟!! ... )
قال قاصي بخشونة و يداه تشتدان على خصرها حتى آلمتها أصابعه
( كان علي أنا أن اهتم و أفكر ......... أنا أكبرك بعشر سنوات كاملة .... )
أطرقت بوجهها .... و تنهدت قائلة
( أنا هنا في مدينة ... و أنت في مدينة أخرى ... و على هذا الحال منذ سنوات ... أحارب نفسي و أحارب ذكريات من عرفتهن قبلي .... و أحارب من يضايقونني هنا .... و أحارب كل الظروف التي تبعدني عنك .... فلماذا لا تساعدني قليلا ؟!! ..... أنا أحتاج الى التركيز في دراستي يا قاصي .... أحتاج أن أرتاح قليلا ..... )
حين نظرت اليه .... شكت أن وجهه قد شحب قليلا ... فسارعت لتقول بكل وضوح , مشددة على كل حرف
( و الهدوء لن أحصل عليه الا و أنت معي .... بجانبي ..... )
اسبل جفنيه ليخفي نظرة عينيه عنها .... فعضت على باطن خدها تنتظر رده .... وهي تتمنى أن يذهلها ... و بالفعل أذهلها أكثر مما ينبغي ...
فقد رفع وجهه اليها ليقول مستعيدا قناعه الساخر بسرعة البرق
( هلا نهضتِ من على ركبتي من فضلك .... أم أن الجلوس هنا قد أعجبك كما هو بالتأكيد يعجبني على نحوٍ أكثر خطورة !!! ..... )
.................................................. .................................................. ......................
( هاي .... الى أين سافرتِ بأفكارك ؟!! ...... )
انتفضت تيماء بقوة و هي تعود الى حاضرها بعد عشر سنواتٍ كاملة ....
و تجد نفسها هنا في دار الرافعية , تقف مع فريد ابن عمها ....
بينما أفكارها سبحت بعيدا مع ذكرياتٍ قديمة .... ذكرياتها مع أبن عمٍ آخر لها
قاصي .....
كان الألم بداخلها يتزايد و يكاد أن يفترسها ببطىء ...
رمشت بعينيها و حاولت جاهدة التظاهر بالإبتسام و هي تقول كاذبة
( أنا هنا .......... )
ضيق فريد حاجبيه وهو يراقبها جيدا ثم قال بهدوء
( أشك في هذا .... كنت بعيدة جدا و كأنكِ كنتِ تعيشين زمنا آخر ..... )
ابتلعت تيماء غصة في حلقها و نظرت الى الحقول الواسعة حيث خرجا من الباب الحديدي المزخرف للدار ... فوقفت عند بداية درجات السلم الرخامية ...
لا تعلم متى قابلت فريد في البهو ... و كيف سارت بجواره الى أن خرجا من باب الدار ......
كانت تعيش عالما خاصا من الذكريات المرة ..... شديدة الحلاوة ...
قالت تيماء أخيرا بخفوت
( هذا تأثير المكان فقط لا غير .... أشعر و كأنه جزء مقتطع من زمن آخر , ..... )
ارتفع حاجبي فريد وهو يقول باهتمام
( أنت حالمة جدا ......... )
ابتسمت بتعب و نظرت اليه قائلة
( أنا أبعد ما يكون عن الفتيات الحالمات ......... لقد نسيت الحلم منذ سنوات )
قال فريد بفضول
( آه ..... و هل هناك ما ساهم في قتل الحلم بداخلك ؟!! ...... )
شعرت بشيء ما يوجعها , لا تعلم إن كان ألما جسديا ... أم ألم نفسي أكبر , يضرب روحها بعنف و شراسة ...
قال فريد مغيرا الموضوع حين لاحظ ألمها
( اذن كنت طبيبة يوما ما !! ...... عجبا ..... لم أشعر بأنكِ تصلحين لهذا الدور .... )
رفعت تيماء عينين ممتعضتين الى فريد ... ثم لم تلبث أن ضحكت رغما عنها و قالت بخفوت و يأس
( كنت لأكون عبقرية ..... كنت الوحيدة التي خرجت متحمسة من المشرحة ..... )
اشار فريد باصبعه وهو يقول
( آها .... و هذا دليل على بعد نظري .... من يخرجن من المشرحة منشرحات يصبن عادة بهلاوس و عدم قدرة على متابعة الطريق .....أما من تصاب بالإغماء فهي عادة من ستكون من الأوائل على الدفعة .... )
ابتسمت تيماء و هي تقترب من السور المشرف على السلالم المؤدية الى حديقة الدار
( في الواقع كنت مذهولة من مدى اتساع هذا العلم ....... لكن كل هذا انتهى منذ زمن ... )
اقترب فريد منها و استند الى السور بجوارها ناظرا الى البعيد .... ثم قال ببساطة
( ترى هل الأمر له علاقة بابن عمنا الجديد ...... قاصي الحكيم !!..... )
انتفضت تيماء بقوة و اندفع رأسها تنظر اليه بهلع ... لكن فريد كان يبدو بريء الملامح وهو يستند بمرفقيه الى السور ناظرا الى الحدائق بحبور صباحي دون ان تظهر على ملامحه اي اثر للانفعال ...
قالت تيماء بصوتٍ مرتجف قليلا
( ما الذي .... يجعلك تظن ذلك ؟!! ....... )
لم يلتفت اليها فريد .... بل قال ببساطة
( منذ الأمس و أنا ألحظ تلك الشرارة بينكما ..... نظرته اليك حين كنا نطارد الفأر سويا .... ذعرك و صراخك باسمه حين أوقعته الفرس .... بكائك و انت تنظرين اليه بعد أن فجر قنبلته في الاجتماع العائلي ..... كل هذه تصرفات شخص يعرفه حق المعرفة .... )
ابتلعت تيماء ريقها و قالت بوهن
( أنت مخطىء ........... )
التفت فريد اليها مبتسما ... ليقول بلطف
( لا أظنني مخطىء .......... لكن لماذا تدعين عدم معرفتك به ؟! .. هل سبق و آذاك ؟!! .... )
اتسعت عيناها قليلا و قالت بقوة
( أنت تتوهم فقط .......... )
قال فريد ببساطة
( هل كنتما مرتبطين يوما ما ؟!! .......... )
استدارت تيماء عنه بعنف و هي تتشبث بحاجز الشرفة بقوة .... تنظر الى البعيد , بينما استدار اليها فريد ليقول بهدوء
( لا تخشين شيئا يا ابنة عمي ....... أنا فقط أخبرك أن لو هذا المدعو قاصي الحكيم قد آذاكِ يوما ... فأنا هنا و سأوقفه عند حده ..... )
أظافرها تحفر في سور الشرفة ..... و قالت بصوتٍ قاتم بينما عينيها تنظران الى البعيد
( اسمه ليس المدعو قاصي الحكيم ...... انه قاصي ابن عمك عمران ..... )
ابتسم فريد قليلا قبل أن يقول بهدوء
( آسف ...... لم أقصد الإهانة , و إن كنت ارى أن اسم عمران هو الإهانة في حد ذاتها ..... )
التفتت اليه تيماء .... تنظر الى ملامحه اللطيفة المتفهمة , و عينيه المراقبتين لها ... ثم قالت بخفوت
( هل يمكنني أن أطلب منك طلب ؟!! .... لا تخبر أحد بظنونك الغريبة تلك ...... )
ابتسم فريد وهو ينظر اليها .... ثم قال أخيرا بهدوء
( لا بأس اذن ....... لكن تذكري فقط أنني هنا لو احتجتِ لأي مساعدة ...... )
ابتسمت شفتيها بارتجاف .... ثم همست بخفوت
( شكرا لك .......... لن أنسى هذا ....... )
استدارت عنه قليلا و هي تنظر الى البعيد .... ثم قالت بخفوت بعد فترة طويلة
( أنا سأرحل عن هنا قريبا جدا .... لكن , أردت فقط أن أخبرك ... بأن قاصي من المستحيل أن يؤذي أحدا ظلما أو دون حق ...... )
ابتسم فريد مرة أخرى و قال بهدوء
( سأتذكر هذا ............ )
ابتسمت تيماء بارتجاف و هي تطرق بوجهها .... بينما شعرت بألمٍ جارف بصدرها , أكبر من قدرتها على الإحتمال .....
قال فريد بعد فترة صمت
( بالمناسبة ..... ستجدين محاولاتٍ حثيثة للفت نظرك من ذئاب العائلة , فاستعدي ...... )
رفعت تيماء اليه عينين متسائلتين و هي تقول بحيرة
( ذئاب العائلة !!! ............ )
أومأ فريد برأسه وهو يقول
( نعم ...... فأنتِ العروس المنتظر قرارها بالإختيار ..... تلك العروس تحظى باهتمام الجميع وخاصة اهتمام جدي .... و ما أدراكِ ما هو اهتمام جدي .... سيمنحك الكثير مما لم تتخيليه يوما .... )
برقت عينا تيماء برفضٍ غريزي و همت بأن تنطق بذلك ... الا أن فريد قال ببساطة
( ها هو الذئب الأول يقترب منا ...... فاستعدي ..... )
نظرت تيماء الى حيث ينظر فريد .... فرأت أحد أبناء عمها ...
كان من المتواجدين في الإجتماع العائلي أمس و قد أشار اليه جدها وهو يعرفها به ...
شاب مفتول العضلات وسيم الهيئة ......
الا أنها نست أسمه تماما .....
وصل اليهما ذلك الشاب الطويل الذي يبدو شديد الشبه بأعمامها في جاذبيتهم السمراء الوقورة ....
قبل أن يقول ببرود و عيناه على تيماء
( صباح الخير ..... أرى أنك لم تضيع وقتك يا فريد و ها أنت ذا تبدأ الحفل مبكرا ...... )
نقلت تيماء عينيها بينهما قبل أن تقول بتردد و هي تعدل من وشاحهها حول وجهها بينما نسيم الصباح يداعب بشرتها برقة ....
( أي حفل ؟!! ............. )
قال فريد بتسلية و عيناه على هذا الشاب ....
( لا عليكِ يا تيماء .... ابن عمتك مشيرة يحب المزاح قليلا , على الرغم من أننا نصحناه كثيرا أن يتوقف عنه لأنه لا يجيده و يشعرنا بثقل الجو من حوله حتى نكاد أن نختنق .... )
أمسكت تيماء نفسها عن ضحكة تريد أن تفلت عنها و هي ترى ملامح الشاب تزداد احمرارا و قتامة ....
لكنه استدار اليها ليقول مبتسما بتملق
( تيماء ...... صباح الخير , لم يتسنى لنا الوقت بعد كي نتعرف .... لقد عرفك جدي على أسمائنا لكن هذا لا يكفي ...... )
رمشت تيماء بعينيها و هي تضيقهما محاولة عبثا تذكر الاسم كي لا تقع في هذا الحرج ...
كانت تعتصر ذاكرتها عصرا .....
و بدا و كأنها تعاني محاولة التذكر .... بينما الشاب ينتظرها رافعا حاجبيه على أمل أن تنصفه متذكرة اسمه ....
الا أن فريد قال ببساطة
( ترفق بها يا رجل ..... من الواضح أنها لا تتذكرك أصلا ...... )
شعرت تيماء أن هذا الشاب على وشك ضرب فريد في أي لحظة ..... فتنحنحت و أسرعت بالقول
( بالطبع أتذكرك ..... لكن اعذرني الأسماء تختلط أمامي .... )
ابتسم الشاب الطويل و قال بزهو
( أنا عرابي ...... عرابي مأمون الرافعي ..... )
نظرت تيماء الى فريد تطلب المساعدة بعينيها و هي تهمس
( مأمون !! ... هل هو عم آخر ؟!! ........ )
ضحك فريد وهو يقول بعفوية
( بل هو ابن عم والدك ... متزوج عمتك مشيرة , لذا فعرابي العزيز هذا سيكون الخيار الثاني لكِ .... )
اندفع عرابي ليقول
( قسما بالله إن لم تصمت فسوف .......... )
كادت تيماء أن تسحق بينهما خاصة و فريد يميل قائلا باستفزاز
( أرني ما لديك ..... هيا ....... )
باعدت تيماء بينهما بكفيها و هي تهتف بغضب
( ابتعدا .... أنا بينكما ........... )
كانت تقريبا لا تكاد أن تصل الى كتف كل منهما ..... فنظرا كلاهما الى اسفل حيث هي متواجدة ....
فقال عرابي بغضب مكتوم ....
( لا بأس ..... اعذريني يا تيماء ...... لكن هذا الشخص شديد الإستفزاز و يخرجني عن أعصابي ... )
زفر بقوة ... قبل أن يرغم نفسه على الإبتسام قائلا بتهذيب
( ما رأيك أن أصحبك في جولة لأريكِ الدار و الحديقة ؟؟ ....... )
ارتفع حاجبي فريد بسخرية و تسلية واضحتين وهو يقول بهدوء
( كم هي نزهة ممتعة يا تيماء !!...... سترين أربعة أروقة و مطبخ و خمس حمامات كل منهما أشد جمالا من الآخر .... و أما عن السطح فهو المفاجأة الكبرى ... )
رمقه عرابي بنظرة قاتلة قبل أن يقول من بين أسنانه
( لما لا تذهب و تجد ما يشغلك قليلا ..... ها !! ....... )
قال فريد ببساطة مندهشا
( و أترك تيماء وحدها بين الذئاب ؟!! ..... شهامتي كرافعي اصيل تأبى ذلك ..... )
قال عرابي بعنف
( ماذا تقصد بالضبط ؟!!! ....... )
تطوعت تيماء و هي تأمر فريد بعينيها أن يتوقف
( إنها فكرة جيدة جدا يا سباعي ........... لا بأس ... )
افلتت من بين شفتي فريد ضحكة لم يستطع امساكها.... بينما قال عرابي بحرج
( عرابي يا تيماء ......... )
شعرت بنفسها في منتهى الغباء ... من الواضح أنها لم تسمع نصف كلامه ....
لذا قالت بلطف
( آه أقصد عرابي ..... اسم جميل .... )
نظر اليها عرابي ليقول بلطف وهو يمد يده مشيرا ليقودها تجاه السلم المؤدي للحديقة
( مثل اسمك ........... )
قال فريد من خلفهما
( عرابي و تيماء ....... نعم هناك تقارب عاطفي لطيف .... )
استدارت تيماء اليه و همست بشفتيها دون صوت
" الحق بنا .... لا تتركني ..... "
أومأ فريد بعينيه متزنا وهو يقول ببساطة
( لا تقلقي ..... لن أتركك ..... )
رفعت تيماء يدها لتضرب جبهتها بيأس و هي تهمس
" ياللغباء !!......... "
قال عرابي بنبرة متحفزة
( أتريدين التخلص منه يا تيماء ؟!! ...... )
ابتسمت تيماء بذوق و هي تقول بلهجةٍ راقية
( لا .... لا داعي .... أنا سعيدة بالتعرف اليكم جميعا ..... الحقيقة مجموعة من الشباب كالورد ... )
ضحك فريد وهو يسير خلفهما قائلا
( إنها تتكلم كأمك مشيرة تماما يا عربي ....... ستنسجمان سويا .... )
زفر عرابي وهو يقول
( صدقيني لسنا جميعا مثل هذا الكائن خلفنا ....... )
فابتسمت تيماء رغما عنها و قالت
( جميعكم لطفاء حقا ....... )
شجعته ابتسامتها على التبسم بزهو وهو يقول بصوتٍ خافت متأملا عينيها
( تيماء .... هل هذا لون عينيك الحقيقي أم تضعين عدساتٍ لاصقة ؟!! ..... )
صدرت ضحكة مستائة من فريد وهو يقول ممتعضا
( كم هو قول مستهلك مبتذل !! ........... )
تداركت تيماء الموقف و همست بسرعة
( نعم هو لون عيني الحقيقي ..... أنا لا أغامر بوضع شيء في عيني أبدا ..... )
قال عرابي وهو يتوقف قليلا ... ناظرا الى عينيها
( معكِ حق , من تمتلك مثل هاتين العينين لا تجازف بهما ابدا ...... )
قال فريد بخفوت من خلفهما وهم ينزلون درجات السلم الى الحديقة
( تيراااا رااااا ررراااااااااا ...... )
توقف عرابي مكانه بوجهٍ أسود اللون .... قبل أن يستدير الى فريد ليقول بصوتٍ أجش مهدد
( اسمع لما لا نخرج أنا و أنت و نتفاهم رجلا لرجل بعيدا عنها ......... )
رد فريد ببساطة
( ستكون هذه بداية صباح مشرق بالأمل ..... هيا بنا ... )
نظرت اليهما تيماء و قالت بقوة و صوت مرتفع و كأنها تنهر طفلين مدللين
( اسمعا أنتما الإثنين .... أنا لا أعرف ما بكما , لكن هلا تفضلتما بمراعاة ابتعادي عن بيتي و أمي و عملي .... و ... و كل ما أعانيه حاليا .... و توقفتما عن تصرفات الأطفال تلك !! ..... )
ظل كل من فريد و عرابي ينظران الى بعضهما بحنقٍ متبادل ....
قبل أن يقول عرابي متنازلا
( آعتذر تيماء ..... معكِ حق , لقد أفزعناكِ , لكن هذا هو الحال مع فريد .... يهوى استفزاز الجميع هنا دون ذوقٍ أو نضج ... )
تنهدت تيماء و هي تقول بهدوء
( لا بأس عرابي ...... ..... أنا هنا مجرد ضيفة , ليس أكثر .... يمكنكم العودة الى مشاغبتكما بعد رحيلي .... هذا حقا .... يوحي بجو عائلي حميم ... )
عقد عرابي حاجبيه و قال محتارا
( ترحلين الى أين يا تيماء ؟!! ..... ألم تسمعي كلام جدك ليلة أمس ؟ , ستستقرين هنا أو تسافرين مع ..... )
صمت قليلا ثم ابتسم وهو ينظر الى عينيها بمشاغبة
( مع زوجك الذي ستختارين ......... )
ضحك فريد وهو ينظر الى السماء ... بينما انتاب تيماء الرفض الغريزي لكنها في نفس الوقت الزمت نفسها بالحذر في الكلام
فهي لا تريد ان تعلم احد بموعد سفرها القريب .... فقط لتدعو الله ان تساعدها مسك لمرة واحدة في حياتها ...
لذا ابتسمت لعرابي ابتسامة دبلوماسية و هي تتجنب الرد .... بينما قال فريد منشرحا
( آه ...... ها هو الذئب الثاني , لم يتأخر كما توقعت .... فهو شديد الدقة في مواعيده .... )
رفعت تيماء عينيها لتنظر الى ابن عمها المقصود .....
كان أكبر سنا على ما يبدو من عرابي .... لكن ليس بالعديد من السنوات ...,
أكثر وقارا و أقل مشاغبة ..... لكنه أكثر جاذبية رجولية .....
وجهه من النوع المحبب للنظرة الأنثوية ... بتهذيبه و اتزانه .....
كان ينظر الى ثلاثتهم عن بعد .... ملوحا قبل أن يقترب منهم و عيناه هو الآخر على تيماء ....
و بالفعل ما أن وصل حتى قال بهدوء
( صباح الخير يا تيماء ..... أرجو أن تكوني قد نمتِ جيدا بعد ليلة أمس المفزعة لكِ .... )
ابتسم فريد وهو يقول بهدوء
( ألم أقل لكِ أنه دقيق جدا ... و يدخل الى صلب الموضوع مباشرة ...انه امين ابن عمك راشد يا تيماء )
قال أمين بابتسامة لبقة
( و هذه خصلة أفخر بها ...... تشرفت بلقائك تيماء , بعد سنواتٍ من معرفة أن عمي له أبنة بعيدة ... )
نظرت اليه تيماء بصمت ... وودت لو تتسائل
" لماذا اذن لم يسعى أحد الى مقابلتي ؟!! ...... ام أنه لم تكن هناك حاجة لي و لأمي من قبل ؟! .. "
امتنعت عن القاء السؤال الفظ .... و هي تحاول البقاء حيادية و منصفة ...
فإن كان والدها قد تباعد عنها .... فلماذا تلوم أبناء أبناء أعمامها في عدم سعيهم لمعرفتها ....
ابتسمت تيماء و هي تقول متأملة هذا الوافد الجديد بجاذبيته الراقية
( أنا أيضا تشرفت بمعرفتك يا أمين ...... لطالما أحببت هذا الاسم .... )
ابتسم لها أمين .... بينما كان عرابي من خلفها يغلي غضبا و فريد يرمقه بسخرية ....
نظرت تيماء اليهم جميعا بحيرة .... الثلاث رجال طويلي القامة ... و هي كالقزمة بينهم ...
فارتفع حاجبيها و هي تقول مستفسرة
( اذن ..... هل سنسير معا كلنا ؟!!! ..... الا يريد أحدكم التهرب ؟!! .... )
سارع عرابي للقول بلهجة ثقة ... موجها رسالته للجميع
( أنا لن يشغلني شيء عنكِ اليوم باكمله ....... )
فقال فريد بمودة
( كم هذا لطيف !! ..... اذن سنكون ثلاثة .... لأنني لن أتركها فهي تحت حمايتي .... )
ضحكت تيماء رغما عنها ... فشاركها أمين الضحك و مال اليها ليهمس بخفوت
( أتودين الهرب من هاذين المستفزين ؟!! ....... )
نظرت تيماء اليهما مبتسمة و احمرت وجنتاها بحرج قبل أن تهمس
( فريد يريد حمايتي من ذئاب العائلة .... لذا ليس من العدل أن أتنكر له .... )
ارتفع حاجبي أمين وهو يرمقها باعجاب قائلا
( أنت صريحة جدا !! ............ )
نظرت اليه بثقة و هي تقول ببساطة
( ليس هناك ما أخاف منه كي لا أكون صريحة ....... اعتدت هذا منذ صغري .... )
قال أمين بخفوت وهو يتأملها
( اذن فأنت محظوظة ........... ابقي هكذا دائما , فأنت مميزة ..... )
للحظات شرد خيالها بعيدا .... و قلبها يصرخ بسؤالٍ مفاجىء
" و هل أنتِ صادقة مع نفسك ؟!! ........ "
قال امين بلهجة لطيفة
( فيما شردتِ فجأة ؟!! ........... )
نظرت اليه و هي تهز رأسها مبتسمة رغم امتقاع وجهها ... ثم قالت بنعومة
( لا شيء .... أنا هنا ........ )
ارتفع صوت امين ليقول بمرح
( حسنا يا ذئاب الرافعية ....... سيرنا جميعا لن يكون مسليا , طالما ان كل منكم لا يريد التنازل .... لما لا نركب الخيل و نمنح تيماء الفرصة كي ترى مواهبكم المميزة .... )
قال عرابي بفخرٍ واضح
( أنا صاحب بطولات في ركوب الخيول .... و ليس مثل هؤالاء الهواة .... )
ضحكت تيماء بخفوت و قالت
( مثل مسك اختي ..... فهي ايضا بطلة ركوب خيل ..... )
قال عرابي بتبجح
( لكن الرجال مختلفين عن النساء ...... تعالي و شاهدي بنفسك الفارق الجبار ... )
و بالفعل خلال نصف ساعة كانت تيماء تنظر الى عرابي وهو يجري بفرسه بقوة الريح ... في دائرة الساحة
نفس الساحة التي روض قاصي الفرس فيها أمس ....
و كان هذا كفيلا لأن يجعلها تسافر بذهنها بعيدا ...
مستندة بمرفقيها الى الحاجز الخشبي .... تنظر بعينيها الى فريد و عرابي على ظهر الفرستين ....
لكن روحها في مكانٍ آخر تماما ....
خلال ساعات من الآن ستسافر هي و مسك .....
مسك ستعود الى هنا قريبا .... بينما هي ستبتعد للأبد .......
و تبقى مسك لقاصي .....
سيكون وحيدا .... سيكون مهزوما لأنها رفضته , و لن يكون أمامه سوى مسك بجمالها و عنفوانها ....
تطيب جروحه بقوة و نعومة ....
ستكون خطيبته بحكم سليمان الرافعي .....
فكيف لرجلٍ مثله أن يرفض تلك المنحة ؟!! .......
رفعت تيماء يدها الى صدرها الخافق و هي تتخيل مسك تمسك بكف قاصي ... تضغطها الى صدرها و تبتسم له .... و تخبره أنها ستكون له للأبد !! .....
ترى كم ستبقى هي في ذاكرته بعد ذلك ؟!! ...
يوم .... اثنين ..... شهر .... سنة ......
سنة كاملة بعد زواجه من مسك .... من المؤكد أنه سينسى اسم تيماء للأبد .....
و لن يرى أمامه سوى أطفاله من مسك الجميلة .... الشبيهة بذلك الفرس الأسود المخملي الناعم .....
رفعت تيماء ذقنها بنفور أثار العشعريرة بأطرافها و هي تهمس للبعيد
" تبا لك يا قاصي لو وافقت على هذا الذل مجددا ....... "
كان يوما ما يحمل حقائب مسك خلفها ..... لم يكن سوى خادما لأبيها !! ......
و الآن سيتناسى كل ذلك ؟!! ..... بهذه البساطة ؟!! ....
أظلمت عيناها و هي تتذكر أول شجارا قوي و جدي بينهما .........
" أنا أرفض أن يكون الرجل الذي سلمته قلبي .... مجرد خادما ....حامل حقائب !! " 

طائف في رحلة ابديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن