الفصل الحادي عشر

114K 2.3K 98
                                    


"الليلة السابقة ..... بعد الزفاف "
كانت تجلس في سيارة سليمان الرافعي و التي يقودها عبد الكريم في الطريق الرملي المتعرج .... و بجوارها تجلس سوار في المقعد الخلفي ....
كانت كل منهما تبدو شاردة و هي تنظر من نافذتها الى الظلام الدامس في الخارج ....
و أصابع كل منهما متوترة و متشابكة ......
أخفضت تيماء نظرها الى الهاتف في يدها المتعرقة ... يبدو صامتا خاويا .... شديدة البرودة ....
منذ متى أرسلت الرسالة ؟!!! .....
منذ نصف ساعة ؟!! .... أم ساعة ؟!! ....... لا تستطيع التحديد من فرط انفعالها و خفقان قلبها المؤلم ....
لا هي لم ترسلها .... لقد ضغط اصبعها على زر الإرسال بالخطأ .....
ساد صمت اجوف في داخلها ... و كأنه فراغ قاتم .... لينبعث صوتٍ تردد صداه داخل هذا الفراغ وهو يقول
" لكن أنتِ من كتبتِ الرسالة ....... "
أغمضت تيماء عينيها و هي تتأوه بصوتٍ عالٍ ..... رافعة يدها الى صدرها المتألم ....
لم تنتبه الى أن سوار قد سمعت صوت تنهيدتها العالية الا حين قالت بخفوت
( ماذا حدث ؟!! ........... )
أجفلت تيماء و انتفضت تنظر الى سوار في ظلام السيارة المتأرجحة بهما .... فقالت بصوت مرتجف خوفا من ان تكون قد نطقت بأفكارها علنا في غمرة شرودها السحيق ....
( ماذا ؟!! ...... هل سمعتني نطقت بشيء ؟؟ ..... )
عقدت سوار حاجبيها و هي تتامل تيماء بدقة ... ثم قالت مبتسمة برقة
( لا ..... كنتِ تتأوهين فقط ....... )
رمشت تيماء بعينيها و همست بتوتر ...
( آه نعم .... لا ..... كنت فقط ...... شاردة ..... )
ابتسمت سوار بصمت شارد .... و هي تراقب تيماء عن كثب , ثم قالت بخفوت
( أتفكرين فيمن ستختارين ؟!! ........ )
رفعت تيماء اليها عينين متسعتين متوترتين و هي تقول متشنجة
( ماذا تقصدين ؟!! ......... )
ردت عليها سوار مبتسمة بتعاطف
( أنتِ تبدين كمن يقف على صفيحٍ ساخن منذ وصلتِ الى هنا .... تنتفضين لأقل همسة , على الرغم من وقاحتك و لسانك المحارب ..... الا أنك متوترة كقطة منتفشة الشعر ...... أعرف أن أمر اختيار أحد ابناء أعمامك صعب جدا عليكِ و أنتِ لم تعرفي أي منهم الا منذ ايام قليلة .... )
ابتلعت تيماء ريقها و هي تخفض عينيها ناظرة الى الهاتف البارد بين أصابعها .... ثم قالت بفتور خافت
( آه نعم ...... صعب جدا ..... )
قالت سوار مترددة قليلا , لكن دون أن تفقد ابتسامتها
( حسنا ..... أنا لا أريد الضغط عليكِ أكثر , لكن يمكنني تفضيل أخي أكثر من الجميع ..... إنكما مناسبين لبعضكما جدا .... وهو يمتلك كالذهب , على الرغم من مظهره اللامبالي ..... )
اتسعت عينا تيماء و هي تنظر الى سوار مصدومة .... منتظرة أن تضحك سوار أو أن تصدر اي شيء ينم عن مزاحها ....
الا انها على ما يبدو كانت جادة تماما .....
فغرت تيماء شفتيها و هي تنقل نظرها بين سوار الهادئة و عبد الكريم الذي يقود السيارة ببساطة و كأنه اعتاد الكتمان و السرية ...
ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية و قالت بتوتر
( لا ...... لا صدقيني , أنا لست الزوجة المناسبة لاخيكِ ..... لو كنتِ تملكين ذرة حب أخوي له , لن تعيدي هذا الإقتراح مجددا .... أنا مجنونة في أغلب الاوقات ..... عصبية .... شديدة التملك ...... مشعثة الشعر , وهو على ما يبدو يتوقع شعرا شبيه بشعر أخته ....... أنا كارثة و حلت على من يختارني ...... )
اتسعت ابتسامة سوار حتى ظهرت أسنانها ثم قالت بهدوء
( الجميل في الأمر أنكِ أنتِ من تملكين حق الإختيار ... بأمرٍ من جدي , و يبدو أن أبناء أعمامك ليس لديهم أي مانع أو اعتراض و كل منهم يتمناكِ لنفسه ..... )
مطت تيماء شفتيها و هي تبتسم بسخرية ... ثم قالت بضيق
( ألم تدركي بعد أنهم لا يتمنوني لشخصي أو لجمالي المبهر !! ....... )
قالت سوار بلطف
( لا تكوني قاسية في الحكم عليهم ...... إنهم من أفضل الشباب , معدن شخصيتهم نقي ......)
هزت تيماء رأسها بيأس و هي تحاول انهاء هذا الحوار اليائس ... الا ان سوار تابعت تقول بمرح
( ثم أنني كنت أرشح أخي الآن .... وهو يختلف جدا عنهم , إن كان هناك ما أستطيع أن أضمنه لكِ هو انه مختلف ..... مختلف عن الجميع ..... )
هزت تيماء رأسها و قالت معترفة بمضض
( نعم ..... هو مختلف ..... مختلف لدرجة أنني لو تزوجته لدخلت أنا يمينا و دخل هو يسارا ..... )
صمتت و هي تخفض وجهها تعاود النظر الى الهاتف المظلم كظلام الليل ....
حسنا من تخدع ؟!! ......
من المؤكد أنه قد رأى الرسالة و تجاهل الرد عليها ....
لكن حتى و هي تفكر بهذا الاحتمال كان قلبها يكذبه ....... قلبها يصرخ بها معنفا , الا تتخيل ذلك ....
لكن ها هو الهاتف بارد جامد .... يتحدى صراخ قلبها .....
تنهدت تيماء و هي تنظر من النافذة ..... فقالت سوار بهدوء
( ها قد عدتِ الى التنهد من جديد ....... )
نظرت اليها تيماء بقنوط ثم قالت بخفوت و تردد
( لقد قمت بشيء غبي ........ )
توقعت أن تسألها سوار عما فعلته ... الا أنها كانت تبدو شاردة و تركيزها بعيد ... حتى أنها قالت و عيناها تسرحان في البعيد
( و أنا كذلك ..... قمت بفعل شيءٍ غبي .... جدا ..... )
عقدت تيماء حاجبيها قليلا ... و انتبهت الى سوارفقالت بخفوت
( ماذا فعلتِ ؟!! ............. )
لم ترد سوار على الفور ... بل كانت تبدو و كأنها تسبح في عالمٍ آخر و هي تقول بعد فترة
( تعاملت بطريقة طبيعية مع أمرٍ ظننت أنه ......... )
صمتت قليلا ثم لم تلبث أن قالت بخفوت أكبر و كأنها تحادث نفسها
( كم عمري الآن ؟!! ...... و كم عاما مضى منذ وقتها ؟!! .... مضى عمر كامل !! ....... ترى هل ظني في محله ؟!! ...... )
قالت تيماء بعدم فهم
( عما تتكلمين ؟!! ....... من الواضح أن زيارتك لهذه العائلة قد أثر عليكِ , أنهم ...... )
نظرت اليها سوار مقاطعة بقوة
( لا يا تيماء .... لا تتابعي .... أنها عائلتي كذلك , ربما كنت أنا من ابتعد لفترة طويلة .... اطول مما انتويت .... )
ردت تيماء بخفوت كي لا يسمعهما عبد الكريم
( لكن هذا الرجل الذي أمرك بتغطية وجهك .... بدا شديد التعنت وهو يأمرك بذلك بينما لا يحق له هذا ... من يكون هذا الفظ ؟!! .... )
هتفت سوار معترضة همسا
( لا تصفيه بهذا يا تيماء .... انه ابن خالي و معلمي ..... كان شيئا كبيرا جدا بالنسبة لي .... له مكانة مميزة لم يحتلها أحد سواه .... )
كانت تيماء تسمعها بتركيز .... و كأنها تصف نفس المكانة الخاصة التي وضعت بها قاصي قديما .... فوق جميع البشر ....
لكن مكانة قاصي عندها كان العشق يكللها .... أما سوار فكانت تتحدث عن رمز أكثر منه رجلا .....
أما قاصي فكان الرجل الوحيد بحياتها .....
قالت تيماء و هي تحاول الخروج من دائرة قاصي المحيطة بروحها ولو بالقوة
( لكن لماذا بدا شديد التسلط ؟؟ ....... هل يتصرف بتلك الطريقة مع زوجته ؟!! ..... )
نظرت اليها سوار مصدومة من السؤال العفوي .... فترددت قليلا ثم همست باتزان مضطرب قليلا
( لا أظن ذلك .... زوجته تلك التي استفزتني ذات الفستان الأحمر.... إنها ابنة خالي هي الأخرى و ابنه عمه .... )
فغرت تيماء فمها بذهول قبل أن تهتف همسا
( العقرباء المطرزة ؟!! ..... ياللهي !! .... لا عجب اذن أن عقله قد اختل بعد العشرة الطويلة معها !! ..... إنهما كثنائي يشكلان كارثة في حق البشرية ...... )
أفلتت ضحكة متشفية من بين شفتي سوار ... الا أنها كتمتها و قالت بحزم غاضب
( لا يصح هذا يا تيماء ...... )
همست تيماء من بين أسنانها
( و هل تعرف تلك العقرباء الفرق بين ما يصح و ما لا يصح ؟!! .... أقسم بالله لو كان أحدهم قد وجه لي كلاما كالذي وجهته لكِ لكنت اقتلعت عينيها و اقحمتهما في فمها .... ما قالته كان خطأ رهيبا .... فادحا .... حتى أنها ادركت ذلك على الرغم من أنني لست من هذه البلد ..... لقد سمعت ..... )
صمتت تيماء قليلا ... ثم همست بخفوت أكبر متعاطف و غاضب
( لقد سمعت ما همست به في أذنك ....... )
اجفلت سوار و برقت عيناها برفضٍ غاضب و نفور .... الا أنها لم تلبث أن استعادت توازنها بقدرة تثير الإعجاب ....
و رفعت ذقنها و هي ترد عليها همسا بثقة ....
( أنا أكبر من أن اهتز لكلماتٍ وضيعة كتلك ....... أو حتى التنازل الى مستوى الرد عليها )
أبعدت سوار وجهها تنظر الى النافذة في الظلام منهية الحوار ... الا أن بداخلها كانت تتوهج شعلة من الغضب .... فما فعلته و قالته ميسرة لا يغتفر ...
لكن الأكثر دناءة منها هو راجح ...... ذلك الذي يتعمد حتى هذه اللحظة أن يفضحها و يسيء الى سمعتها دون شرفٍ أو نخوة .....
حتى وصل به الأمر أن يشهر بها أمام .... ليث ... ...
لم تكرك أنها كانت تقبض كفيها معا بشدة .... و هي تتخيل ردة فهل ليث على كلام راجح ......
أغمضت عينيها و هي تتنفس نفسا غاضبا ... لافحا ... و هي تهمس في داخلها ....
" لقد ثقل حسابك معي يا راجح ..... ثقل جدا .... "

أرادت تيماء الكلام .... هناك شيء ما يخصها في ما سمعته ....
لا لا يخصها تماما .....
لكن راجع الرافعي الذي ذكرته .... اليس هو أخ قاصي ؟!! ... هل يحب سوار ؟!! ...
توقفت تيماء و هي تنظر الى سوار مطولا .....
كل الطرق تطوف حول قاصي من قريب أو من بعيد .... أو ربما كانت هي من تربط العلاقات دون ارادة .....
أطرقت تيماء قليلا بوجهها و هي تفكر أن راجح هذا يبدو شرسا ... من نظرات عينيه الغير متزنة و الأقرب للعبث ....
و منذ المواجهة التي سمعت عنها بينه و بين قاصي .... لم ترى قاصي .....
رفعت تيماء وجهها مصدومة و قلبها يخفق بعنف !! ....
ترى أيكون قد آذاه ؟!! .....
لكن قاصي أقوى و اعنف و هي أدرى الناس به .... لا يمكن لشاب مدلل مثل راجح أن يهزمه بشيء !! ....
أغمضت تيماء عينيها و هزت رأسها بيأس ....
إنها على وشك الإصابة بالجنون حتما ......
أجفلت فجأة حين سمعت صوت رنين مميز لوصول رسالة على هاتفها !! .....
فانتفض قلبها في اللحظة الواحدة آلاف المرات ... حتى أصبح بقائها حية يعد معجزة في حد ذاته ....
أخذت تتنفس بصعوبة و هي غير قادرة على النظر للهاتف ...
لا تزال مغمضة عينيها و قلبها يعزف لحنا صاخبا ...
و حين استجمعت كل قواها ... استطاعت رفع جفنيها بصعوبة و هي تفتح الرسالة بأصابع خرقاء مرتجفة ....
هبط قلبها دفعة واحدة وكأنه أعلن فجأة عدم رغبته في الحياة ...
فقد كانت الرسالة من أيمن ...
و كان هو الشخص الوحيد الذي تتمنى سماع اي كلمة منه ...
رسالة مترددة ... تحمل اطارا من التهذيب و بعدا من الإحراج ..... لكن مما لا شك فيه انها كانت انسحاب لبق كلي ....
" مساء الخير يا تيماء ..... أعرف أنها رسالة متأخرة جدا ....
لكن موقفي كان غاية في الحرج , و انا أعلم أنني قد تسببت في الالم لكِ دون قصد .... الأمر كان أكبر مني و أرجو أن تدركي ذلك و تقدري أنكِ لم تكوني تامة الوضوح أمامي .....
لم أعرف عن ظروفك كاملة و كان هذا ليوفر علينا الكثير من الحرج ....
لازال رأيي هو نفسه .... أنتِ انسانة رائعة و قوية و تشرفين أي رجل .... و ربما ستكون عائلتك أكثر حظا مني بكِ ....
سبب ارسالي لهذه الرسالة هو أبلاغك أنني على استعداد تام لمساندتك في نيل المنحة التي كنتِ تسعين لها ... و سأساعدك بكل ما أستطيعه ..... و هذا أبسط ما أقدمه لكِ .....
أنا انتظرك في الكلية متى كنتِ جاهزة .... و أتمنى رؤيتك بأعلى المراكز .... "
ظلت تيماء تنظر الى الكلمات طويلا ... بعينين فاترتين .. خاليتين من الحياة ....
ثم لم تلبث أن أغلقت الرسالة و هي تلتقط نفسا عميقا ... ناظرة الى الليل المظلم أمامها .....
هل من المفترض أن تشعرها تلك الرسالة بالتحسن ؟!! .....
حسنا لا يمكنها لومه تماما .... ربما كان معه بعض الحق في أنها اخفت عنه بعض الحقائق ...
مثل حقيقة وضعها و امها كدرجة دنيا في هذه العائلة ....
اخفضت عينيها الكسيرتين .... و هي تفكر أن موقف أيمن كسر جزء منها ...
الجزء المعطوب منها و الذي يشعر بالنبذ و الدونية منذ سنوات طويلة ....
الا انه لم يمس قلبها أبدا ....
رجل واحد هو الوحيد القادر على جعل قلبها ينتفض انتفاضته المعروفة المؤلمة ......
رجل واحد وهو الذي ارسلت له نداء احتياج ما أن رأت عروس ترتدي ثوبا أبيض .... و الابتسامة تظلل وجهها بسعادة واضحة ...
حينها لم تدري الا و اصبعها يبعث بتلك الكلمة المثيرة للشفقة اليه ....
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين قليلا بألم ...هامسة لنفسها
" لكنه لم يرد ...... لم يرد ..... "
لقد هربت جريا من حفل الزفاف بجنون خوفا من أن تجده منبعثا من العدم .... لكن ها هي تقف أمام نفسها لترى مدى الغباء الذي تتصف به ...
فقاصي لم يبادر بالإتصال بها حتى !! ...
ربما كان مع مسك حاليا ... يشكو لها من معاناته و تعنتها .... و ربما خففت عنه مسك مربتة على كفه و هي تنصحه أن يتخلى عن أمله فيها ....
و ربما وجد حينها أن مسك هي الأنسب فعلا !! ....
زفرت تيماء بأنين غاضب من نفسها و هي تصل بتفكيرها المشوش الى كل هذه القصص الوهمية المتداخلة ...
تكلم عبد الكريم فجأة قائلا بصوتٍ خشن حائر ...
( من هذا اللذي يشير اليّ على جانب الطريق ؟!! .....)
انتبهت كل من سوار و تيماء من شرودهما الى ما يقوله عبد الكريم ... الا أن الرجل الملوح لهما كان خفي الملامح في هذا الظلام الدامس بالطريق الغير ممهد أو مضيء ....
أبطأ السيارة قليلا الى ان وقف بمحاذاة الرجل الذي انحنى ممسكا باطار نافذة عبد الكريم المفتوحة وهو يقول بصوتٍ عميق مألوف
( السلام عليكم ..... مرحبا يا عبد الكريم .....)
شهقت تيماء بصمت فاغرة شفتيها و هي تتطلع من مقعدها الخلفي الى صاحب الصوت الكفيل بانتفاضة قلبها بين أضلعها ...
وهو ...
هو وحده من سمع شهقتها .... فرفع عينيه الى عينيها مباشرة ....
استطاعت تيماء أن ترى الوهج بهما رغم الظلام الكثيف ... فرفعت يدها الى فمها , غير قادرة على التنفس أو ابعاد عينيها عن عينيه المتربصتين بها ....
تكلم عبد الكريم قائلا
( آه و عليكم السلام يا قاصي ... ماذا تفعل هنا ؟!! ..... )
رد قاصي عليه بصوتٍ عفوي طبيعي ... بينما شعرت تيماء أن كل حرف من كلامح موجها اليها , يتخللها كالسهام
( كنت متوجها الى دار الرافعية ... لسبب هام جدا , لكن السيارة تعطلت مني على الطريق ..... أيمكنك المساعدة ؟!! ..... )
رد عبد الكريم متفهما
( آه ... حسنا لا بأس , انتظرني هنا حتى أصل بالسيدتين حتى الدار ثم أعود اليك ...... )
رد قاصي بهدوء طبيعي تماما
( و لما لا أذهب أنا بهما الى الدار , فقد تأخرت على من يحتاجني جدا ...... )
انهى عبارته وهو ينظر الى تيماء بنظراتٍ حارقة جعلتها تخفض وجهها الملون بسرعة و هي تتنفس بسرعة خيالية ... جعلتها تريد أن تنشق الأرض و تبتلعها ...
و بنفس الوقت تتملكها مشاعر همجية تجعلها راغبة في الصراخ عاليا .... ابتهاجا مجنونا ,... و ذعرا !!!
وبمنتهى العفوية تابع قاصي وهو يشير بذقنه
( مرحبا سيدة سوار ......... )
ردت سوار عليه بقلق
( كيف حالك يا قاصي ؟؟ ..... لقد قلق عليك جدي الفترة الماضية , لقد اختفيت تماما ..... )
رد عليها قاصي بنفس الصوت العميق الراسخ
( ليس وحده على ما يبدو ............ )
التاع قلب تيماء و اختلج بعنف , فنظرت من نافذتها الجانبية متهربة منه و هي تنتفض داخليا بذعر و بهجة خائنة آلاف المرات .....
تابع قاصي ببساطة
( أنا ذاهب عليه على الفور بكل حال ......... )
ردت سوار بهدوء
( لا بأس اذن ...... سيقلنا قاصي يا عم عبد الكريم ليرى جدي وحاول ان تصلح سيارته الى أن أرسل اليك أحد الرجال على وجه السرعة .... فقاصي يبدو مرهقا بشكل محزن .... )
لم يتردد عبد الكريم طويلا قبل ان يخرج من السيارة و يتبادل مع قاصي بضعة كلمات عن السيارة ... و خلال ثوانٍ كان قاصي داخل سيارة يحتل المقعد الأمامي بكل ثقله ... فاهتزت السيارة و شعرت تيماء و كأن وجوده احتل المكان بأكلمه و ضمها .... بقوة ....
الا أنها أبقت عينيها المتسعتين المذعورتين على النافذة المظلمة باصرار و هي ترتجف بعنف
و ما أن تحركت السيارة بهم حتى قالت سوار باهتمام صادق
( أين كنت يا قاصي طوال اسبوع ؟!! ...... صوتك يبدو مجهدا حد الإعياء .... )
رد قاصي بصوتٍ عميق بشدة .... و عيناه على تيماء في المرآة بينما يقود السيارة بثقة و سرعة
( كنت في القرب سيدة سوار .... لم أكن لأبتعد و أنا أترك جزء من نفسي هنا .... و ما أن علمت أن هناك من يحتاجني أتيت على الفور .... لم أكن لأتأخر أبدا ..... )
قالت سوار باهتمام
( هل اتصل بك جدي ؟!! ........... )
قال قاصي ببساطة
( لقد أتيت قبل أن يتصل .... أعرف أنه يريد رؤيتي .... )
صمت قليلا ثم قال بصوت بدا ذون نغمة مجنونة ... محتوية للمحيط ان امكنه
( كيف حالك الآن يا تيماء ؟؟ ....... )
قفزت تيماء في مكانها و هي تنظر اليه عبر المرآة ... ثم قالت بغباء مثير للشفقة
( ها ....... ماذا ؟!! .......... )
نظر اليها قاصي عبر المرآة و بدا غافلا عن الطريق تماما ...
( سألتك كيف حالك ؟!! ..... هل زال ألم الجرح تماما ؟! ..... )
بدت كالمجنونة و هي تنظر اليه بارتياع قبل أن تهمس بارتجاف
( أي جرح ؟!! ........... )
قال قاصي مبتسما بخفوت
( الجراحة التي أجريتها .... من الفترض أن يكون موعد نزع خيط الجراحة أمس ..... )
رمشت بعينيها و هي تبعد عينيها عن عينيه قائلة بخشونة بدت زائدة عن الحد من فرط ارتباكها
( نعم ........ كل شيء بخير ..... )
كانت تشعر بالذعر من جنونه .... خاصة مع أريحية تعامله معها أمام سوار , فهو حتى الآن يدعو سوار بلقب " سيدة " .... بينما ينادي اسمها هي مجردا ببساطة و حميمية ... دون أن يهتم لوجود سوار ...
لاح دار الرافعية من على بعد ..... فساد الصمت المشحون بالتوتر الى أن انحدر قاصي عبر الممر المؤدي اليه ....
و ما أن فتحت بوابته حتى دخل بالسيارة ..... الى أن وقف بها دون أن يبطل محركها .....
فقالت سوار بهدوء
( هيا يا قاصي ابطل المحرك و انزل لمقابلة الحاج سليمان ..... )
رد قاصي بصوت غريب
( سيحدث سيدة سوار ..... لكن قبلا هناك حوار بيني و بين تيماء لم ينتهي بعد و أنا حتى الآن لم أملك الفرصة لإنهائه ..... لذا سأصطحبها معي لدقائق ..... )
شهقت تيماء بصوتٍ عالٍ و هي تنظر اليه بذهول ....
هل اختل عقله تماما ؟!!!! ...... المعتوه ؟!! ...... المجرم ؟!!! .........
الا أن سوار قالت بهدوء
( لما لا تكملان حواركما في الداخل اذن ؟!! .......... )
رد قاصي بثقة
( لن أجد الوقت لذلك .... كلما أردت مكالمتها منعنا أحد أفراد العائلة من ذلك ..... بضعة دقائق فقط و سأعيدها ,...... )
نقلت سوار نظرها بينهما في الضوء الشاحب المعتم المنبعث من مصابيح حدائق الدار ..... ثم قالت بخفوت
( لا أظن أنني سأتركها لك في مثل هذا الوقت يا قاصي ....... لا أستطيع السماح بذلك .... )
ضحك قاصي بخفوت مجهد ...
( لا تخافي سيدة سوار ...... لقد اعتدت ايصال تيماء لسنواتٍ طويلة حتى بت أشعر بالغرابة كلما منعني أحد من محادثتها ..... انها في رعايتي منذ أن كانت طفلة .... )
قالت سوار و هي تراقبهما باهتمام متفحص ....
( لكنها لم تعد طفلة الآن يا قاصي ..... و الوقت متأخر .... )
قال قاصي بنفس الثقة
( انها التاسعة ليس الا ..... و خلال دقائق ان لم أعدها .......... )
صمت عن عمد وهو ينظر الى عيني تيماء المذعورتين في المرآة ..... فسحبت نفسا طويلا مرتجفا برعب قبل أن يقول متابعا بهدوء
( يمكنك ارسالة فرقة من رجال جدي بحثا عنا ....... )
تعمده لفظ كلمة " جدي " كانت حركة في منتهى الخبث كي سيتدر عطف سوار .... و بالفعل نقلت نظرها بينهما بتفحص غامض .... قبل أن تقول بخفوت
( الى أين ستذهبا ؟!! ..... البلد صغيرة و نحن لا نريد فضائح رجاءا ... )
رد قاصي بهدوء
( سنخرج من أبواب القصر ليس الا ....... و اطمئني , لن أتسبب في الفضائح لتيماء أبدا .... فهي جزء مني ..... )
اغمضت تيماء عينيها و هي تتأوه دون صوت بيأس صارخة في داخلها بعنف
" ياللهي ..... ياللهي !! ...... ماذا يفعل المختل المجنون المعتوه ؟!! ..... "
الا أن قاصي تابع بهدوء بريء
( كل فرد منكم هو جزء مني ..... و أنا لن أؤذي اي منكم أبدا سيدة سوار ..... )
ساد صمت طويل مريع قبل أن تقول سوار موجهة كلامها الى تيماء
( أتريدين الكلام مع قاصي يا تيماء ؟؟ ........ )
نظرت اليها تيماء بهلع وودت بجنون لو تشبثت بطرف عبائتها و بكت متوسلة اليها الا تتركها بمفردها معه كالأطفال ... الا أن ذرة النضوج المتبقية بداخلها جعلتها ترفع وجهها و تستجمع كل قوتها كي تقول بصوتٍ هادىء كذبا ...
( نعم رجاءا يا سوار ...... هناك .... حوار هام بيني و بين قاصي أحتاج .... لإنهاءه و سأعود سريعا ... )
بقت سوار مكانها و هي تنظر اليهما .... متسائلة بداخلها
" كيف لم تدرك الأمر من قبل ؟!! .... ترى أيعلم جدها بالأمر ؟!! .... أن هاذين الإثنين مغرمين ببعضهما ؟!!!!! ...... "
تحركت سوار من مقعدها و هي تقول بنبرة صارمة قليلا
( فقط دقائق يا قاصي ........قد يسأل جدي عنها بأي وقت .. )
قال قاصي ببساطة
( فقط دقائق سيدة سوار ......... )
خرجت سوار من السيارة على مضض و كأنها لا تريد ..... الا أنها كانت مدركة بأنها لن تستطيع منعهما لو أرادا .... و قد يتهورا بأي تصرف ...
قد يظن جدها ان بامكانه احتجاز تيماء و طرد قاصي ....
لكنها تعرف جيدا العالم الجديد خارج اسوار هذا القصر بخلاف جدها .....
و أن قيود العائلة لم تعد مخيفة الى هذا الحد .... خاصة لو امتلك احد افرادها جزءا مات من قلبه ....
اغلقت سوار باب السيارة خلفها و تعمدت صعود السلالم برأس مرتفع دون ان تنظر خلفها كي لا تثير انتباه اي احد الى وجود تيماء في السيارة ....
كانت تتسائل بداخلها هل ما فعلته كان صحيحا او خاطئا .... لكن بداخلها كانت هناك مراهقة مختفية في احد زواياها .... لا تزال تنظر الى قصص الحب بدافع من الأمل .... الا أنه أمل ضعيف جدا , يكاد أن يكون يائسا .... لقد أحبت ذات يوم و كانت النتيجة خذلان مريع لا تزال تعاني من آثاره حتى الآن ....
تنهدت سوار و هي تهمس لنفسها
" عامة ما تأكدت منه الآن ..... ان تيماء لن تكون لفريد مطلقا .... "
أما في السيارة فقد كانت تيماء في حالة من الذهول جعلتها تعجز عن الكلام لعدة لحظات و كان هذا أكثر من كافي لقاصي كي يقول بهدوء آمر
( اخفضي رأسك ........ )
لم تفهم على الفور فقالت بغباء بائس
( ماذا ؟!! ............. )
قال قاصي وهو يتحرك بالسيارة
( أخفضي رأسك كي لا يراكِ أحد ....... بسرعة ..... )
لم تفكر و هي تخفض رأسها ... نصف مستلقية على المقعد الخلفي وهو ينطلق بالسيارة خارجا من بوابة دار الرافعية .......
أغمضت تيماء عينيها و هي تتأرجح بقوة على مقعد السيارة ... أثناء انطلاق السيارة فوق الطريق الغير ممهد مخلفة زوبعة من الغبار الأبيض الكثيف .......
طالت الدقائق و هي تحاول تهدئة قلبها المجنون ...... لكن الدقائق كانت تمر و ابتعدا عن قصر الرافعي جدا ... فتجرأت على رفع رأسها أخيرا و استقامت ناظرة حولها بخوف
لتجد أنهما قد ابتعدا عن الطريق الذي وصلا منه ..... كان طريقا آخر مهجورا محاطا بالزراعات من مكان ......
حينها فقط نظرت الى قاصي و هتفت
( الى أين تأخذني ؟!! ......... )
لم يرد قاصي على الفور فهتفت بغضب بدأ يتفجر بعد الصدمة الأولى و تراجع تأثيرها
( الى أين تأخذني يا قاصي ؟؟؟ ...... )
ابتسم قاصي ابتسامة رأتها في المرآة بوضوح ... قبل أن يقول بخفوت بريء
( الى مكان بعيد ...... أستطيع فيه أن أشبع احتياجك .... )
فغرت تيماء شفتيها بذعر ... بينما تلون وجهها بلونٍ أحمر قاني وهي تصرخ
( احترم نفسك يا قاصي و أعدني فورا ...... )
لم يبذل قاصي أي مجهود كي يغير وجهته .... و لم تهتز به عضلة واحدة ..... الا أنه قال ببساطة
( لا زال تفكيرك ملتويا دائما تجاه المعاني ال ......... )
الا أن تيماء لم تسمح له بالمزيد فصرخت بقوة
( قلت اخرس ...... لا اسمح لك بمثل هذا الكلام .... )
ارتفع حاجبي قاصي و قال ضاحكا
( لم أقل شيئا ..... عقلك الملوث هو الذي تكفل بالأمر , أنا فقط استمتع ...... )
احمر وجهها اكثر حتى لم يعد هناك مجالا أكبر للإحمرار أكثر ... فصرخت بعنف و هي تضرب مقعده بكفها
( ارجعني للدار يا قاصي ...... )
ضحك قاصي ضحكة خافتة خالية من المرح قبل أن يقول بخفوت
( أصبحتِ تقولين " دار " ........ لقد أثرت عليكِ فترة بقائك هنا ..... )
صمتت تيماء و هي تنظر الى جانب وجهه المظلم .... و قد بدا صوته متباعدا , متعبا ..... و به شيء غريب ...
لذا سكنت مكانها عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت
( أين كنت طوال هذه الفترة ؟؟ ............. )
ترى هل لمح العتاب في صوتها الخافت ؟!! .....
لم تكن تنوي أبدا أن تظهر شيئا منه ... الا أن صوتها بدا عاتبا متألما بدرجة أكبر من أن تستطيع اخفائها ...
لم تدرك أن ألمها كان كبيرا الى هذه الدرجة حتى رأته مجددا .....
رد عليها قاصي قائلا بجدية
( كنت بالقرب منكِ ..... لم أكن لأتركك هنا بمفردك بعد أن أتيت بكِ و ارحل أبدا .... )
لم تدري من أين اندفعت العبارة المتهورة لتنطق بها دون تفكير .... بصوتٍ غامض
( سبق و فعلتها ........... )
ساد صمت مرعب بينهما ......
كانت تشير بوضوح الى فراقهما منذ خمس سنوات , حين أحضرها الى هنا و تركها ..... لمصيرها وحيدة منبوذة ......
لم يتكلم قاصي .... فازداد خوفها .....
أرادت أن تتكلم .... أن تخبره أنها لم تقصد ما لمحت اليه , الا أنها لم تستطع .....
لم يرد قاصي عليها ..... و لم تصدر منه أي حركة أو حتى ايماءة ساخرة يطمئنها بها .......
أوقف السيارة أخيرا , فنظرت حولها بتوتر ....
كان مكان مهجور تماما .... لا وجود لأي أثر من معالم التحضر ....
جزء مكشوف من الصحراء المترامية .... على جانبي طريق خلت منه الزراعات أخيرا .....
ابتلعت تيماء ريقها و هي تلتفت اليه قائلة بخفوت
( لماذا أحضرتني الى هنا يا قاصي ؟؟ ........ )
لم يجبها .... بل خرج من السيارة بهدوء و استند الى مقدمتها و كأنه غير مهتم وجودها .....
انتابتها موجة عارمة من الغضب الهائج و لم تشعر بنفسها الا و هي تخرج خلفه صافقة باب السيارة بعنف لتدور حول السيارة و تواجهه بكل قوتها هاتفة بغضب
( قاصي أجبني ............ و إياك أن تتجاهلني بهذا الشكل مجددا ..... )
و كأن السنوات لم تمر .....
كان على نفس هدوءه اللا مبالي و أحد أقنعته الساخرة .... و هي كانت على اندفاعها المتهور دون تعقل أو اتزان ....
اختلج قلبها و كأنها تشعر بالسنوات تعود بها في لمح البصر الى حبهما الأول .....
عيناه كانتا تتفحصانها بدقة دون تعبير واضح ...... ثم قال أخيرا بصوت خافت غريب
( تبدين جميلة ............ )
لم يكن صوته يحمل انبهارا حقيقيا .... ربما عيناه كانتا تلتهمانها بنفس النظرة القديمة دون أن يتغير منها شيئا ... لكن صوته .... لا ....
صوته كان غامضا و متباعدا و كأنه غير راضيا تماما .....
ارتبكت قليلا الا أنها رفضت أن تظهر له فقالت بخفوت
( كنت أحضر حفل زفاف .......... )
قال قاصي بصوت خافت وهو يتأملها دون رحمه
( هذا ما اراه ......... )
كانت واقفة أمامه ترتدي تنورة سوداء طويلة حتى كاحليها ... مخملية جميلة و فوقها كنزة كحلية اللون ... متناثر عليها بعد الخيوط الفضية ....
كانت هذه هي الملابس الوحيدة التي أحضرتها معها و أمكنها أن ترتديها لحفل الزفاف ....
و من فوق ملابسها كانت عباءة سوار الحريرية السوداء المفتوحة تتطاير خلفها بمنظر مهيب ....
و السلسال الذهبي الثقيل يستقر على صدرها و يثقلها .....
قال قاصي أخيرا متابعا وهو ينظر الى عينيها المكحلتين بحكلٍ ثقيل أسود يتناقض مع لونها الفيروزي ...
( تبدين رافعية أبا عن جد ........ )
عبارته الخافتة جعلتها تتسمر مكانها ..... و كأنه كان يتهمها بشيء ما أبعد من ملابسها .....
كانت هذه العبارة دائما ما تمثل لها اتهام تنكره بكل قوتها ... و هي تشعر بالنفور
الا انها وجدت نفسها تقول بخفوت و هي تنظر الى عينيه
( أنا رافعية أبا عن جد ........ لا أحتاج الى القليل من الملابس كي أثبت ذلك .... )
ارتفع حاجب قاصي بصمت و كأنها قد صدمته بكلامها الهادىء .....
فقال ساخرا يستفزها
( هل اقتنعتِ بذلك أخيرا ؟!! ..... كنتِ دائما تنفرين من الفكرة .... )
ازعجتها سخريته و زادتها مرارة ... فقالت بفتور
( ربما قررت أخيرا الاستفادة من الأمر الواقع المفروض علي ...... و لماذا يضايقك ذلك ؟!! )
نظر قاصي الي عينيها طويلا ... نظرة اذابت عظامها قبل ان يقول بهدوء و قد تداعت سخريته حطاما ...
( ربما لأنني أعتدت أن تلجأين الي دائما ..... أعتدت أن اكون أهلك و عائلتك الوحيدة ..... )
لم تدري بنفسها الا و هي تتأوه بخفوت .... و عيناها تتشربان رجولته التي تاقت الى كل ملمحٍ منها منذ زمنٍ طويل ....
هوا قاصي رغم تغير شكله الا أنه بنفس الوسامة الخشنة التي تمس القلب قبل العينين ...
فكه القوي الذي يبدو و كأنه قد نحت خصيصا للألم ....
و عيناه الهادرتين .... بالجمر المتوهج بهما .....
اقتربت منه تيماء ببطىء و العباءة الحريرية السوداء تتطاير من خلفها , الى أن وصلت اليه ....
ووقفت أمامه مباشرة ....
كان قد ترك ضوء مصابيح السيارة مضاءا من خلفه .... فبدا وجهه مظلما بعيدة عنه .,,,
لكن ما أن اقتربت منه الى هذه الدرجة حتى اتسعت عيناها و شهقت بهلع و بصوتٍ عالٍ و هي ترفع يدها الي فمها الصارخ
( قاصي ..... ماذا أصاب وجهك ؟!! ..... )
كان هناك خط رفيع من قطبات حديثة ... ممتد على طول وجهه من حاجبه االأيمن مرورا بأنفه حتى وجنته اليسرى ......
لم يتحرك قاصي من مكانه ... بل ظل قريبا منها بعطره التي تستطيع تمييزه جيدا ... ينظر اليها بنظرة هادرة .... نظرة تشملها و تبتلعها لتغرقها بأعمق أعماقه ....
الى أن قال أخيرا بصوتٍ ساخر خافت
( لقد أصبحت مشوه الوجه ...... هل سيؤثر هذا في ارتباطنا ؟!! ..... )
ارتباطنا ؟!! .....
انه يتكلم بمنتهى الثقة ..... و البهجة المجنونة تشتعل في صدرها بفعل كلمته الساخرة العابرة ....
الا أنها تغاطت عنها بأعجوبة و هتفت بقوة من وقع صدمتها
( من فعل هذا بوجهك يا قاصي ؟!! ..... هذا ليس حادثا عابرا أبدا ...... )
قال قاصي ببساطة وهو يهز كتفيه غير مهتما
( لا تبالي بها ...... لقد اخبرتني الممرضة انها تزيدني جاذبية ... )
لم ترد تيماء على استفزازه الواضح .... كان يحاول ان يبعدها عن السؤال , الا انها قالت بقوة و الم مجددا
( قاصي تكلم فورا ..... من فعل بك هذا ؟؟ ........ )
الا أن قاصي ابتسم .... ابتسامته التي اشتاقت اليها ....
تلك الإبتسامة المشاغبة الشهية .... و التي جعلته الآن أضغر سنا و كأنه عاد للعشرينات مجددا ....
وهو يقول بمرح
( كانت ممرضة صغيرة و لطيفة .... عيناها خضراوين جميلتين , .... و شعرها ناعم كالحرير ... )
المرح في صوته لم يطال عينيه .... عينيه الغائرتين و صوته الأجش ....
فقالت تيماء بحدة و قد بدأت غيرتها الحمقاء تشتعل مجددا على الرغم من معرفتها أنه لا يقول ذلك الا كي يستفزها فقط
( قاصي ......... توقف عن هذه السخافة , لم تعد شابا عابثا ..... )
الا أنه استقام من استناده الى السيارة فوقف أمامها , حتى اضطرت الى رفع وجهها اليه و ابتلعت ريقها بصعوبة ... بينما عيناه لن تحررا عينيها من الأسر مطلقا وهو يهمس بصوتٍ أجش
( الا أن عينيها لم تحملا درجة اللون الأزرق الموجودة بعينيكِ ...... )
كانت على وشك السقوط أمامه من شدة ارتجاف ساقيها فأفلت تنفسها المرتجف من بين شفتيها ....
و دون أن تدري وجدت يدها ترتفع لتلامس الجرح الممتد على طول وجهه و هي تهمس باختناق بينما غلالة من الدموع تتجمع على حدقتيها اللتين تغزل بهما للتو ....
( من فعل بكِ هذا ؟!! .......... أهو أخيك ؟!! ....... كنت أعلم انه سيحاول أذيتك .... )
ارفعت يد قاصي لتقبض على كفها فجأة وهو يخفضها عن وجهه ... الا أنها ما أن حاولت نزع يدها لم يحررها بكل أحكم قبضته عليها ....
أخذت تيماء تجذب يدها بقوة دون جدوى و هي تهمس بخوف و قد بدأت مشاعرها تهدد بالإنهيار
( قاصي اترك يدي ...... اترك يدي , لا تفعل ذلك .... )
الا أن ملامحه تحولت الى ملامح مخيفة ... مخيفة في عنف المشاعر التي ظهرت عليها وهو يهمس بصوتٍ أجش
( اشتقت الى كفك الصغيرة مثل العصفور بين أصابعي .....اشتقت اليكِ كلك .... عناقك .... همسك .... هتافك القوي بأنكِ لي و لن تكوني لغيري أبدا ..... أين ذهبت تلك المرأة التي أحبتني يوما ؟!! ... )
كانت أصابعه تتحسس كفها فزادها ذعرا و هي تحاول عبثا سحب يدها .... فهتفت بترجي
( اترك يدي يا قاصي .... أرجوك ...... قد يرانا أحد ..... أرجوك .... )
الا أنه اقترب منها خطوة وهو يهمس بصوتٍ أكثر عنفا
( لن يرانا أحد هنا .......... )
هتفت تيماء بعذاب
( أرجوك يا قاصي ..... أنا لم أعد كما كنت , و لن أسمح لك بالتمادي .... )
يده الأخرى وجدت طريقها الى خصرها تحت العباءة المفتوحة وهو يجذبها اليه هامسا بالقرب من فكها الناعم
( اشقت الى تلك القبلة الوحيدة بيننا .... تلك التي أحلم بها كل ليلة لتفترسني ببطىء و أنا أعيدها و أعيدها .....بأحلامي فقط ..... )
كانت تيماء تتلوى بعنف لتتخلص من يده على خصرها و ما أن أبعدتها حتى امتدت يدها الحرة و صفعت وجنته بكل قوتها ......
ساد صمت مريع بينهما .... و كل منهما ينظر للآخر .... هي ترتجف من هول مشاعرها وهو متسارع النفس لدرجة الجنون و الألم ....
الى أن همست تيماء بصوتٍ منتحب ... صارم ... و قاسي ....
( اترك يدي ......... )
ترك يدها ببطىء .... ثم لم يلبث ان رفع يده يتحسس بها وجنته ليقول بسخرية على الرغم من نفسه الذي لا يزال غير ثابتا بعد ..
( لازلتِ شرسة يا تيمائي المهلكة .... الا أنكِ كنتِ قديما شرسة اندفاعا نحو عواطفي , لا هربا منها ... )
أسبلت تيماء جفنيها و هي تدلك يدها كي تمحو أثر يده الحارق عن كفها ...
ثم قالت بصرامة و جفاء دون أن تنظر اليه ...
( هل آذيت الجرح في وجهك ؟؟ ....... )
سمعت صوت ضحكتة الخافتة ... قبل أن يهمس بصوتٍ أجش
( انظري الي و تأكدي بنفسك .......... )
كان يريدها أن ترفع عينيها اليه مجددا .... و قد فعلت , رفعت اليه عينين دامعتين و قاسيتين ... تنظران الى جرحه ثم همست أخيرا بنفس الجفاء ... الا أنها لم تستطع أن تخفي اللهفة في صوتها المرتجف
( لماذا لم تدافع عن نفسك ؟؟ ....... )
ابتسم قاصي بسخرية وهو يتحسس وجنته ثم قال
( كانت صفعتك سريعة خاطفة .... لم استطع تداركها .... )
هتفت تيماء بجنون غاضب
( توقف عن ذلك ..... أنت تفهم تماما ما أعنيه , لماذا لم تدافع عن نفسك قبل أن يفعل بك أخاك ما فعل ..... )
قال قاصي ببرود مفاجىء
( انسي أمره ....... يوما ما سيوفي كل ديونه ..... ليس هو وحده .... لقد تركته يرسم هذا الجرح كي لا أنسى أبدا ..... )
شعرت تيماء فجأة بخوفٍ بارد كقبضة جليدية حول قلبها ....
و هي ترى تحول نبرة صوته من لونٍ الى آخر ..... و كأنه شخص آخر تماما ....
فقالت بعد فترة من العذاب النفسي و الصراع ما بين ضعفها تجاهه و صلابة ما ربت نفسها عليه خلال السنوات الماضية ...
( لماذا أتيت اليوم يا قاصي ؟!! ..... )
نظر الى عينيها طويلا قبل أن يقول بصوتٍ أجش خافت
( الا تعلمين لماذا ؟!! ....... لأن المرأة التي تخصني نادتني .... و صرخت " احتاجك " .... فلم أكن لأتخلف عنها الا بموتي ..... )
رفعت اليه عينين صامتتين ... متهمتين ... التقط اتهامهما بوضوح فقعد حاجبيه .....
الا أنها استدارت عنه و قالت بجمود
( لقد أرسلتها اليك بالخطأ ......... )
سمعت ضحكته الخافتة مجددا من خلفها .... ثم قال بهدوء
( لمن كانت اذن ؟؟ ..... قبل أن تخطئي و ترسلي بها اليّ ؟!! ..... )
لم تجد جوابا .... حاولت أن تبحث عن أي تفسير عملي بارد الا أنها لم تجد ....
لأنها ببساطة لم تستطع أن تخادع نفسها أكثر من ذلك ... و كأنه كان يقرأ أفكارها رغم عندم التفاتها اليه ...
فقال بخفوت وهو يقترب منها
( اهمسي بها ...... أريد سماعها مرة واحدة , ليس من العدل أن أقرأها لأول مرة بعد كل هذه السنوات ... )
أغمضت تيماء عينيها و أطرقت بوجهها و هي ترفع يدها الى جبهتها .... فهمس قاصي مجددا بصوتٍ أكثر تحشرجا و سخونة
( اهمسي بها ......... هل هذا طلب عسير جدا ؟!! ..... )
هزت تيماء رأسها نفيا دون أن تجيب .... فقال قاصي بخفوت وهو يقترب منها خطوة أخرى
( في السيارة قلتِ شيئا ..... لم تخطئه أذناي ...... قلتِ " سبق و فعلتها " ..... )
فتحت تيماء عينيها و هي تتنفس بصعوبة ناظرة الى الظلام المدقع أمامها .....
الا أن قاصي لم يرحمها .... بل قال بقسوة مفاجئة
( هل تلومينني لأنني تركتك لجدك منذ سنوات ؟؟ ....... )
شهقت تيماء شهقة نجحت في كتمها بكل قوتها .... الا أن قاصي استطاع ان يلمح ارتجاف جسدها رغم الظلام المحيط بهما ....
و حين لم ترد .. همس بصوتٍ أكثر تحشرجا
( هل تلومينني أيضا على ما أصابك من والدك ؟؟ ....... )
هتفت تيماء بصوتٍ متشنج
( هذا موضوع محرج ..... شديد الخصوصية لا تطرق اليه مجددا ..... )
قال قاصي بقسوة و انفاسه الهادرة تلفحها
( لا خصوصية أو احراج بيننا .... كنت أقرب اليكِ من نفسك ........ )
صرخت تيماء فجأة بغضب
( يؤلمني اذن ..... هل هذا ايضا لا يؤثر بك ؟!! .... )
لم تتوقع اليد التي قبضت على ذراعها و تديرها اليه بعنف .... ليصدمها وجهه القاتم المخيف و قد زاده الجرح شراسة ....
( انظري الي و أنتِ تنطقين بتلك الكلمات .... انظري لعيني و انطقيها .... )
ساد صمت طويل و هي تتهرب من عينيه و تحاول جاهدة ان تفك قيد اصابعه عن ذراعها
... الى أن هدر بها قاصي بعنف
( هل تفعلين ؟؟؟ ........هل تلومينني على ما أصابك ؟؟ .. )
رفعت تيماء وجهها اليه تنظر الى عينيه أخيرا كما امر ... ثم قالت بصوتٍ أجوف فاتر ... مرتجف قليلا
( الا تظن أنه من المنطقي أن ألومك ؟!!......... )
عاد الصمت بينهما مجددا ..... و كل منهما ينظر لاهثا الى الآخر ....
عينا قاصي اظلمتا فجأة ... و شحبت ملامحه . أم أنها تتوهم ذلك ؟! .... لا تعلم تماما
الى أن قال قاصي أخيرا بصوتٍ فاتر بلا حياة ...به طيف من السخرية
( ربما لأنكِ لم تخضعي للمنطق أبدا في علاقتك بي ..... لذا تخيلت .... أو ربما تمنيت أن تكوني غير منطقية في هذا الأمر تحديدا كذلك ...... )
أطرقت برأسها .... و هي تتهرب من عينيه لتهمس بخفوت
( اخبرتك أنه أمر مؤلم لكلينا .... فلا داعي لفتحه مجددا , لقد كبرت و نسيت ... لكنك تصر على تذكيري به ... )
أمسك بذقنها يرفع وجهها اليه و همس بصوتٍ خشن أجش
( انظري الى عيني ..... لا ... لا تسبلي جفنيكِ .... انظري الى عيني ... )
رفعت جفنيها و نظرت الى عينيه ببطىء .... فأغشتها العواطف الجامحة بهما .....الى أن همست متأوهة
( آآآه يا قاصي ....... )
انسابت دمعتان ثقيلتان من عينيها على وجنتيها ببطىء .... فشدد على ذقنها يقول مترجيا بصوته العميق الخشن
( اهمسي بها ..... اهمسي بندائك , أريد سماعه .... أرجوكِ تيمائي ..... )
نظرت اليه نظرة أخيرة كانت كفيلة بأن تجعلها تشهق باكية متأوهة بعذاب ... هاتفة بكل كيانها الذائب في عشقه
( أحتاجك ..... أحتاجك يا قاصي أكثر من أي وقتٍ مضى بحياتي ... )
توهجت عيناه وهو يهتف همسا باسمها قبل أن يضمها الى صدره بكل قوته .......
شعرت في تلك اللحظة أنها قد عادت الى وطنها كما كان يخبرها ....
تحت وجنتها كانت مضخة قلبه تضخ الحياة الى سائر جسده و كأنه ارض جافة ترتوي بعد ظمأ .....
وكان اسمها يخرج مرتجفا من بين شفتيه و هي ترفع يديها ببطىء الى ظهره .... مغمضة عينيها تنهل من تلك الراحة التي اشتاقت اليها طويلا .....
الا أنها انتفضت فجأة و دفعته في صدره لتتراجع شاهقة و هي تهتف بذعر
( لا أستطيع ....... )
شعر وهي تبتعد عنه أنها قد انتزعت معها جزء من صدره ... الجزء الأهم و النابض بالحياة ....
لكنه لم يستطع ارجاعها الى أحضانه دون ارادتها لذا تأوه ساحبا نفسا خشنا متفجرا قبل أن يقول بقوة و غضب
( سنتزوج ............)
هتفت تيماء بذعر و هي تلمس وجنتيها المحترقتين
( هذا جنون ...... جنون و مستحيل .... )
قال قاصي وهو يقترب منها خطوة الا أنه توقف قبل أن يفقد سيطرته على نفسه مجددا
( جنون نعم ..... لكن مستحيل لا ....... سترحلين معي الآن و نتزوج .... )
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه غير مصدقة ....
كلمة واحدة .... فقط كلمة واحدة منها تجعل بها نفسها تعود الى وطنها الوحيد الذي عرفته ....
الا أنها هزت رأسها بقوة تجليه من تلك الأحلام الصاخبة المجنونة و هي تهتف رافعة يدها الى جبهتها
( توقف ....... ارجوك توقف عن هذا الجنون ....... أنا لم اعد مراهقة في الثامنة عشر من عمري تهرب معك من أهلها ....... )
هتف قاصي بغضب مستعر
( تلك المراهقة التي تتحدثين عنها كانت أكثر امرأة دافعت يوما عن الرجل الذي احبت ...... )
نظرت اليه تيماء و صرخت و هي تقبض كفيها حتى أدمت أظافرها راحتهما ...
( تلك المراهقة لم تكن تملك ما تخاف عليه ...... أما الآن فلدي حياة و عمل و دراسة .... و أم تنتظرني ... )
هتف قاصي بجنون
( كان لديكِ أكثر و أنت أصغر سنا .... لقد تخليتِ عن كل شيء لاجلي .... )
هتفت فجأة بشراسة مفاجئة و هي تضربه في صدره
( نعم أنت محق .... لقد تخليت عن كل شيء لأجلك و أنت في المقابل تخليت عني ..... )
ساد صمت مريع بينهما ... بينما كان قاصي ينظر اليها غاضبا هائجا كحيوان شرس .... ثم قال من بين أسنانه بتهديد
( تعلمين أن هذا ليس صحيحا ...... كنت أحميك من شيء اسوأ قد يحدث لكِ ... )
صرخت بجنون و هي تضربه في صدره مجددا
( ليس هناك أسوأ مما تعرضت له ..... لقد ذبحوني يا قاصي دون رأفة ...... )
التوت عضلة بعنقه و تشنج حلقه وهو يهمس
( أعرف ....... )
الا أنها ضربته صارخة بحالة هيستيرية
( لا تعرف ...... لا تعرف ....... )
كانت تضربه بلا هوادة ... الى أن أمسك بكتفيها و هزها بقوة هادرا بها
( بلى أعرف ....... أعرف و أموت كل ليلة و أنا أتخيل ما حدث لكِ بسببي ..... و لا أملك ما أقدمه لكِ سوى أن أنتزعك من بين براثن الجميع و أهرب بكِ بعيدا .... و حينها سأنسيكِ ما حدث لكِ , أقسم أنني سأنسيكِ ..... )
كانت تشهق و تبكي بعنف متلوية كي تتحرر من يديه .... هاتفة باختناق
( لن تستطيع يا قاصي .... اتركني , أنا لم أعد كما كنت .... لقد تغيرت و فقدت كل تلك المشاعر التي كانت تملأني شجاعة و تهور ..... )
هزها بعنف الى أن ارتمى رأسها للخلف .... فنظر على ضوء مصباحي السيارة الى وجهها المغطى بالدموع السوداء و الكحل الكثيف السائل على وجنتيها حتى بدت كصورة بائسة للعذاب ....
و ما أن التقط تركيزها معه بعد مرحلة الإنهيار هتف بها مشددا على كل حرف كي تسمعه
( لن أسمح لكِ ..... أسمعتِ ذلك ؟!! ..... سأعيدك الى نفسك القديمة .... أنا المسؤول عما أصابك و أنا من سيعيدك ...... لما لا تستوعبين أنكِ لن تصلحي لغيري .... ما بيننا أكبر من الحب أو اي مشاعر يتغنى بها الآخرون .... ما بيننا حياة لن تستقيم الا بوضع الأمور في نصابها الصحيح ... أنتِ لي ... تخصيني .... أنا و أنت أسرة واحدة مكتملة في حد ذاتها .... أنتى أرضي و أنا عائلتك ..... لن تصلحي لغيري يا تيماء .... أنتِ معطوبة بدوني ..... )
همست بإعياء و تعب و هي تنظر الى عينيه
( أنت وغد ..... نذل ......... )
لم يهتم باتهامها المؤلم له على الرغم من أنه قد ضرب قلبه بقوة قاتلة ... الا انه كرر بكل تصميم
( أنتِ معطوبة بدوني .... و أنا ميت بدونك ....لا نصلح الا لبعضنا ...المنطق هو أنكِ قد تكونين أفضل و أعلى شأنا و تستحقين من هو أفضل .... لكن الواقع هو أننا لا نصلح الا لبعضنا .... )
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تئن بصراع عنيف ....
دوامة من الصراخ العالي تحيط بها و تغرقها في أعماق صخبها ....
كيانها كله يرجوها أن تقبل .... أن تضرب بكل المنطق عرض الحائط و تقبل .....
أن تعيد الروح الى جسدها الواهن .... و تقبل ......
لكن عقلها كان يقاوم و يذكرها بمرارة ما تعرضت له .... و بالمستقبل الذي ينتظرها ....
و قاصي أيضا لم يرحمها بل ذكرها بكل قسوة وهو يهزها مجددا
( حين آذوكِ لم تنادي باسم أمك .... و لم تترجي والدك .... بل ناديتِ باسمي أنا يا تيماء .... الا يخبرك ذلك بشيء ؟!! ....... )
همست بعناء البغال
( يذكرني بأنك تخليت عني و تركتني .... و انا ناديت حتى غبت عن الوعي ..... )
كان هذا فوق احتماله فتركها وهو يستدير عنها يخفي عنف مشاعره المتألمة .....
ثم همس باختناق
( كم أنتِ قاسية .......... لا ترحمين رجولة عاجزة لتلك الذكرى .... )
قالت تيماء بألم من خلفه
( هل تلومني و تدعي أنني أنا القاسية !!..... كنت مجرد مراهقة و الحياة بالنسبة لي ما هي الا غنيمة كبيرة أغتنم منها ما أستطيعه بكل قوة و دون تراجع ..... أما الآن ..... الآن عرفت معنى الذل و الألم و الإنكسار على يد أقرب الناس لي ..... )
استدار اليها قاصي ليهتف بقوة
( أنا أقرب الناس اليكِ يا تيماء .... لما لا تعيدين تلك العبارة الى عقلك الغبي علك تسوعبينها من جديد ... )
نظرت اليه بصمت و هي تلهث تعبا ... عناءا ....
و بعد فترة طويلة رفعت يدها لتمسح وجهها بصمت .... و هي تبتلع ريقها باختناق ثم قالت بخفوت
( لا بأس .... أعترف أنني لا أصلح لغيرك و أنني معطوبة بك .... لذا لن أفكر مجددا في الزواج , هل يرضيك هذا ؟!! ..... )
نظر اليها مذهولا , ثم ضحك عاليا بقوة بثت الرجفة بها .... أخذت تنظر الى ضحكه الصاخب و الخالي من المرح ... بعينين عميقتين ضائعتين ... الى ان هدأ أخيرا , لينظر اليها بعينين براقتين مشتعلتين وهو يهمس بصوتٍ حنون
( لقد خلقتِ لتكوني زوجة و أم ..... زوجتي و أمي ... و أم أطفالي .... من تخدعين ؟!! .... )
فغرت شفتيها و شعرت بقلبها يرجف بقوة ...
أم أطفاله !! .... ياللها من عبارة أدفأت قلبها و ربتت على جرحه .....
لم تشعر أن شفتيها قد ابتسمتا بارتجاف شارد ....
و قد التقط قاصي ابتسامتها فتنفس بعمق وهو يقول بخفوت دون أن يبتسم
( كم أنتِ جميلة !! ...... و كم هي جميلة غمازة خدك الحزينة تلك !! ...... )
رفعت عينيها الغائرتين اليه .... و هي تعض على شفتيها , ثم استدارت عنه تريد أن تبتعد عن تأثيره المدمر عليها ...
الا أنه لم يسمح لها بل قبض على ذراعها و أدارها اليه بالقوة ثم تركها و قال صارما
( سنتزوج ........ هل فهمتِ هذه الكلمة جيدا ؟!! ... )
شعرت نفسها على وشك الإغماء .... فابتلعت ريقها و قالت ببرود زائف خافت
( قاصي .... نحن لم نلتقي سوى منذ اسبوع واحد فقط .... بعد سنوات من الفراق , دعني أفكر بحياتي لفترة ..... )
كان موقفها المفاجىء أكثر لينا ... و بدا هذا انتصارا عليه أن يصرخ طربا به ....
الا أنه رفض التنازل للحظة .... بل قال بشراسة يحاصرها من كل اتجاه
( لا مزيد من التفكير العقيم و ضياع السنوات ...... سنتزوج ..... و هذه المرة لن أتركك الا جثة هامدة .. )
نظرت اليه و هي ترتعش بشكلٍ واضح .... و الصراع بداخلها بدأ ينحسر تجاه جهة واحدة .... شاطئه ...
همست أخيرا
( جدي لن يوافق على هذا أبدا ......... )
قال قاصي من بين أسنانه
( جدك يريد تزويجك من أحد أحفاده ..... فهل ستقبلين ؟!! ..... )
ردت تيماء دون تفكير
( لا ..... هذا لن يحدث أبدا ...... )
قال قاصي بوقاحة يرد عليها حد الغرور
( بالطبع لن يحدث .... هل ظننتِ أنني أستشيرك ؟! .... انا فقط كنت أقر أمرا واقعا , لذا جدك سيغضب في كل الأحوال ..... لكن أنا من سأواجهه هذه المرة , أما أنتِ فسأبعدك عنهم للأبد .... )
رفعت قبضتيها المضمومتين الى فمها و هي ترتجف بشدة و عيناها زائغتين .... حينها مد قاصي يديه يمسك بقبضتيها بين كفيه يبعدهما عن شفتيها وهو يقول بصوتٍ مقنعا ...
( الا تريدين الإستيقاظ كل يوم بين أحضاني ؟؟ ....... )
نعم أريد .... أريد الراحة و النوم على صدرك للأبد ......
الا انها حين تكلمت قالت بخفوت
( اترك يدي ...... أرجوك .... )
ترك قبضتيها على مضض لكنه تابع اقناعه المسيطر ....
( الا تريدين أن تكوني حلالي بعد كل تلك السنوات ؟؟ .... تبثين الي آلامك وتبددين وحدتي ؟؟ .... )
رمشت بعينيها ثم قالت بجفاء مرتجف
( ماذا عن مسك ؟؟ .......... )
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بقوة
( ماذا بها مسك ؟!! .......... )
همست تيماء بتردد
( أنت ..... هي ..... علاقتكما تبدو أقوى من علاقتك بي ...... و أنت تبدو على وشك الارتباط بها لو لم أرضخ أنا الى طلبك .... و أنا أظنك مختلا مثيرا للتقزز بما تفعله .... )
ساد صمت متوتر بينهما .... و قاصي يعض على زاوية شفته السفلى و هو يحدق بها بنظراتٍ مستعرة ...
ثم قال بخفوت شرس
( أتعلمين من هو المختل نفسيا ؟!! ....... لا أحد غيرك يا مهووسة يا عقيمة الروح و عمياء النظر ... )
هتفت تيماء باعتراض متخاذل
( أنت تحرجني بالكلمات فقط كي أتغاضى عن علاقتكما ...... )
أمسك بذراعها يهزها وهو يقول من بين أسنانه
( توقفي عن ذكر كلمة علاقة تلك كيلا أقحم الكلمة في فمك ...... )
ردت تيماء بصعوبة بينما هو يمسكها كمن قبض على لص محافظ هارب ....
( أنا لا أقصد شيئا شائنا ..... لكن الأعمى يستطيع رؤية العلاقة القوية بينكما ...... )
قبض قاصي على ذراعها أكثر فهتفت متوجعة و مصححة
( روحية ..... أقصد علاقة روحية ..... عميقة ..... )
ظل ينظر اليها قليلا دون رحمة ... ثم لم يلبث أن قال مكررا كلماتها بقرف
( روحية ..... عميقة ...... الا تخجلين من نفسك و أنتِ بهذه التفاهة , بدلا من أن تكوني بجوار أختك الوحيدة ... تفكرين بهذا الاسلوب الملتوي ؟!! ..... )
رفعت عينيها الى عينيه .... و قالت بجدية و بصوتٍ خافت .... حزين
( فقط أخبرني شيئا واحد .... لو رفضت طلبك , هل سترضخ لقرار جدك و تتزوج مسك ؟!! .... أرجوك أرحني ..... أرجوك .... )
نظر اليها طويلا بعينين عليهما قناع غريب أخفى مشاعره تماما ... ثم لم يلبث أن قال ببرود
( ربما ....... سبق و اجبتك ...... )
ابتلعت تيماء ريقها و هي تنظر اليه بعينين متسعتين .... مشتلعتين باللهب الأزرق بهما قبل أن تقول فجأة قاذفة الكلمات بوجهه و هي تحرر ذراعها من كفه
( اذن أنا أرفض ......... اشبع بها أيها النذل .... )
لكنه أمسك بذراعها فجأة بكل قوته حتى حفر أصابعه بشدة في بشرتها وهو يهمس من بين أسنانه
( سأتزوج مسك لو قبلت بي .... و سيداوي كل منا جرح الآخر ..... هل تتخيلين وقتها الحجيم الذي ستحيين به كل يوم و كل لحظة ؟!! ..... سأكون وقتها أكثر من راضيا برؤيتك تحترقين حية .... )
فغرت تيماء شفتيها و هي تنظر الى الغضب الاسود المرتسم على ملامحه ثم همست مرتجفة
( أنت متوحش ........ )
قال قاصي بمنتهى العنف و الصدق
( كان عليكِ ادراك ذلك منذ وقت طويل ...... أنا شخص ذبحت أمه أمام عينيه طفلا ...... و مزق أخيه وجهه رجلا ..... و عشت تحت وصمة ابن حرام لعمري كله .... ماذا تنتظرين مني أفضل من ذلك ؟!! .... )
اتسعت عيناها ارتياعا و هي تنظر الى ملامحه الشيطانية في الظلام و ضوء مصابيح السيارة من خلفه يزيد من قساوة تلك الملامح .... و للحظة شعرت و كأنها لا تعرفه ....
الا انها تعرف جيدا انه في بعض الأحيان يصل الى تلك الحالة من العنف الغير مسيطر عليه ....
كانت تتفهمه دائما و تحاول ان تضمه اليها القدر الذي تستطيعه حتى تهدأ نوباته ...
الا انها لم تتخيل ان يكون عنيفا معها هي ... و بهذا الشكل المؤلم .....
ترى هل هو صادقا ؟!! .....
فغرت شفتيها تنتوي ان تشتمه و تقذفه بكل اللعنات .... و تخبره ان يذهب الى الجحيم ....
لكنها حين تكلمت ... كانت مأسورة بفعل عينيه الشيطانيتين في تلك اللحظة .... فقالت بخفوت دون ان تحيد بعينيها عنهما ...
( لن أستطيع ........... لا امتلك القوة .... )
اشتدت قبضته على ذراعها اكثر و اكثر بينما انعقد حاجبيه و برقت عيناه بغضبٍ أسود .... يحمل خيبة الأمل بها ....
تأوهت في داخلها من الألم الذي تسببه أصابعه في ذراعها ....
بدا مخيفا ... مخيفا ... و على استعدادٍ لخنقها ...
الا انها لم ترتعب ... بل تابعت بنفس الخفوت و هي تنظر الي عينيه
( لن استطيع تحمل فكرة ارتباطك بمسك ..... ألمها يفوق قدرتي على الإحتمال .... )
تسمر قاصي مكانه فجأة .... و شحب وجهه ....
و رأت شفتيه تنفتحان قليلا وهو يحدق في ملامحها محاولا استيعاب ردها ....
فقالت بخفوت اكبر .... همسا رائعا و هي ترفع يدها تلامس فكه المتصلب
( ظننت أنني فقدت كل قدراتي على المحاربة في سبيل الحصول على حقي بك .... الا أنك و بعد أسبوع أعدتها الي , ليس الآن و ليس حين كتبت لك أنني أحتاجك ..... بل أنني لم أفقدها من الأساس ) 

طائف في رحلة ابديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن